إسلام ويب

تفسير سورة الشورى [32 - 36]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخبر الله سبحانه عن آياته العظيمة في هذا الكون، فيجب على الإنسان أن يتأمل في مخلوقات الله ليزيد إيمانه، فإن الله يعفو عن كثير من ذنوب عباده ويتجاوز، لكن في الآخرة لا مهرب ولا مفر من الحساب، والتوكل على الله من صفات المؤمنين الصادقين، ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في توكله على الله وثقته بالنصر على الأعداء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:32-35].

    يخبر الله عز وجل عن آياته العظيمة في هذا الكون التي يجب على كل إنسان أن يتأمل فيها وأن يتدبرها وأن يتفكر فيما خلقه الله عز وجل له، وقدرة الله العظيمة على الخلق أن دله وأن خلق له وبين له، فهذه آية من آيات الله عز وجل لا تقدر أنت عليها إلا أن يعينك الله سبحانه وتعالى، فمن آياته هذه السفن الجارية العظيمة الجواري في البحر كالأعلام، وكالجبال وكالقصور العظيمة.

    قال الله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ [الشورى:33] إذا شاء ربنا سبحانه وتعالى أسكن الريح، فوقفت هذه البواخر وهذه السفن العظيمة تنتظر رحمة الله سبحانه وتعالى، فتركد على ظهره، فإن يشأ الله سبحانه وتعالى يوقفها، ونفهم منه أنها تجري من أول الآية، إذاً: بمشيئة الله هي جارية فإذا شاء أوقفها، أو إن شاء أغرقها وأوبقها وأهلكها وأهلك من فيها.

    قال تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:34] فإن يشأ يسكن الريح، وإن يشأ يوبق السفينة ويعف عن كثير سبحانه وتعالى، فالله العظيم سبحانه وتعالى يعفو ويتجاوز عن ذنوب العباد، ويتجاوز عن ذنوب كثيرة لعباده، فهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك، فإذا شاء عفا وإذا شاء لم يعف سبحانه وتعالى، وإذا شاء عفا عن كثير من ذنوب العباد وإذا شاء عفا عن الذنوب جميعها، فالله على كل شيء قدير، وإذا شاء سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤمناً فهو داخل تحت عفو الله سبحانه، وإذا شاء الله عز وجل كان العبد كافراً فلم يعف عن شيء سبحانه وتعالى.

    فالعفو للمؤمن الذي عرف التوحيد، وأناب إلى ربه وتاب وعرف ربه سبحانه، ولم يشرك به، فهذا تحت مشيئة الله عز وجل، إذا شاء الله عز وجل عفا عنه، وهو يعفو عن كثير من الذنوب بهذا العفو لعله ينجيه يوم القيامة، وإن يشأ يوبقه سبحانه وتعالى، أما إذا كان كافراً فلا عفو، والكافر يحاسب يوم القيامة على كل شيء، فليس بعد الكفر ذنب، وإذا لقي ربه كافراً فالله يسأله عن كل شيء سبحانه وتعالى.

    فيقول هؤلاء: لم نكن نصلي؛ لأنهم سئلوا عن ذلك: هل صليتم؟ قالوا: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ [المدثر:43-46] كانوا كفاراً يكذبون بيوم الدين، ومع ذلك حاسبهم على صلاتهم وحاسبهم على كل ما صنعوا في هذه الدنيا.

    وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتابي اليهودي أو النصراني لو أسلم فله أجره مرتين، والله عز وجل يعفو عما سبق منه، هذا إذا أسلم وأحسن إسلامه، أو أصلح، أما إذا أسلم ولم يصلح ولم يعمل صالحاً فالله يحاسبه على ذنوبه جميعها، ما فعلها في كفره وما فعلها في إسلامه؛ لأنه لم يصلح، وتنفعه كلمة لا إله إلا الله، ولكن المعاصي يحاسب على الجميع، فشرط على هذا الكافر أنه إذا أسلم أصلح، فإذا أصلح فالله عز وجل يعفو عن الذنوب التي كانت مع الكفر، فإذا لم يصلح عفا عما كان من ردته وكفره، ولكن يؤاخذ بذنوبه من كبائر وغيرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)

    قال تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:35] الكلمات قبلها كلها ساكنة مجزومة، قال: (إن يشأ يسكن الريح) (أو يوبق) (ويعف عن كثير) سبحانه وتعالى، ثم قال: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ [الشورى:35] فجاءت منصوبة، والعلماء لهم مذاهب في هذا النصب الذي يأتي بعد المجزومات، فقد قال: (إن يشأ)، رجع لمشيئته سبحانه وتعالى، وهنا: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:35] يقيناً سيعلمون.

    فالله قد شاء ذلك أنهم يعلمون ألا مهرب لهم، ويعلمون ذلك في حالتين: يعلمون في حالة ما يهلكهم الله عز وجل بذنوبهم، فيعلمون أنه لا مفر من الله، فهم يعلمون، فلا يحسن أن يقول: إن يشأ يعلم هؤلاء؛ لأنه قد شاء الله عز وجل أن يعلموا أين الهلاك، قال تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:35].

    والحالة الثانية: يعلمون يوم القيامة حين يجمعون ليوم القيامة فلا يعرفون الفرار؛ إذ لا مفر من الله سبحانه، فهم يعلمون ذلك، فليس هذا متعلقاً بالمشيئة، ولذلك قالوا في تقدير شيء قبله هنا: لينتقم الله عز وجل من هؤلاء وليفعل بهم وليفعل بهم وليعلم هؤلاء كذا، فجاءت معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: أن الله يبعثهم ويهلكهم، ويجمعهم ليحاسبهم وليعذبهم ولينتقم منهم وليعلم هؤلاء أنهم لا يقدرون على شيء، هذا من أفضل ما قيل فيها، وقيل غير ذلك.

    وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:35] أي: من مهرب يهربون إليه، وأنى يهربون من الله سبحانه وتعالى؟ إذاً: المحيص: المكان الذي يهرب فيه، أو الهروب نفسه، فما لهم من مهرب من الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا...)

    ثم يقول الله لعباده: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36] قال تعالى هنا: (فما أوتيتم من شيء) وقال في سورة القصص: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [القصص:60] والمعنى: مهما أوتيتم من شيء، ومهما أعطاكم الله عز وجل من شيء لا تفتخروا بهذا الشيء ولا تستكبروا به، ولا يبغ بعضكم على بعض به، ولا تطغوا في الأرض فإن الله عنده ما هو أعظم من ذلك بكثير.

    فالذي أعطاكم هذا هو متاع للدنيا، والدنيا زائلة فمتاعها كذلك، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] فالمعنى: لا تفرح بغناك، فإنك تترك هذا المال في يوم من الأيام، ولا تفرح بقوتك فإنه يأتي عليك الشيب والشيخوخة وكبر السن، فتذهب هذه القوة التي تفتخر بها، ولا تفرح بصحتك، فإنه يأتي عليك الأمراض يوماً وراء يوم ويذهب هذا الذي كنت فيه، ولا تفرح بجمالك فإنه يزول في يوم من الأيام، ولا شيء يبقى في هذه الحياة الدنيا فكل ما عليها فان، يفنى ويبيد ولا يبقى إلا الرب وحده لا شريك له، وسوف يجازي العبيد يوم القيامة يحصي أعمالهم في الدنيا ويحاسبهم يوم القيامة.

    قال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الشورى:36] الذي عند الله هو الجنة، وجنة الخلود خير وأبقى، (خير) على وزن أفعل اسم تفضيل معناها: أخير، أي: أفضل بكثير من هذا الذي تراه في هذه الحياة الدنيا، وقوله تعالى: وَأَبْقَى إشارة إلى أن الدنيا فانية لا تبقى، والذي عند الله هو الذي يبقى، أما الدنيا فهي تزول.

    إذاً: أخبرنا قبل ذلك بقوله: وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29] فأخبرنا عن السماوات وعرفنا ذلك، وأخبرنا عن الفلك الذي تحت السماء الدنيا وفيه ما فيه من الأشياء التي نجهلها، وفي الجزء الذي ندركه منه فقط الأعداد التي لا نحصيها من المجرات والكواكب والشموس والنجوم والأقمار، أشياء عظيمة وعظيمة جداً.

    عظم نعيم الجنة

    هذا هو الخالق الذي خلق ذلك، وحين يقول لنا ويخبرنا عن جنة الخلود أنها عظيمة جنة عرضها السماوات والأرض، وإذا قلنا: إن عندنا أرضاً، والأرض طولها كذا وعرضها كذا، والعادة أن الطول أكبر من العرض، فنعبر بالطول أنه أكبر من العرض، فإذا عبر بالعرض وقال: عرضها السماوات والأرض فكم يكون طولها؟ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، وعن آخر واحد من العصاة الموحدين، مكث دهراً في النار والعياذ بالله، وخلد في النار ما شاء الله عز وجل، ولا يستطيع أن يعرف كم خلد فيها، قال تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] فإذا قلنا: الخلود بنظرتنا في الدنيا مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإذا كان هذا بأيامنا فكيف يكون الخلود عند الله عز وجل في أيام يوم القيامة؟

    فهؤلاء دخلوا النار فمكثوا فيها، ثم جاء العفو من الله عز وجل عن هؤلاء، فآخر واحد من العصاة الموحدين يخرج من النار ليدخل الجنة، ويمشي على الصراط، يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار مرة، ويزحف مرة حتى يخرج من فوق الصراط، وإذا خرج قال: الحمد لله الذي نجاني من هذا، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، يقول ذلك لأنه قد دخل الجنة بعد أن كان لا يعرف إلا السجن الذي كان فيه في النار والعذاب الأليم المقيم، فهذا خرج من النار، ولكن بقي فيها الكفار ولم يخرجوا، فلما نظر إلى هؤلاء الكفار حمد الله أنه هو الذي نجا، وإن كان مكث فيها ما شاء الله عز وجل، ولكن خرج في يوم من الأيام، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من العالمين.

    فإذا بالرب سبحانه وتعالى يري هذا الإنسان شجرة أمامه بعدما تعدى النار وتجاوزها، فنظر إليها وأعجبته، والله يعلم ذلك سبحانه وتعالى، ووجد تحتها ماءً فإذا به يصبر ويصبر، وفي الأخير لم يصبر فقال: يا رب! أدنني من هذه الشجرة، فآكل من ثمرها وأشرب من مائها، فقد كانت أمنيته الخروج من النار، والآن يريد الشجرة هذه، فإذا به يدنو منها ويشرب من الماء الذي نبتت منه ويأكل من ثمرها، فيقول له ربه: لعلي إن أعطيتك ذلك أن تطلب غيرها، فيقول: لا يا رب لا أطلب غيرها، ويعطي ربه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فيقربه الله عز وجل ويدنيه من هذه الشجرة التي يريد، فدنا منها ومكث زمناً، وإذا بالله يريه شجرة أخرى هي أحسن من الأولى، والله حكيم سبحانه وتعالى وهو كريم ويريد له الخير.

    فلما أراه تلك الشجرة وهي أعظم من الأولى إذا به يصبر ويصبر ويصبر، وفي النهاية لا يطيق، فقال: يا رب! أدنني من هذه ولا أسألك غيرها، قال: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ قال: يا رب! لا أسألك غيرها، أدنني منها، فيدنيه منها، ويتكرر الأمر ويريه ما هو خير من ذلك ويطلب الخير حتى يدنيه الله، حتى يرى باب الجنة، فيصبر ما شاء الله أن يصبر وفي النهاية لا يطيق، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ فإذا بالله عز وجل يدخله جنته سبحانه وتعالى.

    وإذا دخل العبد الجنة رآها مليئة فلا يلقى لنفسه مكاناً، ويجد فيها كل الناس قد أخذوا أماكنهم، وهو في تخيله ليس له مكان فيها، فيسأل ربه: يا رب! أعطني من الجنة، فيقول الله: تمن، فيتمنى ويتمنى ما يشاء، ويذكره الله عز وجل ويتمنى أقصى ما وصل إليه مما يتمناه، فيقول له ربه سبحانه: ألا تحب أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد ويقول: نعم يا رب! فيقول: فلك مثلها ومثلها ومثلها ومثلها وعشرة أمثالها، أي: عشرة أمثال ملك ملك من ملوك الدنيا.

    هذا لواحد فقط ممن دخلوا الجنة، فيا ترى كم أعداد أهل الجنة؟ وكم يدخل الجنة من عباد الله سبحانه وتعالى؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها، فإن باب الجنة يأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام؛ لكثرة الداخلين إليها، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

    إن ما ذكره الله عز وجل لك في هذه الدنيا لم تحط به علماً، فقد وزع الكواكب والنجوم والأقمار والشموس في السماء، وهي أكثر من الناس، فإذا كانت هذه الكواكب أنت لم تقدر على عدها، ولا علماء الفلك بما لديهم من آلات ما قدروا على عدها، فقد قالوا: عدد المجرات في السماء مائتا مليار مجرة، قالوا: هذا الذي تمكنا من عده ومعرفته، وما فوق ذلك كثير لا نعرف عنه شيئاً، فالمجرة الواحدة فيها أكثر من مائتي مليار من الشموس والأقمار والنجوم، والنجم الواحد أضعاف الأرض مليون مرة، هذا نجم واحد، فهل يعجز الله عز وجل أن يعطي لأهل الجنة في الجنة لكل منهم ما شاء مثل كوكب الأرض وأعظم منه بكثير ليكون ملكاً من ملوك الجنة؟

    فإن الله على كل شيء قدير، ويملك كل شيء سبحانه، فقد وعد عباده الصالحين بالجنة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذه النجوم والأقمار قد رأتها العين، فالله عز وجل وعد المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

    فقوله تعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الشورى:36] أي: قليل زائل، وما عند الله في جنة الخلود هو الذي يبقى، وهذه الجنة الباقية جعلها الله لمن كانت فيه صفات استحق بها أن يكون من أهل الجنة، وأول هذه الصفات: الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأن توالي في الله وأن تعادي في الله، وأن تحب في الله وأن تبغض في الله، فإن حققت أصول الإيمان فأنت من المؤمنين الذين يعملون الصالحات.

    التوكل على الله من صفات المؤمنين

    قال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36] فالمؤمنون يتوكلون على الله عز وجل، ويعلمون أن الله خالقهم، وأن الله رازقهم، وأنه مدبر أمرهم، وأنه هو الذي يملك كل شيء، ولذلك كان التوكل على الله أمراً واجباً، قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] فالمؤمن يكل أمره كله إلى الله، ويقول: الذي يملك النفع ويملك الضر هو الله سبحانه وتعالى، والذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: أنا أتوكل عليه، وأفوض أمري إليه، وأوجه وجهي إليه سبحانه وتعالى، جعلت ربي وكيلي، أنا لا أقدر والله يقدر على كل شيء، فهو الذي يقوم بتدبير أموري ومصالحي، والذي يقدرني على كل شيء، هذا هو التوكل على الله، فأنت حين توكل المحامي ليتكلم بالنيابة عنك توكله لأنك لا تستطيع أن تتكلم، ومع ذلك فأنت تعطيه أجرة على توكيلك له، فالإنسان يوكل إنساناً فيما لا يقدر هو أن يقوم به، فوكيل الإنسان نائب عنه؛ لأنه فوض إليه هذا الأمر أن يقوم به لعدم استطاعته أو لعدم تخصصه.

    فالإنسان حين يوكل غيره يوكله لأنه محتاج إليه، ولله عز وجل المثل الأعلى، فهو وكيلك سبحانه يدبر كل شيء، ويعطيك اليد التي تبطش بها، والعين التي تنظر بها، ويدلك على الخير فتفعل هذا الخير، وينزل عليك الرزق من السماء فتأخذ أنت هذا الرزق، ويقدرك على أن تأخذه، وعلى أن تأكله وتشربه، وعلى أن تستطعم به، وعلى أن تهضمه وتخرجه، فهو وكيلك سبحانه وتعالى في كل شيء، وهو الذي يقدرك على الخير سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطيك، ولذلك عندما تقوم من النوم قل كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).

    فهو الذي أحيانا بعد ما أماتنا في هذا النوم، وتحركنا بعد ما كنا هامدين على الفراش، وتحركت أعضاؤنا وقمنا نواصل أعمالنا، فالذي له الفضل هو الله وحده لا شريك له، والذي يتوكل على الله ليس كلاماً يقوله، وإنما ثقة في قلبه أن الله قادر على كل شيء.

    إن الله أمره للشيء كن فيكون، فإذا توكلت على الله فاملأ قلبك بالإيمان والثقة به سبحانه، فهو القادر على كل شيء، فتخرج إلى عملك وتطلب الرزق وفي قلبك الثقة في الله ولسان حالك: سيرزقني وسيعطيني الله سبحانه وتعالى، فالله أعظم وأكرم.

    فليمتلئ قلبك بالثقة به سبحانه وتعالى، وكن عند حسن الظن بالله سبحانه، أحسن الظن بالله وأحسن العمل يكن الله عز وجل عند حسن ظنك، فهو الذي يقول: (أنا عند ظن عبدي بي) ويقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).

    لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل، فهي ليست كلمة تقال باللسان، فإن الطير خرج ثقة في الله عز وجل، وبحث عن الرزق فوجد الرزق وأعطاه الله عز وجل، خرج وهو خامص بطنه فرجع وبطنه مليء بالطعام ويطعم فراخه كذلك، ولو أنكم تتوكلون على الله وتثقون في الله عز وجل أعظم الثقة لأعطاكم الله عز وجل ما تريدون منه، ولزادكم من فضله سبحانه وتعالى.

    ولولا ثقة المؤمنين في ربهم سبحانه وتعالى في يوم بدر لما انتصروا على جيش المشركين الذي يبلغ تعداده ألف مقاتل، خاصة وأن عدد المسلمين في هذه الغزوة ثلاثمائة رجل فقط، إذ كانوا لا يريدون قتالاً ولكنهم خرجوا من أجل قافلة لقريش، ولم يستعدوا للقتال، لكن أهل مكة تجهزوا بألف أو يزيدون مستعدين للقتال.

    والنبي صلى الله عليه وسلم يرى الأمر على ذلك، فهو كله ثقة في الله عز وجل ولكن يريد أن يسمع من أصحابه، هل الثقة في قلوبهم أم لا؟ فيقول: (أشيروا علي أيها القوم)، قريش جاءت، أشيروا علي أيها القوم! فالمهاجرون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اغد على بركة الله)، لكنه لم يرد المهاجرين، وإنما كان يريد الأنصار، فقال سيد الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدنا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال الرجل: يا رسول الله! أوصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، وسر حيث شئت وقف حيث شئت، فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه معك).

    ففرح النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بالنصر، وأخذ يريهم مصارع القوم، هنا يقتل أبو جهل ، هنا يقتل فلان، هنا يقتل فلان، يشير قبل القتال، ثقة في الله سبحانه وتعالى، ووحي من الله سبحانه وتعــالى.

    وبدأ القتال، وقاتل المسلمون قتالاً عظيماً، ولولا التوكل على الله سبحانه لما انتصر هؤلاء، فقتل أبو جهل ، فرعون هذه الأمة، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، ووصفه بأنه فرعون هذه الأمة، ويروي لنا عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة قصة حدثت في يوم بدر يقول: إنه كان عن يمينه غلام وعن يساره غلام صغيران في السن يقاتلان، فهؤلاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رجالاً وكانوا أبطالاً، قال: وجدت غلاماً عن يميني وغلاماً عن يساري فوددت لو أني بين أشد منهما، يقصد معاذ ومعوذ ابني عفراء ، يقول أحدهما له: يا عمي! تعرف أبا جهل ؟ قال: نعم أعرفه، قال: إذا رأيته فدلني عليه، قال: ولم؟ قال: قد أقسمت لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يكون الأعجل منا قتيلاً، أي: لا أفارقه حتى أقتله، أو أموت شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    فقال الآخر: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ فيعجب من هذا، وإذا بـأبي جهل يخرج مثل الحرجة، والحرجة: الغابة الكثيفة، فقال عبد الرحمن بن عوف : ذاك صاحبكما، وأشار إليه، وإذا بهما ينطلقان إليه، وفعلا ما قالاه، فهذا يضربه من هنا وهذا يضربه من هنا، حتى جندلاه على الأرض وأوقعاه، وذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلته يا رسول الله! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وفرح بهما وقال لأحدهما: (أرني سيفك، أرني سيفك، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على آثار سيفيهما الدم قال: كلاكما قتله).

    وإذا بـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يقاتل يجد أبا جهل على الأرض، فذهب إليه وضربه بالسيف، يضرب أبا جهل بسيفه فلا يؤثر فيه.

    فقال له عبد الله بن مسعود : قد أخزاك الله وأبعدك يا عدو الله، فقال أبو جهل : أبعد من رجل قتله قومه، فيضربه بالسيف فلا يؤثر فيه، فقال أبو جهل : خذ سيفي فاضربني به، فيأخذ سيفه ويحز به رقبته ويقتله، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: هذا رأس أبي جهل ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا فرعون هذه الأمة)، ويأمر به وبأمثاله أن يدفنوا في قليب بدر، بئر من الآبار دفنوا فيها.

    والغرض: ما الذي نصر المؤمنين في هذه الموقعة؟ فهذه صورة رجل من الكفار هو أبو جهل ، وهذا ابن مسعود يضربه بالسيف لا يؤثر فيه، وهذا غلام صغير وهذا غلام صغير، وعبد الرحمن بن عوف يتمنى لو أنه بين أقوى منهما، هل مثل هذا الجيش بتقدير العقل يغلب وينتصر؟ في تقدير العقل يقول: لا يمكن ذلك أبداً، ولكن الأمر ليس أمر العقل، الأمر أمر الله الذي يمن على المؤمنين فيقول: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].

    فلما يتوكل المؤمنون على الله ويعلمون أن الله هو الذي ينصرهم، وأنه هو الذي يعزهم ويقويهم، ويهلك أعداءهم، يأتي النصر من الله سبحانه، فأعدوا العدة وثقوا في الله عز وجل وتوكلوا على الله سبحانه، وإذا انعكس الأمر وظن المؤمن أنه هو الذي يغلب العدو وهو الذي يقاتل العدو فإن الله سبحانه قال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].

    فتح المؤمنون مكة في العام الثامن من الهجرة في رمضان، وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، ودخل من أهل مكة جيشان مع جيش النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، وتوجهوا إلى الطائف إلى هوازن للقتال هناك، وتحصن أهل الطائف من النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف أهل هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم على جبلين، والمسلمون ذهبوا إلى هنالك فرحين بالنصر الذي فات، وكثيرون منهم شباب، وكثيرون منهم من قريش دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل مكة، فلما رأوا أن فتح مكة كان سهلاً أخذهم الغرور، فلم يأخذوا عدتهم للقتال ولم يلبسوا دروعاً وذهبوا يقاتلون بهذه الصورة، واغتروا بعددهم فقد كان عددهم اثني عشر ألفاً، فذهبوا إلى هنالك، وانتظرهم المشركون فوق الجبال، وبالسهام والرماح كادوا يقضون عليهم، وفر الجيش كله، ويثبت النبي صلى الله عليه وسلم ويثبت معه أصحابه الأفاضل أبو بكر وعمر وغيرهم، ويثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته رضوان الله تبارك عليهم.

    فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانين من أصحابه، إذ لم يثبت من أصحابه إلا ثمانون من اثني عشر ألفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه يقف في موطن يفر فيه المؤمنون الشجعان، ويفر فيه الأنصار والمهاجرون، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم للكفار، ويتقدم عليهم صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه.

    وإذا به يتقدم إليهم، لولا أن العباس كان يحوش بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتقدم إليهم، وحوله ثمانون من آل بيته، ويقول: (ناولني حفنة من التراب، فيأخذها ويرميها على هؤلاء الكفار ويقول: شاهت الوجوه) ويتقدم هو صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ويقول للعباس : (ناد على الأنصار) فينادي على الأنصار، فقبل أن يأتي الأنصار كان قد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يأسرون في أعدائهم، قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

    هذا هو التوكل على الله سبحانه وتعالى، أن يتوكل العبد على ربه، وأن يثق في الله عز وجل، وأن يثق أن الله معه، فالإخلاص والثقة في الله عز وجل، واليقين بالله سبحانه يري دلائل الإيمان، فإذا كان العبد يحسن التوكل على الله أعطاه الله ما يتمناه، قال سبحانه: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36].

    هؤلاء المتوكلون على الله، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن التوكل عليه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016334