إسلام ويب

تفسير سورة الروم [20 - 22]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنى التفت الإنسان إلى الوجود وجد أمام عينيه آية شاهدة على عظمة خالق هذا الوجود، ولما كان القرآن هو خطاب الله للناس جميعاً، فقد حث الله فيه عباده أن يتأملوا في الكون ليدركوا عظمة الخالق سبحانه، فقد خلق الإنسان من التراب، ونشره في الأرض، وخلق له الزوجة لتكون سكناً له، وملأ قلوب الزوجين مودة ورحمة، وخلق السماوات والأرض، وجعل ألسنة الناس وألوانهم مختلفة، وهذه آيات للعالمين شاهدة على واحدانية الله تعالى واستحقاقه للعبادة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة الروم:

    وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:20-22].

    إن آيات الله عز وجل في الكون كثيرة عظيمة جليلة، يرينا بعضها في كتابه سبحانه تبارك وتعالى، ولم يذكر لنا كل الآيات التي في الكون، فإنها من الكثرة لا تحصى، كما أنك لو تتبعت آيات الله عز وجل لوجدت له في كل شيء آية تدل عليه، ففي خلق الإنسان آية، بل في كل عضو من أعضائه آية، وفي كل جارحة من جوارحه آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن خلقه لكل المخلوقات التي لا يحصيها الإنسان آية من آيات رب العالمين سبحانه.

    وفي الآيات السابقة يذكر لنا بعض هذه الآيات الكثيرة، و(من) في فواتح الآيات تبعيضية، أي: سيذكر البعض من آيات الله ليدلنا على غيرها، ولعل الإنسان يتفكر ويعتبر بهذه الآيات.

    فذكر في هذه السورة آيات متتالية بدأها بقوله: (ومن آياته).. (ومن آياته).. (ومن آياته). فكررها ست مرات ليستبين العبد قدر ربه وعظمته.

    قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم:20]، أول آية من آيات رب العالمين سبحانه ذكرنا بها هي أن الإنسان كان تراباً جامداً لا حياة فيه، فإذا به يصير إنساناً حياً عاقلاً، يملأ الأرض حركة وإعماراً وعملاً، فمن آيات الله أن خلق هذا الإنسان من هذا التراب الذي يمشي عليه، وجعله متحركاً خلاف أصله.

    قال تعالى: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم:20] أي: يبثكم الله سبحانه ويذرؤكم في أرجاء هذه المعمورة، فأنتم تنتشرون على الأرض بالتناسل، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يخلق من الإنسان إنساناً، فيخلق الأولاد والأحفاد إلى أن يأتي على الناس يوم المعاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ...)

    قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

    من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى العظيمة، أن خلق للإنسان من نفسه زوجة، فقد كان أول من خلق الله عز وجل من الناس آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجعل له من نفسه أي: من داخله ومن ضلعه حواء؛ ليأنس بها آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلم يجعل لآدم زوجة من غيره مثلاً، كأن تكون من جنس من أجناس الحيوان أو من الجان أو من غير ذلك من المخلوقات، ولكن جعل له زوجة من نفسه ليألفها وتألفه، فهي مخلوقة من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك لما كان آدم في الجنة وأراد الله سبحانه تبارك وتعالى أن يخلق له زوجة، كأنه أنامه فلم يشعر آدم إلا وبجواره إنسان، فسئل: من هذه؟! فقيل له: هذه حواء، فأنس بها وأنس لها عليه الصلاة والسلام، وكان من بديع خلق الله سبحانه تبارك وتعالى أن جعل الرجل يسكن إلى الأنثى، وجعل الأنثى كذلك تسكن إلى الرجل، بل جعل الله سبحانه تبارك وتعالى الذكر لباساً للأنثى، كما جعل الأنثى لباساً للرجل فقال سبحانه: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] أي: كل منهما ستر للآخر وغطاء له، فيركن الرجل إلى امرأته، ويسكن إليها، ويألفها، ويحبها، ويكون بينه وبينها المودة والرحمة، وكذلك المرأة، فكان من آيات رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، أن جعلها زوجة له بشرعه سبحانه تبارك وتعالى، فإنها إذا لم تكن زوجة له لا يأنس إليها، بل يكون بينهما نفور؛ لأنهما اجتمعا على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فالنكاح شريعة من رب العالمين سبحانه، حيث جعل للعبد أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع، كما جعل له أن يأنس بهذه الزوجة التي خلقها الله عز وجل له.

    والإنسان في طاعة الله يجد الدعة والراحة والطمأنينة كما يجد فيها الأمن والأمان، أما في معصية الله سبحانه يجد النفور، ويجد القلق والاضطراب وعدم السكن، إذ لا يمكن أن تكون المرأة الخدينة للرجل سكناً له، إنما يأتي السكن بشرع رب العالمين سبحانه.

    وذكر الخلق ثم الزواج في قوله تعالى: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم:21] يشعر أن الله خلق المرأة ثم شرع لكم أن تتزوجوا النساء، ولم يجعل الزواج بين الجنس ومثله، كأن يكون بين الذكر والذكر، أو بين الأنثى والأنثى؛ ولكن جعل الله عز وجل السكن للإنسان الذكر مع الأنثى بالعقد الشرعي الذي شرعه الله سبحانه، وهو النكاح الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا عنه في وصيته بالنساء فقال: (فإنكم أخذتموهن بكلمة الله واستحللتم فروجهن بأمانة الله).

    معنى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة)

    ثم ذكر سبحانه ما امتن به على عباده من جعل المودة والرحمة بين الزوجين فقال: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] أي: مودة بين الرجل وبين المرأة، وكذلك مودة بين الأسرتين: أسرة الرجل وأسرة المرأة، وجعل بينكم كذلك الرحمة، فأنتم تتراحمون بسبب هذه العلاقة الزوجية، وشرع في ذلك الزواج العشرة، إذ من وراء شهوة الإنسان يكون الولد فتزداد المودة وتزداد الرحمة بين الرجل وبين امرأته، وبين أسرتيهما، فالسكن والطمأنينة التي يعيش فيها الإنسان آية من آيات الله سبحانه، إذ يصاحب الإنسان القلق فترة بقائه بلا زواج حتى يتزوج، فإذا تزوج سكن، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج العبد فقد استكمل شطر الدين، فليتق الله في الشطر الباقي) أو (فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي)، وفيه أن الزواج يوصل الإنسان إلى نصف الدين، وكأن النبي يخاطب من تزوج فيقول: معك نصف الدين بهذا الزواج، فاتق الله في النصف الآخر، وعندما يتزوج الرجل يجد من تطيعه حين يأمرها بطاعة الله، وتنصحه بطاعة الله أيضاً فيطيع، وبذلك يعين الزواج على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويسكن ثورة نفس الإنسان وغليان شهوته؛ لأنه يجد من يأتيها في الحلال، ويفعل معها شهوته بما أحل الله عز وجل له، فيخمد في الإنسان نار الشهوة، فلا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، وينتهي وينزجر عن معاصي الله سبحانه، فلا يقع في الزنا، ولا يقع في النظر المحرم، وإنما يستكمل العبد نصف دين الله سبحانه تبارك وتعالى بالزواج؛ لأنه يبتعد عن الحرام بها، ويستغني بما أعطاه الله عز وجل وما وهبه ممن يعينه على طاعة الله سبحانه، كما أن الإنسان حين يسكن يتفكر في خلق الله عز وجل ويفكر في أمره وفي مستقبله وفي حياته وفي مماته، بل حين يهدأ يصبح إنساناً آخر غير الذي كان عليه قبل أن يتزوج.

    ومما ينبت المودة والرحمة في قلب الإنسان الولد، فإنه حين يتزوج ويرزق الولد يحدث في قلبه نوع من أنواع الرحمة والشفقة لم تكن موجودة قبل ذلك، فإذا به يكون رءوفاً، رحيماً، ودوداً مع الناس، إذ حين يصبح عنده الولد وعرف كيف يربيه فسيعرف كيف يربي أولاد غيره، وينظر إليهم بنظرة الشفقة التي ينظر بها إلى أولاده.

    وقد جعل الله سبحانه تبارك وتعالى من وراء النكاح قضاء وطر الإنسان وشهوته، وتسكين الإنسان وإبعاده عن النفور والمعصية لله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن وجود الولد يصير في قلب الإنسان الرحمة والعطف بسببه، ولما جعل الله النكاح سكناً للإنسان ومودة ورحمة، حذر من تضييع ذلك، فنهى عن الزنا، قال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، كما حرم على العباد أن يأتي الذكر الذكر أو الأنثى الأنثى، وجعل الحدود في ذلك حتى يستقيم الإنسان على طاعة رب العالمين سبحانه، وأنكر لوط عليه الصلاة والسلام على قومه فقال: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:166] أي: لقد تعديتم طاعة الله سبحانه والحلال الذي أحله الله ووقعتم في معصية الله بالوقوع فيما أنتم فيه، وقوله: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ [الشعراء:166] يبين أن الله خلق المرأة للرجل والرجل للمرأة، وليس الرجل للرجل ولا المرأة للمرأة.

    طاعة المرأة لزوجها سبب لبقاء المودة

    ولكي تدوم المودة بين الزوجين وتستمر العشرة، فقد حدد لها قائداً، وأوجب له الطاعة، ورتب على طاعته الأجر الكبير، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحسنت تبعلها لزوجها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ)، فرتب دخول المرأة الجنة بطاعتها لربها، وبطاعتها لنبيها صلى الله عليه وسلم، وبطاعتها لزوجها في غير معصية، كما حذرها النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تبتعد عن زوجها، أو تنفر منه أو تعصيه إذا أراد قضاء شهوته منها، فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)، فبين أن الله يغضب لغضب الزوج على زوجته إذا دعاها إلى فراشه فأبت عليه ذلك؛ وذلك لأن الرجل إذا لم يجد السكن في بيته فقد يخرج إلى خارج بيته فينظر إلى ما حرم الله، فيضيع نفسه ويهلك، ويكون السبب في هلاكه هو امرأته، فاستحقت الغضب من الله على ذلك، وليس ذلك فحسب، بل الملائكة تلعن من هجرت فراش زوجها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، فإذا غاضبت المرأة زوجها وتركت الفراش وانصرفت عنه فإن الملائكة تلعنها حتى تصبح أو ترجع وتصالح زوجها.

    فليس من البساطة أن تهجر المرأة زوجها، والرجل يهجر بيته، ولكن الأمر أكبر من ذلك، إن الله عز وجل جعل بينكم مودة ورحمة، وأمركم أن تحافظوا على مودتكم، وعلى الرحمة التي جعلها بينكم.

    وفي قوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21] أن الله جعلها سكناً للإنسان، وأباح له أن يأتيها ويجامعها في الوقت الذي أحله سبحانه وليس في الوقت الذي حرمه الله، فإذا كانت المرأة حائضاً أو نفساء، لم يحل للرجل أن يجامعها؛ لأنه إن فعل كان ذلك سبباً للنفور بينهما، وللأذى الذي يجعله الله عز وجل بسبب ذلك، قال سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، فأمر الإنسان أن يعتزل امرأته ويجتنب جماعها إذا حاضت، ولم يأمره أن يجتنب فراشها، وكان اليهود يجتنبون المرأة في وقت الحيض، فلا يساكنونها في بيت واحد، بل يهجرون البيت كله، ولا يؤاكلونها، بل لا يتركونها تصنع لهم الطعام، ولما أنزل الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، حدد اعتزال النساء وجعله في المحيض أي: في موضع الحيض وموضع الجماع، وفي قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، جعل أجل تلك العزلة طهارة المرأة، فإذا طهرت المرأة من المحيض، فلا يأتيها الإنسان حتى تغتسل لقوله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222] أي: إذا اغتسلت المرأة جاز له أن يأتيها.

    وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] إرشاد بأن الإنسان الذي يتفكر هو من يعقل هذه الآية من آيات الله سبحانه، وهو الذي يدرك أن سبب خلق الله الأنثى للذكر هو حاجة الذكر لذلك، وحاجة الأنثى لذلك، وحاجة المجتمع والأرض لذلك؛ إذ لابد من الزواج حتى يتناسل الخلق ويعمروا هذه الأرض ويعبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أنه إن لم يكن الزواج، كأن لا توجد أنثى للذكر فسيكون الخلق جيلاً واحداً ثم يفنى هذا الجيل ويموت، ولن يكون هناك أجيال بعد ذلك، ولكن الله جعل ذلك لتواصل الأجيال، ووجود النسل الذين يعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم ...)

    يذكر الله سبحانه آية أخرى من آياته الدالة على عظمته فيقول سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22].

    ذكر الله سبحانه آيات عظيمة في هذه الآية، فذكر خلق السموات وما فيها من مجرات عظيمة، والإنسان عندما يتأمل في خلق الله سبحانه ويرى هذه الأرض الدائرة في المجموعة الشمسية، ويرى اتساع الكواكب التي حول هذه الشمس؛ يدرك صغر حجمها بجوار المجرة التي نحن فيها، إذ إنها تشبه ذرة في فلاة عظيمة، فهذه المجموعة الشمسية التي تتكون من الأرض والشمس والقمر وما بجوارها من كواكب تدور حول الشمس وما الأرض إلا شيء يسير بجوار هذه المجرة التي فيها مليارات الكواكب والشموس والأقمار، بل إن هذه المجرة بجوار باقي المجرات تشكل محيطاً بسيطاً، وقد عجز العلماء أن يحصوا عدد المجرات التي في الكون، فإذا كانت مجرة واحدة لم يستطيعوا أن يستوعبوا كم من الكواكب والنجوم فيها، فكم مجرة مثل هذه المجرة التي نحن عليها؟! -وتسمى المجرة التي نعيش فيها: بمجرة درب التبانة- ولو سألتهم عن عدد هذه المجرات؟ لأجابوك: مليارات المجرات، فيا ترى كم هو كبر هذا الكون الذي نحن فيه؟ فإذا نظرنا إلى ذلك وتفكرنا فيه عرفنا أن هذا الكون كبير جداً، فكيف يكون الذي خلق هذا الكون؟! فسبحان الله العظيم الكبير الجليل، ولذا كانت قاعدة التعرف على الله سبحانه تبارك وتعالى: هي النظر في هذا الكون الفسيح.

    قوله تعالى: خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22] أي: خلق السموات وخلق الأرض.

    وقوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22] الآية تدل على بديع صنع الرحمن فكم على الأرض من أجناس البشر؟! وكم نوع من أنواع البشر؟! وكم لسان يتكلم هؤلاء البشر؟! أنواع كثيرة جداً وألسنة كثيرة، الكل يدعون الله ويقولون: يا ألله! والله يسمع هذا، ويسمع هذا، ويسمع هذا، ويعلم كل هذه الألسنة كيف تناديه سبحانه، ويعلم ما يقولون، وما يفعلون، فالله يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.

    وإذا عرفنا إنساناً يعرف لغةً وإنساناً آخر يعرف لغتين، أو يعرف ثلاث لغات، أو يعرف ست لغات، فسنعظم الثاني دون الأول، ونثني على سعة علمه؛ لأنه يتكلم ست لغات، ولله عز وجل المثل الأعلى، فنستدل بالمخلوق على عظيم قدر الخالق العظيم، قال سبحانه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، فهو الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، قال جل في علاه: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، سبحانه تبارك وتعالى.

    وفي قوله سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]، قراءتان: قراءة حفص عن عاصم : (إن في ذلك لآيات للعالِمين) أي: العلماء.

    وقراءة باقي القراء: (إن في ذلك لآيات للعالَمين) أي: لكل العالم، ولكل خلق الله عز وجل، وعلى القراءة الأولى فإن المنتفع بهذه الآيات هم العلماء، ولذا قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    يذكر الشيخ وحيد الدين خان في كتابه: (الإسلام يتحدى) قصة عجيبة من القصص التي يرويها عن رجل آخر من علماء الفيزياء اسمه: عناية الله المشرقي ، وهو رجل هندي، كان من علماء الفيزياء الأفذاذ، الذين استحقوا أن يأخذوا جائزة نوبل في يوم من الأيام ورفضها ولم يقبلها، فقالوا له: ترجم كتبك التي باللغة الأردية إلى اللغة الإنجليزية، حتى تأخذ جائزة نوبل ، فقال لهم: إما أن تقبلوها باللغة الأردية، وإلا فلا؛ لأنكم إذا لم تعترفوا باللغة الأردية لا أريد جائزتكم. وذكر هذا الرجل قصة من القصص فيقول:

    في يوم من الأيام في عام 1909م -أي: قبل مائة سنة خلت- كان في انجلترا وهو يمشي في الطريق قابل أستاذه في الفيزياء البروفسور جيمس ، يقول: وجدته في الطريق يمشي وبرد الشتاء الشديد فوق رأسه، ومظلته تحت إبطه، ويمشي وهو غارق في التفكير، فوصل إليه وسلم عليه ولم يكن منتبهاً له، فقال له: ماذا تريد؟ من غير أن يرد عليه التحية، فقال له: أريد شيئين: إلى أين ستذهب؟ قال: سأذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: أنا أعجب منك، السماء تمطر على رأسك، والمظلة تحت إبطك! فانتبه الرجل فرفع المظلة فوق رأسه، وقال له: هل تريد شيئاً آخر؟! فقال له: أنت عالم من العلماء فلماذا تذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: حسناً، تعال نشرب الشاي في بيتي في العصر، وذهب إليه في بيته في وقت العصر، ووجده منتظراً له فجلس، قال عناية الله : فقبل أن أبدأ في الكلام أعطاني محاضرة طويلة في علم الفلك، وفي هذا الخلق العظيم الذي يدل على وجود الخالق.

    يقول الرجل: هو يتكلم عن خلق هذا الكون العظيم، وبدأ يرتعش وشعره يقف، ودموعه تنهمر، وهو يقول: مدة خمسين عاماً وأنا أدرس وصلت لهذا الشيء، إن هذا الكون له خالق عظيم، أفتتعجب لماذا أذهب إلى الكنيسة؟! أذهب الكنيسة لكي أعبد الخالق الذي خلق هذا الكون، وعناية الله المشرقي رجل مسلم، فقال له بعدما أخذ منه هذه المحاضرة الطويلة: لقد ذكرتني بآية عندنا في القرآن إذا أحببت قلت لك هذه الآية، فقال له: تفضل، فذكر له الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28]، فوقف عندما سمع هذه الآية، وقال: تفسير هذه الآية التي تقولها، ماذا تقول؟! ما هو هذا الشيء الذي تقوله؟! ومن قال هذا الكلام؟! إن محمداً يستحيل أن يعرف هذا الكلام، لقد عرفت هذا الكلام بعد دراسة دامت خمسين عاماً، فأين درس محمد صلى الله عليه وسلم خمسين عاماً؟! تقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) عندكم هذه الآية في القرآن! قال: اكتب عني أن هذا القرآن وحي من عند الله سبحانه تبارك وتعالى!

    (إنما يخشى الله من عباده العلماء) هذه الكلمة التي تمر على أذهاننا حين نسمعها مروراً عادياً، ونفهم أن العلماء يخشون الله، لكن الرجل بعد دراسته خمسين عاماً لعلم الفيزياء وعلم الفلك ينظر في اختلاف ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى من آيات في الكون، فهذه جبال حمراء، وهذه سوداء، وهذه بيضاء، الأفلاك الموجودة في السماء فيها كذا وفيها كذا، وأخذ يتدبر فيها ويخشع ويخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، والذي هو متاح أمامه بحسب دينه هو النصرانية، فكان يتوجه إلى الكنيسة ليصلي، وليعبد الله الذي خلق هذا الكون، والذي يخاف منه، فلما يسمع هذه الآية يقول: إن هذا كلام حق من عند رب العالمين، إن هذا القرآن ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام جاء من السماء من عند رب العالمين سبحانه.

    والله يأمرنا أن نتدبر القرآن ويعيب علينا عدم التدبر، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فالقرآن يتوافق بعضه مع بعض في العظمة والإتقان، قال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755894057