إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [28 - 29]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختار الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه أزواجاً ليكن قدوات لنساء الأمة جمعاء، فاصطفاهن وطهرهن وزكاهن، وكان أعظم تزكية لهن أن خيرهن بين حب الله ورسوله والدار الآخرة وبين حب الدنيا والمال، فكن أعقل النساء وأعظمهن رجاحة وعقلاً حين اخترن الله وصحبة نبيه في الدنيا والآخرة، فكن الأزواج المطهرات والداعيات إلى الله، والمبلغات عن الله ورسوله ما عملن من هذا الدين.

    سبب نزول آية التخيير

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:28-31].

    لما ذكر الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة في هذه السورة كيف نصر المؤمنين على الكفار، وكيف رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكيف أنزل الذين ظاهروهم من بني قريظة من صياصيهم وألقى في قلوبهم الرعب، وجعل للمؤمنين أن يقتلوا ويأسروا من هؤلاء، وغنموا مغانم كثيرة في ذلك، ثم بدأت الفتوح من الله عز وجل على المؤمنين فتلاها فتوحات عظيمة، فكان هذا تمهيداً لما جاء بعد ذلك من فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة، ومن قتال هوازن وحنين ونصر المؤمنين في هذه المواطن، وفتح الله عز وجل الفتوح على النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    لما رأت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك -وعادة النساء إذا وجدن الخير أن يطلبنه- طلبن من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة النفقة، والنبي صلوات الله وسلامه عليه كان يدخر لأهله قوته ثم ينفق ما زاد عن ذلك على الضيف، وعلى الفقراء والمساكين، وعلى كل من يحتاج، ومن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من وفود ونحو ذلك.

    فكأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم غاضبنه وهن يطلبنه مرة وراء مرة، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً، حتى ظن بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طلق نساءه.

    لم يطلقهن عليه الصلاة والسلام ولكنه هجرهن تأديباً لهن، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، وأيضاً مقام نساء النبي صلى الله عليه وسلم مقام عظيم، فالمقام مقام القدوة، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للمؤمنات، تقتدي كل مؤمنة بنسوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فينبغي أن يترفعن عن طلب الدنيا، وعن طلب الزيادة من المال، وعن النظر إلى حطام الدنيا، فكان من الله سبحانه أن أدب نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى يصلحن أن يكن نساءه في الجنة عليه الصلاة والسلام، فكان التأديب بأن هجرهن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنزل الله عز وجل هذه الآية في تخيير نساء النبي عليه الصلاة والسلام.

    معنى قوله: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً)

    قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28].

    أي إذا كنتن تردن الدنيا ومتاعها وحطامها فإننا سنعطيكن ذلك ونطلقكن طلاقاً جميلاً، والطلاق الجميل: هو طلاق السنة، فيكون إذا استحالت العيشة ما بين الرجل وامرأته أن يطلقها على السنة طلقة واحدة له أن يراجعها فيها.

    كذلك يمتعها بعد طلاقها سواء كان مفروضاً لها المهر أو ليس مفروضاً لها، فالمتعة على وجه الاستحباب في هذه الحالة.

    إذاً المعنى: تعالين أمتعكن ما شئتن من مال ثم أطلقكن الطلاق الجميل الذي لا عضل فيه ولا أذى، فتذهب المرأة لحالها وتأخذ متاعها، ولتترك النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه صلوات الله وسلامه عليه على ما هو عليه من موضع وضعه الله سبحانه وتعالى فيه.

    يقول هنا: فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [الأحزاب:28] يعني: أعطيكن متعة الطلاق، وهو المال الذي يعطى للمرأة نفقةً لها بعد طلاقها، وهذا إما أن يكون واجباً إذا كانت المرأة لم تعط مهراً، ولم يفرض لها صداق.

    فإذا كانت المرأة قد أعطيت الصداق فيكون إعطاء المتعة لها مستحباً لا فرضاً، فقال: فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28] والتسريح هنا بمعنى: التطليق، وجاء في القرآن لفظ الطلاق ولفظ التسريح، وهما بمعنى واحد، فمن صريح ألفاظ الطلاق كلمة الطلاق، وأيضاً: كلمة التسريح على قول الكثير من أهل العلم.

    وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28] يعني: على طلاق السنة وليس فيه مغاضبة، ولا أذى، وليس فيه إعضال.

    تفسير قوله تعالى: (وإن كنتن تردن الله ورسوله..)

    وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ [الأحزاب:29] إذا أردتن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلوات الله وسلامه عليه والدار الآخرة؛ فلا تطلبن الدنيا، ولا متاعها الزائل، ولا حطامها، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً.

    إذاً: هنا وصلنا إلى درجة الإحسان، فإذا طلبنا الله والرسول عليه الصلاة والسلام وطلبنا الدار الآخرة وصلنا لدرجة الإحسان، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

    أي: فإذا وصلتن إلى درجة الإحسان فإن لكل محسنة منكن عند الله الأجر العظيم.

    فهنا جاءت الآية للتخيير بين الدنيا والآخرة، بين البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال وبين متاع الحياة الدنيا.

    إذا كنتن تردن الله والدار الآخرة فلا بد من الصبر على أمر الله سبحانه، ولكن عند الله الأجر العظيم.

    قصة تخيير النبي لنسائه وهجره لهن

    روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لـأبي بكر فدخله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً) صلوات الله وسلامه عليه.

    إذاً: هنا دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد حول النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت واجم، هيئته هيئة الغضبان عليه الصلاة والسلام فقال: (والله لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    هذا عمر لقي النبي صلى الله عليه وسلم غضبان حزيناً فقال: سأقول له مقالة أضحكه بها، قال: (فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -زوجة عمر- حين سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: جاء على المقصود والمطلوب، فـعمر بن الخطاب قال هذه الكلمة ولم يعرف ما هو الأمر، ولكن وافق ما عند النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من أنه عمر أدبها وضربها رضي الله تبارك وتعالى عنه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة) أي: كلهن قاعدات يسألنني النفقة.

    قال: (فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها) هنا التأديب الآن من أبي بكر لـعائشة.

    وقام عمر يضرب حفصة ابنته كلاهما يقول: (تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده) يعني: لا نطلب منه حاجة ليست عنده، وإنما نطلب من المال الذي عنده.

    وهنا اعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يعني: بعد هذا الأمر قام واعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة له صلى الله عليه وسلم مرتفعة، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28] فبدأ بـعائشة فقال: (يا عائشة ! إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك).

    السيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وكان عمرها سبع سنوات، ودخل بها في المدينة صلى الله عليه وسلم وعمرها تسع سنوات، ومات عنها صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة.

    إذاً: كانت صغيرة في غزوة الأحزاب، فقد كانت في سنة خمس من الهجرة، يعني: كان عمرها حوالي أربع عشرة سنة تقريباً.

    كونه يقول لها صلى الله عليه وسلم: (أخيرك) هنا راعى النبي صلى الله عليه وسلم أنها صغيرة في السن، ممكن يكون فيها نوع من الاندفاع والتهور لا تفهم شيئاً، فلذلك قال لها: أنا سأقول لك شيئاً لا تعجلي فيه واستشيري أبويك في ذلك.

    فقالت: (وما هو يا رسول الله؟! فتلا عليها هذه الآية) وهنا ظهرت رجاحة عقلها رضي الله عنها، وأنها وإن كانت صغيرة السن لكنها كبيرة في القلب والعلم والعقل رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت لرسول صلى الله عليه وسلم: (أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر أحداً من نسائك).

    وهذه فرصة لـعائشة أنها تطلب الدار الآخرة وتريد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حظ نفسها أنها لا تريده أن يقول لأحد من نسائه أنها قالت هذا القول، فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) عليه الصلاة والسلام.

    النبي صلى الله عليه وسلم مقامه مقام عظيم، مقام المعلم، مقام التيسير على الناس، فلا معنى لأن تسأله نساؤه عن قول السيدة عائشة فيكتم عنهن، فالدين ليس فيه أغلوطات، نهينا عن الأغلوطات في المسائل، كأن تطرح المسألة بصورة غلط حتى لا يعرف الصواب، وخاصة إذا كان ذلك في القرآن.

    فبعض الناس لما يسمع القرآن يتحير عندما يقول له أحد: الآية كذا أو كذا؟ حتى يخبطه في الإجابة فهذا ليس تعليماً، ولكن إن شئت فحفظ الإنسان واسمع منه هذا الذي يقرأ وتسأل وهو يجيب عليك، أما أن تغلطه في الشيء بحيث إنه يقول في القرآن أو في السنة خطأ فهذا لا ينبغي.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث متعنتاً، ولا معنفاً عليه الصلاة والسلام، وإنما كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فقال هنا: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) هذه الرواية هنا.

    وفي رواية للترمذي أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة). ثم مضى على نسائه عليه الصلاة والسلام وكل امرأة من نسائه قالت كما قالت عائشة رضي الله عن الجميع، فاخترن الدار الآخرة، واخترن الله ورسوله، ولم يطلبن شيئاً من الدنيا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088789003

    عدد مرات الحفظ

    779050505