إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [53 - 55]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أنزل الله آية الحجاب، وبين الحكمة منه، وأن فيه طهارة للقلوب، وصوناً للأعراض، وبين من يجوز للنساء أن يظهرن عليه من محارمهن ونسائهن وما ملكت أيمانهن.

    1.   

    أدب التعامل مع البيت النبوي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:53-54].

    يذكر الله تبارك تعالى في هاتين الآيتين من سورة الأحزاب للمؤمنين أدباً من الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره أيضاً، فهو أدب الدعوة إلى الطعام، فإذا دعي إنسان إلى بيت للطعام سواء عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند غير النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتأدب بهذه الآداب.

    قال الله هنا: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] ، وقال في آية أخرى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] .

    فأمر الله المؤمن ألا يدخل بيت النبي حتى يدعى إلى طعام، وبيت النبي صلى الله عليه وسلم بيت صغير، وكان له تسعة بيوت هي تسع غرف، لكل امرأة من نسائه بيت من البيوت، فيصعب أن يدعو أناساً فيدخلون ويضيقون على النبي صلى الله عليه وسلم المكان الذي هو فيه، ويضيقون على زوجه عليه الصلاة والسلام، فأمرهم الله أن يلتزموا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا دعوا إلى طعام فليأتوا في وقت الإطعام ليأكلوا، ولا يمكثون عند النبي صلى الله عليه وسلم لا لسؤال ولا لحديث ولا لغيره.

    قال: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب:53] والاستئناس للحديث أن الإنسان يستشعر الانبساط من صاحب البيت فيستأنس منه، وهذا من أدب صاحب البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عظيم اللطف بأصحابه، ولعل لطفه هذا صلوات الله وسلامه عليه كان يطمعهم في المكث وفي الكلام معه، فربنا أدبهم ألا يطمعوا في هذا الشيء، فلا يطيلوا الجلوس في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فإذا طعمت فاخرج وانصرف.

    وكذلك في الدخول إلى بيوت غير بيوتكم، لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] فتدخل إلى البيت بإذن، فتستشعر الأنس من صاحب البيت وأنه راض بدخولك عنده، فإذا سلمت واستأذنت وشعرت بالأنس من صاحب البيت دخلت، فإذا طعمت وانتهت الضيافة فاخرج ولا تمكث، فمن أدب الضيف أنه لا يحل له أن يمكث في بيت مضيفه حتى يؤثمه أو حتى يحرجه.

    قال الله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] .

    (إناه) بمعنى: وقت النضج، أي: لا تنتظروا إلى أن يطبخ الطعام، ولكن ادخلوا في وقت الأكل وليس في وقت طبيخه.

    وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب:53] يعني: بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أذن لكم فادخلوا.

    فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53] أي: لا تمكثوا عند النبي صلى الله عليه وسلم.

    وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب:53] يعني: لا تستأنسوا بالكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حديثه الطيب الجميل يطمعك أن تمكث عنده، وهذا من أدبه عليه الصلاة والسلام، لكن على الضيف أن ينصرف بعد الأكل.

    إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب:53] يعني: المكث عنده في بيته صلى الله عليه وسلم، فالإطالة والسؤال والكلام والاستئناس كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يضيق عليه مكانه.

    فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ [الأحزاب:53] أي: يستحيي أن يقول للناس: اخرجوا، ففي عرسه صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب ، دعا الناس وليس له إلا غرفة واحدة، وجلست فيها السيدة زينب مقبلة بوجهها إلى الجدار، وهذا قبل نزول الحجاب، فبقي أناس بعد الأكل يتكلمون عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تضجر صلى الله عليه وسلم، فقام وخرج خارج الحجرة لعلهم يستشعرون ذلك ويخرجون، فما فهموا بل بقوا قاعدين، فرجع ودخل ثم خرج صلى الله عليه وسلم حتى يخطر ببالهم، فلم يفهموا، ثم مرة ثالثة، وفي الأخيرة انتبهوا فقاموا وانصرفوا، وأرخي النبي صلى الله عليه وسلم الستر بينه وبين أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان صغيراً.

    وهنا جاء كلام الله سبحانه تأديباً للجميع، فقال الله سبحانه: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] ، يعني: من ساعة نزول آية الحجاب إذا أردتم سؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم حاجة أو معونة من المعونات، فليكن هذا من وراء حجاب، وليس لكم أن تتكلموا معهن مباشرة، ولكن لا بد من وراء ساتر.

    قال: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ [الأحزاب:53] وهذا الأمر العظيم الذي أمركم الله سبحانه وتعالى، وهذا الأدب الجم الذي فيه هذه الآية: أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].

    لاحظ أن الله سبحانه يتكلم عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم التي قال الله عز وجل لهن: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] ، فأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يريد الله أن يطهرهن، وأن يذهب عنهن الرجس سبحانه وتعالى بهذه الآداب حين يلتزمنها، فيؤدبهن الله سبحانه ويطهرهن، وقد فعل ذلك سبحانه، فهن الطاهرات المطهرات رضي الله تبارك وتعالى عنهن.

    ومع ذلك أمر الناس فقال: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] لأن الإنسان عند كلامه المباشر مع المرأة قد يطمع فيها، وقد تطمع المرأة في الرجل، فإذا كان هذا مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي عصمهن الله سبحانه، وحفظهن بسبب أنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمع غيرهن اللاتي فيهن مطمع من باب أولى.

    فنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا طمع لأحد أن يتزوج واحدة منهن، فالمرأة التي يطمع الإنسان في الزواج بها من باب أولى أن تؤمر بالتستر عنه، ويتكلم معها من وراء حجاب، حتى لا يطمع الرجل في المرأة.

    قال الله سبحانه: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] ذلكم أطهر لقلوب الرجال، وأطهر لقلوب النساء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله...)

    قال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب:53] عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم وعصم نساءه أن يؤذى فيهن صلوات الله وسلامه عليه.

    قال: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا [الأحزاب:53] فحرم الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوج أحدهم زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الآية نزلت في سبب تحديث بعض المنافقين نفسه بذلك، وقد حدث بعضهم غيره بذلك، فقال بعض المنافقين: ما بال محمد يتزوج من نسائنا، والله لئن مات محمد لنتزوجن نساءه!

    فهذا المنافق -لعنة الله على المنافقين- يمني نفسه أنه عندما يموت النبي عليه الصلاة والسلام فسيتزوج من نسائه، فنزلت هذه الآية تفضح هذا المنافق، وتحذر المؤمنين بأن هؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين، وليس لإنسان أن يتزوج أمه.

    قال: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب:53] بأن يتكلم أحدكم أو يحدث نفسه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتزوج واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم.

    وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا [الأحزاب:53] هذه حرمة مؤبدة، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها فهي محرمة أبداً على جميع المؤمنين.

    إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53] يعني: لو حدث ذلك وحاشا نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حدث منهن ذلك.

    قوله سبحانه: إِنَّ ذَلِكُمْ [الأحزاب:53] يعني: أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً)

    قال الله سبحانه: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:54].

    هذا تحذير من الله لعباده، فأين تذهب من الله سبحانه وتعالى؟ فمن أبدى ما في ضميره وما في قلبه فتكلم به، أو أخفى هذا الشيء وأكنه كهذا المنافق الذي تكلم بهذا الشيء وأسره لمن حوله، فإن الله قادر أن يفضحه، ويحذر الله المؤمنين أن يقولوا كما قال.

    إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ [الأحزاب:54] إذا أبديتم ما في النفس، أو أخفيتم ما في النفس وأسررتموه، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:54] ما قال: إن الله كان بهذا الذي أخفيتموه أو هذا الذي أعلنتموه، بل هو عليم بكل ما أخفيتم وما أعلنتم، ما أسررتم وما جهرتم، من صوت .. من كلام .. من حديث نفس .. من نية .. من شيء مرئي .. أو شيء مخفي .. كل شيء الله عز وجل عليم به سبحانه وتعالى، ففيها المدح لله سبحانه بأنه يعلم كل شيء، وفيها التحذير والتخويف للخلق من النية السيئة، ومن حديث النفس الذي يمني الإنسان بما لا يجوز له أن يفعله، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:54].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن ..)

    معنى قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن)

    ذكر الله سبحانه الحجاب في هذه الآيات، بأن تحتجب المرأة فتستتر بثيابها من رأسها إلى أخمص قدميها، وحجاب زائد على هذا وهو أن تحجب شخصها حتى لا يرى، فتكون ستارة بينها وبين الناس، فهذا الحجاب الثاني خاص بنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه زيادة في الحيطة وزيادة في الاحتراز والتفضيل لهن، وكأن أقرباء نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: وهل نحن كذلك؟ يعني: الخطاب هو لأمهات المؤمنين، فمنع الله عز وجل المؤمنين أن يسألوا نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا من وراء حجاب، أما الأقارب من الآباء والأبناء والإخوة؟ فأنزل الله سبحانه فيهم: لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [الأحزاب:55].

    فلا جناح على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن أولى، فالآباء، والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات وكذلك النساء اللاتي يدخلن عليهن وملك اليمين لا جناح عليهن في ذلك.

    والله عز وجل ذكر الأب، والمقصود الأب وإن علا، فيدخل الجد وأبوه وهكذا، سواء كان الجد من ناحية الأب، أو من ناحية الأم، فهؤلاء يجوز لهم أن يدخلوا على النساء ويجلسوا معهن، والمرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تحتجب بشخصها من غير هؤلاء، وغير نساء النبي صلى الله عليه وسلم تحتجب باللباس من غير هؤلاء.

    فالأب يرى ابنته وهي في ثياب مهنتها أو في ثياب البيت، فيجوز أن يرى وجهها وشعرها ورقبتها وذراعها ورجليها، لكن عليها أن تستر منه صدرها، وبطنها، وركبتيها، ونحو ذلك، ومثل الأب مع ابنته الابن والأخ وغيرهما من محارمها.

    قوله: وَلا أَبْنَائِهِنَّ [الأحزاب:55] والمقصود الابن وإن نزل، أي: الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن وبنت البنت وابن البنت وهكذا إن نزلوا، فهؤلاء كلهم أبناء، فلا جناح عليهن في ذلك.

    معنى قوله: (ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن)

    قوله: وَلا إِخْوَانِهِنَّ [الأحزاب:55] فالأخ يدخل على أخته ويجلس معها وهي في ثياب بيتها ولا شيء في ذلك، لا جناح يعني: لا حرج ولا إثم.

    وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ [الأحزاب:55] فأبناء الإخوة وأبناء الأخوات يجوز لهم أن يجلسوا معها وهي في ثياب مهنتها وفي ثياب بيتها.

    وفي الآية إشارة إلى جواز جلوس المرأة مع عمها وخالها وهي بثياب بيتها ومهنتها، وهذا قول جمهور العلماء.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة تستتر أمام غير من ذكر الله عز وجل هنا، فقالوا: تستتر من عمها، وخالها، وعللوا ذلك بعلة ضعيفة، فقالوا: العم والخال قد يصف هذه البنت لابنه، وابنه لا يجوز له أنه ينظر إليها. وهذه العلة منتقضة بما ذكره الله عز وجل هنا من ابن الأخ وابن الأخت.

    فالصواب: أن العم والخال يجوز له أن يجلس مع بنت أخته أو مع ابنة أخيه ولا شيء في ذلك، والآية فيها إشارة إلى هذا الشيء.

    وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عم الرجل صنو أبيه) ، فالعم منزلته منزلة الأب، فهو من أولياء المرأة، والخال هو أخو الأم، وقد يكون وارثاً في بعض الأحوال ففي الحديث: (والخال وارث من لا وارث له) ، فهو رحم للمرأة، والخالة بمنزلة الأم للمرأة، فالقول بأن الخال لا يجوز له أن ينظر إلى ابنة أخته، أو العم لا يجوز له أن ينظر إلى ابنة أخيه، هذا قول ضعيف.

    وفي القرآن ما يدل على أن العم بمنزلة الأب، وذلك في وصية يعقوب: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فقالوا: وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] أي: آباء يعقوب، والمقصود: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام، فإبراهيم جده، ووصفه بأنه أب، وإسماعيل عمه وليس أباه، وجعله من الآباء، وإسحاق هو أبو يعقوب.

    معنى قوله تعالى (ولا نسائهن)

    قال سبحانه: وَلا نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55] أي: النساء المؤمنات.

    فإذا كانت المرأة فاسقة يخشى منها عند دخولها أن تتطلع وتخرج فتحدث، فيجب أن تستتر المرأة منها، فالمرأة المؤمنة هي التي تدخل على المرأة؛ فإذا كانت المرأة التي تدخل عليها مشهورة بالفجور، أو مشهورة بالكلام في ذلك، وأنها تطلع على العورات وتخرج فتحدث بما رأت؛ فهذه لا تجلس معها، بل تستتر منها حتى لا تصفها، لكن الأصل أن المرأة تدخل مع المرأة وتجلس معها، ويجوز أن تنظر إلى ما عدا العورة منها، وهي من السرة إلى الركبة بالنسبة للمرأة مع المرأة.

    وأخذ بعض أهل العلم من قوله سبحانه: وَلا نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55] أن المقصود نساء المؤمنات، وأنه احتراز من نساء الكافرات، فقالوا: لا يجوز للمرأة المؤمنة أن تجلس مع المرأة الكافرة، بل تستتر وتحتجب منها.

    وهذا القول فيه نظر، والصواب خلافه؛ لأن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تدخل إليها امرأة يهودية، ولم يذكر الرواة في الحديث أن السيدة عائشة كانت تحتجب منها، ولو كانت تحتجب منها لعلمنا ذلك من رواة هذا الخبر.

    وفي الحديث أن امرأة يهودية دخلت على عائشة وقالت لها: (تعوذي بالله من عذاب القبر) ، فقالت: أو في القبر عذاب؟ وكان إلى ذلك الحين لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم أن في القبر عذاباً، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما تعذب اليهود) ثم أوحى الله عز وجل إليه يعلمه بأن في القبر عذاباً، وأنه يكون حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وعلم أمته.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لـعائشة : احتجبي منها، فيكون قوله تبارك وتعالى: وَلا نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55] على الغالب، فإنه في الغالب لا يدخل على المؤمنة من النساء إلا النساء المؤمنات، لكن إذا كانت المرأة مشهورة بالفجور ومعروفة بكثرة الكلام، وأنها تدخل وتنظر وتخرج فتحدث الرجال، فلا تدخل هذه المرأة على النساء لئلا تكشف عوراتهن.

    معنى قوله (ولا ما ملكت أيمانهن)

    قوله تعالى: وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [الأحزاب:55].

    قوله: (ما ملكت) هذه من ألفاظ العموم، يعني: كل ما ملكت المرأة من رجال أو من نساء.

    وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بنته السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها وكانت هي وعلي بن أبي طالب وعبد للسيدة فاطمة ، وكانت السيدة فاطمة في ثوب لا يستر جميعها، فإذا رفعت الثوب لتستر وجهها انكشفت قدماها، وإذا أرادت أن تستر قدميها انكشف وجهها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (لا حرج عليك، إنما هو أبوك وزوجك وعبدك).

    فدل على ما في هذه الآية أن المرأة إذا ملكت عبداً جاز لهذا العبد أن يدخل على سيدته؛ لأنه صار من أهل البيت، فيأخذ منها ويعطيها، وتحدثه، ويجوز له أن يرى وجهها وما بدا منها كأنه من أهل البيت.

    لكن لا يجوز لها أن تمكن هذا العبد أن يطأها بملك اليمين، وهذا بإجماع أهل العلم.

    أمر الله لنساء نبيه بتقواه

    قال الله عز وجل: وَاتَّقِينَ اللَّهَ [الأحزاب:55].

    أمر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم -وغيرهن من باب أولى- بتقوى الله سبحانه في أمر الاستتار؛ لأن المرأة قد تتنزل في هذا الشيء، وتستسهل أن ينكشف منها شيء، والمرأة إذا لم تذكر لعلها تتغافل عن هذا الشيء، ولعلها تلبس الحجاب ولا تستتر به الاستتار الذي أمر الله؛ فقال الله عز وجل: وَاتَّقِينَ اللَّهَ [الأحزاب:55].

    أي: احذرن من غضب الله سبحانه وتعالى، فالمرأة تستسهل الأمر إن لم يكن عليها رقيب، وإن لم يكن عليها من يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر.

    قال الله : إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [الأحزاب:55] ، وقال في الآية التي قبلها: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:54] ، فالله يشاهد كل شيء، ويشهد على كل شيء، وكفى بالله شهيداً؛ فإذا كان هو الشهيد وهو الحكم سبحانه وتعالى فهو يحكم على عبده ولا يقدر العبد أن ينكر شيئاً.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002644