إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [57 - 58]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأمور العظيمة المحرمة الشنيعة أذية الله عز وجل وأذية رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل لا يصل إليه أحد فيؤذيه، وإنما المراد ارتكاب ما حرم، وسبه سبحانه ونسبة النقائص إليه كالصاحبة والولد، فعلى العبد أن يعظم ربه سبحانه وتعالى، ويعظم نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك عليه ألا يؤذي أحداً من المؤمنين حتى لا يتعرض لغضب الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخر ..)

    معنى إيذاء العبد لله تعالى

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:58-59].

    يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الأحزاب فيقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فحكمهم أنهم ملعونون في الدنيا وفي الآخرة.

    ولا يقدر الإنسان أن يبلغ بأذاه إلى الله سبحانه وتعالى من حيث يضره سبحانه، ولكن يؤذي بمعنى: أنه يتفوه بما يغضب الله سبحانه وتعالى.

    كذلك الذين يؤذون الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأقوالهم وأفعالهم، فهو صلوات الله وسلامه عليه بشر يناله من الأذى مثلهم، لكن الله سبحانه وتعالى لا يقدر أحد أن يضره، ولذلك جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) أي: لن تضروا ربكم سبحانه ولا تقدرون على ذلك، لكن فعل العبد هو الذي يغضب الله سبحانه وتعالى وقوله هو الذي يغضب الله سبحانه؛ فلهذا الأذى يغضب ربه لأنه تكلم بما لا يحل له أن يتكلم به.

    فلذلك يقول العلماء: معناه: يغضبون الله بكفرهم وبنسبة الصاحبة والولد إليه سبحانه، كما قال عز وجل حاكياً عنهم: وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [مريم:88] قال الله عز وجل: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [مريم:89] أي: شيئاً فظيعاً، وشيئاً عظيماً، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:90-91].

    فكونهم ادعوا أن الله اتخذ ولداً: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْه [مريم:90] أي: ينفطرن من هول ما قالوه، وتكاد الأرض من شدة خوفها من الله عز وجل أن تتشق وأن تتفطر. وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90] أي: وتكاد الجبال أن تخر مهدودة من قسوة هذا القول الذي قالوه ومن شناعته.

    وقوله: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [مريم:88] هذا القول يؤذون به ربهم تبارك وتعالى؛ حيث يقولون: اتخذ صاحبة، واتخذ الولد، وجعلوا لله شريكاً فعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، ووصفوا الله بما لا يليق، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64].

    وقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالوا: الأصنام شركاء لله، فعبدوهم من دون الله، فهذه الأقوال الفظيعة يؤذون بها ربهم سبحانه وتعالى، بمعنى: يغضبون الله سبحانه وتعالى.

    روى الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك).

    إذاً: العبد كذب ربه سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، وشتم ربه سبحانه وتعالى.

    قال: (فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان) والله سبحانه وتعالى بدأ الخلق وهو قادر على إعادته، وإعادته أهون عليه تبارك وتعالى.

    فهنا تكذيب العبد ربه سبحانه يزعم أنه إذا مات العبد لا يبعث مرة ثانية.

    قال: (وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، قال سبحانه: فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً) فسبحان الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.

    وهنا ذكر الله سبحانه أن العبد شتم ربه سبحانه، وأن العبد كذب ربه، فآذى الله سبحانه وتعالى وأغضبه بهذا القول الذي يقوله.

    ذم الدهر وسبه إيذاء لله تعالى

    وأيضاً جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن ربه سبحانه فقال: (قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم) كيف يؤذيه؟ قلنا: إن العبد لا يبلغ أن يؤذي الله سبحانه فيضره، ولا يبلغ أن ينفعه سبحانه وتعالى، ولكن يغضب ربه بهذا الذي يقوله وهذا الذي يصنعه.

    قال سبحانه: (يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر؛ أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما) .

    فهنا العبد يقول: يا خيبة الدهر، فيرمي الخيبة على الدهر، والدهر هو الزمن، والزمن مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، فالعبد ينسب ما لا يكون إلا لله إلى غير الله سبحانه، فيشتم الزمن ويشتم الدهر ويزعم أن الدهر فعل فيه وفعل فيه، وحقيقة الدهر لا يصنع شيئاً، فإن الله عز وجل يقول: (أنا الدهر) فهذا الذي يزعم أنه فعل به الدهر كذا وكذا يقال له: الذي فعل ذلك حقيقة هو الله تبارك وتعالى.

    فيأتي العبد يشتم الزمن ويسب الدهر وحقيقة سب العبد أنه يسب الذي فعل به ذلك، والذي فعل به ذلك ليست الأيام ولا الليالي وإنما هو الله سبحانه، فلذلك يقول: (أنا الدهر)، يعني: أنا الذي أفعل ذلك بالعبد، فيأتي العبد يسب الدهر وهو وإن كان في كلامه يشتم الزمن، لكن الحقيقة أنه يشتم من فعل به ذلك.

    في الحديث الآخر قال: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر؛ أقلب الليل والنهار)

    في الحديث الأول قال: (أقلب ليله ونهاره).

    إذاً: الله سبحانه وتعالى خلق الأماكن وخلق الأزمنة، فهذا مخلوق وهذا مخلوق، وقوله: (أنا الدهر) بمعنى: أنا الفاعل لذلك، وأنا الذي أقدر المقادير، وأنا الذي أفعل بالعباد ما أشاء، فالعبد يأتي ويشتم الدهر وحقيقة ما يقصده أنه يريد أن يشتم من صنع فيه ذلك وهو الله تبارك وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.

    وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الأحزاب:57] بمثل هذا الذي سمعنا في هذه الأحاديث وما ذكرنا في الأمثلة.

    إيذاء المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم

    وقوله: وَرَسُولَهُ [الأحزاب:57] أي: يؤذون الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

    هؤلاء الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم كالمنافقين الذين يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء بألسنتهم أمامه، ثم من ورائه يشتمونه صلوات الله وسلامه عليه ويقولون غير ذلك، فإذا وصل ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم غضب وتأثر بذلك عليه الصلاة والسلام.

    كذلك وجد من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال أو بأفعال كاليهودي لبيد بن الأعصم الذي آذى النبي صلى الله عليه وسلم بسحر صنعه وسحر به النبي صلى الله عليه وسلم، فمكث أياماً وليالي كثيرة وهو يتأذى من هذا السحر الذي صنعه هذا الساحر لعنة الله عليه، فهذا مما يؤذي النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    وكذلك إذا تركوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم وتحاكموا إلى غيره وتركوا الشريعة وذهبوا إلى غيرها، فهذا يؤذي النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    كذلك من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، ومن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم في آل بيته، ومن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختاره من أشياء يفعلها أو يقولها وينسبونها لغيره.

    إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطعن على تأمير أسامة بن زيد

    ومن ذلك ما جاء من فريق طعنوا في تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لـأسامة بن زيد ، وأسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه زيد بن حارثة ، وقد قدمنا قصته في أول هذه السورة، فـزيد بن حارثة كان طفلاً واختطفه بعض العرب وباعوه لقبيلة أخرى وفي النهاية وصل إلى السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تبارك وتعالى عنها، فأهدته للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعد ذلك حرم الله عز وجل التبني بالمعنى المعروف، وقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أول من نفذ ذلك.

    وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً من أم أيمن ، وكانت أم أيمن سوداء حبشية رضي الله عنها، وكان زيد رجلاً من العرب، وكان رضي الله تبارك وتعالى عنه أشد بياضاً من القطن فكان ابنه أسامة لونه لأمه، فكان رضي الله تبارك وتعالى عنه أسود شديد السواد.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب أباه رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وأمَّر أباه فكان أحد ثلاثة أمراء النبي صلى الله عليه وسلم في مؤتة؛ حيث قال: (أميركم زيد ، فإذا قتل فـجعفر بن أبي طالب ، فإن قتل فـعبد الله بن رواحة) فقتل الثلاثة واستشهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى.

    وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم على سرية بعثها للجهاد في المكان نفسه أسامة بن زيد ، وهذا كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوة مؤتة كانت في العام التاسع لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل فيها هؤلاء، فكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأمير على السرية التي تذهب إلى هذا المكان أسامة ، وكأنه يذهب لينتقم لأبيه الذي قتل في هذا المكان، فكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل أسامة قائداً على هذا الجيش.

    فإذا ببعضهم يطعنون في تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لـأسامة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان صغير السن، يعني: كان عمره في ذلك الوقت ثماني عشرة سنة، والصحابة كانوا رجالاً؛ فقد كانوا من صغرهم يجاهدون، وكان الواحد منهم يتقدم للجهاد في سبيل الله وعمره أربع عشرة سنة فيرده النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي في العام الذي يليه ويقول: عمري الآن خمس عشرة سنة فدعني أجاهد في سبيل الله، فيخرج مجاهداً في سبيل الله وعمره خمس عشرة سنة، وكان ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يخرج للجهاد في هذا السن، وأما الآن فالذي عمره خمس عشرة سنة يقولون عنه: طفل صغير، وأما الصحابة فكانوا في هذا السن رجالاً مجاهدين، فهذا أسامة رضي الله عنه كان في سن ثماني عشرة سنة قائداً لجيش للنبي صلى الله عليه وسلم.

    فإذا بالبعض يطعن في ذلك، ويقول: كيف يؤمر علينا هذا الصغير؟ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يغضب لذلك ويقول صلوات الله وسلامه عليه: (إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده).

    فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن زيداً الذي لم يكن يعجبكم خرج مجاهداً في سبيل الله وقاتل مقبلاً غير مدبر رضي الله تبارك وتعالى عنه حتى قتل شهيداً في سبيل الله في غزوة مؤتة.

    إذاً: أنتم كنتم تطعنون في إمارته، وكان البعض يقول: لا يصلح للإمارة، وآخر يقول: هذا خواف، وآخر يقول: هذا يفر، هذا كذا، وقد جاهد في سبيل الله مقبلاً ولم يفر رضي الله تبارك وتعالى عنه حتى قتل شهيداً.

    فـأسامة بن زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن أباه كان حبيباً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (وإن كان لمن أحب الناس إلي) يعني: زيد بن حارثة رضي الله عنه، قال: (وإن هذا لمن أحب الناس إلي) أي: أسامة بن زيد .

    فانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل حبه لإنسان جعله يفعل كفعلنا، فأنا إذا كنت أحب فلاناً أتركه يجلس بجواري، وأقول: لا ترسلوه للجهاد؛ لئلا يقتل.

    أما النبي صلى الله عليه وسلم فحبه له جعله يتمنى له الخير، ويعلمه ويؤدبه ويربيه، ويرسله مجاهداً في سبيل الله.

    فقتل زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه وهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعده أمَّر ابنه وعمره ثمانية عشر عاماً، ولم يقل: إن أباه مات شهيداً، فلا يموت هو الآخر ويضيع منا، فسنتركه بجوارنا، لم يقل ذلك، وأمَّره، ونفذت السرية، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تخرج هذه السرية من المدينة المنورة، فإذا بـأبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه يتولى الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وينفذ هذه السرية.

    وكان الناس معترضين ويقولون: لقد حصلت ردة كثيرة فدع هذه السرية واستعن بها على الردة، فقال: ما كنت لأوقف شيئاً أنفذه النبي صلوات الله وسلامه عليه. فأخرج السرية مجاهدة في سبيل الله، فكانت حكمة عظيمة من أبي بكر رضي الله عنه أن ينفذها؛ لأن العرب خافوا وقالوا: هذا يرسل جيشاً جهة الروم يجاهد، فهذا معناه أن عنده قوة كبيرة ممكن أن تضربنا نحن؛ فالذي يذهب بجيش جهة الروم فمعناه أن عنده قوة وجيشاً آخر، وكان من أمر الله عز وجل أن هدى الجميع على يد أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    فالغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم طعنوا في زيد ، وهذا آذى النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    والذي يؤذي ربه ويؤذي النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الله عز وجل أنه ملعون في الدنيا والآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات..)

    عقوبة من يؤذي الله ورسوله أو يؤذي المؤمنين

    ثم قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58]

    ففي الأولى أطلق: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:57] ، وهنا قال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58] فالمؤمن قد يصدر منه شيء يضايق غيره فيتكلم الغير ويؤذيه بهذا السبب، وقد لا يصدر منه شيء فيؤذى بغير شيء، فهذا الذي عناه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

    إذاً: الذي يؤذي الله ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون، وهو كافر خارج عن دين الله سبحانه وتعالى، فاستحق اللعن في الدنيا والآخرة، واللعن هو: الطرد من رحمة رب العالمين تبارك وتعالى.

    فالذي يسب ربه، ويزعم أن له الصاحبة والولد، ويسب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا قد ارتد وكفر وترك دين الله عز وجل، فاستحق اللعن في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57] أي: أعد لهم العذاب الذي يهينهم.

    والذي يؤذي ربه سبحانه وتعالى ما قدر الله حق قدره، وكأنه جعل لربه المكانة الدنيا، فيجعله كغيره من البشر، وكأن الإنسان الذي يؤذي ربه يجعل ربه كالبشر، فيؤذي ربه سبحانه ويسبه، والجزاء من جنس العمل، فكأن العبد الذي يؤذي ربه سبحانه وتعالى يريد الإهانة أن يبلغها إلى ربه سبحانه، فالله يهينه في الدنيا وفي الآخرة ويجعل له العذاب المهين.

    أما الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فقد وقعوا في كبيرة من الكبائر، قال تعالى: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58] والبهتان من بهت الإنسان، وكأنك تجعله يبهت، وبهت اللون أزاله، كأنها المواجهة بالكذب، فإن الإنسان يكلم آخر ويقول له: ألست فعلت كذا؟ وهو لم يفعل هذا الشيء، فإنه يبهت ويتغير لونه، ويقول: ما الذي يقوله هذا الإنسان؟

    فهذا الإنسان الذي يأتي بالبهتان والكذب ويختلق على الغير ما لم يقله وما لم يكتسبه فالله عز وجل جعل هذا آتياً كبيرة من الكبائر مستحقاً للعذاب الشديد عنده سبحانه وتعالى، ولذا قال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]

    إذاً: جزاء هذا البهتان وهذا الاختلاق والكذب أنهم يحتملون الإثم العظيم، وسيأتي صاحب البهتان يوم القيامة يأخذ بهتانه فوق رأسه ويأتي ومعه إثم عظيم وكبيرة من الكبائر يحاسب ويعذب عليها يوم القيامة.

    ومعنى (مبيناً) أي: بيناً يبين ويفصح عن صاحبه.

    إذاً: الإثم نفسه واضح وظاهر ويبين أن صاحبه هذا كذاب مستحق لعقوبة رب العالمين سبحانه.

    إيذاء المؤمن قد يكون بحق أو بغير حق

    والله عز وجل لما ذكر أذى المؤمنين قال: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58] أي: أنه قد يؤذى الإنسان بسبب ما اكتسب وقد يؤذى بغير ما اكتسب، والذي يؤذى بسبب ما اكتسب إما أن يكون بحق وتكون عقوبة، كالحدود الشرعية، مثل إنسان سرق فقطعت يده، فأوذي هذا الإنسان ولكنه مستحق لذلك؛ لأنه بسبب كسبه، فإنه اكتسب السرقة فاستحق العقوبة عليها.

    من هذا ما جاء عن سيدنا عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قرأ هذه الآية ففزع فزعاً شديداً، فذهب إلى أبي بن كعب رضي الله عنه يقول له: (والله إني لأضربهم وأنهرهم)، وعمر بن الخطاب كان يضرب ولا يسكت على باطل أبداً، ولا يسكت على أحد يعتدي على حق آخر، فكان يضرب الناس، وكانوا يخافون من درة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    فـعمر يشكو لـأبي ويقول: (إني لأضربهم وأنهرهم؟ فقال له أبي رضي الله تبارك وتعالى عنه: يا أمير المؤمنين! لست منهم؛ إنما أنت معلم مقوم).

    فـعمر يذهب إلى أبي والصحابة ينصحون في الله تبارك وتعالى، وأبي لا يمكن أن يجامل عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    وقد رأينا كيف أن أبا موسى الأشعري رضي الله تبارك وتعالى عنه طلبه عمر ، فذهب إليه فاستأذن مرة، ومرتين، وثلاثاً، فإذا بـعمر رضي الله تبارك وتعالى عنه لا يجيب؛ وكأنه انشغل في شيء، فانطلق أبو موسى من عند عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    فـعمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أرسل إليه فجاءه فقال يسأله: إني طلبتك فلمَ ذهبت؟ فقال: استأذنت ثلاثاً فلم تأذن لي، فانصرفت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يُجب فلينصرف) فقال: لتأتني على هذا ببرهان أو لأفعلن. أي: إما أن تأتي ببرهان وإما أن أضربك على هذا الذي تقوله على النبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول ذلك تخويفاً للناس حتى لا يكذب أحد على النبي صلى الله عليه وسلم.

    هو مصدق لما يقوله أبو موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكن خوفه من أجل أن الناس قد يضيق كل واحد في شيء فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، لكي يخرج منها، فلذلك هو مصدق بما يقول، ولكن أحب أن يخوف الجالسين ألا يكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم.

    فانطلق إلى أبي بن كعب رضي الله عنه وهو في مجلس من مجالس الأنصار وهو فزع من هذا الذي حدث من عمر ، فإذا بـأبي يقول له: والله! لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقال لـأبي سعيد : قم يا أبا سعيد ! فقام أبو سعيد وذهب إلى عمر وحدثه بالحديث، فسكت عمر، فوجده أبي بن كعب رضي الله عنه ونهره رضي الله عنه وقال: يا عمر ! قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا تكن ناراً على أصحابك. أي: لا تؤذ أصحابك.

    فـأبي بن كعب وهو الذي ذهب إلى عمر يصيح في عمر ويقول له هكذا لن يسكت على عمر عندما يقول له عمر : أنا أضربهم وأنا كذا، فلا يقول له: إنك معلم مقوم، وهو لا يعتقد ذلك.

    فلابد لولي أمر المؤمنين أن ينصح الناس وأن يكون في يده سلطان، كما في الحديث: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) ، فإنسان قد تكلمه بالقرآن وتقول له: قال الله كذا وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذا، فيستجيب، وقد تقول لإنسان ذلك فيقول لك: لن أفعل، فهذا لا ينفعه إلا العصا.

    فلذلك لابد وأن يكون للسلطان العصا؛ حتى يؤدب بها الناس، فكان عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يفعل ذلك، فلما فزع وخاف من هذه الآية طمأنه أبي رضي الله عنه وقال: إنك معلم مقوم.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756405428