إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد حطيبة
  5. شرح رياض الصالحين
  6. شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [1]

شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [1]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد امتدح الله ورسوله المقلين من هذه الدنيا، والراغبين عنها، والعالمين بحقيقتها، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أروع الأمثلة في الصبر على ضيق العيش، والرضا بالقليل من هذه الدنيا، فهم يدخرون صالح متاعهم للدار الآخرة، ويجعلون الدنيا دار تزود من الطاعات للعبور عن طريقها إلى الآخرة.

    1.   

    ما جاء في فضل الجوع والتقلل من الدنيا في القرآن

    فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب فضل الجوع وخشونة العيش، والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس، وترك الشهوات.

    قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:59-60].

    وقال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:79-80].

    وقال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.

    باب آخر من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله يذكر فيه فضل الجوع وخشونة العيش.

    فالإنسان الذي يأكل إما أن يشبع وإما أن يكتفي بالقليل، فالذي يجوع في الدنيا يحاسبه الله عز وجل يوم القيامة حساباً يسيراً، والذي يشبعه ويتخمه ويعطيه الكثير يطول حسابه، حتى وإن كان من المتقين، فإنها لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.

    إذاً: فالمقلون في الدنيا حسابهم يسير يوم القيامة إذا كانوا من الأتقياء.

    وليست الرفاهية في العيش محرمة، لكن على الإنسان أن يعود نفسه على التقلل من الدنيا؛ لأن نفس الإنسان طماعة، فكلما أخذ شيئاً تمنى غيره وما هو أكثر، فإذا عود نفسه على العطش وعلى الصيام ، خاصة إذا كان يصوم شهر رمضان ويصوم أياماً من أيام العام تطوعاً لله سبحانه وتعالى، فسيستعين بذلك على مشقة الحساب يوم القيامة.

    وقد ذكر المؤلف آيات في هذا الباب منها قول الله عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].

    وكلمة (خلف)، إذا كانت ساكنة اللام فهي: خلف سوء، يعني: أقواماً ليسوا بطيبين، وإذا كانت محركة اللام فهم خير، أو فيهم خير.

    قال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59]، حالهم أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].

    والدين جاء ليأمر العباد بعبادة الله سبحانه وتعالى، وبتوحيده وحده لا شريك له؛ لأنهم يستعينون بهذه الدنيا على الآخرة، فالله عز وجل خلق لكم ما في الأرض جميعاً، وأباح لكم ما شاء، وحرم عليكم ما شاء، فالإنسان في الدنيا يعيش بشرع الله عز وجل مستريحاً، استراح قلبه واستراح بدنه، واستراح في حاله ومآله بطاعته لله رب العالمين سبحانه، وإذا راجع الإنسان نفسه وحاسبها وراقب الله عز وجل فسيمشي على الصراط المستقيم؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.

    فهؤلاء الخلف خلف السوء: أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59]، فلم يخافوا من الله عز وجل، ولم يستحضروا وعيده، ولم يستحضروا يوم القيامة والجزاء فضيعوا الصلاة، كعادة الكثيرين من الناس، يصلي أحياناً ويترك كثيراً، ويجمع الصلوات بعضها على بعض، قال: أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، وكأن تضييعهم للصلاة بسبب اتباعهم شهواتهم، شهوة المال، وشهوة الجنس، وشهوة البنين، فهو يجري وراء شهوته على حساب الصلاة.

    قال تعالى مبيناً جزاء هؤلاء: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، والغي: شر الجزاء، وقيل: واد في قعر جهنم والعياذ بالله.

    فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، جزاء غيهم، وجزاء ضلالهم يوم القيامة.

    ثم قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:60]، ففضل الله واسع عظيم، فقد هدد هؤلاء ثم بسط يد التوبة فقال: إِلَّا مَنْ تَابَ [مريم:60]، فإذا فرضنا أن الإنسان وقع في شهواته، وابتعد عن ربه وطاعته ثم راجع نفسه فالله كريم وحليم يحلم عنه، ويتوب عليه.

    قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60]، لأنهم تابوا لله عز وجل فلا يظلمهم؛ ولأنه يقبل التوبة عن عباده، فلما تابوا إليه قبل منهم التوبة وأدخلهم جنته.

    جزاء قارون

    وقال الله عز وجل عن قارون : فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79].

    فالمال يطغي الإنسان ويغره، فهذا قارون لم يكن من آل فرعون، ولم يكن من كبار وزراء فرعون، ولكنه كان من أغنياء بني إسرائيل، فمن المفترض أن يكون من أتباع موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ويتأدب بأدبه، ولكنه اغتر وطغى وبغى وتكبر على قومه فاحتقر قومه، وأراد أن يلحق نفسه بالكبار، فحذره الناصحون من الدنيا وأمروه أن يطيع الله سبحانه وتعالى، وأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، قال تعالى عنهم: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].

    و قارون لم يكن من قوم فرعون، قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص:76]، ومن المفترض أيضاً أن قوم موسى كانوا في ذل هنا في هذا البلد؛ لأن فرعون أذلهم، واستحيا نساءهم، وقتل أبناءهم، وهذا رجل منهم، فمن المفترض أن يستشعر ما بقومه من ذل، ومن احتقار فرعون وجنوده لهم، فيكون معهم لا عليهم، ولكنه طغى واستكبر، فحذروه من معصية الله سبحانه وتعالى فأبى، قالوا له: خذ من هذه الدنيا نصيبك ولا تضيع حظك من الآخرة، وأحسن للخلق كما أحسن الله إليك.

    فكان الجواب أن قال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، يعني: أن الله أعطاني هذا المال لأني أستحقه، ولم يعطكم أنتم لأنكم لا تستحقونه، قال تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، ولم يعتبر بما حصل للقرون السابقة، والأمم الماضية ممن ادعوا هذه الدعوى، ولكنه خرج متكبراً متجبراً على قومه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79]، وقد كان لديه من الكنوز والخزائن ما إن مفاتيح هذه الخزائن، لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، كما قال سبحانه وتعالى، وكان معه جماعة من الرجال الأشداء الأقوياء الذين يحملون مفاتيح هذه الخزائن، ومع ذلك لا يقدرون على حمل هذه المفاتيح.

    قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]، فلما نصحه قومه خرج يتبختر في ثيابه ويريهم أمواله، وأنه يستحق ذلك، قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79].

    الناس بطبعهم منهم من يحب الدنيا، ومنهم من يحب الآخرة، فالذين يريدون الدنيا سرعان ما يشتهون مثل هذا الذي معه، فهؤلاء نظروا إليه وهو في زينته، راكب على دوابه في حشمه وخدمه، فقالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].

    فهؤلاء الجهلاء قالوا كما قال هو، فإذا كان الله قد أعطاه هذا الشيء فلأنه يستحق ذلك، قال تعالى عنهم: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79].

    وكما أنه يوجد الحمقى في كل زمان ومكان، فكذلك يوجد أهل العلم وأهل الطاعة وأهل الخوف من الله سبحانه، فقد قال الذين يخافون من الله ويريدون الدار الآخرة لهؤلاء: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، فاصبروا على هذه الدنيا حتى يسكنكم ربكم سبحانه جنته!

    وهم لن يعتبروا حتى يروا نهاية هذا الإنسان، وخاتمته، قال تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81]، ثم إذا بالذين كانوا يتمنون مكانه بالأمس يقولون: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82]، أخيراً عرف هؤلاء أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، أي: ويضيق على من يشاء، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82].

    ثم ختم سبحانه هذه الآيات بقوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

    فبعد أن ذكر الله لنا قصة قارون ساق لنا الحكمة في آية جميلة عظيمة يقول فيها: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83]، فإننا نجعل الآخرة للذين يتقون الله سبحانه، وللذين لا يريدون العلو والاستكبار في الدنيا، قال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83].

    سؤال الإنسان يوم القيامة عن النعيم في الدنيا

    ومن الآيات التي يسوقها لنا النووي هنا قول الله عز وجل: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8].

    يعني: أنه سبحانه سيسألكم عما نعمكم به في الدنيا، من مال، أو طعام أو شراب ونحو ذلك.

    وقال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، هذه الآية من سورة الإسراء آية عظيمة وعجيبة فاسمع لهذه الآية:

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ [الإسراء:18]، أي: الدنيا: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، أي: الذي نريده؛ لنفتن الخلق بذلك، فالإنسان الذي يطلب الدنيا لن ينال ما يطلب، ولكن ينال منها ما قسمه الله عز وجل له لحكمة عنده، ومع ذلك تجد الإنسان ينكب على الدنيا.

    ومن أبأس خلق الله الذي يطلب الدنيا، فهو يجري فيها بكل طاقته ثم يشاء الله تعالى أن يظل فقيراً تعيساً في حياته ثم يموت بهذه التعاسة، فلا هو نال الغنى في الدنيا، ولا نال رضا الله عز وجل في الآخرة، وهذا من أشد الناس بؤساً وضرراً على نفسه في الدنيا وفي الآخرة.

    قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، ثم جعلنا لهذا الإنسان الذي يريد العاجلة، سواء أعطيناه العاجلة أم لم نعطه؛ لأنه ابتعد عن الله سبحانه وتعالى، قال: ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، فضاعت منه الدنيا كذلك، وحتى إن حصل على الدنيا فإنه لا بد تاركها، ثم له نار جهنم والعياذ بالله.

    قال: يَصْلاهَا [الإسراء:18]، أي: يدخلها ويقاسي حرها ولهيبها واشتعالها، مَذْمُومًا [الإسراء:18]، على ما صنع، مَدْحُورًا [الإسراء:18] ذليلاً مطروداً من رحمة رب العالمين سبحانه.

    لذلك فإن الإنسان المؤمن العاقل يحمد ربه سبحانه على أن وفقه لطاعته، وعلى أنه أتى به إلى بيت الله ليصلي، وعلى أن جعله يصوم، فكم من إنسان بعيد عن رب العالمين يتمنى لو فعل ذلك مجرد أمان، فهو لا يريد أن يصلي أو يصوم؛ لأن الكسل يمنعه عن أداء هذه الواجبات، وكذلك نسيانه ربه سبحانه، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، فلو كانوا يقدرون الله حق قدره، ويعلمون قوة الله وقدرته، ويستحضرون رحمة رب العالمين، وكيف أنعم عليهم بنعم عظيمة ليل نهار لعبدوا الله حق عبادته.

    1.   

    خشونة العيش والاقتصار على القليل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

    ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين

    ومن الأحاديث التي ذكرها المؤلف في الباب حديث للسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلوات الله وسلامه عليه).

    قولها: (خبز الشعير)، يعني: أنه ليس خبز قمح أو ذرة، بل خبز الشعير الذي لا يأكله اليوم أحد، ومع ذلك فما شبع منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا آله يومين متتابعين، ونحن لا يأتي علينا يوم واحد إلا ونحن نأكل أطيب الخبز، ومع ذلك قد تأكل لقمة وترمي الباقي في الأرض دون أن يأكلها أحد، بينما لم يشبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا آله من خبز الشعير يومين متتاليين صلوات الله وسلامه عليه.

    حديث آخر للسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً تقول: لـعروة بن الزبير ابن أختها أسماء رضي الله عنها: (والله يابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، أي: لا يوجد طبخ مطلقاً، قال عروة : قلت يا خالة! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء)، ومن الذي يرضى أن يأكل التمر والماء مدة أسبوع أو شهر أو شهرين؟ ومع هذا فهم متعودون على ذلك، أنت في رمضان تأكل ثلاث تمرات اتباعاً للسنة، ولولا ذلك لما أكلتها أصلاً، ولو أكثر الإنسان من التمر لأحرقته معدته، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمر على هذا الحال مدة طويلة.

    تقول: (إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا) والمنائخ: هي المعزة تكون للإنسان، ويكون فيها لبن، فيهدي لجاره من لبنها، أو بقرة يهدي لجاره من لبنها، فكانوا يهدون للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن.

    ما أكل رسول الله شاة مصلية

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية.

    أبو هريرة كان من فقراء الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان من حفاظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد من الله عز وجل عليه ببركة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فصار أحفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    فـأبو هريرة هنا مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية أي: مشوية، وهنا يذكر: أنهم دعوه فأبى أن يأكل، وكأنه استحضر حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير)، رواه البخاري في صحيحه.

    وعن أنس رضي الله عنه بهذا المعنى في البخاري أيضاً قال: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات).

    والخوان: المائدة التي عليها أصناف الطعام، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض؛ يقول: (إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل).

    قال: (وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات). رواه البخاري .

    والخبز المرقق: هو الملين المنخول، وفي رواية: (ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط).

    وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل من شاة مشوية، لكن هذا النوع من الشواية غير مسموط، والشاة المسموطة بمعنى: التي توضع في الماء المغلي بحيث يزول فروها ويبقى الجلد فقط ثم تشوى، فهذا فعل أهل الرفاهية، وكان هذا الفعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

    يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: (لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه)، والدقل: رديء التمر، فالله عز وجل منع عن نبيه هذه الدنيا لحقارتها، فلو كانت ذات قيمة لأعطاها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فهو هو أحب الخلق إليه، وهو سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

    يقول سهل بن سعد فيما رواه البخاري : (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه).

    والنقي من الخبز: هو الخبز الذي نخل طحينه؛ بأن يطحن الشعير أو القمح ثم ينخل.

    يقول سهل بن سعد رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه، فقيل: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ - وهذا دليل على أن المنخول ما وجد إلا بعده صلى الله عليه وسلم - قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار، وما بقي ثريناه فأكلناه) وثريناه: أي بللناه وعجناه.

    خروج رسول الله وأبي بكر وعمر من بيوتهم جياعاً

    ومن الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم ، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم، فهما يتمشيان من أجل أن يتناسيا الجوع، قال صلى الله عليه وسلم: وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوما فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني- أي: من مثلي، وعندي مثل هؤلاء الأضياف؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما- فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا)، فهنا أحس الرجل بأن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه جياع فأعطاهم العذق وفيه البسر والتمر والرطب، وهذا من أدب الضيافة، فهو يقدم لهم شيئاً يزيل به جوعهم في البداية، ثم يذهب لإعداد الطعام، وهذا الأدب غائب عن حياة الناس اليوم، فقد يضيف أخاه ثم ينصرف عنه جائعاً ولا يعطيه شيئاً يسد به جوعه ابتداءً.

    قال: (وأخذ المدية -السكين- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب)؛ لأنه قد ينتفع بلبنها هو وأهله، فيستحب ألا تذبح الشاة الحلوب في الضيافة.

    قال: (فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم).

    إذاً ففضل الله عظيم يستحق منا أن نشكر ربنا سبحانه، ونحمده على فضله وعلى كرمه وعلى جوده إذا ما حصل لنا مثل هذا الشيء، ونرجو من ربنا الخير في الدنيا وفي الآخرة.

    ولنتذكر دائماً أن الإنسان الجائع والصابر على الجوع له أجر، هؤلاء وجدوا فأكلوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فلما أكلوا ذكرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن الله سيسألهم عن هذه الأكلة التي أكلوها، فهل نشكر النعم لربنا سبحانه وتعالى التي أعطاها لنا؟ فنحن نملك العقول والألسن والشفاه والأيدي والأرجل، ونملك الصوت، فيجب أن نتذكر سؤال ربنا لنا عن هذه النعم العظيمة التي أعطانا إياها.

    1.   

    بيان شدة ما لاقى الصحابة من الجوع والعري في سبيل نصرة هذا الدين

    من الأحاديث: حديث خالد بن عمر العدوي (قال: خطبنا عتبة بن غزوان ) وكان أميراً على البصرة- وعتبة بن غزوان هذا صحابي فاضل من أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان سابع سبعة في الإسلام، فإسلامه كان قديماً رضي الله عنه، وقد هاجر الهجرتين: هاجر إلى الحبشة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.

    قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء) -يعني: أن الدنيا أعلمت بقطيعة وفناء، وولت سريعة.

    قال: (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها)، أي: أن ما بقي من أعمارنا في هذه الدنيا شيء يسير، ثم يأتي الحساب بعد ذلك، وقوله: (يتصابها صاحبها)، أي يجمعها.

    قال: (وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها- فإما الجنة وإما النار- فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم)، يعني: استفيدوا من الدنيا وأنتم حاضرون فيها.

    قال: (فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، والله لتملأن، أفعجبتم؟! يعني: أنها ستمتلىء يوماً ما بالكفرة وعصاة الموحدين، قال: ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، قال: وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار).

    وهذا من تواضعه رحمه الله، فهو يذكر الدنيا ويذكر حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: إن حالنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حالنا الآن، على الأقل كان بيننا من يستغفر لنا، ويدعو لنا، ويرحمنا، فوجودنا معه مع قلة الطعام أحب إلينا من الدنيا بأسرها.

    ثم قال: (وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً). بل هو عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

    جمع سيدنا عمر رضي الله عنه الناس ذات مرة فقام يخطبهم فقال لهم: لقد كنت أرعى الغنم لآل الخطاب على قراريط بمكة. ثم نزل رضي الله عنه.

    فقيل له: ما زدت على أن حقرت نفسك، فقال: وهذا الذي أريد. وكأن نفسه أعجبت بمكانها فأحب أن يذلها أمام الناس؛ لأنه يعرف نفسه حق المعرفة، فقد خلقه الله عز وجل من نطفة، خلقه من تراب أصله من الأرض، فلماذا يستكبر على الخلق؟ فيجب على الإنسان أن يذكر نفسه دائماً بأصلها إذا رأى منها العجب أو الفخر، كما ذكر عمر ذلك رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    للحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756216016