إسلام ويب

شرح رياض الصالحين - ذكر الموت وقصر الأملللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مذكرة بالموت، وما يحصل بعده من نعيم لأهل الطاعة، وعذاب لأهل المعصية، وكذلك مذكرة بقصر الأمل، وعدم الغفلة عن الموت وما يتبعه، فالذي ينبغي للمرء أن يتذكر الموت الذي يدفعه إلى الطاعات واجتناب السيئات، وعدم الركون إلى الدنيا.

    1.   

    ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ذكر الموت وقصر الأمل].

    قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

    وقال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].

    وقال سبحانه وتعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري.

    وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري .

    وفي رواية لـمسلم : (يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي)].

    1.   

    أهمية ذكر الموت وقصر الأمل

    لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً.

    يقول الشاعر:

    ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

    فـزهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19].

    وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية.

    فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة.

    والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟!

    ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً.

    فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى.

    جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).

    فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله.

    كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.

    1.   

    ذكر بعض ما جاء من ذكر الموت في القرآن

    لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً.

    يقول الشاعر:

    ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

    فـزهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19].

    وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية.

    فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة.

    والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟!

    ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً.

    فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى.

    جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).

    فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله.

    كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.

    معنى قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة...)

    قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

    فقوله: (كل نفس) لم يخص نفساً دون نفس، أي: كل نفس منفوسة وكل حي مولود لابد وأن يموت.

    قوله: (وإنما توفون أجوركم) أي: الجزاء الأوفى، فما تقدم أيها الإنسان من خير تجده عند الله عز وجل خيراً وأعظم أجراً مما كنت تتخيل وتتوقع، حتى إن الإنسان ليأتي يوم القيامة فيجد له جبالاً من حسنات، ويسأل ربه الكريم سبحانه وتعالى: لم أعمل هذه الحسنة؟

    فيكون الجواب: أن هذا دعاء ادخرناه لك لهذا اليوم، أي: لم يستجب لك في الدنيا وإنما أخرناه ليوم القيامة، فالله يوفي عباده الأجر الوافي يوم القيامة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، قوله: (زحزح) يعني: كأن الأصل الولوج على النار والعياذ بالله.

    قال سبحانه: وَإِنْ مِنْكُمْ [مريم:71] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، أي: وما منكم إلا واردها ووالج فيها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71].

    فقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذا الذي يزحزح عن النار حين تشتد فهو يزحزح عنها حتى ينجو منها، فهو فائز، فما بالك بمن سبق غلى جنة الخلد كيف يكون فوزه!!

    وجاء في الحديث، حين يمر الإنسان على الصراط والنبي صلى الله عليه وسلم واقف فيقول: (يا رب سلم سلم، يا رب سلم سلم)، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ويمر الإنسان فوق الصراط، وهو مضروب على ظهر جهنم وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وهو دحض مزلة، وحوله كلاليب تخطف الذي يسير عليه، والمؤمن يجعل الله عز وجل مروره بفضله وبكرمه سبحانه كمرور البرق، كلمح طرف الإنسان عندما ينظر، وأقل منه من يكون في سرعة الريح حين يمر على الصراط، وأقل منه من يمر كأجاويد الخيل، أي: كالخيل السريع، فهو يجري على الصراط المضروب على متن جهنم، وهذا الذي كأجاويد الخيل يا ترى هل سيضعف أم يجري هذا الجري السريع؟! يا ترى هل يكون الجري في وقت طويل جداً على ظهر جهنم، أم في وقت قصير؟!

    ومنهم من يمشي على الصراط، ومنهم من يحبو على الصراط، ومنهم من يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار أخرى، وتخطفه الكلابيب التي عن يمينه وعن شماله مرة حتى ينجو، فإذا نجا من فوق الصراط قال: الحمد لله الذي نجاني، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، ما رأى غيره، ما رأى إلا نفسه وهو على الصراط، ويظن أن ربنا أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين.

    فهذا الذي يمر على الصراط، كيف إذا سقط وهوى في نار جهنم والعياذ بالله؟! نسأل الله العفو والعافية.

    قوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] أي: الفوز العظيم وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] أي: هذه الدنيا التي نعيش فيها ما هي إلا متعة يسيرة يستمتع بها الإنسان كما يستمتع المغرور بغروره، مثل: إنسان يلعب كمال أجسام حتى يبقى الجسم ضخماً جداً ويفرح به، وتراه يمشي منفوخاً في الناس، وفجأة جاء الله بمرض أضعفه أو جاءته شيخوخة وقعد في فراشه، فهذا كم استمتع بقوته؟ شيئاً يسيراً جداً.

    والأخرى استمتعت بجمالها، كانت جميلة ومتبرجة وتمشي في الناس تفتنهم، وفجأة دب على شعرها الشيب وجاء على وجهها الخطوط، وهذه كم استمتعت بجمالها؟ عصت الله سبحانه وتعالى فترات وفي النهاية قالت: يا ليتني ما عملت هذا الشيء، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] أي: متعة يسيرة قليلة زائلة بعد ذلك.

    معنى قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً..)

    قال الله سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، هذا كلام عظيم لمن يتأمل ويتدبر فيه، فهو عظة، أنت لا تدري ماذا ستكسب في غدك، من حسنات؟ وماذا تكتسب من سيئات؟ لا تدري ولكن الله يدري، ويعلم سبحانه وتعالى.

    يصبح الإنسان يفكر ويقول: سأعمل وأعمل وأعمل، ولا يقدر أن يعمل شيئاً مما نوى أن يفعله إلا أن يعينه الله، وقد لا يوفقه.

    قوله: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] أي: هذا الإنسان لا يدري متى يموت وفي أي مكان يموت؛ لأن المرء قد يبني له مقبرة وفي النهاية يسافر فيموت ويدفن في مكان آخر، وتذكرون المليونير اللبناني الذي عمل لنفسه مقبرة، وكان يريد أن يستهزئ من الموت، فهو لما عمل مقبرة قال لأهله: إذا أنا مت فاعملوا لي حفلة كل سنة في يوم موتي، وذلك بأن تأتوا وتغنوا وترقصوا عند المقبرة، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن هذا الإنسان يركب طائرة، وهذه الطائرة تسقط في البحر فيغرق كل من فيها ويخرجون من البحر إلا هو لم يخرج من البحر، وإنما ضاع في البحر، ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، يعني: لست أنت الذي تحدد أين تموت، ولكن الله عز وجل هو الذي يحدد مكان الموت، وأين يموت الإنسان.

    وهذه قصة عجيبة جداً، تحت عنوان: (لعنة الله على هذه المومياء)، يقول صاحب القصة يحكي عن نفسه: إنه كان رجلاً فقيراً وكانت هناك امرأة غنية عجوزة، فأحب أن يتزوج هذه المرأة من أجل أن يرثها، بعد أن تموت، فاستمر مع هذه المرأة فترة طويلة ولم تمت، وكانت بخيلة شحيحة، وهو منتظر على هذه المرأة أن تموت فيرثها، لكنه لم يصبر فطلقها ثلاث تطليقات، فبعدما طلقها الثلاث تطليقات بدأ الشيطان يوسوس له أن يرجع لها مرة ثانية؛ لأنها كانت مريضة، فأحب أن يرجع إليها وهي مريضة من أجل أن تموت فيرثها، فإذا به يبحث عن حل للرجوع؛ لأنه لا يمكن الرجوع إليها إلا بعد أن تتزوج من غيره، فأتى بمحلل فتزوجها عند المأذون وبات معها ليلة حتى الصباح فماتت، فمشى الناس في الجنازة وصاحبنا قام يصوت ويلطم خده على المال الذي ضاع منه وورثه هذا الذي تزوجها.

    انظروا الإنسان يريد أن يكسب في هذه الدنيا أشياء، فتراه يدبر ويخطط وفجأة ذهب الشيء منه لغيره، لو أنه رضي بما قسم الله عز وجل له لكان خيراً له، ما الذي جعله يبحث عن الحرام ليأخذ الحرام مع أنه لن يستمتع بهذا الحرام أبداً؟

    قال الله سبحانه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] يعني: إذا جاء الأجل لا يستأخرون ساعة، ولا دقيقة ولا ثانية وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] يعني: لن يخطئ الملك ويأتيه قبل الموت بساعة ويقول له: سأقبض روحك الآن، ولكن على وقته يقبض الإنسان.

    معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم..)

    قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9].

    تجد المرء إذا قيل له: صل، يقول: عندي شغل، وعندي أولاد، فيترك الصلاة والصوم والعبادة من أجل أولاده ومن أجل زوجته، فالله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] أي: احذر، فأنت لا تدري ماذا يخبئ لك القدر.

    عليك أن ترضي ربك سبحانه حتى يرضي عنك الجميع؛ لأنك إذا أسخطت الله سخط عليك وأسخط عليك الجميع.

    قال سبحانه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:9-10].

    فقوله: رَبِّ لَوْلا [المنافقون:10] أي: هلا أخرتني قليلاً حتى أعبدك وأتصدق وأكن من الصالحين.

    قال تعالى: َلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11] أي: جاء الأجل انتهى كل شيء، ثم قال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].

    معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت ... وأنكم إلينا لا ترجعون)

    قال سبحانه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

    أي: أن كل إنسان عندما يأتيه الموت يتمنى أن يرجع، يقول الكفرة والفجرة: رَبِّ ارْجِعُونِ أي: أرجعنا إلى الدنيا، يقولون ذلك بعدما ذاقوا النار والعياذ بالله، وبعدما نظروا هول الموت وهول المطلع، وبعدما رأوا ما في القبور من سؤال وغير ذلك، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار.

    فأصحاب النيران يقولون: رَبِّ ارْجِعُونِ فيقول الله لهم: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ [المؤمنون:100] أي: وعد من الله قد قاله الله، ولا رجوع مرة ثانية.

    وقال سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] أي: إذا نفخ في الصور يوم القيامة النفخة الأولى فالكل يموتون، فينتهي أمر الدنيا، ثم تكون النفخة الثانية فيبعثون من القبور للحساب، ويخرجون مدهوشين، ويجمعون إلى المحشر بين يدي الله سبحانه في يوم عظيم مهيب مخيف، كل إنسان يقول: نفسي نفسي.

    يسألهم الله سبحانه وتعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:112-113] أي: اسأل الذين كانوا يعدون، وهم يظنون يوماً أو جزءاً من اليوم، لكن في الحقيقة يوم القيامة قدره خمسون ألف سنة.

    قال سبحانه: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103].

    أي: المؤمنون الناجون ثقلت موازينهم فربنا سبحانه جعلهم من المفلحين، أما الذين كانوا في الدنيا في بعد عن الله وفي غفلة عن دينه فخفت موازينهم، يأتي الرجل السمين الضخم من هؤلاء فلا يزن عند الله جناح بعوضه، ليس له قيمة يوم القيامة، فأولئك الذين خسروا أعظم الخسران، فأعظم خسران أن الإنسان يخسر نفسه التي يدافع عنها في الدنيا بماله وبكل شيء، هذه النفس خسرها وشهدت عليه يوم القيامة، قال سبحانه في حال هؤلاء: فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:103-104] أي: يدخلون النار، فتأتي على وجوههم، وأشرف ما في الإنسان وجهه.

    قوله: تَلْفَحُ أي: تحرق، وُجُوهَهُمُ النَّارُ .

    وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أي: مشوهون والعياذ بالله، مناظرهم كمنظر الإنسان المحترق في الدنيا، قد احترق جلده وانكمش من جانب وطال من جانب آخر، تغيرت هيئة وجوههم التي كانت أشرف ما فيهم في الدنيا.

    قال تعالى مبكتاً لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105] أي: أتتكم الآيات وقرأها عليكم رسولكم صلوات الله وسلامه عليه فكذبتم بها.

    ويقول في الآية الأخرى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115]، أي: أحسبتم أننا نلعب، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه:114-115].

    قال سبحانه تبارك وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد:16] أي: ألم يحن ولم يجيء الوقت، أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ [الحديد:16] أي: أهل الكتاب طالت عليهم الدنيا، فإذا بالأمد لما طال زاد الأمل في رءوسهم، وزاد حب الدنيا في قلوبهم فنسوا الآخرة، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

    1.   

    ما جاء من قصر الأمل في السنة

    لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً.

    يقول الشاعر:

    ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

    فـزهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19].

    وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية.

    فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة.

    والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟!

    ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً.

    فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى.

    جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).

    فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله.

    كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.

    شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب...)

    من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).

    هذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمر يوصيه ويقول له: (كن في الدنيا كأنك غريب).

    الغريب لا يفكر في المكان الذي هو فيه غريب وأنه دار إقامة؛ لأنه مسافر من بلد إلى آخر، ويريد أن يؤدي الذي عليه ويرجع لداره، فدارك الجنة، فكن في الدنيا كأنك غريب سترجع إلى دارك، فجهز الهدايا لهذه الدار التي ستبقى فيها بلا نهاية، فأنت مثل الغريب الذي يقيم في بلد أخرى غير بلده لا على وجه الاستيطان والإقامة، وإنما يمكث فترة ويرجع، فتراه يحاول أن يدخر المال من أجل أبنائه وزوجته، فأنت تدخر عملك الصالح في دار الدنيا لهذه الدار الآخرة.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أي: عابر طريق يمر بالطريق ولا يبني في الطريق بيتاً.

    فالإنسان لا يؤمل في الدنيا كأنه سيخلد فيها، وإنما يكتفي برزق الله الحلال الذي آتاه، ويحمد الله عز وجل عليه، ولا يكون شرهاً في الدنيا طماعاً فيها؛ فإن الطماع والشره يموت بما يأكله.

    قال: (وكان ابن عمر ينصح بعد ذلك فيقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).

    انتفع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بهذه النصيحة، فكان من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محبوباً إلى الناس، وكان كثير الصدقة، وكان عظيم التواضع، وكان إذا قام يتعشى أو يتغدى يقول لمن حوله: اذهبوا لجارنا فلان المفلوج فائتوا به، فيجلس فيأكل مع ابن عمر ولعابه يسيل على صدره، ما قال له: أنا أتقزز منك، ولكن جلس يأكل معه تواضعاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم التواضع، فكان يقول: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكان يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء). يعني: أن المؤمن ينبغي أن يعلم أنه في كل لحظة قد يأتيه الموت، فليكن في هذه اللحظة في خير عمل يلقى به الله سبحانه وتعالى.

    ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله، قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه، وإذا أراد الله بعبد شراً استعمله في الشر) أي: إذا أراد به شراً إذا به يسخر من الناس، وإذا به يصنع أفعالاً، بأن يمد يده ويسرق أو يرتشي أو غير ذلك، ويموت على ذلك، فهنا استعمل في الشر فكان من أهله.

    أما المؤمن فالله عز وجل يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه، بأن يصلي فيموت وهو يصلي، أو يكون صائماً فيموت وهو على صيامه، أو يتصدق بصدقة ويموت بعدها، فيوفقه الله أن يكون آخر عمله الذي عمله من الأعمال الصالحة فيقبله سبحانه تبارك وتعالى.

    يقول ابن عمر : (وخذ من صحتك لمرضك) يعني: استغل الوضع الذي أنت فيه، فأنت الآن شاب قوي وتقدر على أن تحفظ كتاب الله، فاحفظ القرآن، وإذا كنت تقدر أن تتعلم العلم الشرعي فافعل قبل أن تأتي عليك المشاغل فلا تقدر، وقبل أن يأتي عليك الكبر والشيخوخة فتنسى، لكن وأنت صغير تدرك ما لا تدركه وأنت كبير، فخذ من وقت صحتك لوقت مرضك، فالله كريم سبحانه وتعالى، يعامل العبد معاملة الكرم، فانظر حين تواظب على صلاة الجماعة إذا مرضت تسأل عنك الملائكة: أين فلان الذي كان يصلي هنا؟ وتذهب تعودك في بيتك، ويأمر الله عز وجل الملائكة أن تكتب للعبد ما كان يصنعه وهو صحيح، كذلك إذا سافر يكتب له ما كان يفعله مقيماً، فإذا كان مواظباً على الصيام في الحضر ثم سافر فلم يصم يكتب له كأنه صائم، هذا كله من فضله ومن رحمته سبحانه وعلى ذلك فقس.

    ثم قال: (وخذ من حياتك لموتك) أي: خذ من حياتك ما تدخره بعد موتك.

    شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه...)

    جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أيضاً عن ابن عمر : (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده؟).

    قوله: (ما حق امرئ مسلم) أي: حق للمرء المسلم وحق عليه حين يكون له شيء يوصي فيه، من حقوق للناس من ودائع وديون وعرايا موجودة عنده، فإنه يلزمه أن يعيدها لأصحابها، فإذا فرضنا أنها ديون ولم يأت وقت تسديدها فإن عليك أن تكتب في البيت عندك في صحيفة: فلان له عندي كذا وكذا، وتبقى معروفة وتشهد على ذلك؛ حتى إذا مت عرف أهل البيت أن عليك الدين الفلاني فيؤدونه لصاحبه، فيا ترى من من الناس يصنع ذلك؟

    أكثر الناس يكتبون ما لهم: لي عند فلان كذا ولي عند فلان كذا، أما ما عليه فالأكثر من الناس ينسون ذلك، وقد يكون المبلغ حاضراً عنده، فيقول: أرده غداً أو في الشهر الآتي، ينسى هذا المسكين أنه لو مات لعل الورثة يأخذون هذا المال ولا يردونه لصاحبه، فيحبس في النار ويعذب بذلك.

    إذا كان الرجل قد حبس بدينارين كما جاء في الحديث: (أنه أتي للنبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها، فكان يسأل: هل عليه دين؟ فلما جاءوا بهذه الجنازة وسأل، قالوا: عليه ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم، فـأبو قتادة صعب عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وصلاته بركة ورحمة ونور لهذا الإنسان في قبره، فقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي الدينارين، فقال: هما عليك وفي مالك والميت منهما براء، فقال: نعم، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، في اليوم التالي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة : ما صنع الديناران؟ فقال: يا رسول الله! العهد قريب، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك سأله: ما صنع الديناران؟ فقال ذلك، فسكت، وبعد ذلك سأله فقال: أديتهما يا رسول الله! قال: الآن بردت عليه جلدته)، هذان ديناران، فكيف بمن يأخذ مائة ألف ومائتي ألف، ويسرق الفلوس ويهرب بها؟! مصيبة من المصائب، والناس في غفلة، يأكل أموال الناس وينسى.

    ومن عذاب الله للإنسان في الدنيا الغفلة، مثل المريض بالسكر عندما يأتيه المرض فيأكل أعصابه ومع ذلك لا يحس برجله حين يقوم، أقول: هذا من البلاء، فلا بد للإنسان أن يراجع نفسه عندما ينزل به المرض، فهاهو المرء ينتبه ويبعد رجله عن النار، وكذلك إذا مر على مسمار يبتعد عنه، لكن المصاب بمرض السكر أعصابه لا تحس بشيء، فهو يدوس مسماراً ولا يحس به؛ لأنه قد حصل في رجله (غرغرينا) وقد تنقطع رجله في يوم من الأيام، كذلك الإنسان الذي يكون في غفلة، فتراه يأكل المال الحرام ولا يبالي، فهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بإنسان جاءت على أنفه ذبابة فقال بيده هكذا، هشها فطارت الذبابة، ونسي ما كان من أمر الذبابة، فذنب الفاجر على رأسه كذبابة، قال بيده هكذا فطارت.

    أما المؤمن فالذنب الذي يقع فيه يكون على رأسه كالجبل، يستشعر عظم هذا الذنب، ويقول: يا ترى ربنا سيتوب علي فيه؟ يا ترى ربنا سيعذبني؟ ويظل يستغفر ويستغفر ويصلي لله ويسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنه في ذنب واحد فعله، فهناك فرق بين من قلبه حي ومن قلبه ميت.

    لذلك الإنسان المؤمن دائماً متذكر ما يقوله الله عز وجل، وعلى باله أن الموت سيأتيه ليلاً أو نهاراً.

    نسأل الله عز وجل أن يعيننا على التذكر وعلى العمل، وأن يجعلنا من عباده المخلصين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756038795