إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد حطيبة
  5. شرح رياض الصالحين
  6. شرح رياض الصالحين - من (فضل قراءة القرآن) إلى (ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة)

شرح رياض الصالحين - من (فضل قراءة القرآن) إلى (ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة)للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القرآن الكريم كتاب الله عز وجل الذي أنزله لهداية الناس، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ولذلك فقد حث الله عز وجل على تعلمه وتعليمه، وبين عظيم أجر وجزيل ثواب ذلك في الدنيا والآخرة، ورغب في الاهتمام به، وملازمته، وبين فضل صاحبه ومنزلته في الآخرة، وقربه منه تعالى، وأن قراءته وحفظه والعمل به سبب لدخول الجنة.

    1.   

    فضائل تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على حفظ كتاب الله عز وجل بقوله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

    كذلك جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).

    وهذا الحديث الذي رواه مسلم موافق لما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة)، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن قارئ القرآن بالأترجة، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ولا يحفظه بالتمرة، والمنافق الذي يقرأ القرآن ويحفظه شبهه بالريحانة، والمنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يحفظه بالحنظلة. فهذه أربعة أمثلة لمؤمن يحفظ، ومؤمن لا يحفظ، ومنافق يحفظ، ومنافق لا يحفظ.

    فالقرآن إذا حفظه المؤمن فإن النتيجة من ذلك تكون عملاً صالحاً، وحسن الخلق، والتقرب إلى الله عز وجل بالعبادة، وتحبباً إلى الخلق بما يؤديه إليهم من منافع؛ (فخير الناس أنفعهم للناس).

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، أي: بالقرآن العظيم، فإذا حفظه أحد وعمل به فإن الله عز وجل يرفعه درجات عالية، وإذا حفظه يريد به الدنيا فإن الله عز وجل يضعه، وهو يظن أنه وصل، ولم يصل إلى شيء؛ لأنه جعل أعظم الأشياء وأجملها وأحسنها وأفضلها طريقاً يطلب بها أشياء حقيرة لا قيمة لها.

    ولذلك فينبغي على الإنسان الذي يحفظ القرآن العظيم أن يطلب به الآخرة، ولا يطلب به العلو في الدنيا، وإذا علا في الدنيا بسبب ذلك نفاقاً ورياءً وسمعة فإن الله عز وجل يزيل منه ذلك يوماً من الأيام، فيضعه بذلك.

    وإذا أراد أن يرتفع على الناس بسبب أنه يحفظ القرآن، طلب الدنيا والرفعة به وليس لطاعة الله، وإذا اغتر على الخلق وجادل العلماء ومارى السفهاء، وأظهر حسن الصوت، وأظهر أنه أفضل من غيره يريد الدنيا بذلك، فإنه يكون أحد أول من تسعر به النار يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، -وذكر منهم- رجل حفظ القرآن فأتى به ربه يوم القيامة، وعرفه نعمه وقال: ما عملت فيها؟ قال: قرأت فيك القرآن وأقرأته، -أي: تعلمت القرآن وعلمته- فيقول له: كذبت كذبت كذبت، إنما قرأت القرآن ليقال: قارئ)، فهذا الذي حفظ القرآن من أجل الشهرة والسمعة بين الناس، فهو لم يطلب الدرجة عند الله عز وجل، وإنما طلب حقارة الدنيا، وقد قيل، فيؤمر به إلى النار.

    فإن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً في الدنيا بزهدهم وبصلاحهم وبحبهم لله وبإخلاصهم له، وفي الآخرة يرفعهم درجات بما يحفظونه من آياته سبحانه.

    (ويضع به آخرين) أي: الذين قرءوا القرآن ولم يتجاوز شفاههم وحناجرهم، ولم يدخل إلى قلوبهم، فهم لم ينتفعوا به في الدنيا ولا في الآخرة.

    وأيضاً للحديث معنىً آخر وهو: أن الله جعل هذا القرآن شريعة ومنهاجاً، فمن آمن وأطاع الله وأقبل على القرآن من الناس رفعه الله سبحانه وتعالى، ومن حاد الله وشاق دينه سبحانه وتعالى، وأصر على الكفر وضعه الله سبحانه وتعالى وأذله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وعده ربه سبحانه أن ينتشر هذا الدين، ولا يترك بيت مدر ولا حجر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. وهذا معنىً آخر لهذا الحديث، فإن الله يرفع المؤمنين المتمسكين بهذا القرآن، المطبقين لأحكامه، الآخذين به بقوة في الدنيا والآخرة، بجهادهم في سبيل الله سبحانه، وبنشرهم دين ربهم سبحانه.

    (ويضع به آخرين) أي: الذين ينافقون، ويجرمون في حق الدين وحق الإسلام، والذين يعادون دين الله عز وجل فأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

    غبطة حافظ القرآن والعامل به

    روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)، وهذه صورة لحافظ القرآن الذي يحفظ القرآن ويلازمه، فهو في النهار قائم به يصلي ما فرضه الله تبارك وتعالى عليه، فيقوم به علماً وعملاً، وتعلماً وتعليماً، نصيحة لنفسه ولغيره، فهو ينصح لله ولرسوله ولكتابه، وينصح للمؤمنين، فهذا قيامه بالنهار، وأما قيامه بالليل فهو أنك تجده باكياً بين يدي الله عز وجل، مصلياً لله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يستحق أن نتمنى أن نكون مثله، ويا ليتنا مثل هذا الإنسان الذي يقوم بالقرآن بالنهار فيعمل به، ويقوم به بالليل فيصلي به، فهذا هو الذي يستحق أن نغبطه على ما آتاه الله من فضله.

    وأما الآخر فهو: (رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، وهذا أيضاً يستحق أن نغبطه، وأن نتمنى أن نكون مثله، وأن يبارك الله عز وجل له في هذا الذي معه.

    تنزل الملائكة لقراءة القرآن

    جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: (كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين)، وهذا الرجل هو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وقد كان رجلاً فيه إخلاص وعبادة، وحب لله، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد كان هذا الرجل يذهب أحياناً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه شخص آخر، فإذا رجع من عنده والليلة مظلمة وفي يده عصا، يجعل الله سبحانه العصا أمامهما نوراً، وكأنها مصباح وكشاف تضيء له الطريق، وعندما يفترقان في الطريق ويذهب هذا إلى بيته وهذا إلى بيته، يجعل الله عز وجل لكل منهما نوراً أمامه، وقد كان أسيد بن حضير رضي الله عنه يظل ليله مصلياً لله عز وجل.

    وفي إحدى المرات قام يصلي من الليل رضي الله عنه، قال: (وعنده فرس مربوط بشطنين) أي: فرس قد ربطه بحبلين فتغشته سحابة، فجعلت تدنو منه وهو يقرأ القرآن بالليل)، وفي رواية: (كان يقرأ سورة الكهف، فإذا بسحابة فيها مثل المصابيح -أي: ممتلئة بالنور- نازلة من السماء وابنه بجواره، والفرس بجواره، وهو يقرأ القرآن، فنفر الفرس، وجعل يهتز في مكانه، وخشي أسيد بن حضير رضي الله عنه، فانتبه وجعل ينظر، فإذا بهذه السحابة تدنو من رأسه رضي الله تبارك وتعالى عنه. فخاف على ابنه بجوار الفرس من أن يرفسه، فتوقف عن القراءة، فارتفعت السحابة، فعاد يقرأ فنزلت عليه مرة ثانية، فترك القراءة خوفاً على ابنه، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك السكينة تنزلت للقرآن)، أي: نزلت السكينة من السماء، وهي سحابة فيها ملائكة الله عز وجل، ولو ظل يقرأ لنزلت الملائكة تسلم عليه، ولأصبح الناس يسلمون عليهم وتسلم عليهم، ولكنه خاف على ابنه.

    وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ يا ابن حضير! اقرأ يا ابن حضير! ) أي: ليتك قرأت يا ابن حضير .

    فقارئ القرآن يقرأ القرآن ويستمتع به، ولا يدري بالغيب الذي حوله، أن ملائكة الله عز وجل ينصتون له ويستمعون له، وأن السكينة تنزل على قارئ القرآن، ولذلك عندما تحضر مجالس العلم كن مستيقناً بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وهذه غيوب نحن لا نراها، ولكن نصدق بما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    عظم ثواب قراءة القرآن

    جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف ..)، وقد كانت عادة العرب: أنهم يطلقون على الكلمة: (حرفاً)، ويطلقون على الجملة والخطبة: (كلمة)، فحتى لا يظن السامع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أن الكلمة حرف، وضح ذلك وقال: (لا أقول: (الم) حرف)، أي: إنما هذه ثلاثة أحرف، وليست حرفاً واحداً: (ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).

    وفي هذا الحديث بيان أن لك بكل حرف تقرؤه من القرآن عشر حسنات، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: (فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)، فإذا قرأت بفاتحة الكتاب مثلاً، وقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فإنك تأخذ حسنات كثيرة، بعدد حروف الكلمة التي تقرؤها فضلاً من الله سبحانه.

    مثل من ليس عنده شيء من القرآن

    جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وإن كان في إسناده راوٍ فيه لين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب).

    فالإنسان المؤمن الذي يقرأ القرآن له درجات، وأما الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، ولا نتخيل أن إنساناً مسلماً أو مؤمناً ليس في جوفه شيء من القرآن؛ لأنه لابد أن يقرأ ولو فاتحة الكتاب حتى يصلي بها، فإذا كان ليس في قلبه شيء من القرآن فهو كالبيت الخرب، ظاهره حلو وباطنه خراب، بخلاف الذي يقرأ القرآن فإن باطنه نظيف طاهر؛ لأنه يقرأ القرآن، ويحفظه، بشرط أن يعمل به.

    شرف صاحب القرآن في الآخرة

    روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)، وهذه مكافأة للإنسان المؤمن عند الله عز وجل، فإن المؤمن حين يدخل الجنة يفرح فرحاً عظيماً، ثم تأتيه هذه المكافأة من الله عز وجل، فيقال له: كما كنت تقرأ في الدنيا أي: كما كنت تقرأ في الدنيا تعبداً لله فالآن اقرأ بين يدي الله عز وجل حتى ترتفع في الدرجات، وليس كما كنت تقرؤه في الدنيا تكليفاً، ولكن اقرأه الآن تشريفاً لك، وذلك حين تقرأ القرآن وترتله بصوت جميل بين يدي الله سبحانه وتعالى: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق -أي: ارتفع- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).

    والقرآن ستة آلاف ومئتان آية، وكل آية تقرؤها فإنك ترتقي بها درجة، فإذا كنت تحفظ القرآن كله فإنك تعلو إلى أعلى الدرجات، وإذا كنت تحفظ بعضه فإنك تعلو بحسب ما تحفظ منه، وهذا يدفع المؤمنين للتنافس في ذلك، فيتنافسون في حب الله عز وجل، وفي حفظ كتابه، ولا تيئس ولا تعجز، وحاول أن تحفظ من القرآن حتى آية في كل يوم، وراجع ما حفظته قبل ذلك، وإن الإنسان قد يجلس وهو يريد أن يحفظ فيحاول أن يحفظ ربعاً كاملاً فلا يستطيع أن يحفظ منه شيئاً، فيقوم وقد نسيه كله، وليس ذلك هو المطلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل عمل شرة، وإن لكل شرة فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة).

    إذاً: فالإنسان لا تأخذه الحماسة فيريد أن يحفظ كل شيء مرة واحدة؛ لأن ذلك ليس ممكناً، بل هو صعب جداً، وخاصة إذا لم يكن متعوداً على الحفظ، فيحتاج إلى أن يتعود شيئاً فشيئاً، فيحفظ أولاً آية واحدة، ويرددها في نهاره وغده إلى أن يحفظها، ثم يضم إليها غيرها، ولا يزال يحفظ كذلك إلى أن يحفظ القرآن كله، أو ما استطاع حفظه منه، وليبدأ بما يحبه، وبما يستمتع به، فقد يكون يحب أن يحفظ سورة يس، وغيره يحب أن يحفظ سورة الرحمن، وهكذا، فليبدأ بما يحب، وليس شرطاً أن يبدأ من أول البقرة، أو من أول جزء عم، ولكن السورة التي تستهويه ويحبها يبدأ بها؛ لأنها ستكون سهلة عليه، وليضم إليها غيرها وغيرها، وسيجد نفسه في النهاية قد حفظ الكثير من كتاب الله عز وجل، بل حفظه كله.

    1.   

    الحرص على تعهد القرآن، والحذر من تعريضه للنسيان

    من الأبواب التي يذكرها الإمام النووي رحمه الله في التبيان: باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان.

    وتعاهد القرآن بمعنى: أن تحفظ وتراجع، ولا يكفي أن تحفظ.

    وإن الذي يحفظ القرآن يتفلت منه بسرعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنسي آية وهو يصلي بالناس، وذكره بها أبي بن كعب رضي الله عنه بعد الصلاة، فكيف بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فالقرآن يتفلت من الإنسان.

    وإذا كان الإنسان يراجع فهو معذور، وأما الذي ترك القرآن فلا يراجع ولا يقرأ ومع هذا يقول: أنا حافظ، فهذا هو المقصر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).

    (تعاهدوا) أي: راجعوا، وحافظوا على ما تحفظون من القرآن، وراجعوا كل يوم، واجعلوا لكم وقتاً للمراجعة، وداوموا على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن) أي: اجعل للقرآن وقتاً تتعاهده فيه، حتى تراجع ما تحفظ، ولا يتفلت منك، وتأس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جبريل ينزل عليه كل سنة في رمضان فيراجع مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحفظه من القرآن، ويتدارسه معه.

    وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا)، أي: حافظوا على قراءة القرآن، وواظبوا على تلاوته، (فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً) أي: يتفلت من الإنسان، ويخلص منه ويذهب ويتركه (من الإبل في عقلها)، أي: مثل الجمل حين يبقى مربوطاً في عقاله ويحاول أن يفلت منه ليمشي، وكذلك القرآن إن لم تحافظ عليه فإنه يضيع منك ولن تستطيع أن تتذكره.

    وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)، وهو هنا يضرب المثل بما في البيئة عندهم، فإن الرجل منهم إذا كان عنده جمال فربطها وواظب على أن ينظر إلى الحبل الذي ربطها به أهو سليم أو غير سليم فقد حافظ عليها، وأما إذا غفل عنها فإنها تذهب عنه فلا يجدها.

    وكذلك القرآن، فإننا إذا لم نتعاهد كتاب الله عز وجل بالمذاكرة والحفظ والمراجعة فإننا سوف ننساه.

    1.   

    استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها

    من الأبواب يذكرها الإمام النووي رحمه الله: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها.

    فقارئ القرآن ينبغي أن يحسن صوته بالقرآن، وأن يتغنى به، تعظيماً وتوقيراً لكتاب الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك في غير القرآن، فلم يذكر شيئاً ثانياً، لا التغني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التغني بالشعر، ولا التغني بالكلام، ولا التغني في الخطبة، ولا التغني في الدعاء، وإنما ذكر التغني بالقرآن فقط.

    وقد كان العرب ينشدون الأشعار ويتبارون فيها، فلما نزل القرآن أخبر الله تعالى أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر قليلاً ما تذكرون، أي: قليلاً ما يفهم هؤلاء الناس، فلو أن القرآن مثل الشعر الذي يقرءونه على أوزانهم لقالوا: هذا شاعر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن أتى بفواصل جميلة وعجيبة، يسمعها من يسمعها فيقول: لا يمكن أن يكون هذا شعراً، ولكن له حلاوة ونغمة، فالقرآن كلماته متآلفة ليست متنافرة، وعندما يقرؤه الإنسان يجد متعة على لسانه، ويجد نغمة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتغنى بالقرآن، ولم يأمرنا أن نتغنى بشيء غير القرآن.

    وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)، (ما أذن) أي: ما استمع الله عز وجل لشيء، والله يسمع كل شيء، ولكن فرق بين سماع وسماع، فـ(ما سمع) هنا أي: يحب أن يستمع لهذا القرآن من نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهو أجمل الناس صوتاً، وأحسنهم تلاوة صلوات الله وسلامه عليه: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن)، وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فليس هناك غيره حسن الصوت يتغنى بهذا القرآن العظيم، ولكن من تواضعه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك على وجه الالتفات، فلم يقل: ما أذن الله لشيء ما أذن لي أن أتغنى بالقرآن، صلوات الله وسلامه عليه، ولكن من تواضعه قال: (ما أذن لنبي)، ومن كان موجوداً معه من الأنبياء صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن مع أصحابه؟ لا أحد.

    وقوله: (يتغنى به) أي: يترنم بآيات كتاب الله عز وجل بنغمة جميلة، ويجهر بذلك، ويسمع الخلق، فيقرأ كتاب الله عز وجل لينتفع الخلق به.

    وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، فقد استمع لـأبي موسى الأشعري ليلة وهو يقرأ القرآن وحده في المسجد في الظلام، ووقف وقفة طويلة يستمع له، وأعجبه صوت أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وفي الصباح قال له: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، وقوله: (لو رأيتني) أي: لأعجبك ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم استمع لـأبي موسى الأشعري لجمال صوته، ولحسن تلاوته وأدائه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، أي: لأعجبك ذلك، فقال أبو موسى الأشعري: (لو علمت يا رسول الله لحبرته لك تحبيراً)، أي: لو علمت أنك تستمع لقراءتي لأنها أعجبتك لحبرتها لك تحبيراً، وحاشا أبا موسى أن يرائي أو يسمع، ولكن أعجبه أن الرسول العظيم الكريم يستمع له، وإذا كان يستمع له وصوته يعجب النبي صلى الله عليه وسلم لزاد أبو موسى ولحلى صوته أكثر ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحب أن يسمع من أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه.

    وفي الحديث المتفق عليه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه صلوات الله وسلامه عليه).

    وقد كان الصحابة يسمعون لـأبي موسى الأشعري بعد وفاة صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي أبا موسى ويقول: ذكرنا بالله. فيقرأ أبو موسى والكل يسمعون في ذلك المجلس.

    وهنا البراء بن عازب يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ما سمع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (ما سمعت صوتاً أحسن من صوت النبي صلوات الله وسلامه عليه)، فهو صوت جميل يستمع إليه ربه سبحانه وتعالى وهو يقرأ القرآن، ويتغنى بكتاب الله سبحانه في خشوع، وقد كان إذا قرأ يسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل، من خوفه من الله عز وجل، وبكائه منه، صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كان هذا لا يؤثر على جمال صوته، وحسن تلاوته، صلوات الله وسلامه عليه.

    الأمر بالتغني بالقرآن

    روى أبو داود بإسناد جيد عن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا).

    فالقرآن ليس كغيره من الكلام، وإنما هو شيء خاص جاء من عند رب العالمين، نزل به جبريل الروح الأمين على النبي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، نزل عليه فعلمه كيف يتلوه، قال له ربه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19].

    فقوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) أي: لا تحرك لسانك لتعجل؛ بل اصبر واسمع جيداً لهذا القرآن، ونحن نحفظك إياه، ونعلمك أحكامه، ونعلمك كيف تقرؤه.

    والنبي صلوات الله وسلامه عليه يعلم المؤمنين، ويأمرهم أن يتغنوا بالقرآن، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، أي: إن قارئ القرآن لا يقرؤه كما يقرأ أي كتاب آخر، وكما يقرأ أي كلام آخر، ولكن يقرأ القرآن مستشعراً أنه يؤجر على كل حرف منه، فيحسن التلاوة، ويتعلم كيف يجود القرآن، ويتعلم أحكام القرآن، وأحكام التجويد، وأحكام القراءة، ويتقن القراءة، ويتغنى بها، ولا يقيس على القرآن غيره، ولا يجعل شيئاً آخر كالقرآن.

    وفي زماننا الآن ما أكثر ما ابتدع الناس من بدع! فقد تغنوا بالقرآن، وبدءوا يتغنون بغير القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر سوى القرآن فقط، فقال: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن)، حتى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغنى به.

    أما أن يقف على المنبر ويخطب ويتغنى، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إلا أنه كان يقرأ القرآن ويتغنى به، صلوات الله وسلامه عليه.

    الأمر بالاستماع للقرآن

    روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن)، وابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه كان رجلاً عالماً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كانوا لفترة طويلة يظنونه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة دخوله وخروجه على النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن. قال: فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟)، أي: القرآن نزل عليك وتأمرني أن أقرأه عليك؟ وهذا من باب هضم النفس والتواضع، وأيضاً هذا تواضع من النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم الخلق أن الإنسان يقرأ ويستمع للقرآن، ففي قراءته للقرآن يتدبر ويحسن القراءة، وفي سماعه يتأمل ويتدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: حسبك الآن. قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)، صلوات الله وسلامه عليه.

    فقد كان يبكي صلوات الله وسلامه عليه حين يستحضر الآخرة ويوم القيامة، وحال وجوده يوم القيامة، وهي حال تشريف له صلى الله عليه وسلم، وحال علو وارتفاع له، يقول له ربه: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك أنت شاهداً على الكل، فإذا كان هذا النبي الشاهد عليه الصلاة والسلام يبكي خوفاً من هذا اليوم، فكيف بالمشهود عليهم؟ وكيف يكون حالهم؟ وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يملاً الخوف من الله قلبه، وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود، وصاحب الشفاعات يوم القيامة، ومع ذلك يبكي عليه الصلاة والسلام من ذلك!

    فالمؤمن أولى أن يحدث في قلبه الخوف والرعب والرهبة من هذا اليوم، ويسأل الله عز وجل العفو والعافية.

    والمقصود من هذا الحديث: بيان أن المؤمن إذا استمع للقرآن فليستمع إليه بحب لله ولكلامه، وبتدبر وتأمل، كما قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] وهذا توكيد من رب العالمين سبحانه، فإذا قرئ القرآن استمع، وفرق بين أن يقول: (اسمع) و(استمع)، فاسمع أي: شيء يمر على سمعك فاسمعه، وأما (استمع) أي: انتبه، وأصغ سمعك، وانتبه لما يقال، وأنصت ولا تتكلم أو تتحرك أو تلتفت عن القرآن، وإنما استمع وأصغ له، كما قال تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، أي: فلعل الله عز وجل يرحمنا بذلك.

    1.   

    الحث على آيات وسور مخصوصة

    القرآن كله عظيم، ولكن لا مانع من أن تكون آية أفضل من غيرها، وليس المعنى حين نقول: هذه أفضل من هذه، أن هذه أقل، ولكن القرآن كله فاضل وعظيم، والله عز وجل جعل البعض منه أفضل من البعض الآخر.

    أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة

    جاء عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أنه كان يصلي في المسجد، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد، فأسرع في صلاته وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن معنى قول الله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] أنه لا يقطع صلاته حتى ينتهي منها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت في صلاة)، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره، ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم له حكم آخر في صلاة النافلة، وهو وجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وقطع صلاة النافلة؛ لأن الصلاة نافلة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، فإذا تعارضا فيجب عليه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، والخروج من النافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يقل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]). أي: أليس الله قال هكذا؟ ثم علمه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أراد أن يعلمه ما يحيا به، وما يملأ قلبه نوراً، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ قال: فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).

    إذاً: فأعظم سورة في كتاب الله -وكل القرآن عظيم- هي سورة الفاتحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (هي السبع المثاني)، أي: تثنى وتكرر الفاتحة في كل صلاة، وفي كل ركعة تُقرأ، وهذا معنى تثنيتها، أي: تكررها، ففي كل صلاة فريضة أو نافلة تقرأ فاتحة الكتاب، فقال: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) صلوات الله وسلامه عليه.

    وفي هذا الحديث: أن المؤمن يحرص على هذه السورة العظيمة، فيقرؤها في الصلاة وفي غير الصلاة.

    فضل قراءة سورة (قل هو الله أحد)

    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)، وفي رواية أنه قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟)، وكل الناس يعجزون عن ذلك، ولا يستطيع أحد أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة إلا من أعانه الله عز وجل على ذلك، وهم فهموا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم يبتدءون من أول سورة الفاتحة إلى أن يتعدوا سورة براءة، حتى يصلوا إلى ثلث القرآن. أي: يقرءون عشرة أجزاء، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك شق ذلك على الصحابة، وقالوا: (أينا يطيق ذلك؟) أي: أن الأمر صعب عليهم أن يقرءوا ثلثه، ويمكن أن يقول البعض اليوم: أنا أستطيع أن أقرأ القرآن كله في يوم واحد أو في ليلة واحدة، ولكن قراءة الصحابة كانت على غير ما نقرأ نحن، فقد كانت قراءتهم قراءة تدبر وتفكر، وقراءة أدب مع الله سبحانه وتعالى، فكان من الصعب عليهم أن يقرءوا ثلث القرآن في ليلة، أي: عشرة أجزاء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر أسهل، فقال: ( (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن).

    وإذا كانت الفاتحة أعظم سورة في القرآن، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، فستكون الفاتحة أعظم من ذلك، والغرض من ذلك بيان أن تحرص على ذلك، فاقرأ فاتحة الكتاب، واقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).

    وفي البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ويرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، كما نعمل نحن اليوم نصلي بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الركعتين، وهذا الرجل كان يفعل ذلك، أي: أنه كان يصلي بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فيقرؤها ويكررها في كل ركعة، ثم في النهار ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يستقل ذلك، لأنه لا يحفظ كثيراً من القرآن، وإنما يحفظ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهذا الذي عرف أن يقوم به، وإذا بالنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يبين له أنها ليست قليلة كما ظن، وإنما هي عظيمة جداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)، فيقسم له، وهو لا يحتاج إلى أن يقسم عليه الصلاة والسلام، ولكنه أراد أن يطيب نفس هذا الرجل؛ لأنه رآها شيئاً قليلاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن).

    فكأنك تقرأ في كل ركعة بثلث القرآن عندما تقرأ بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، قال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إنها لتعدل ثلث القرآن).

    وجاء في الترمذي ورواه البخاري تعليقاً عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني أحب هذه السورة، -يعني: سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)- قال: إن حبها أدخلك الجنة).

    ولذلك نقول: إنك عندما تحب أن تحفظ فانظر السورة التي تحبها فاحفظها؛ لأن حبك لها يدخلك الجنة، وحفظك لها يرفعك درجات عند الله سبحانه وتعالى، فابدأ بما تحبه، وألف السور، وضم بعضها إلى بعض إلى أن تحفظ القرآن كله.

    وقد جاء في رواية: أن هذا الرجل كان يصلي بأصحابه، وكان إذا قرأ في الركعة ختم بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فقالوا له: إما أن تقرأ بالسورة، أو تقرأ بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، أي: لا تجمع بين الاثنتين، وكان الرجل يحب هذه السورة، فقال: إن أحببتم أن أصلي بكم بذلك وإلا فقدموا غيري، وكان هو أفضلهم، فتركوه يصلي بهم.

    والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن يقرأ في كل ركعة بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مع سورة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرآن كله صلوات الله وسلامه عليه، وليس عنده سورة أفضل من سورة، فكان يقرأ بالجميع صلوات الله وسلامه عليه.

    وأما هذا فحدث في قلبه حب لهذه السورة أكثر من غيرها، فكان يقرؤها في كل ركعة، وليس المعنى: أن السنة أن نفعل مثل هذا، وإنما السنة أن نفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يفعل ذلك ولا مرة واحدة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يقرأ في أي ركعة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مع السورة التي قرأها في الركعة، ولكن الغرض بيان أن هذا الرجل حدث في قلبه حب لهذه السورة، فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أحبها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك إياها أدخلك الجنة)، أي: بحبك لها، وليست هي فقط، وإنما القرآن كله، فما أحببت منه وتعلقت به كان سبباً لدخولك الجنة، أي: أن الإنسان المؤمن يحفظ ما يحبه، ويقرأ ما يحبه، فإذا كان في الصلاة فخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيفعل كما فعل صلوات الله وسلامه عليه.

    فالغرض بيان أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لها فضيلة عظيمة، ولذلك جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه في حديث آخر أنه قال: (من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات بني له بيت في الجنة)، أي: قصر في الجنة، فاحرص على تكثير القصور في جنة الله سبحانه وتعالى.

    فضل سورة (قل هو الله أحد) والمعوذتين

    روى الإمام مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قط: (قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس))، أي: آيات عظيمة جداً تنفعك في الدنيا والآخرة، فتحرسك هذه الآيات في الدنيا، ويكون لك أجرها عند الله عز وجل يوم القيامة.

    ويطلق على هذه السور مع (قل هو الله أحد) المعوذات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معجباً من هذه الآيات أنه لم ينزل مثلهن.

    روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما) صلوات الله وسلامه عليه.

    أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من عين الإنسان، ومن الجان، وكأنه كان يكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، وفي أذكار الصباح والمساء يتعوذ الإنسان بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولما نزلت عليه هاتان السورتان أخذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهما تكفيان عن غيرهما في التعوذ.

    وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكأنه كان بعيداً من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرب من النبي صلى الله عليه وسلم سأله أنه يعلمه شيئاً يصلي به، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بـ(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فكأنه استقل ذلك، وأراد أن يعلمه سورة طويلة مثل سورة البقرة، أو سورة النساء، وأما هاتان فكل الناس يحفظونهما، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن صلى بهم الفجر بـ(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، والتفت إلى المغيرة وقال: كيف رأيت؟ أي: أني أنا قرأت بهما في صلاة الفجر، والله سبحانه تبارك وتعالى يقول: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل والنهار، ويشهده المؤمنون المصلون، فقرأ بـ(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛ ليبين عظيم فضل هاتين السورتين.

    فضل سورة تبارك

    روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))، وهذه السورة تشفع للإنسان في قبره، وشفعت لهذا الإنسان إلى أن غفر الله له، وتلقب بالمانعة من عذاب القبر، فينبغي على المؤمن أن يحفظها، وأن يرددها كل يوم وكل ليلة، لتدافع عنه في قبره.

    فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة

    عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، والآيتان هما: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... [البقرة:285]، إلى آخر السورة.

    فهاتان الآيتان يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهما: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وأطلق قوله: (كفتاه) ولم يقيدها؛ لتبقى محمولة على العموم، فتكفيانه من الشرور، ومن قيام هذه الليلة، فكأنه إذا قرأ بهما فهما من أعظم ما يقرأ به في قيام الليل، فتكفيانه، فليحرص المؤمن على أن يقرأ ذلك قبل أن ينام، سواء في الصلاة، أو وهو على فراشه، ففيهما الإيمان، وأصول الاعتقاد، والدعاء: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]، فقد جمعتا خيري الدنيا والآخرة من العقيدة الإسلامية، ومن الدعاء بخير الدنيا والآخرة، فينبغي على المسلم أن يقرأها في كل ليلة.

    فضل سورة البقرة

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة).

    فقال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)؛ لأن المقابر لا يصلى فيها، وأهلها موتى، فلا توجد عبادة فيها، وإنما هي إما نعيم وإما جحيم، إما عذاب وإما فضل من الله عز وجل ورحمة في القبور، فلا يوجد فيها صلاة، ولا قراءة للقرآن، فلا تجعلوا بيوتكم مثل المقابر، فصلوا في بيوتكم النافلة، واقرءوا في بيوتكم سورة البقرة، لتحيا بيوتكم بذلك؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ينفر -أي: يهرب- من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، فينبغي على المؤمن أن يقرأ هذه السورة في بيته ليطرد منه الشياطين.

    نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755943181