كتب الله عز وجل عنده في اللوح المحفوظ كما كتب في جميع الكتب المنزلة أنه سيورث الأرض العباد الصالحين، ووعد المؤمنين بالنصر والعزة والتمكين إن عبدوه ولم يشركوا به شيئاً، وأرسل لهم محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة بهم يدعوهم إلى التوحيد حتى يمكنوا في الأرض.
تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)
وقال مجاهد : الزبور: الكتاب، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور: الذي أنزل على داود عليه السلام، والذكر: التوراة، وعن ابن عباس الذكر: القرآن.
وقال مجاهد : الزبور الكتب بعد الذكر، والذكر أم الكتاب عند الله، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله ].
وذكر في نسخ أخرى قول ابن عباس أن الزبور هو القرآن، والزبور على هذا القول يشمل جميع الكتب فيشمل التوراة والإنجيل والزبور القرآن، وسمي زبوراً؛ لأنه مزبور، أي: مكتوب من الزبر وهو الجمع، والذكر: اللوح المحفوظ، فالله تعالى كتب في كتب السماء التي أنزلها بعد اللوح المحفوظ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105] فكتب هذا شرعاً وقدراً، أما قدراً: كتبه في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها الصالحون، وكتب ذلك في الكتب الشرعية: التوراة، والإنجيل والزبور والقرآن، فوراثة الأرض للمؤمنين مكتوب كتبه الله شرعاً وقدراً.
وأما كون الذكر: اللوح المحفوظ فهذا ما اختاره ابن جرير ، والزبور يشمل الكتب المنزلة كلها: التوارة والإنجيل والزبور والقرآن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول. وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور: الكتب التي نزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون.
والأقرب مثلما اختار ابن جرير رحمه الله أن الذكر المراد به: اللوح المحفوظ، والزبور: الكتب المنزلة على الأنبياء: من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فالله تعالى كتب في اللوح المحفوظ وكتب في الكتب السماوية التي نزلها بعد اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.
تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:106] أي: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغًا لمنفعة وكفاية لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
فالصواب أنه لا يلعن المعين، لكن يجوز اللعن للوصف، كأن تقول: لعن الله من شرب الخمر، لعن الله الكفرة، لعن الله اليهود، لعن الله النصارى، لعن الله السراق. أما فلان ابن فلان السارق، أو فلان ابن فلان الشارب فلا يجوز لعنه على الصحيح.
وساء قوله من كان لعاناً، أعني اللعن الخاص، فإن بعض الناس تجده يلعن فلاناً، ويلعن فلاناً على الدوام، وقد لعنت امرأة ناقة لها؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركها وأخذ ما عليها وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة).
فإن قيل: هل يقر من يلعن المتبرجات ويخص بعضهن بالذكر؟
فالجواب: أنه لا يقر، وإنما يجوز لعن المتبرجات على العموم، ولا يقل: لعن الله فلانة بنت فلان.
إذ قد لعن الله المتبرجات، أما تعيين فلانة من النساء فلا يجوز على الصحيح؛ لأنها قد تتوب، وقد لا يكون بلغها النص؛ ولأن اللعن يعني الطرد من رحمة الله.
فلا تلعن ولكن تنصح ويدعى لها بالاستقامة والثبات، وكذلك إذا رأى إنسان يشرب الدخان فلا يلعنه، ولكن يدعو له وينصحه.
وكذلك لعن المشرك المعين لا يجوز على الصحيح، إلا من اشتد أذاه لهم، وذلك لكونه اعتدى عليهم. وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم).
يا معشر قريش! إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة -يعني الأوس والخزرج- فهو عدو استعان بعدو ].
قوله: (خمرة) خطأ، والصواب: (حمزة) أي: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كما هي عند الطبراني ، كما ذكر ذلك في البداية والنهاية، وكان هذا في السنة الأولى، حيث خرج حمزة في سرية قبل بدر.
وبنو قيلة هم الأوس والخزرج نسبوا إلى أمهم، وكان اسمها قيلة، وكان الأوس والخزرج أخوين، ثم صارا حيين، وحدثت بينهم حروب، وكانت الحروب بينهم لا تهدأ قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جمعهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين بادروا إلى الإسلام.
فـأبو جهل يقول لهم: أنتم تعرفون عداوة الخزرج لكم، وتعلمون عداوة محمد، فهو عدو نزل على عدو. وهذا إن صح هذا الخبر.
ويثرب: اسم للمدينة، وهو اسم جاهلي، فلما هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة، ولهذا أخبر الله عن المنافقين أنهم قالوا في غزوة الأحزاب: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]
والمناسم جمع منسم -بكسر فسكون- وهو طرف خف البعير، وقيل: منسم البعير ظفراه اللذان في يديه.
قوله: (إنه له لسحرة) لعله (لسحراً).
قوله: (ما رأيته قط) يعني أن تأثيره في السحر أشد من تأثير غيره.
قال: المؤلف رحمه الله: [ فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم ! والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال أبو سفيان بن الحارث : كونوا أشد ما كنتم عليه؛ إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم، فيكون وحيداً مطروداً، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم ].
قوله: [دَهْلَك]: بفتح أوله وسكون ثانيه، ولام مفتوحة، وآخره كاف، وهو اسم أعجمي معرب، وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة.