إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [28-29]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يستنكر الله سبحانه على من يعصيه ويكفر به ويدعوه إلى النظر في خلق نفسه كيف أن الله أماته ثم يحييه ثم يميته ثم يحييه، ثم يدعوه إلى التفكر في قدرة الله سبحانه في خلق السماوات والأرض، فإذا نظر الإنسان في الآيات الدالة على قدرة الله في الآفاق والأنفس دعاه ذلك إلى أن يخاف من ربه ولا يعصيه ويعبده ولا يشرك به.
    قال الله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28].

    قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة:28] أي: كيف تجحدون وجوده، أو تعبدون معه غيره، وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]أي: وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:36]وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، والآيات في هذا كثيرة.

    وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11] قال: هي التي في البقرة: وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28]، وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]: أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله تعالى: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11] قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ].

    وقوله: (مَيتة) بفتح الميم، أما مِيتة بالكسر فتكون للهيئة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه مَيتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] ].

    قوله: هذه حياة الأحسن فيها: هذه إحياءة، والمعنى متقارب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك.

    وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] قال: يحييكم في القبر ثم يميتكم. وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، وذلك كقوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11]، وهذا غريب والذي قبله ].

    القول بأنه أماتهم في القبر ثم أحياهم، أو أنه أماتهم بعد أن أخرجهم من ظهر آدم، ثم أحياهم: هذان القولان غريبان، والصواب القول الأول، وهو أن المراد: كانوا عدماً حينما كانوا تراباً، وذلك أنهم كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله بأن نفخ فيهم الروح في بطون أمهاتهم، ثم يميتهم الميتة التي كتبها الله على كل إنسان بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ثم يحييهم يوم القيامة فهذه ميتتان وحياتان:

    الميتة الأولى: حينما كان الناس عدماً، أي: كانوا تراباً، ويدخل في هذا كونهم أمواتاً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، هذه الميتة الأولى، ثم أحياهم حينما أرسل الله الملك إلى كل جنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح وهذه الحياة الأولى، وتستمر إلى وفاته، وهذه هي الموتة التي كتب الله عليه وهي الموتة الثانية، ثم يحيون يوم القيامة، فهذه ميتتان وحياتان، وهذا القول هو الصواب، وهو المراد من قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11].

    أما القول بأن الله أحياهم في عالم الزرع، ثم أماتهم ثم أحياهم في أرحام أمهاتهم، أو القول بأنه أحياهم في القبر فهذا قول ضعيف.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا غريب والذي قبله، والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية:26] الآية، كما قال تعالى في الأصنام: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21] الآية.

    أي: أن الأرض كانت ميتة ثم أحياها الله، فالأرض ميتة والأصنام كذلك أموات.

    اختلاف أهل العلم في قول الله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم..)

    هذه الآية فيها قولان مشهوران، أطال فيها الحافظ ابن كثير رحمه الله، ونقلهما شارح الطحاوية:

    القول الأول: أن الله أخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم، وأنطقهم فشهدوا ثم أعادهم، ولكن كل إنسان لا يذكر ذلك إلا إذا جاءت الرسل وذكرته بذلك، والحجة إنما تقوم عليهم بالرسل، وهذا يدل عليه أحاديث كثيرة بعضها فيه ضعف، وقد سردها شارح الطحاوية، وفيها: أن الله استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأنطقهم وأشهدهم فشهدوا ثم أعادهم، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الله تعالى يقول للكافر يوم القيامة: لو كان لك مثل الأرض أكنت مفتدياً؟ قال: نعم. فيقول: قد أخذت عليك في ظهر آدم أدنى من ذلك: ألا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك به شيئاً) وهذا من أقوى الأدلة، ومنها حديث رواه الإمام أحمد في مسنده: (أن الله تعالى استخرج ذرية آدم، وقال: هذه ذريتك، فرأى فيهم رجلاً له نور، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك يقال: إنه داود، فقال: يا رب كم عمره؟ قال: ستون، قال: يا رب أعطه من عمري أربعين، فأعطاه أربعين، فلما تمت المدة جاء ملك الموت إلى آدم فقال: أما بقي من عمري أربعين، قال: إنك أعطيتها ابنك داود، فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم وجحدت ذريته).

    وهناك أدلة كثيرة في هذا.

    والقول الثاني: أن الإخراج معنوي، وأن المراد ما ركزه الله في عقول بني آدم من معرفتهم لربهم، وأن كل من بلغ ورأى هذه المخلوقات العظيمة وهذه الآيات استدل بها على قدرة الله ووحدانيته، وقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] قال: المراد: من.. كل واحد عندما يخرج من بطن أمه ويبلغ. ورجح بعض أهل العلم هذا القول، وقالوا: إن الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172] قال فيها: (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره (وأشهدهم).

    وعلى كل حال فالأحاديث في ذلك كثيرة، ويمكن الجمع بين ذلك بأن الله تعالى استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأن الله أيضاً ركز في عقول كل بني آدم معرفته والإقرار به سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث صريحة في هذا.

    فالقول الثاني: قالوا: إنه أرجح، ولكن أصحاب القول الأول هابوا مخالفة الأحاديث لكثرتها.

    وظاهر الأدلة: أن الاستخراج حسي، ولا يمنع هذا من أن كل من بلغ عرف ربه، وكل من ميز وجعل الله فيه فهماً وعقلاً فأنه يستدل بالآيات والمخلوقات العظيمة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088785470

    عدد مرات الحفظ

    779032537