إسلام ويب

تفسير سورة البقرة الآية [30]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله تعالى هو أحكم الحاكمين، خلق الإنسان في هذه الأرض واستخلفه فيها لينظر كيف يصنع، ولتظهر آثار رحمة الله وعظمته وقدرته في خلق عباده وامتحانهم بما يحصل بينهم من تنازع وافتتان في هذه الدنيا. وقد أوجب الله على أهل الأرض بعد أن رضوا بالإسلام ديناً أن يكون لهم خليفة واحد يحكم بينهم بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج عن هذا الخليفة وإن فسق وعصى وظلم إلا أن يأتي كفراً بواحاً فيجوز حينئذ الخروج عليه عند الاستطاعة.
    قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

    قال المصنف رحمه الله: [ يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30]، أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك.

    وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك. ورده ابن جرير .

    قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج : هذا اجتراء من أبي عبيدة ].

    أبو عبيدة مع أنه لغوي ومعروف عند أهل اللغة إلا أنهم خطأوه في هذا، والصواب أن المعنى: واذكر، فإذ هنا ليست زائدة، وإنما هي معروفة، ومعناها معروف في اللغة العربية.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، أي: قوماً يخلف بعضهم بعضا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى:وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام:165]، وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62]، وقال وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60]، وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59].

    وقرئ في الشاذ: ( إني جاعل في الأرض خليقة ) حكاها الزمخشري وغيره.

    ونقل القرطبي عن زيد بن علي ، وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط ].

    والقراءة السابقة إذا كان معناها صحيح، فتحمل على أنها تفسير، مثلما جاء في مصحف عبد الله بن مسعود في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام متتابعات، فقوله: متتابعات يحمل على أنها تفسير، ومثله ما جاء في مصحف عائشة حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى صلاة العصر يحمل على أنه تفسير، ولا يثبت على أنه قراءة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرازي في تفسيره وغيره.

    والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي .

    أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.

    وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه ].

    سؤال الملائكة عن حكمه، وليس اعتراضاً على الله، فهم عليهم الصلاة والسلام لا يعترضون على الله، كما قال الله، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. فإن الله لما أخبرهم أنه سيكون خليفة في الأرض، قالوا: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هذا الخليفة؟ فهل سيكون منهم فساد، أو سفك للدماء؟، إن كانوا كذلك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً، قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟

    قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، والعباد، والزهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.

    وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.

    وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: (يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل).

    فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، وقيل: معنى قوله تعالى جواباً لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل: بل تضمن قولهم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم.

    ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم ].

    وعلى كل حال، فالسؤال عن استكشاف الحكمة، وليس اعتراضاً على الله، وظاهر الآية، إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، يعني: من الحكمة في وجود هذا الخليفة، وأنه سيحصل منهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، والعلماء، والعاملون، إلى غير ذلك من حكمته سبحانه وتعالى في خلق بني آدم.

    أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه:

    قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة ، قالوا: قال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.

    وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم ].

    هذه الاستشارة لا محل لها هنا، ولا وجه لها، لكن يحمل على أن المراد أخبرهم.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وروي عن قتادة نحوه، وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ].

    هذه الآثار فيها تساهل؛ لأن المستشير هو الذي لا يعرف وجه الحكمة من الشيء، أما الله تعالى فهو لا يخفى عليه شيء، بل هو عليم بكل شيء، ولهذا قال: وإني أعلم ما لا تعلمون.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.

    فِي الأَرْضِ [البقرة:30]، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة)، وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم ].

    هذا الحديث حديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن سابط تابعي فهو مرسل. وضعيف؛ لأن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وفيه مدرج وهو قولهم: إنها مكة، فقوله: دحيت الأرض من مكة خاصة، والآية عامة وليست خاصة بمكة، فقول الله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ [البقرة:30]، عام في محل الأرض، وليس خاصاً بمكة، ولا يصح أن تكون الملائكة طافت بالبيت؛ لأن الكعبة بناها إبراهيم الخليل، أما الآثار التي فيها أن الملائكة طافت فكلها آثار لم تثبت.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.

    خَلِيفَةً [البقرة:30]، قال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة: إن الله تعالى قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].

    قالوا: ربنا! وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً.

    قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً مني، يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه ].

    وهذا ضعيف وليس بشيء؛ لأن الخليفة إنما يكون للغائب، والله تعالى سائد حاضر ليس بغائب، فالذي يغيب هو الذي ينيب من يخلفه في تدبير مملكته؛ لأنه لا يعلم تدبير الأمور، ولا يعلم أحوال العباد، فالملك إذا غاب أناب من ينوب عنه في تدبير المملكة، وتدبير الملك؛ لأنه لا يعلم أحوالها، أما الله تعالى فهو شاهد حاضر ليس بغائب، ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، وعليه فالصواب أن معنى خليفة أي: جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، فيخلف بعضهم بعضاً، وليس المراد أن آدم خليفة عن الله؛ لأن الله حاضر وشاهد.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. قال ابن جرير : وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرناً ].

    وهذا هو الصواب.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلان فلاناً في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفاً.

    قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، يقول: ساكناً وعامراً يسكنها ويعمرها خلفاً ليس منكم.

    قال ابن جرير : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال.

    ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال:إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].

    وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قال: يعنون به بني آدم ].

    وهذا ضعيف ومرسل عن عبد الرحمن بن سابط ، وعطاء بن السائب اختلط تابعي يرسل، وهذا الأثر عن ابن عباس ضعيف، حتى ولو صح أخذه عن بني إسرائيل، فهذا من أخبار بني إسرائيل.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن : قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة، وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟!

    وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم، فقالت الملائكة ذلك.

    وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.

    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جنداً من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] ].

    عبد الله بن عمرو يأخذ عن بني إسرائيل؛ لأنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، وهذه منها والله أعلم، ثم التحديد بألفي سنة يحتاج إلى دليل من الكتاب، أو خبر ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فكل هذه من أخبار بني إسرائيل، لا تصدق ولا تكذب.

    والجن قيل: إنهم من ذرية إبليس وعلى هذا قول الشاعر:

    واسأل أبا الجن اللعين فقل له أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران

    وقيل غير ذلك.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، إلى قوله: مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33].

    قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30] كما أفسدت الجن وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما سفكوا.

    قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال: قال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علماً وطوى عنهم علماً علمه ولم يعلموه ].

    هذا الحديث مرسل عن الحسن ، ومراسيل الحسن البصري ضعيفة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: قال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علماً وطوى عنهم علماً علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

    قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم.

    وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30]، كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30].

    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول: السجل ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم، وما كان فيه من الأمور، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قالا ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب ].

    هذا الحديث باطل لأمور: الأمر الأول: أن قوله: (ينظرون في اللوح المحفوظ) باطل؛ لأن اللوح المحفوظ من خصائص الله، فلا يعلم ما فيه إلا الله، وظاهر هذا الأثر الباطل أنهم نظروا في اللوح المحفوظ ورأوا ما فيه.

    الأمر الثاني: قوله: (إن الملائكة قالا ذلك استطالة) باطل أيضاً، إذ لا يليق في جانب الملائكة، الأمر الثالث: أن الأثر منقطع. الأمر الرابع: أن هذا من أخبار بني إسرائيل الباطلة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا أثر غريب، وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ].

    ما ينقل عن بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: ما جاء شرعنا باعتماده فنعتمده، وما جاء شرعنا ببطلانه فهو باطل، وما سكت عنه شرعنا فلا يصدق ولا يكذب.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وفيه نكارة توجب رده والله أعلم ].

    الحديث فيه نكارة توجب بطلانه من جهة أنهم نظروا في اللوح المحفوظ، وهذا باطل، فإن النظر في اللوح المحفوظ من خصائص الله، ولا يعلمه إلا الله، إلا ما أطلع عليه بعض الخلق، كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

    وكذلك قوله في الاستطالة؛ فهذا لا يليق بالملائكة، والأثر منقطع زفيه مبهم.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السياق.

    وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضا حيث قال: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن أبي عبيد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال: سمعت أبي يقول: إن الملائكة الذين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ [البقرة:30]، كانوا عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.

    وهذا أيضاً إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم ].

    كل هذا رجم بالغيب، فمن يعلم أنهم عشرة آلاف، ومن يعلم أن ناراً جاءت وأحرقتهم، فهذا باطل، كالذي قبله.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30].

    وقال ابن جرير : وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟! فأجابهم ربهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

    يعني: أن ذلك كائن منهم -وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعاً.

    قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب! خبرنا -مسألة استخبار منهم، لا على وجه الإنكار- واختاره ابن جرير ].

    وهذا هو الصواب، فإن سؤالهم كان سؤالاً عن الحكمة، لا على وجه الاعتراض.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد عن قتادة قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، قال: استشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، -وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض- ].

    سبق أن الاستشارة لا محل لها.

    بيان معنى قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام، قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]

    وقوله تعالى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : قال: التسبيح: التسبيح، والتقديس: الصلاة.

    وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، قال: يقولون: نصلي لك.

    وقال مجاهد : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، قال: نعظمك ونكبرك.

    وقال الضحاك : التقديس: التطهير.

    وقال محمد بن إسحاق : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه.

    وقال ابن جرير : التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سبوح قدوس، يعني بقولهم: سبوح، تنزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له ].

    ومنه بيت المقدس، فالبيت المقدس أي: المطهر، والتقديس: هو التطهير، فكأنهم يقولون: إنا نسبح بأن نذكرك، وننزهك عما لا يليق بك.

    ومنه الدعاء لرجل بقولك: قدس الله روحه، فإنه لا بأس فيه، فهو بمعنى طهر الله روحه، وتطهير الروح يكون بالمغفرة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة ].

    والأرض لا توصف أنها مقدسة إلا بدليل؛ فمثلاً بيت المقدس جاء ما يدل على أنه مقدس.

    أما البشر فلا يقال فلان مقدس، لأنه لا يدرى هل غفرت ذنوبه أم لا، وقد يفضي هذا إلى الغلو.

    فإن قيل: وهل يجوز أن يقال: فعلان مبارك؟

    قلنا: إن كان بمعنى أن فيه البركة فإذا كان له آثار طيبة وآثار حسنة تدل على ذلك فلا بأس، كقول أسيد بن حضير لـعائشة لما نزلت آية التيمم: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر .

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة، فمعنى قول الملائكة إذاً: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة:30] ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك.

    وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده.

    وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاً في السماوات العلا: سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى.

    قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. ]

    وجوب نصب الخليفة في الأرض

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة ].

    استدل بعض العلماء بهذه الآية على أنه يجب على أمة الإسلام أن ينصبوا خليفة لهم، يفصل بين النزاع، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، هل يجب نصب الخليفة، أو يستحب؟ منهم من قال: يجب، ومنهم من قال: يستحب نصب الخليفة، وظاهر الأدلة أنه واجب، فلا يجوز ترك الناس فوضى كما قال الشاعر:

    لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا

    لا بد من نصب الخليفة؛ لأن تركهم هكذا يؤدي إلى الفساد والفوضى، حتى في أيام الجاهلية فقد كان لكل قبيلة وعشيرة رئيس يرجعون إليه؛ ليفض ما بينهم من النزاع.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ].

    أي: أن إقامة الحدود واجبة، وإنصاف المظلوم من الظالم واجب، وإيصال الحقوق إلى أهلها واجب، وهذا لا يمكن إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا تتم هذه الأمور إلا بالإمام، وهذه الأمور واجبة، فيجب نصب الخليفة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088786771

    عدد مرات الحفظ

    779038741