إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [45-50]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه الآيات يأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة في جميع شئونهم؛ فإن في ذلك الفرج والخير في الدنيا والآخرة. كما يأمرهم بأن يحذروا يوماً لا ينفع والد ولده، ولا ولد هو مجزي عن والده شيئاً، وأن يستعدوا لذلك اليوم بالعمل الصالح.
    قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] ].

    قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة.

    فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد ، قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم نصف الصبر) ].

    وقد أخرجه الترمذي وفيه مجهول وهو قوله: عن رجل من بني سليم، وكذا ابن ماجة من طريق أخرى، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو متفق على تضعيفه.

    وقد يقال: إنه يجبر أحدهما الآخر، هذا إذا كان موسى بن عبيدة لم يشتد ضعفه، فإنه يجبر أحدهما الآخر، وموسى بن عبيدة ليس بمتهم فيجبر غيره، وأما إذا كان متهماً بالكذب فإنه لا يجبر غيره، فإذا كان أحد الطريقين يجبر الآخر فإن الحديث يكون حسناً لغيره.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقيل : المراد بالصبر: الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة.

    قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن وأحسن منه الصبر عن محارم الله.

    قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر، وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير قال: الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب فيه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر ].

    والمعنى: أنه يجزع بقلبه وهو يتجلد بجوارحه، فقلبه غير صابر ويرى في الظاهر أنه متجلد.

    فإذا جاهد نفسه على ذلك فهذا طيب؛ لأنه يمنع جوارحه مما يغضب الله، فيحبس النفس عن التشكي، وعن الجزع وعن التسخط وعما يغضب الله.

    أنواع الصبر

    وهذه الآية هو قول الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] عامة، أي: استعينوا بالصبر في كل شيء: في أداء الفرائض، وفي الانتهاء عن المحارم، وفي عدم التسخط من قضاء الله وقدره؛ لأن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وهو أن يصبر الإنسان حتى يؤدي الفرائض والواجبات، والثاني: صبر عن محارم الله، وهو أن يحبس نفسه حتى يترك ما حرم الله عليه طاعة لله، وتعظيماً لأمره ونهيه، وخوفاً ورجاءً.

    والنوع الثالث: صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يجزع ولا يتسخط، ولا يتشكى، فلا يجزع بنفسه، ولا يتشكى بلسانه، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله، والصبر هو: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عما يغضب الله، فلا يلطم خداً، ولا ينتف شعراً، ولا يتكلم بكلام لا يليق، ومن لم يصبر فلا إيمان له، ولهذا جاء عن بعض السلف: أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

    وكان علي رضي الله عنه ينادي: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له. فلا بد من الصبر، فإن الذي لا يصبر لا يستطيع أن يقوم بما أوجب الله عليه، ولا يستطيع أن يترك ما حرم الله عليه إلا بالاستعانة بالله ثم الصبر.

    قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، والصلاة كذلك تخفف الآلام والمشاق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول لـبلال : (أرحنا يا بلال ! بالصلاة).

    صفات الخاشعين

    قال الله عن الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ يعني: شاقة وصعبة، إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الذين خشعت قلوبهم وجوارحهم وانقادت لأوامر الله وعظموا الله وعظموا أمره ونهيه؛ فإنها ليست شاقة عليهم.

    قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي: يتيقنون، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فتيقنهم بلقاء الله ورجوعهم إليه يهون عليهم المشاق والمصاعب والمتاعب، فيجعل الصلاة قرة عين لهم.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو العالية في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: وَالصَّلاةِ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]،الآية.

    وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة ، قال: حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى).

    ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).

    ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، ويقال: أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي : قال عبد العزيز : قال حذيفة : (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى)، حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح) ].

    هذا سند جيد، وأبا إسحاق قد صرح بالسماع، والصحيح أن عبد العزيز بن اليمان ابن أخي حذيفة بن اليمان.

    الصلاة شفاء

    قال المؤلف رحمه الله: [ قال ابن جرير : وروي عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه مر بـأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد؟ ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم، قال: قم فصل فإن الصلاة شفاء) ].

    (أشكم درد) هذه المقولة بالفارسية.

    والحديث ضعيف؛ لأن في سنده ضعيفين وهما: ذواد بن علبة وليث بن أبي سليم، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بالفارسية.

    قال المؤلف رحمه الله: [ قال ابن جرير : وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] ].

    ومعنى قوله: "أطال الجلوس" يعني: في التشهد، فالتشهد محل دعاء.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قال: إنهما معونتان على رحمة الله.

    والضمير في قوله: (إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35] أي: وما يلقى هذه الوصية (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا) أي: يؤتاها ويلهمها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، وعلى كل تقدير فقوله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: مشقة ثقيلة، إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ].

    ذكر الأقوال الواردة في معنى قوله تعالى: (إلا على الخاشعين)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد : المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: (إلا على الخاشعين): الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: (إلا على الخاشعين) يعني به: المتواضعين، وقال الضحاك : (وإنها لكبيرة) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وهذا يشبه ما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه).

    وقال ابن جرير : معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب! بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين، أي: المتواضعين المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته. هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم ].

    فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فما كان تحذيراً لبني إسرائيل فهو تحذير لهذه الأمة، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم. فبنو إسرائيل قد مضوا، والمعني هو هذه الأمة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088788693

    عدد مرات الحفظ

    779049149