جبلت النفوس البشرية على الأثرة المؤدية بها إلى العدوان على الآخرين، وقد تقع صورة هذا العدوان بإزهاق النفس عمداً بغير حق؛ وهذا الأمر مؤد إلى فساد حياة الناس، ولذا شرع الله تعالى لعباده القصاص في الأنفس حفظاً لحياتهم، وشفاء لغليل صدورهم، كما شرع تعالى لولي المجني عليه أن يعفو عن القصاص بالعدل إلى الدية أو بالعفو المطلق، وليس له بعد ذلك أن يعود فيقتل، فإن فعل ذلك استحق العذاب الأليم في الآخرة والقصاص في الدنيا.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى...)
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَالأُنثَى بِالأُنثَى[البقرة:178] وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ[المائدة:45] فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ[المائدة:45] ].
وخالفهم الجمهور فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قُتل خطأً لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته؛ ولأنه لا يقاد بطرفه، ففي النفس بطريق الأولى ].
أي: لو قطع الحر يداً لعبد أو رجلاً لا يقاد، ففي النفس من باب أولى.
حكم قتل المسلم بالكافر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر؛ لما ثبت في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) ، ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا.
وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به؛ لعموم آية المائدة ].
وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله في المسألتين ضعيف، والصواب ما ذهب إليه الجمهور، فالحر لا يقتل بالعبد؛ لأنه ليس مكافئاً له؛ لأنه سلعة يباع ويشترى، ولأنه لا يقاد بالطرف، فلا يقاد بالنفس.
وكذلك السيد إذا قتل عبده فلا يقتل به، خلافاً لـأبي حنيفة ، فهو يرى أن السيد يقتل به، ويدل على خلاف قوله حديث: (من قذف عبده فإنه يقاد به يوم القيامة)، ولم يقل: يقاد به في الدنيا. فإذا كان لا يقاد به في القذف ففي القتل من باب أولى، وكذلك المسلم لا يقتل بالكافر خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله، ودليل ذلك الحديث الذي ورد في البخاري : (لا يقتل مسلم بكافر)، وأما آية المائدة فنقول عنها: إن آية البقرة مخصصة لها.
حكم قتل الرجل بالمرأة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ مسألة:
قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية. وخالفهم الجمهور في آية المائدة، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة ].
والصواب أن الرجل يقتل بالمرأة، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي قتل جارية بسبب أوضاح لها فرض رأسها بين حجرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، ولعموم الحديث: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، ولأن في ذلك ردعاً عن جريمة القتل.
حكم قتل الجماعة بالواحد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ مسألة:
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع.
ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر ].
والصواب القول الأول، وهو أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ لعموم الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى[البقرة:178]، ولإجماع الصحابة على ذلك، ولأن ذلك ذهب إليه عمر وهو الخليفة الراشد، وقد أمرنا باتباعه، وهو كالإجماع من الصحابة، ولأن فيه درءاً للمفسدة؛ لأن الجماعة لو لم يقتلوا بالواحد لصار من أراد أن يقتل واحداً اشترك مع غيره حتى لا يقتل، وهذه مفسدة عظيمة، فالصواب أن الجماعة تقتل بالواحد.
والمعنى أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص إلى الدية؛ فعلى الجاني أن يؤدي الدية بإحسان من غير مماطلة؛ لأن ولي القصاص أحسن إليه وعدل عن قتله إلى الدية، فعليه أن يؤدي الدية بإحسان، ويبادر بأدائها؛ ولأن تأخيرها قد يفضي إلى أن يعتدي عليه بعض الورثة فيقتله، فكونه يبادر في أداء الدية هو المطلوب، وهذا هو الذي يناسب العفو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ويؤدي المطلوب بإحسان.
مسألة: قال مالك رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه، وهو المشهور- وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل. وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض ].
والصواب أن المسألة فيها تفصيل، وهو أن ولي الدم له أن يعفو إلى دية واحدة بغير رضا القاتل، لكن إذا أراد أن يعفو عنه إلى أكثر من دية فلا بد من رضا القاتل، فإذا عفا عنه وقال: تعطيني دية واحدة، فهذا لا يحتاج معه إلى أن يرضى؛ لأن الدية في مقابلة القصاص، ولكن إذا أراد أن يعفو وقال: أنا لا أعفو إلا بديتين أو ثلاث أو أربع؛ فلا بد من رضا القاتل، فإن رضي القاتل فلا حرج.
هذا الحديث لا بأس بسنده، وفيه أن بني إسرائيل -وهم أهل التوراة- كان فيهم أنه يخير الواحد منهم بين القصاص والعفو، فإما أن يقتل وإما أن يعفو بغير دية، ويقال: إن شريعة النصارى هي الدية أو العفو، وليس فيها القصاص، فجاءت شريعتنا الشاملة بالتخيير بين الثلاثة الأمور: القصاص أو العفو إلى الدية أو العفو بغير دية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد وقد رواه غير واحد عن عمرو، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار
وقال قتادة : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة:178] رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش ]. يعني: الدية، [ وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهذا الحديث ضعيف، ففيه عنعنة ابن إسحاق، وفيه سفيان بن أبي العوجاء وهو ضعيف، لكنه -على الصحيح- يخير بين ثلاثة أمور، فإن اختار الرابعة -وهي القتل- بعد اختياره إحدى الثلاث فله عذاب أليم في الآخرة، ويستحق القتل أيضاً في الدنيا.
ولا شك في أن العفو أفضل، فكونه يأخذ الدية أولى من القصاص، وأقول: لولي الأمر والأولياء أن ينظروا في مثل هذا؛ إذ ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، فإذا كان الشخص مجرم وله سوابق فينبغي أن يقتص منه، أما إذا كان ليس معروفاً بهذا فالأولى أن يعفى عنه.
والدية محددة، وهي مائة بعير، لكن له أن يشترط عليه أكثر من دية، كأن يقول: أنا لا أعفو عنك إلا بديتين أو بثلاث أو أربع أو خمس، فله ذلك إذا وافق القاتل، وإذا لم يوافق فإنه يسلم نفسه للقصاص، أما الدية الواحدة فلا يجب فيها موافقة القاتل، ولا يؤخذ برأيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ[البقرة:179] يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم -وهو قتل القاتل- حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة: (القتل أنفى للقتل)، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز ].
فالقصاص هو قتل القاتل بمثل ما قتل به، وأما عبارة: (القتل أنفى للقتل) فلا تفيد هذا، والمعنى -أيضاً- غير سليم، فقد يكون القتل أنفى للقتل، وقد لا يكون أنفى، بل إذا كان القتل بظلم فإنه يزيد القتل، بخلاف معنى آية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ(، فالقصاص قتل القاتل بمثل ما قتل به، والقصاص حياة، مع أن هذه أوجز وأخصر وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82] ، تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42].