أثنى الله تعالى في سورة مريم على كثير من الأنبياء ومنهم إسماعيل وموسى وإدريس، وذلك بما ينبغي أن يتصف به المؤمنون اقتداء بأنبياء الله ورسله من العبادة وصدق الوعد والخضوع لله.
تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل ... وكان عند ربه مرضياً)
قال المؤلف رحمه الله: [ هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد.
قال ابن جرير : لم يعد ربه عدة إلا أنجزها يعني: ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها.
وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال: ما برحت من ههنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني فلذلك كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ[مريم:54].
وقال سفيان الثوري : بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه، وقال ابن شوذب : بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً.
وهذا من الأخلاق الحميدة التي جبله الله عليها عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، ثم قويت وزادت بعد البعثة، فقد كان صلى الله عليه وسلم صادق الوعد كما كان أبوه إسماعيل متصفاً بذلك.
أي: أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم، في ثلاث حفنات كل حفنة فيها خمسمائة درهم إنجازاً لعدة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا[مريم:51] في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة.
وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا[مريم:57]، فقال كعب : أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة فقال له: إن الله أوحى إلي كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدراً، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، قال ملك الموت: العجب بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا[مريم:57]، هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات وفي بعضه نكارة والله أعلم ].
وهذا من أخبار بني إسرائيل، وكعب يخبر كثيراً عن بني إسرائيل وهو ممن أسلم من التابعين ويأخذ عن بني إسرائيل كثيراً، ولا يعتمد على مثل هذا.
ولكن ظاهر قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا[مريم:57]، المراد به المكانة الرفعية، أو الرفعة المعنوية، وأن له مكانة ومنزلة عند الله عز وجل، هذا هو ظاهر الآية.
أما كونه قبض في السماء الرابعة كما قاله كعب الأحبار ، ولا يعتمد على هذا إلا بخبر صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سأل كعباً فذكر نحو ما تقدم غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله -يعني: ملك الموت- كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل، وذكر باقيه، وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجله قال: لا أدري حتى أنظر، فنظر ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه الصلاة والسلام، وهو لا يشعر به.
ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إدريس صلى الله عليه وسلم كان خياطاً، فكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه، وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه.
قال السدي وابن جرير رحمه الله: فالذي عني به من ذرية آدم إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم، والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم.
قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم ].
قوله: الذي عنى به من ذرية آدم إدريس هذا على القول بأن إدريس قبل نوح عليه السلام وأنه جده.
والقول الثاني: أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل، وعلى هذا يكون ممن جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح ].
وهذا على أحد القولين كما تقدم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ (قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام ].
وهذا اختيار البخاري رحمه الله، أن إدريس هو جد نوح، وقد ذكره في الصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء ].
وهذا هو القول الثاني.
أما حديث الإسراء فدل على أنه من بني إسرائيل؛ لأنه رحب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلو كان من عمود النسب، لقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، وكذلك آدم عليه السلام حيث قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لأنه في سلسلة النسب.
فدل على أن إدريس أخو النبي صلى الله عليه وسلم مثل موسى وعيسى ويوسف، فإنهم كلهم قالوا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، وهذا دليل على أنهم من أنبياء بني إسرائيل، وأن إدريس عليه السلام ليس في سلسلة عمود النسب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح)، ولم يقل: والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام.
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا[مريم:58] أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانةً حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي: جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم، واتباعاً لمنوالهم ].
عدد سجدات القرآن
هذه السجدة متفق عليها ولا شك، وسجود التلاوة مستحب وليس واجباً، واختلف العلماء في عدد سجدات القرآن، فمنهم من قال: إنها أربع عشرة، ومنهم من قال: إنها خمس عشرة سجدة، واختلفوا في سجدات المفصل، وكذلك السجدة الثانية في سورة الحج.
وهذه الآية فيها أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم في الدرجة الأولى ويدخلون في مقدمة من أنعم الله عليهم دخولاً أولياً، وهو قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7]، فهم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، وأعطاهم الله تعالى الحكمة والنبوة، ووفقهم إلى العمل لهداية الناس وتبصيرهم وتبليغ الشريعة التي أنزلها الله عليهم.
والصالحون طبقات أعلاهم: السابقون المقربون، ثم أصحاب اليمين، ثم بعد ذلك الظالمون لأنفسهم الذين أنعم الله عليهم بالإيمان والتوحيد؛ لكن عندهم نقص وضعف حين ارتكبوا بعض المعاصي أو قصروا في الواجبات.