حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي ووكيع ، ح وحدثنا علي بن محمد ، حدثنا خالي يعلى ، ووكيع ، وأبو معاوية ، قالوا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]) ] .
هذا حديث عظيم في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهو حديث أخرجه البخاري ومسلم رحمه الله، وفيه: أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم عياناً، كما يرون القمر ليلة البدر، يعني: يرونه رؤية واضحة لا لبس فيها، ولذا قال: (لا تضامون)، يعني: لا يحصل لكم ازدحام في رؤيته، كما أن الإنسان ينظر إلى القمر ولا يزدحم مع غيره ولا تحصل له مشقة في ذلك، وكذلك يرى المؤمنون ربهم، وليس المراد تشبيه الله بالقمر تعالى الله، فالله سبحانه لا يشبه أحداً من خلقه، ولكن المراد تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي، والمعنى: أنكم سترون ربكم رؤية واضحة كما ترون القمر رؤية واضحة.
وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله يوم القيامة، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر، ولهذا قال: (فإن استطعم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، الصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، ويجتمع في هاتين الصلاتين ملائكة الليل وملائكة النهار، ففي صلاة الصبح يصعد ملائكة الليل، وينزل ملائكة النهار، وفي صلاة العصر يصعد ملائكة النهار وينزل ملائكة الليل، ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل غروبها: صلاة العصر.
وفيه الرد على الجهمية الذين أنكروا رؤية الله - وهذا هو الشاهد من الترجمة - وقالوا: إن المؤمنين لا يرون ربهم يوم القيامة، وكذلك المعتزلة، فالجهمية أنكروا الصفات كلها، والمعتزلة فسروا الرؤية بالعلم، فقالوا: (ترون ربكم) أي: تعلمون ربكم كما ترون القمر، وتعلمون أن لكم رباً كما تعلمون أن القمر قمراً، هكذا تأولوه والعياذ بالله، وهذا من أبطل الباطل.
كانت الرؤية من المسائل التي أنكرتها الجهمية، ولهذا أدخلها المؤلف رحمه الله في باب ما أنكرت الجهمية، وكذلك المعتزلة.
الأشاعرة أثبتوا الرؤية، لكن نفوا المكان والجهة، فقالوا: يرى لا في جهة محدودة، قيل لهم: من فوق؟ قالوا: لا، من تحت؟ لا، يمين؟ لا، شمال؟ لا، أمام؟ لا، خلف؟ لا، أين يرى؟! يقولون: يرى لا في جهة، هذا غير معقول وغير متصور، ولهذا قيل: إن حقيقة قولهم هو نفي الرؤية لأنهم ما أرادوا الرؤية، ولو أرادوا الرؤية لأثبتوا الجهة، ولا يمكن أن يكون المرئي إلا في جهة من الرائي، ولهذا أنكر جماهير العقلاء، وضحكوا من قول الأشاعرة، من أنه يرى بدون مواجهة للرائي، لا بد أن يكون الرائي مواجهاً للمرئي، مبايناً له، أما رؤية في غير جهة فغير معقولة ولا متصورة.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المؤمنين يرون القمر من فوقهم كما في الأحاديث الصحيحة، ومعلوم أن القمر من فوقنا، فنرى الله من فوقنا.
وهذا فيه استفهام، يعني: هل تضامون؟ قالوا: لا، على حذف حرف الاستفهام، قال: فإنكم سترون ربكم كما أنكم ترون القمر لا يحصل لكم ضيم.
وهذا الحديث كما سبق أصله في الصحيح، ولكن هذا السند ضعيف؛ لأن يحيى بن عيسى التميمي النهشلي الكوفي نزيل الرملة ضعيف، ومعناه صحيح.
جاء في رواية (تضارون) ورواية أخرى: (تضامون) يعني: لا يحصل لكم ضيم، وهي بضم الميم وتشديد النون، والمعنى: تزدحمون.
وهذا إسناد غير محفوظ كما قال الترمذي في تعليقه على الحديث السابق، وهو في الصحيحين كما سيأتي في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتضامون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: هل تضامون في رؤية القمر ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك).
وهذا في سنده وكيع بن حدس ، يقال: حدس بالحاء، ويقال: عدس بالعين والدال، وحدس أو عدس قال الحافظ في التقريب: مقبول، والحديث له شواهد، وفيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ولهذا قال: أليس كلكم يرى القمر مخلياً به؟ يعني: منفرداً لا يزدحم مع غيره، فكما أنكم ترون القمر منفردين فكذلك يرى المؤمن ربه يوم القيامة بدون مشقة.
وهل رؤية الله خاصة بالمؤمنين؟
المؤمنون هم الذين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة، أما غير المؤمنين ففيه خلاف، وهناك ثلاثة أقوال لأهل العلم، فقيل: يرونه جميعاً الكفار والمنافقون والمؤمنون في موقف القيامة، ثم يحتجب عن الكفار والمنافقين.
وقيل: لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون كما في الحديث الصحيح الذي فيه: أن المؤمنين يرون ربهم مع المنافقين بعد أن يذهب الكفار ويتساقطون في النار مع من عبدوهم من دون الله، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، كما في الحديث الصحيح الذي في البخاري : (تبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيتجلى لهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، قال: أليس بينكم وبينه علامة - جعل الله لهم علامة وهي كشف الساق - فإذا كشف الساق سجدوا له) أي: سجد له المؤمنون، فإذا أراد المنافقون أن يسجدوا صار ظهر كل واحد منهم طبقاً، فهذا معنى قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42].
فظاهره أن المنافقين يرون الله مع المؤمنين؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا؛ ولأنهم أظهروا الإسلام، ثم بعد ذلك إذا ذهب المؤمنون والمنافقون في العبور على الصراط ينطفئ نور المنافقين، ويضرب بينهم وبين المؤمنين كما قال الله: بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
وقال آخرون: لا يراه إلا المؤمنون خاصة، فهذه ثلاثة أقوال لأهل للعلم.
والمؤمنون يرون ربهم أربع مرات في الموقف كما جاء في حديث الرؤيا في الصحيحين وفي غيرها، وروي هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، أنهم يرونه أولاً، ثم يرونه مرة في غير الصورة التي يعرفون؛ فينكرون، ثم يتجلى لهم في الصورة التي يعرفون؛ فيسجدون، ثم إذا رفعوا رءوسهم رأوه في الصورة التي رأوه فيها أول مرة.
هذا الحديث أيضاً فيه وكيع بن حدس ، وإن كان مقبولاً، لكن له شواهد، وقد اعتمده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية واحتج به لشواهده، وفيه إثبات ضحك الله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته.
وفيه الرد على من أنكر الضحك من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وتأول بعضهم فقال: الضحك عبارة عن الرضا، السدي في تعليقه على السيوطي ، وكذلك على ابن ماجه يقول: الضحك الرضا، فهذا تأويل، والرضا غير الضحك، ففيه إثبات ضحك الله على ما يليق بجلاله وعظمته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)، (قنوط عباده) يعني: يأسهم، إذا تأخر عنهم المطر يئسوا و(قرب غيره) يعني: التغير من حال إلى حال، فالله تعالى يغير من حال الشدة إلى حال الرخاء، ولهذا قال: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره) وفي الحديث الآخر: (عجب ربنا) وفيه إثبات العجب، وفي اللفظ الآخر: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)، يعني: أنهم يقنطون وييأسون، والله تعالى يعلم أن فرجهم قريب، وأنه سيغير حالهم من الشدة إلى الرخاء.
قوله: [ (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، قال: قلت يا رسول الله! أيضحك الرب؟ قال: نعم، قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً) ] .
وهذا واضح في إثبات الضحك، قال أبو رزين : لن نعدم من رب يضحك خيراً، يعني: أن الخير في يديه سبحانه وتعالى، فيثبت الضحك لله، وفي اللفظ الآخر: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين يعلم أن فرجكم قريب) ، فهم عندهم يأس، وظنوا أنه سيستمر في الشدة والقحط، والله تعالى يعلم أن فرجهم قريب، فلهذا عجب ربنا من قنوط عباده مع قرب غيره، يعني: تغيير الشيء من حال إلى حال، وتغيير أحوالهم من الشدة إلى الرخاء.
وصفة الضحك هنا على طريقة الأشاعرة تؤول بالرضا، وهذا أحياناً يذكره بعض علماء السنة.
ذكر في الشرح: وما ثم خلق.. إلى آخره، هكذا في نسخ ابن ماجه معتمداً، والظاهر أن قوله (وما) تأكيداً للنفي السابق، ويحتمل أن يكون (ثم) بفتح المثلثة اسم إشارة للمكان.
ويحتمل أن يكون: (وما فوقه هواء وما).
قوله: (وما ثم خلق) إذا كان بالنفي فالعماء خلق، وهو السحاب الرقيق، والهواء خلق إلا إذا أريد به الفضاء، وهذا الحديث في سنده وكيع بن عدس أو حدس وهو مقبول، ولكن له شواهد.
قوله: (كان في عماء) (في) ظرفية مثل: في السماء، يعني: فوق السحاب، وهذا السحاب ما فوقه هواء وما تحته هواء، و(ما) موصولية بمعنى الذي، والسدي ذكر بأن (ما) نافية، ويقول: المعنى ما فوقه هواء، وما تحته هواء، وليس فوقه هواء وهذا غلط، بل هي موصولية، بمعنى: كان في عماء - هواء - والذي تحته هواء، فهو كان فوق السحاب كما هو الآن فوق العرش بعد خلقه، ولا يحتاج سبحانه وتعالى إلى العرش ولا إلى السحاب.
قوله: [ (ثم خلق عرشه على الماء) ].
وهذا هو الأقرب، أي: كان فوقه هواء وماء، ثم خلق عرشه على الماء.
لأنه يسأل يقول: أين كان ربنا؟ يعني: قبل خلق السماوات والأرض، أو قبل أن يخلق الخلق؟
قوله: [ قال: قلت: (يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه) ].
يعني: قبل أن يخلق الخلق جميعاً، والعرش من خلقه، قال: كان في عماء فوقه هواء، والذي تحته هواء، ثم خلق العرش على الماء، والحديث فيه ضعف.
وهذا أخرجه مسلم في الصحيح مع اختلاف يسير، والمناجاة: هي كلام السر، قال: إن الله تعالى يدني عبده يوم القيامة، ويضع كنفه عليه ويقرره بذنوبه، فإذا أقره بذنوبه ورأى أنه هالك، قال الله: إني سترتها عليك - يعني: في الدنيا - وأنا أغفرها لك اليوم، وهذا من فضله تعالى وإحسانه، والبعض فسر الكنف بالستر كما في الحديث، لكن قد يقال: إن هذا تأويل والله أعلم بالكيفية، ولا شك أن الله تعالى يقرره بذنوبه بينه وبينه، وأما تفسير الكنف بالستر - وإن كان معناه في اللغة الستر - قد يقال: إن هذا صفة من صفات الله، والله أعلم بكيفيته.
قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم
) ] .هذا الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رحمه الله ضعيف؛ لأن العباداني هذا ضعيف متهم، والفضل الرقاشي أيضاً ضعيف، لكن الحديث له شواهد، وما دل عليه الحديث كله ثابت، فالحديث فيه إثبات ثلاث صفات من صفات الله، وهي: صفة العلو، وأن الله فوق، ويرونه من فوق، وفيه إثبات صفة الكلام، وأن الله يكلم المؤمنين في الجنة، وإثبات صفة الرؤية، وأن المؤمنين يرون الله.
فهذه الثلاث الصفات هي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع.
فالحديث وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد، وهذه الصفات كلها ثابتة، قال البوصيري : هذا إسناد ضعيف، لضعف الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي ، وفيه أبو عاصم العباداني لين الحديث، قال الكعبي : ليس بحجه .
وقال في الزوائد : إسناده ضعيف؛ باتفاقهم على ضعف الرقاشي ، وقال السيوطي : أورده ابن الجوزي في موضوعاته، وقال: الفضل الرقاشي رجل سوء، ورواه عنه أبو عاصم ، ولا يتابع عليه، كذا ذكره عن العقيلي .
قال السيوطي رحمه الله في مصباح الزجاجة: والذي رأيته أنا في كتاب العقيلي ما نصه: أبو عاصم منكر الحديث، والعقيلي يروي له القدر؛ لأنه كاد أن يغلب على حديثه الوهم. وهذا لا يقتضي الحكم بالوضع، وله طريق آخر من حديث أبي هريرة ، ذكره في اللآلئ. انتهى.
وهذا الحديث ثابت في الصحيح، وإن كان في إسناده ضعيف هنا، وفيه أن الناس يوم القيامة تستقبلهم النار، وأن الإنسان يقف بين يدي الله ولا يرى عن يمينه إلا ما قدم، وعن يساره إلا ما قدم، ثم يرى النار أمامه، قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد، فبكلمة طيبة).
فيه دليل على أن الصدقة وقاية من عذاب النار، وأن الكلام الطيب يقوم مقام الصدقة عند عدمها، فإذا لم يجد الإنسان شيئاً فالكلام الطيب، فيعد الفقير ويقول: إن شاء الله تأتينا في وقت آخر، إن شاء الله يأتينا الخير، ويرده بكلام طيب.
وفي الحديث: أن الإنسان يرى عمله يوم القيامة، فلا يرى عن يمينه إلا ما قدم، وعن يساره إلا ما قدم، ثم يرى النار أمامه فاتقوا النار ولو بشق تمرة، وذلك أن نصف تمره تفيد الفقير، فيعطيه شخص نصف تمرة وآخر تمرة، وهكذا يجمع له خير، فمن لم يجد حتى نصف تمرة فكلمة طيبة، يرد بها الفقير.
جاء في الصحيح أن امرأة جاءت إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تسأل ومعها ابنتان لها، فلم تجد عند أم المؤمنين إلا تمرة واحدة، ما وجدت إلا تمرة واحدة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطت التمرة هذه المسكينة فشقتها بين ابنتيها، وأعطت كل واحدة نصفاً ولم تأكل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أوجب لها الجنة) وفي لفظ آخر: أن امرأة جاءت تسأل ومعها ابنتاها، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة من ابنتيها تمرة، ورفعت إلى فيها التمرة الثالثة لتأكلها، لكن البنتين كل واحدة أكلت التمرة بسرعة، وجعلت كل واحدة تنظر إلى الأم وإلى التمرة؛ فلما رأت المرأة أنهما ينظران إليها عدلت عن نفسها وشقتها بين ابنتيها، وعائشة تنظر، قالت: فأعجبني شأنها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أوجب لها بها الجنة) ، أي: بهذه الرحمة.
لا يحتقر الإنسان شيئاً، فيعطى الفقير ولو ريالاً، فقد يسد حاجتة، ويستطيع أن يشتري له به ماءً، أو خبزة يأكلها في الحال، ولا يعلم أحوال الناس إلا الله، فبعض الفقراء يبيتون جياعاً ولا يعلم عنهم أحد، وبعضهم يستحون، وبعضهم يجلس اليوم واليومين يتضور جوعاً ولا يجد شيئاً، فإذا أعطي الفقير ولو شيئاً يسيراً يسد الفاقة عند شدتها فهذا خير عظيم عند الله.
وفي الحديث: إثبات صفة الكلام لله تعالى على ما يليق بجلاله، وتثبت صفات الله تعالى كما هي، ولا تؤول بلازمها، كما يقال: الرضا هو إرادة الثواب، ومن أثر الرضا أن الله يثيب المؤمنين، ومن أثر الغضب أن الله يعاقب الكافرين، وإنما نقول: إن الله يغضب كما يليق بجلاله وعظمته، لكن من لوازم الغضب عقوبة الكافرين.
كذلك الرضا صفة ثابتة لله، ومن أثره إثابة المؤمنين، كذلك الرحمة فسرت بالإنعام، يقولون: الإنعام، وهذا أثر من آثار الرحمة.
أما الجهمية فإنهم أنكروا الصفات كلها ولم يؤلوها أو يثبتوها، ولذا كفرهم كثير من العلماء وقد ذكر ابن القيم أنهم خمسمائة عالم، فقال رحمه الله:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان.
و اللالكائي الإمام حكاه عنهم بل حكاه قبله الطبراني .
فخمسمائة عالم كفروا الجهمية، قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية لخبثها وشرها.
وقال كثير من السلف: إن أقوال الجهمية تدور على أنهم يقولون: ليس فوق العرش إله؛ لأنهم نفوا الأسماء والصفات لله، وهذا يفيد العدم نسأل الله السلامة والعافية، وبعض العلماء أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) ، فهذه فرق المبتدعة كلها متوعدة بالنار، والجهمية تخرج من هذه الفرق؛ لأنهم كفار، وكذلك غلاة القدرية الذين ينكرون العلم والكتاب، وكذلك الرافضة، فأخرجوا هذه الفرق الثلاث من فرق الأمة وجعلوهم كفاراً.
ومن العلماء من بدعهم، ومن العلماء من كفر الغلاة دون العامة.
هذا الحديث فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل، وهي من النعيم الذي يؤتاه أهل الجنة، بل أفضل نعيم يعطاه أهل الجنة هو رؤية المؤمنين لربهم عز وجل، والحديث صحيح رواه البخاري ومسلم ، وفيه الرد على من أنكر الرؤية من الجهمية والمعتزلة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه) فيه أن الكبرياء صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وفي الحديث الآخر: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)، فالكبرياء والعظمة من صفات الله، قال تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية:37]، ففيه إثبات صفتين: صفة الكبرياء، وصفة الرؤية.
وفيه إثبات الجنة والرد على من أنكرها، والمعتزلة يقولون: إن الجنة والنار لا يخلقان إلا يوم القيامة، وهذا باطل، والصواب: أنهما موجودتان الآن، ومخلوقتان دائمتان لا تفنيان، والأدلة الكثيرة دلت على ذلك، فالمؤمن يفتح له باب إلى الجنة وهو في قبره، والكافر يفتح له باب إلى النار، والأرواح تنعم في الجنة وتعذب في النار، فهما موجودتان الآن.
أما الأشاعرة فيثبتون الرؤية، لكنهم لا يثبتون الجهة، أي: ينكرون الجهة والعلو، فيقولون: إنه يرى لكن في غير جهة، وهذا قول غير معقول ولا متصور، ولهذا أنكر جماهير العقلاء عليهم وسفهوهم، وضحكوا منهم وقالوا: إن هذا غير متصور في العقول، ولا يمكن أن تكون الرؤية إلا في جهة من الرائي، لا بد أن يكون المرئي مواجهاً للرائي مبايناً له، ولهذا أثبت العلماء أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، كما دلت النصوص، وكما سبق في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)، يعني: أنكم ترونه رؤية واضحة، كما أننا نرى القمر من فوقنا، فإننا نرى الله من فوقنا، كما في حديث ابن ماجه وإن كان فيه ضعف: أن الرب سبحانه يشرف على أهل الجنة فيقول: (يا أهل الجنة! سلام عليكم).
والمعتزلة أنكروا الرؤية والعلو جميعاً، وأهل السنة أثبتوا الرؤية والعلو جميعاً، والأشاعرة أثبتوا الرؤية وأنكروا العلو، فهم يريدون أن يوافقوا المعتزلة في إنكار العلو، ويريدون أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية، ولكنهم لا يريدون أن يفارقوا المعتزلة في إنكار العلو، فعجزوا عن ذلك فلجئوا إلى حجج سفسطائية مموهة، فقالوا: إنه يرى لا في جهة، وهذا قول غير معقول ولا متصور، والأشاعرة دائماً تجدهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولذا تسلط عليهم المعتزلة وقالوا: إنكم قلتم قولاً غير معقول ولا متصور، فيلزمكم إما أن تثبتوا العلو فتكونوا أعداءً لنا مع أهل السنة، أو تنكروا الرؤية فتكونوا أصحاباً لنا معنا، أما أن تبقوا هكذا على القول برؤية بدون جهة، فهذا غير متصور ولا معقول، وقد رد عليهم من جهة العقل وبالنصوص الكثيرة التي دلت على أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، كما في حديث (كما ترون القمر) وحديث: (كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب)، ومعلوم أننا نرى القمر والشمس من فوقنا.
وهذا حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الزيادة في هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] ، أنها النظر إلى وجه الله الكريم، وهذا من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر بعض الآيات ومنها هذه الآية، وفسر قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] بأنه الشرك، واستدل بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ، ولما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] ، شق ذلك على الصحابة وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ فقال: (إنه ليس الذي تظنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) .
فمعنى الآية: (الَّذِينَ آمَنُوا) يعني: وحدوا، (وَلَمْ يَلْبِسُوا) ولم يخلطوا (إِيمَانَهُمْ) أي: توحيدهم، (بِظُلْمٍ): بشرك.
فهذه من الآيات التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعظم نعيم يلقاه أهل الجنة، حتى إنهم إذا نظروا إلى وجه الله نسوا ما فيه من النعيم نسأل الله الجنة ونعيمها.
وقصد المؤلف رحمه الله بالحديث الرد على الجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الرؤية.
هذا الحديث فيه إثبات السمع لله عز وجل، وأن الله تعالى يسمع الأصوات، ولا يخفى عليه شيء، وفيه الرد على المعتزلة والجهمية الذين ينكرون السمع لله.
المجادلة التي جاءت هي خولة بنت حكيم ، حيث أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت ، وقال لها: أنت علي كظهر أمي ، فجاءت تشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أشكوا إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا، أو إليه ضاعوا، وقالت: إنه تزوجني وأنا شابة حتى إذا نثر بطني، وأكل مالي، جعلني كظهر أمه فهل من رخصة؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أراك إلا قد حرمت عليه) وهي تردد أشكوا إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، ثم نزل الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله صدر سورة المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:1-3]، فأنزل الله الكفارة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أوساً أن يكفر، وتعود إليه زوجته.
قالت عائشة رضي الله عنها: إن المجادلة - وهي خولة بنت حكيم - تجادل النبي صلى الله عليه وسلم ويخفى علي شيء من كلامها، ولكن الله لم يخف عليه شيء، فسمع كلامها من فوق سبع سماوات؛ فأنزل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] وفي الآية إثبات سمع الله عز وجل، والرد على المعتزلة والجهمية.
إسناده صحيح، وإن ذكر أن محمد بن عجلان قد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ، فقد روى قبل اختلاطه عن أبي هريرة ، والأقرب أن أحاديث ابن عجلان حسنة، وبالمتابعات والشواهد قد تصل إلى درجة الصحة.
و الترمذي رحمه الله له اصطلاح خاص به، والحديث فيه إثبات صفات عدة لله.
ففيه إثبات الكتابة وأنها صفة لله، قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ [الأنعام:54].
وفيه إثبات النفس لله عز وجل، وإثبات اليد لله، وإثبات الرحمة والغضب له سبحانه. فنثبت لله الكتابة كما يليق به، وكتب كتابه في اللوح المحفوظ، فهو عنده فوق العرش، وخط التوراة بيده لموسى عليه الصلاة السلام كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه، وهذا من الصفات الفرعية، ونثبت النفس لله عز وجل، أي: أن لله تعالى نفساً لا تشبه نفوس المخلوقين، كما قال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال سبحانه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] ، وأن لله نفساً موصوفة بالصفات الكريمة، ونثبت لله أيضاً اليد والغضب والرحمة كما يليق بجلاله سبحانه.
وفي الحديث: الرد على الأشاعرة والمعتزلة والجهمية الذين أنكروا هذه الصفات.
وبالنسبة لصفتي النفس والذات فيرى شيخ الإسلام أنهما متقاربتان، ونفسه يعني: ذاته، فالذات هي النفس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر