قال أبو عبيد : قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلَط في مثله، ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً، ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب لله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب ].
عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب للرد على الجهمية، وهم المرجئة المحضة الغلاة الذين يقولون: إن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن عند الجهم بن صفوان ، ولا يكون كافراً ولو فعل جميع المنكرات والكبائر وأنواع الردة، ولو هدم المساجد وقتل الأنبياء والمصلحين فلا يكون كافراً إلا إذا جهل ربه بقلبه، فأفسد وما قيل في حد الإيمان وتعريفه هو قول الجهمية.
قوله: (قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا) المراد بهم مرجئة الفقهاء: أبو حنيفة وأصحابه، فأهل السنة يقولون: العمل من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: العمل ليس من الإيمان.
قوله: (على أنهم وإن كانوا مفارقين لنا) أي: مخالفين لنا ومذهبهم مذهب باطل إلا أن هذا المذهب قد يقع الغلط في مثله، فقد يكون صاحبه له شبهة تجعله يغلط، لكن المصيبة أن فرقة حدثت وشذت عن الطائفتين جميعاً، وهي الجهمية المرجئة المحضة الغلاة، فهذه الطائفة شذت الطائفتين، شذت عن مذهب أهل السنة والجماعة، وشذت عن مذهب مرجئة الفقهاء أيضاً، فمرجئة الفقهاء يقولون: العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، لكن يقولون: العمل مطلوب، فالواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، ومن فعل الواجبات عن إخلاص ومتابعة فإنه يستحق الثواب والمدح، ومن فعل الكبائر ورد في حقه الوعيد الشديد، ويقام عليه الحد إذا كان على المعصية حد، وإن كان هذا القول غلطاً إلا أنه أهون بكثير من مذهب الجهمية والمرجئة المحضة، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم والدين؛ لأنهم قالوا: الإيمان معرفة القلوب بالله وحده فقط، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، فهذا هو الإيمان عند الجهم .
فعندهم أن من صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ويدخل الجنة من أول وهلة، ولو لم يفعل شيئاً من الواجبات، ولو ارتكب جميع المحرمات والكبائر.
قوله: (وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية)، الملل: جمع مفرده الملة.
قوله: (لمعارضته كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب) يعني: هذا انسلاخ من الدين بالكلية وإبطال للشرائع، وإبطال للكتب المنزلة، وإبطال لما جاءت به الرسل، فهو مذهب باطل لمخالفته لما جاء به المرسلون وما أنزل الله به الكتب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ألا تسمع قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ.. [البقرة:136] فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً، ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم، ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً، ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى ].
هذا فيه مناقشة من المؤلف رحمه الله للجهمية والمرجئة المحضة الذين يقولون: إن الواجب الإيمان فقط دون القول والعمل، قال: (ألا تسمع قوله سبحانه: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:136] فقوله: (قولوا) هذا أمر، والأمر للوجوب.
قوله: (فجعل القول فرضاً حتماً) يعني: فكما أن معرفة الله والإيمان به وتصديقه بالقلب فرض حتم، فكذلك القول والنطق باللسان هو فرض حتم، ولابد من أن ينطق المسلم بالشهادتين ويشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولم يكتف الله تعالى بالمعرفة، ولهذا قال المؤلف: (ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم) بل قال: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136]، فدل على بطلان مذهب الجهمية الذين يقولون: القول غير واجب، وأنه تكفي المعرفة.
قوله: (ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان) قال عز وجل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ.. [البقرة:136] إلى آخر الآية، فالله تعالى أوجب القول وأوجب الإيمان بالكتب والرسل ولم يكتف بالتصديق.
قوله: (ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]) فدل على بطلان هذا المذهب الفاسد وفساده، وهو مذهب الجهم القائل بأن الإيمان مجرد المعرفة؛ لأن الله تعالى لم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، وكذلك -أيضاً- نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل النزاع، فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، ولم يثبت الإيمان لأهل الكتاب مع كونهم يعرفون بقلوبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله، ويعرفون صدقه وصفته، فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ثم قال: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، فأهل الكتاب يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم ولم تنفعهم هذه المعرفة؛ لأنهم لم يظهروا ذلك ولم يصدقوا، فدل على أن المعرفة لا تكفي، ولهذا علق المؤلف رحمه الله على هذه النصوص فقال: (فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً) أي: لم يجعل الله معرفة اليهود بالله إيماناً حين تركوا الشهادة له بألسنتهم.
قال: (ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ) ولم يكتف بالمعرفة بالقلب، فدل على بطلان هذا المذهب وفساده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة، ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض؛ إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً، ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله، لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين، فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط ].
هذا بيان من المؤلف رحمه الله لمفاسد مذهب الجهمية الذين يزعمون أن الإيمان معرفة الرب بالقلب فقط.
قوله: (وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي منهم بالمعرفة) يعني أنهم زعموا أن الله اكتفى بهذا الإيمان.
قوله: (ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض) أي: لو كان الإيمان مجرد المعرفة لما عرف الإسلام من الجاهلية؛ لأن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، فكل يعرف ربه بقلبه ولو كان يهودياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان نصرانياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان وثنياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان من أهل الجاهلية، فعلى هذا المذهب لا يعرف الإسلام من الجاهلية، ولا يعرف الفرق بين ملة اليهودية وملة النصرانية وملة الوثنية.
قوله: (إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب) يعني: لو كان الإيمان هو مجرد المعرفة لرضي منهم بالدعوى على قلوبهم، ولكنه سبحانه وتعالى لا يرضى من المؤمن إيمانه إلا إذا أقر بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وتبرأ مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بقلبه ولسانه؛ لأن الله لا يرضى من المؤمن حتى يوحد الله ويخلص له العبادة ويتبرأ من الشرك قليله وكثيره، ويؤمن بالله ورسوله ويتبرأ من الأنداد والآلهة.
قوله: (ولو كان هذا يكون مؤمناً) يعني: بمعرفته بقلبه، (ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران، بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله، لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين)، أي: يلزم الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب أن يكون من قال: إن الله ثاني اثنين مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، وكذلك النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة يكونون مؤمنين على مذهب الجهم ؛ لأنهم يعرفون الله بقلوبهم، وكذلك من صلى للصليب يكون مؤمناً على مذهب الجهم ، وكذلك من عبد النيران يكون مؤمناً على مذهب الجهم ، إذا كان قلبه على المعرفة بالله، بل يكون مؤمناً مستكمل الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين.
يقول المؤلف رحمه الله لبيان شناعة هذا القول: (فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟!) يعني: هل يتكلم بهذا أحد يعرف الله معرفة صحيحة؟! وهل يتلفظ بهذا مؤمن بكتاب الله ورسوله؟!
قوله: (وهذا عندنا كفر لم يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط)، يعني: كفر الجهمية تجاوز كفر إبليس، وتجاوز كفر من دونه، فيكون كفر الجهمية أعظم وأغلظ وأشد من كفر إبليس، لكن هذا لا يسلم للمؤلف؛ لأن إبليس رأس الكفر والضلال، وكل كفر وضلال فهو من تسويله وتزيينه، وإبليس هو قائد الكفرة إلى النار، فيكون مقدماً عليهم، فلا يقال: إن كفر الجهمية أعظم من كفر إبليس وأشد، بل يقال: مثل كفر إبليس.
فمقصود المؤلف رحمه الله أن يبين فساد مذهب الجهمية، وأنه مذهب فاسد، وهو أفسد ما قيل في تعريف الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه وتعالى أن يهدي قلوبنا، وأن يثبتنا على الإسلام والإيمان، وأن يتوفانا على التوحيد غير مغيرين ولا مبدلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الجواب: أظن أن العوام في العصر الحاضر قد بلغتهم الدعوة، فمن بلغتهم الدعوة وبلغتهم الحجة وبلغهم القرآن والسنة فلا يعذرون، إنما الذي يعذر في هذا من لم تبلغه الحجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقد بعث الرسول، وقال سبحانه: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، فمن قامت عليه الحجة وبلغه الدليل لا يكون معذوراً، ولا يشترط فهم الحجة، بل يكفي بلوغ الحجة، أن يعرف أن هذا دليل على هذا الشيء، لكن قال بعض أهل العلم: إنه لو وجد بعض الناس ممن اشتبه عليه الأمر ولبس عليه الحق ولم يعرف الحق بسبب تغطية الحق عليه وسيطرة أهل الضلال وأهل الشرك عليه، حتى أفهموه أن هذا الباطل هو الحق، فإنه يكون حكمه حكم أهل الفترة، ويكون أمره إلى الله عز وجل، ولكنه إذا مات على هذه الحالة، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم ولا يدعى له وعلى كل حال فإن من بلغته الدعوة وبلغه القرآن وبلغته السنة، وعلم أن هذا الأمر محرم لا يكون معذوراً، والآن بلغت دعوة الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، لكن كون بعض المشركين يصم أذنه عن سماع الحق ولا يقبل الحق ويرد الحق ليس عذراً له، فيجب على الإنسان أن يتعرف على الحق ويطلب الحق ويسأل عن الحق ويسأل عن دينه، فكما أنه يسعى في أمور دنياه في كسبه ومعاشه وبيعه وشرائه، كذلك يجب عليه أن يتعلم دينه، وأن يسأل عما أشكل عليه، وأن يبحث عن الحق، وإذا كان لا يعرف الحق فهو معذور، وإذا كان يستطيع أن يعرف الحق ويستطيع أن يسأل فلم يسأل فلا يكون معذوراً.
الجواب: إذا كان لا يظهر معتقده الفاسد ويظهر الإسلام، فإنه يعامل معاملة المسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تكثر الزندقة في الروافض. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، فإذا كان هذا الشخص يظهر الإسلام ولا يظهر معتقده وكفره وضلاله فيعامل معاملة المسلمين، فإذا أظهر كفره ونفاقه فإن الإنسان يتبرأ منه، ولا يتخذه صديقاً ولا معاشراً، وتكون معاملته له من جهة العمل للضرورة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين معاملة المسلمين، كـعبد الله بن أبي وغيره من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق.
الجواب: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله محدث، وله اليد الطولى في الحديث، فقد خدم السنة خدمة عظيمة، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه، لكنه ليس بمعصوم، فإذا كان قال: إن العمل خارج من مسمى الإيمان فقد وافق أبا حنيفة وأصحابه، وأبو حنيفة إمام من الأئمة، وسبق أن الخلاف بينه وبين أهل السنة خلاف لفظي لا يترتب عليه فساد في العقيدة، إنما الخلاف الذي يترتب عليه فساد في العقيدة خلاف الجهمية المرجئة المحضة، أما مرجئة الفقهاء فإنهم من أهل السنة وإن كانوا خالفوا في هذه المسألة، وهم من أهل العلم والدين كما قال المؤلف أبو عبيد رحمه الله، ولكنهم غلطوا وأخطئوا في أمر يكون فيه اشتباه، لكن المصيبة في مذهب الجهمية.
فالمقصود أن الشيخ الألباني ومن هو أكبر منه غلط في هذا، ومن غلط يترحم عليه ويدعى له بالمغفرة، ولا يتبع في الغلط، وكل إمام من الإئمة يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ويقول: إذا قلت قولاً يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله واضربوا بقولي عرض الحائط، قال هذا أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك ، وكلهم يغلطون وكلهم يخطئون، وليس هناك أحد لا يخطئ، فإذا غلط العالم أو الكبير فإنه يترحم عليه ويدعى له ويلتمس له العذر، والخطأ مردود عليه ولا يتبع فيه، وإنما يتبع القول الصواب والقول الصحيح الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحق أحق أن يتبع، ويجب على طلابه -إذا كان الشيخ قد قال هذا الكلام- ألا يتبعوه في هذا، وأن يقبلوا الحق، والسلف والأئمة العلماء كانوا يرجعون عن الخطأ، فهذا عمر بن الخطاب الخليفة الراشد رضي الله عنه جاءه الإخوة الأشقاء في مسألة المشتركة، وهي: زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، فقسم الميراث على ما في كتاب الله، وأعطى الزوج النصف والأم السدس، والباقي للإخوة للأم، ولم يعط الإخوة الأشقاء شيئاً، ثم حدثت هذه المسألة بعد مدة نحو سنتين، فجاءوا فأشرك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! إنك قضيت فيما مضى ولم تشرك الإخوة، فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. أي: تبين له الحق فرجع إليه، والإمام أحمد رحمه الله قد يكون له في المسألة سبع روايات، حيث يتبين له الحق فيقول بهذا القول، والإمام الشافعي له قولان: قول جديد وقول قديم، قول قديم في العراق، والقول الجديد في مصر، ومازال العلماء يرجعون عن الخطأ وعن القول الذي يتبين لهم أنه خطأ في الفروع وفي الأصول، وليس هناك أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم فيما يبلغ عن الله، ومعصوم من الشرك ومن الكبائر، أما غيره فليس هناك أحد معصوم، لا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ولا من هو أكبر منه. وكان الصحابة يرد بعضهم على بعض، وقد يغلطون في بعض المسائل، فهذه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة غلطت، وذلك حين جاءت إلى أبي بكر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أعطني ميراثي من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن -معاشر الأنبياء- لا نورث، ما تركناه صدقة)، وروى هذا الحديث عدد من الصحابة، ولكنها لم تقنع رضي الله عنها، وولت وهجرت أبا بكر حتى توفيت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فهي غلطت، والصواب مع أبي بكر، وليست معصومة وهي سيدة نساء أهل الجنة، وعائشة رضي الله عنها لما حصل الخلاف بين علي رضي الله عنه والخلاف بينه وبين معاوية جاءت ومعها طلحة والزبير تطالب بدم عثمان ، وخطب عمار بن ياسر الناس وقال: (إنها أم المؤمنين أمكم، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وإن الله ابتلاكم بها)، فهي غلطت وأخطأت، والحق مع علي رضي الله عنه، فليس هناك أحد لا يغلط ولا يخطئ، فإذا غلط الشيخ ناصر الدين الألباني في هذه المسألة أو غلط من هو أكبر منه فالحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة.
الجواب: يعني أن المرجئة لا ينازعون في أن التصديق الذي في القلب يقتضي العمل ويدعو إلى العمل، لكنهم ينازعون في كون العمل جزءاً من الإيمان.
الجواب: نحن لا نقول: إنه قال بهذا أو ما قال بهذا، فإذا ثبت أنه قال: إن العمل ليس من الإيمان فقد غلط، وإن ثبت أنه قال: إن العمل من الإيمان فقد أصاب، ولا يهمنا الشخص، بل يهمنا الحق، فندور مع الحق حيث دار، وعندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نعمل بهما، سواء قال به فلان أو لم يقل به فلان، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق
والواجب على المسلم اتباع الحق واتباع الدليل، سواء قال به الشيخ الألباني أو لم يقل به، أو قال به غيره ممن هو أكبر منه، فإذا كان لم يقل بهذا فالحمد لله، وهذا هو الذي نريد، وإن كان قال: إن العمل ليس من الإيمان فقد غلط، ونسأل الله لنا وله المغفرة والرحمة.
وقال في موضع آخر: أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهو في غيره ممتنع باطل، وأما السجود فشريعة من الشرائع، إذ أمرنا الله أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل، وإذا أحب أن نعظم من سجدنا له ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البته فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام.
وقال في موضوع آخر في الصارم المسلول: إن من سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
ألا يمكن من هذين النصين أن نستفيد أن التلازم بين الظاهر والباطن فيه تفصيل، فمرة يكون التلازم لازماً إذا كانت الدلالة قطعية تدل على التلازم في الساب لله والرسول، ولا يلزم هذا التلازم إذا لم يكن هناك دليل، كمن حال دون كفره شبهة أو تأويل؟
الجواب: مقتضى كلامه أن عمل القلب والظاهر قد يكون فيه تلازم وقد لا يكون فيه تلازم، لكن المرجئة يقولون: لابد من التلازم في كل شيء، ويفهم من كلام الشيخ رحمه الله أن الإقرار لله بالربوبية والقنوت لا يكون إلا لله، أما السجود فهو يختلف باختلاف الشرائع، ففي شريعة آدم لما خلق الله آدم أمر الملائكة فسجدوا له، والسجود عبادة لله، وفيه تكريم لآدم، والسجود في شريعة يوسف عليه السلام تحية وليس عبادة، وفي شريعتنا صار عبادة، وهكذا.
يختلف باختلاف الشرائع.
فالمقصود أن هناك فرقاً، لكن في شريعتنا إذا سجد شخص لغير الله فإنه يكون مشركاً؛ لأن الله حرم هذا، وهذه الشريعة أكمل الشرائع.
فالمؤلف رحمه الله يفرق ويقول: إن الإقرار بالربوبية والقنوت والخضوع لا يكون إلا لله، في كل وقت وفي كل زمان وفي كل شريعة، أما السجود فيكون في بعض الشرائع تحية، وفي بعض الشرائع يكون عبادة، ففي شريعة يوسف لم يكن عبادة، وإنما كان تحية وإكراماً، وحينما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم كان عبادة لله وتكريماً لآدم، وفي شريعتنا الكاملة صار السجود عبادة.
أما التلازم بين القلب والظاهر فلا يلزم التلازم، والمرجئة يقولون: يلزم التلازم، فعندهم لا يكون كافراً بالعمل إلا إذا اعتقد بالقلب، ونقول: هذا باطل؛ لأنه قد يكون هناك تلازم في بعض الأعمال وقد لا يكون هناك تلازم، فقول المرجئة: إن السجود للصنم لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد بقلبه، ولا يكون كفراً إذا سب الله ورسوله إلا إذا اعتقد بقلبه، قول باطل، ولهذا نقل المؤلف رحمه الله أن من سب الله وسب رسوله فهو كافر، سواء اعتقد بقلبه أو لم يعتقد بقلبه، وقال: إن هذا هو قول الفقهاء قاطبة.
الجواب: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك) وهذا النهي يقتضي الفساد، ولهذا أقر أهل العلم بأنه لا تصح الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وأنه إذا وجد قبر في مسجد ينظر فإن كان المسجد هو السابق فإنه ينبش القبر ويوضع في القبور، وإن كان القبر هو السابق هدم المسجد وبني في مكان آخر، فلا يجوز دفن الأموات في القبور، ولا يجوز بناء المساجد على القبور، وإذا نظرنا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه لا ينطبق عليه هذا ولا هذا؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن على القبر، ولم يدفن النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في بيته والبيت خارج المسجد، ولكن لما أراد الوليد بن عبد الملك في آخر القرن الأول أن يوسع المسجد وسع المسجد وأدخل البيت كله وفيه ثلاثة قبور: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر ، فهذا غلط من الوليد بن عبد الملك ، فكون الوليد بن عبد الملك غلط وأدخل في التوسعة البيت كله في المسجد لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في المسجد، وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مدفوناً في المسجد، ولا أن مسجده مبني على القبر.
الجواب: هذا قاله الإمام أبو عبيد، واستدل على أن قول اللسان يسمى عملاً، وقال: إن اعتقاد القلب يسمى عملاً، وقول اللسان يسمى عملاً، وأعمال الجوارح تسمى عملاً، استدل على هذا باللغة وبالنصوص.
الجواب: إذا زاد اليقين زاد الإيمان، فاليقين من الإيمان، فزيادة اليقين زيادة في الإيمان، فقوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]يعني: ليزداد إيماني.
أما المرجئة فيقولون في قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4] أي: ليزدادوا يقيناً، لكن المؤلف رحمه الله رد عليهم بقوله: اليقين من الإيمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص اليقين نقص الإيمان؛ لأن اليقين من الإيمان.
الجواب: (قد أحاطوه) يعني: استكمل الإيمان واليقين في قلوبهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كانوا أحاطوه في اليقين من قلوبهم فكيف يزدادون يقيناً وقد كمل وأحيط به.
وقوله: (من قولهم) يعني: قولهم: إن الإيمان هو الإقرار.
الجواب: نعم؛ لأن الإيمان هو التصديق، والتصديق شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، لكن لو كان معه عمل لزاد ونقص بزيادة العمل ونقصه، أما مجرد التصديق فهو شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
الجواب: زواج المتعة محرم بالإجماع، وهو منسوخ بالإجماع، ومن تزوج متعة فإنه زان والعياذ بالله، وهو أن يتزوج امرأة لمدة أسبوع أو شهر أو شهرين، ويكتب ذلك في العقد، أما زواج المسيار فمعناه أن يتزوج امرأة ويشترط عليها أن تسقط شيئاً من حقوقها، فبعض النساء تكون محتاجة إلى أن تجلس مع والديها فتقول: أنا أرضى بك وأتزوجك ولو لم يكن لي ليلة، فمتى رأيت أن تأتي أتيت، فهي أسقطت حقها كما أسقطت سودة أم المؤمنين رضي الله عنها حقها في المبيت، وذلك لما شعرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيطلقها، فوهبت ليلتها لـعائشة، وكذلك لو أن امرأة أسقطت عن زوجها النفقة، أو كانت تنفق عليه؛ لأنها غنية، فالنفقة في الأصل على الرجل، فإذا أسقطت عنه سقطت، فمادام أنه عقد صحيح بولي وشاهدي عدل، وكان برضاها وهو كفء لها، فلا إشكال، فكيف يُشَبَّه بزواج المتعة؟! فهو لا يتزوجها شهراً أو شهرين أو سنة، وإنما يتزوجها زواجاً شرعياً بولي وشاهدي عدل، لكن إذا رجعت عن ذلك رجعت لها ليلتها.
الجواب: نعم، وإذا كانت تعبد ويطاف بها فلا تجوز، ولو كان ما فيها شيئاً موهوماً.
الجواب: فيه خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من أجازه وقال: إنه قد ينوي ولكن لا ينفذ هذه النية، والنية ليس عليها معول، وإنما المعول على العقد، ومنهم من منعه وقال: إنه لو علم الولي أو علمت الزوجة بنية الطلاق لما قبلت الزواج ولما قبل وليها، فلذلك لا يصح، وليراجع السائل المغني لـابن قدامة وغيره من كتب أهل العلم، وأظن أن هناك فتوى للجنة الدائمة أو فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، والشيخ الدكتور صالح المنصور له رسالة خاصة في الزواج بنية الطلاق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر