وإذا قيل: إن هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن له إلا صغائر لم يكن ذلك من خصائصه أيضاً، وعلى هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم ].
هو المرجح العاشر من المرجحات التي تؤيد أن العاصي الذي نفي عنه الإيمان وأثبت له الإسلام عنده أصل الإيمان، وليس منافقاً، وهو ما يسمى بالفاسق الملي، وسبق أن المسألة فيها قولان لأهل العلم أحدهما: أن الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان منافقون، وإسلامهم إسلام في الظاهر، وهذا مذهب البخاري وجماعة، وقول طائفة من أهل السنة ومن أهل الكلام.
القول الثاني: قول جمهور السلف والخلف: أن هؤلاء الذين أثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان ليسوا منافقين، وإنما هم ضعفاء الإيمان معهم أصل الإيمان، ونفي عنهم الإيمان لكونهم قصروا في بعض الواجبات، أو فعلوا بعض المحرمات، وقد ذكر المؤلف مرجحات كثيرة، وهذا المرجح العاشر يدل على أن العاصي إذا نفي عنه الإيمان يبقى معه أصل الإيمان.
فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ورواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم.
والمراد بالشجرة: الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم فيها الصحابة بيعة الرضوان على قتال المشركين، وهذا في صلح الحديبية، وذلك سنة ست من الهجرة لما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالعمرة، فلما قربوا من مكة منعتهم قريش من الدخول إلى مكة فنزلوا في الحديبية، والحديبية قرب حدود الحرم، وهي مكان على طريق جدة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان يفاوضهم ويخبرهم أنه ما جاء لقتال وإنما جاء للعمرة، فاحتبست قريش عثمان رضي الله عنه، وشاع في الصحابة أن عثمان قد قتل، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الموت، وكانوا ألفاً وما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلما سمعت قريش بأن النبي بايع الصحابة على الموت وقتالهم خافوا وأطلقوا عثمان، فسميت هذه البيعة بيعة الرضوان، وأنزل فيها قوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الصحيح: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) هؤلاء الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة لهم مزية على غيرهم، كما أن من شهد بدراً له مزية، فأهل بدر قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ولهذا يقول العلماء: أفضل الصحابة الخلفاء الراشدون ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) استدل به المؤلف رحمه الله على أن من وقع في معصية أو في كبيرة يبقى معه أصل الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات، والحسنة هي البيعة تحت الشجرة، فتغفر بها السيئات، وكذلك أيضاً شهود بدر.
ففي حق حاطب بن أبي بلتعة في المرجح التاسع السابق قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فشهود بدر حسنة عظيمة تغفر بها السيئات؛ ولهذا غفرت هذه السيئة التي حصلت من حاطب وهي مكاتبة المشركين، وإخبارهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقد أنزل فيها الله تعالى صدر سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1].
وقال: في آخر آية من السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13].
فهذه السيئة التي صدرت من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه غفرت بهذه الحسنة العظيمة وهي شهود بدر، كما أن الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة حصلت لهم هذه الحسنة العظيمة، وهي البيعة تحت الشجرة، وهذه حسنة عظيمة تغفر بها السيئات، فدل هذا على أنه لو وقع من هؤلاء سيئة أنه يبقى معهم أصل الإيمان، وهي تدل على أن العاصي في الجملة يثبت له الإسلام، وينفى عنه الإيمان، وأنه يبقى معه أصل الإيمان.
فتكون النصوص التي جاءت بإثبات الإسلام لأقوام ونفي الإيمان عنهم دليل على أن معهم أصل الإيمان وليسوا المنافقين كما ذهب إليه الجمهور، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: هذه النصوص تقضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات.
وقوله: (ولم يشترط مع ذلك توبة) فإنه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا إذا تاب بعد أن وقع في المعصية؛ لأن التوبة طهارة تغفر بها السيئات عامة لكل مؤمن إلى يوم القيامة، فدل على أن هؤلاء الذين بايعوا تحت الشجرة، وهؤلاء الذين شهدوا بدراً تغفر لهم السيئات بهذه الحسنة العظيمة ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك توبة، ولهذا قال المؤلف: وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، أي: لا اختصاص لهم بالتوبة بل التوبة عامة، ولو كان المراد: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إذا تاب، وقوله في أهل بدر: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم إذا تبتم، فلو كان المراد أنه لا بد من التوبة لزالت الخصيصة التي لأهل بدر والتي لأهل بيعة الرضوان، ولو قلنا إنه لا بد من التوبة صاروا مشاركين لغيرهم.
فالتوبة طهارة لكل أحد، وليست خاصة بأهل بدر ولا بأهل بيعة الرضوان، فدل هذا على أن الخصيصة التي لأهل بدر والخصيصة التي لأهل بيعة الرضوان هي هذه الحسنة بخصوصها -ولو لم يحدث توبة إذا صدرت معصية- فإنها تغفر بهذه الحسنة العظيمة وهي شهود بدر وبيعة الرضوان.
وقوله رحمه الله: (والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل) المقصود بذلك العمل: شهود بدر وبيعة الرضوان.
قوله: (وإذا قيل إن هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن لهم إلا الصغائر لم يكن ذلك من الخصائص أيضاً) فليس المراد الآن ذكر خصيصة هؤلاء إنما المراد الوصف، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بوصف وقال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وهذا وصف ليس المراد به شخصاً بعينه، وقوله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كل من شهد بدراً وصف بهذا الوصف، ويشفع له الحديث، فلا يقال لأن أولئك لم يعملوا الكبائر وإنما صدرت منهم الصغائر؛ لأن المراد الوصف لا الشخص.
وهذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم فليسوا معصومين، وإنما المعصوم الرسل عن الشرك وعن الكبائر، ومعصومون عن الخطأ فيما يبلغونه عن الله، أما غير الرسل فليسوا معصومين من الكبائر حتى يقال: إن أهل بيعة الرضوان وكذلك أهل بدر لا تصدر منهم إلا الصغائر، فصدور الكبيرة منهم جائزة وليست مستحيلة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الوصف لا شخصاً بعينه، وبهذا يتبين أن من المرجحات شهود بدر، وأنها حسنة تغفر بها السيئات كالسيئة التي حصلت من حاطب لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حسنة بيعة الرضوان تغفر بها السيئات التي تصدر منهم.
وذلك أنه قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنب تزول عن العبد بعشرة أسباب، وإذا حصل واحد من هذه العشرة محي الذنب، وسلم العبد من عقوبته، وهذا يدل على أن المؤمن إذا وقع في الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل يبقى معه أصل الإيمان، وهذه العشرة ذكرها المؤلف وهي: أحدها التوبة:
الثاني: الاستغفار.
الثالث: الحسنات الماحية.
الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن.
الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر.
السادس شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا.
الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغط والروعة.
التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد.
فهذه عشرة أسباب إذا حصل واحد منها محي الذنب عن صاحبه وسقطت العقوبة عنه، وليس المراد أن تجتمع العشرة كلها، بل إذا حصل واحد منها سقطت عقوبة الذنب عن العبد.
فهذه الأسباب التي تسقط بها عقوبة الذنوب عن العبد تدل على أن المؤمن يقع في المعاصي ويقع في الكبائر، ويسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً إذا ارتكب الكبيرة، وينفى عنه الإيمان المطلق وإن كان معه أصل الإيمان الذي يصحح إسلامه، وأصل الإيمان لابد منه، والمسلم لابد له من إيمان يصحح إسلامه، فيؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن الإيمان الكامل لا يطلق إلا على من أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا فعل كبيرة فلا نسميه مؤمناً بإطلاق، بل لابد أن يكون مؤمناً ناقص الإيمان، أو ضعيف الإيمان فهو مؤمن فاسق، ويقال هو مسلم ولا يقال مؤمن، والإيمان الذي نفي عن العاصي غير الإيمان الذي دخل به في الإسلام، فالإيمان دخل به في الإسلام لابد منه، وهو أصل الإيمان، والإيمان الذي ينفى عن العاصي هو الإيمان الكامل الذي يستحق به دخول الجنة والنجاة من النار.
هذه الأسباب العشرة التي إذا حصل واحد منها سقطت عقوبة الذنب تدل على أن المؤمن يقع في الكبيرة ولا يخرج من الإسلام بل يسمى مسلماً، وليس إسلامه كإسلام المنافقين كما ذهب إليه البخاري وجماعة، فـالبخاري رحمه الله قال: إن الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان، فهما مترادفان لا فرق بينهما، ومن نفي عنه الإيمان فقد نفي عنه الإسلام، سواء بسواء، والآية: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] نزلت هذه في المنافقين.
والصواب: أن الإسلام غير الإيمان وليسا مترادفين إذا اجتمعا، والذين نفي عنهم الإيمان لا لكونهم منافقين بل لكونهم نقص إيمانهم فلا يطلق عليهم الإيمان الكامل، لكن نقص إيمانهم وضعف بفعل الكبيرة فيسمون مسلمين؛ لأن معهم أصل الإيمان الذي يصح به إسلامهم، ولا يسمون مؤمنين بإطلاق لتقصيرهم في بعض الواجبات أو فعلهم لبعض المحرمات.
فهذا المرجح الحادي عشر: أن عقوبة الذنب تسقط عن العبد إذا حصل واحد من عشرة أسباب، ودل على أن معه أصل الإيمان وليس منافقاً.
وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:104].
وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25] وأمثال ذلك ].
هذا هو السبب الأول: التوبة، فالتوبة تسقط بها عقوبة الذنب، وهذا بإجماع المسلمين وليس فيه خلاف، والتوبة عامة في كل ذنب صغير أو كبير، حتى من الكفر ومن النصرانية واليهودية والمجوسية، فإذا تاب من الزنا والسرقة وشرب الخمر وعقوق الوالدين والتعامل بالربا تاب الله عليه، وسقطت عنه عقوبة الذنب في الدنيا والآخرة، وسلم من شره في الدنيا والآخرة، لكن بشرط أن تكون التوبة نصوحاً، ليس كل من ادعى التوبة يكون تائباً، فالتوبة تنقسم إلى قسمين: توبة الكذابين وتوبة الصادقين.
فتوبة الكذابين: هو الذي يتوب بلسانه وقلبه معقود على المعصية مصر عليها، والتوبة لابد لها من شروط، فإذا وجدت الشروط صحت.
الشرط الأول: أن تكون التوبة لله، فبعض الناس يتوب لكن ليس لله، بل لأجل الدنيا، ولأجل بعض المقاصد:
صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
التوبة عبادة لابد أن تكون لله، والعبادة لا تصح إلا بشرطين: أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة للشرع.
ثانياً: الإقلاع عن المعصية، ومعنى الإقلاع: ترك المعصية، فإذا كان يتعامل بالربا ترك الربا، أما أن يقول شخص: تبت من الربا، وهو يتعامل بالربا فهو كذاب، وكذلك من يعق والديه فيزعم أنه يتوب وهو مستمر على عقوق الوالدين، فهذه ليست توبة، فيجب الإقلاع عن المعصية، والذي يأكل الرشوة ويقول: أنا تائب ولكنه مستمر على أكل الرشوة هذه ليست توبة، فالإقلاع يعني: ترك المعصية.
ثالثاً: الندم على ما مضى، أن يندم ويتحسر ويتأسف.
الشرط الرابع: العزم الصادق الجازم على عدم العودة إليها مرة أخرى، وبعض الناس يريد أن يتوب في رمضان خاصة، ولكنه ينوي أنه إذا خرج رمضان عاد إلى المعاصي، فهذه ليست توبة؛ لأنه ما صمم ولا عزم على عدم العودة إلى المعصية، بل هو يريد أن يرجع إلى المعصية، وهذه توبة مؤقتة.
الشرط الخامس: رد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس، فإذا كانت المظلمة بينه وبين الناس كأن قتل شخصاً بغير حق فعليه أن يسلم نفسه لأولياء القتيل: إما أن يقتلوه قصاصاً، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا عنه، أو إذا كان مالاً يرد المال حتى يتوب، أو شخص سرق من مال شخص أو اختلسه فإن أراد أن يتوب لابد يرد المال إليه، وإذا كانت غيبة أو نميمة يستحلهم منها، فلابد من رد المظلمة إلى أهلها إذا كانت بينك وبين الناس.
الشرط السادس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه، وهو قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم بالنسبة للشخص الواحد، ففي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تصل الروح إلى الغرغرة، وبالنسبة لعموم الناس: ما لم تطلع الشمس من مغربها في آخر الزمان كما في الحديث: (لا تنقطع التوبة حتى تنقطع الهجرة، ولا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها).
فإذا طلعت الشمس من مغربها انتهى الأمر وكل يبقى على ما كان، المؤمن على إيمانه والكافر على كفره، قال الله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، جاء في تفسير الآية: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]: أنها طلوع الشمس من مغربها.
فالشروط السابقة هي:
الأول: أن تكون لله.
الثاني: الإقلاع عن المعصية.
الثالث: الندم على ما مضى.
الرابع: العزم على عدم العودة إليه.
الخامس: رد المظلمة إلى أهلها.
السادس: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها.
والسابع: أن تكون قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم.
الثامن: أن تكون قبل نزول العذاب، فإذا نزل العذاب لم تقبل، قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر:84]، قال الله: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:85].
ففرعون آمن لكن بعد نزول العذاب فما نفعه، قال الله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، وفرعون هو الذي يقول للناس: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، لكن في وقت لا ينفع فيه الإيمان، قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92]؛ لأنه لابد أن يكون قبل نزول العذاب.
إلا طائفة من الناس استثناهم الله لما نزل العذاب تابوا ونفعتهم التوبة، وهم قوم يونس، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ [يونس:98]، لما أخبرهم نبيهم بأن العذاب نازل بهم ورأوا أسبابه تابوا فتاب الله عليهم، وجاءهم نبيهم فآمنوا، قال الله: وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ [الصافات:147-148].
هذه أسباب ثمانية للتوبة إذا وجدت فهي توبة الصادقين، وإلا فهي توبة الكذابين.
إذاً: التوبة تمحو الذنب لكن بشروطها الثمانية كما ذكرنا.
والدليل قول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، هذه الآية أجمع العلماء على أنها في التائبين؛ لأن الله أطلق وعمم، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، ويشمل ذنب الكفر والشرك والزنا والسرقة والربا، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] أي: لمن تاب، قال سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:104]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وقال سبحانه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، نعم.
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) ].
هذا هو السبب الثاني من الأسباب التي تسقط بها عقوبة الذنب عن العبد: الاستغفار، وقد استدل المؤلف بحديثين:
الحديث الأول في الصحيحين وغيرهما وهو حديث صحيح.
وقوله: (فليفعل ما شاء)، ليس المراد به الإذن بالمعصية، وإنما المراد: أنه كلما أذنب وتاب فإن الله يغفر له، وهذا حصل منه الذنب ثم تاب بالشروط الثمانية، ثم ابتلي بالذنب مرة ثانية ثم تاب بالشروط الثمانية، ثم ابتلي ثم تاب وهكذا.
وقوله في الحديث الثاني: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرونه فيغفر لهم)، دليل على أن الاستغفار يمحو الله به الخطايا والذنوب.
وقد يقال: بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنب، كما في حديث البطاقة بأن قول لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير ].
وهذا اعتراض وجواب عنه، الاعتراض: أنه قد يقال: الاستغفار هو مع التوبة، أي: الاستغفار والتوبة شيء واحد فلابد أن يكون مع التوبة، ولا ينفع بدونها، وعلى هذا يكون السببان سبب واحد، التوبة والاستغفار شيء واحد، واستدل المعترض بحديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة)، أخرجه أبو داود والترمذي وابن السني والبغوي .
وقال الترمذي بعد أن ساقه: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي.
ومع ذلك فقد حسنه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، في المجلد الأول، وعلى كل حال لعل الحافظ حسنه بشواهده، فالحديث له شواهد، وكذلك أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله لعله ساقه هنا لأنه يرى أنه ثابت وأنه حسن بشواهده.
فالمقصود: أن الاعتراض على هذا الوجه أن يقال: الاستغفار مع التوبة شيء واحد، وقد أجاب المؤلف رحمه الله فقال: الاستغفار إذا كان مع التوبة فليس فيه إشكال، ويغفر الذنب، لكن قد يوجد الاستغفار بدون التوبة وينفع؛ ولهذا قال المؤلف: قد يقال: (الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عامة فكل شخص يصدر منه التوبة مع الاستغفار فهو مغفور له، لكن قد يكون الاستغفار بدون التوبة وينفع في حق بعض الناس دون البعض الآخر)، فالمؤلف رحمه الله يجيب عن الاعتراض ويقول: إذا اعترض بعض الناس وقال: الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار، نقول: نعم، إذا كان الاستغفار مع التوبة فهذا عام في كل شخص، وعام في كل معصية، لكن قد يوجد استغفار بدون توبة وينفع، ولكن هذا في حق بعض الناس دون البعض، وبعض الناس يستغفر ولم يتب، لكن يحصل له عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الله به خطيئته بسبب ما قارن الاستغفار من الانكسار والخشية والإنابة إلى الله كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة حديث مشهور، وهو أرجى حديث لأهل السنة والجماعة، وهو أرجى حديث للعصاة، وخلاصته: (أنه يؤتى يوم القيامة برجل فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر سيئات، فيقول الله: أتنكر من هذا شيئاً؟ قال: لا والله يا رب، فيقول الله: هل لك حسنة يقول: لا والله ما أذكر شيئاً يا رب، فيقول الله: بلى فإنك لا تظلم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع البطاقة التي فيها الشهادتان في كفة وتوضع السجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فغفر الله له)، فرجحت البطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وخفت بطاقة السيئات، فغفر الله له.
ومعلوم أن كل مسلم له مثل هذه البطاقة، وكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك يعذب بعضهم بالنار، وهذا لم يعذب فبعض الناس قال: لأن هذه البطاقة التي فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله قالها عن توبة وإخلاص، ولهذا نقول: إذا تاب فالتوبة تكفيه، وصاحب البطاقة ثقلت بطاقته بتلك السيئات؛ لأنه قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وقارن الشهادتين نوع من الإخلاص والصدق، وكثير من الناس يقولونها وليس عندهم صدق وإخلاص فلهذا يعذبون بسيئاتهم، أما هذا فغفر له بسبب أنه قال هذه البطاقة بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، فكذلك المستغفر، أي: إذا استغفر عن خشية وإنابة يمحو الله بهذا الاستغفار الذنب ولو لم يتب.
قوله: (وكما غفر للبغي بسقي الكلب) والبغي الزانية من بني إسرائيل والحديث فيه: (أن امرأة بغياً من بني إسرائيل مرت بركية بئر فوجدت كلباً يلهث يكاد يأكل الثرى من العطش، فنزلت في البئر وملأت خفها ماء وأخرجته وسقت الكلب، فغفر الله لها ذنبها) غفر لها ذنبها العظيم وهو الزنا بسقيها الكلب، ومعلوم أنه قد يسقي بعض العصاة كلباً أو غيره ولا يغفر له، وهذه المرأة غفر لها بسبب أنه حصل في قلبها إذ ذاك الإيمان والصدق والإخلاص؛ فلهذا غفر الله لها.
فكذلك بعض المستغفرين يستغفر عن توبة وخشية وإنابة فيغفر له، وبعض المستغفرين يستغفر ولكن لا يكون عنده خشية ولا إنابة فلا يغفر له إلا إذا تاب، وبهذا يكون المؤلف أجاب عن هذا الاعتراض.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه).
وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) ].
هذا هو السبب الثالث من الأسباب التي تسقط بها عقوبة الذنب ويمحو الله بها الذنب: وهو الحسنات الماحية، فيفعل حسنة عظيمة فيمحو الله بها الخطايا ولو لم يتب، وقد استدل المؤلف بأدلة:
الدليل الأول: قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، جاء في سبب نزول هذه الآية: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر الله لك).
جاء في سبب نزولها أنه فعل صغيرة، وقد يقال: إنه تاب، وظاهره أنه تاب، والقبلة صغيرة، فهو فعل صغيرة من الصغائر ثم تاب، لكن المؤلف استدل بعموم الآية: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال: الحسنة تمحو السيئة من دون توبة.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشهور: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم وغيره.
وهذا الحديث استدل به المؤلف على أن من الحسنات التي يكفر بها السيئات: الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان لكن الحديث فيه: (إذا اجتنبت الكبائر)، وسيأتي الكلام عليه.
الدليل الثالث: ما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وجه الدلالة: أن صوم رمضان حسنة يمحو الله بها الخطايا، وسيأتي أن بعض العلماء قال: إذا اجتنبت الكبائر.
الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهو حديث صحيح، فقيام ليلة القدر حسنة غفر بها الذنوب.
الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفيه: أن الحج حسنة عظيمة يمحو الله بها الخطايا.
الدليل السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها: الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما.
ومعنى: (فتنة الرجل في أهله وماله) ما يحصل من الكلام والأخذ والرد بينه وبين الزوجة وبينه وبين ولده وبينه وبين جاره، والمقصود ما يحصل من نزاع أو كلام وأخذ ورد، فهذه الفتنة التي تكون بين الإنسان وأهله وبينه وبين ولده وبينه وبين جاره يكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الحسنات يكفر الله بها الخطايا، ومعلوم أنها صغائر ليست كبائر.
الدليل السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه) وهذا الحديث أيضاً رواه الشيخان وغيرهما.
وفيه: أن العتق حسنة يكفر الله به الخطايا، ويعتق الله به رقبة المعتق من النار، إذا أعتق العبد أعتقه الله من النار، ومعناه: كفر سيئاته بهذه الحسنة، وهذه الحسنة وهي العتق محت السيئات، حتى إنه غفر له، فإذا أعتق عبداً أعتق الله عنه اليد باليد والرجل بالرجل، ويده بيده، حتى فرجه بفرجه.
وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح كلها صحيحة، وقال: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
قوله: (الصدقة تطفئ الخطيئة) أي: المعصية، والصدقة حسنة من الحسنات، ومع ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ الخطيئة.
وقوله: (والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، الحديث فيه كلام لأهل العلم، رواه ابن ماجة ، وفيه تقديم الجملة الأولى على الثانية، وقال بعضهم: له شواهد يتقوى بها، ومنهم من تكلم فيه، ومنهم من تكلم في الجملة الأخيرة.
وهذه الأحاديث كلها تدل على أن الحسنات يمحو الله بها السيئات، ويمحو بها عقوبة الذنوب من غير التوبة.
فيجاب عن هذا بوجوه ].
هذا اعتراض على هذه الأحاديث التي استدل بها المؤلف على أن الحسنات يمحو الله بها الخطايا، قالوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر ولا تكفر الكبائر، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة؛ ولهذا جاء في بعض الأحاديث: (ما اجتنبت الكبائر)، كما في حديث أبي هريرة في مسلم : (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).
فأجاب المؤلف رحمه الله عنها بخمسة أجوبة، وبعض الأجوبة عليها اعتراضات.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض كالصلوات الخمس والجمعة وصيام شهر رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، فأداء الفرائض مع ترك الكبائر مقتض لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلا بد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] ].
الجواب الأول على هذا الاعتراض هو: أن الحسنات إنما تمحو الكبائر، قال المؤلف رحمه الله: هذا الشرط إنما جاء في الفرائض خاصة دون التطوعات، والفرائض إنما يكفر الله بها الخطايا إذا اجتنبت الكبائر كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان، ودليلها الحديث السابق حديث أبي هريرة عند مسلم : (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وذلك أن الله تعالى يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] أي: الصغائر، فاشترط لتكفير الصغائر ترك الكبائر، يقول المؤلف: فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضٍ لتكفير السيئات، أما غير الفرائض مثل الحسنات الماحية مثل المرأة البغي التي سقت الكلب، فهذه حسنة يمحو الله بها الخطايا، وهكذا الأعمال الزائدة عن الفرائض من التطوعات، يقول المؤلف: فلابد أن يكون لها ثواب آخر؛ لقول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. نعم.
وفي السنن: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار).
وفي الصحيحين في حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن زنا وإن سرق) ].
هذا هو الجواب الثاني، وهو أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون بالحسنة مع الكبيرة، منها هذا الحديث: (غفر له وإن كان قد فر من الزحف)، الجهاد في سبيل الله مستحب إلا في ثلاث مواضع يكون واجباً فقط:
الموضع الأول: إذا داهم العدو بلداً من بلاد المسلمين وجب على أهل البلد أن يقاتلوا كلهم رجالهم ونساؤهم، وهو عليهم فرض عين.
الثاني: إذا استنفر الإمام واحداً من الناس وأمره بأن يجاهد يجب عليه، وصار فرضاً في حقه.
الثالث: إذا وقف في الصف ولو كان متطوعاً، ففي هذه الحالة صار فرضاً عليه، ولا يجوز له أن يفر أو يهرب؛ لأنه يخذل إخوانه المؤمنين، فإذا فر من الزحف صار مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]، توعده الله بالنار وهو مرتكب للكبيرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقول: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف)، أي: وإن كان قد ارتكب كبيرة، إذاً: هنا فيه أنه غفر له مع الكبيرة.
كذلك الحديث الثاني في السنن قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار)، أوجب: ارتكب كبيرة توجب له النار ومع ذلك غفرت له هذه الكبيرة بهذه الحسنة وهي العتق.
والدليل الثالث: ما في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال
وهذا دليل على أنه يغفر له الزنا بالتوحيد الخالص، ولكن هذا سيأتي فيه الكلام لأهل العلم، وظاهره أن الأصل أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إلا إذا تاب توبة نصوحاً، واستدل المؤلف رحمه الله بهذه الأدلة على أن الحسنة قد يمحو الله بها الخطايا ولو مع الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر ].
هذا هو الجواب الثالث، وقد استدل المؤلف بالحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهذا حديث قدسي قاله الله تعالى في قصة حاطب : (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وهذا الحديث فيه دليل على أن من شهد بدراً يغفر له ولو فعل الكبيرة.
فإذا قال قائل: إن المراد أن تغفر له الصغائر إذا تاب، فيقال: إذاً لا فرق بين أهل بدر وغيرهم، فكل واحد تغفر له الصغائر باجتناب الكبائر، وكل واحد يغفر له بالتوبة، ولا خصيصة بهذا لأهل بدر، فدل على أن المراد الكبيرة.
يقول المؤلف: فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لا يجوز حمله على مجرد الصغائر، فلا يقول قائل إن قوله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أي: غفرت لكم الكفر، فلا أحد يقول هذا؛ لأن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، فكذلك لا يقول قائل: إن المراد (اعملوا ما شئتم) الصغائر؛ لأن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، فدل هذا على أن المراد الكبيرة.
وهذا يدل على أن هذه الحسنة وهي حضور بدر يمحو الله بها الكبائر؛ ولهذا قال المؤلف: فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة في اجتناب الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الرابع: أنه قد جاء في غير حديث أنه: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر عمله كذلك)، ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران؛ ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات، وهذا لا ينافي ما ورد من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضاً للأول لوجب تقديم الأول؛ لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر رضي الله عنه لـعمر رضي الله عنه، وقد ذكره أحمد في رسالته في الصلاة.
وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب، ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً له وإكمالاً لها فلم يكن فيها ثواب نافلة؛ ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقاً، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة ].
هذا هو الجواب الرابع وفيه يقول المؤلف أنه ورد في الحديث: (إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع -أي: نوافل- فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر عمله كذلك).
معنى الحديث: أن الإنسان أول ما يحاسب عليه من الأعمال التي بينه وبين الله الصلاة، وهذا لا ينافي الحديث الآخر: (إن أول ما يقضى بين الناس في الدماء)، ومعناه: أول ما يقضى بين الناس في الدماء فيما يتعلق بحقوق الناس، وأول ما يحاسب عنها العبد صلاته فيما يتعلق بالعبادات، فإن أكملها وصارت تامة وليس فيها نقص شيء من الواجبات ولا خلل فالحمد لله، وإلا قيل كما جاء في الحديث: (وإلا قال الرب: انظروا هل له من تطوع)، (فإن كان له تطوع) مثل: السنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل أكملت بها الفريضة، (ثم يفعل بسائر عمله كذلك)، كزكاة الفريضة إن كانت كاملة فالحمد لله، وإن لم تكن كاملة وفيها نقص فإذا كان له صدقات يكمل بها الفريضة، وكذلك صيام رمضان إذا كان فيه نقص يكمل من صيام التطوع كصيام الإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، وصيام يوم التاسع والعاشر من شهر محرم، وهكذا سائر العمل.
المؤلف رحمه الله يعلق على هذا الحديث فيقول: (ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب) أي: هذا النقص الحاصل في الصلاة أو في الزكاة والصوم، فلو كان ترك مستحباً كترك زيادة الدعاء بعد التشهد الأول، فلا نقول: إنه يكمل من النوافل؛ لأن المستحب لا يحتاج إلى جبران، إنما الذي يحتاج إلى جبران هو الواجب.
فإذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع)، المراد منه إذا أخل بشيء من الواجبات في الصلاة أو في الزكاة تكمل من النوافل، وإذا أخل بشيء من المستحبات فلا يكمل، ولا يعتبر نقصاً في الصلاة ولا في غيرها.
فتبين بهذا أن المراد بالحديث: (انظروا إن أكملها وإلا فانظروا هل له من تطوع)، أنه يجبر نقص الواجب فقط.
يقول المؤلف: و(لأنه حينئذ إذا ترك مستحباً أو فعل مستحباً لا فرق بين المتروك والمفعول؛ لأنه ليس بواجب، سواء فعله أو تركه، فلا يقال: إنه إذا ترك مستحباً يجبر به مستحب آخر، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات).
إذاً: إذا نقص شيئ من الواجبات في الفرائض كمل من التطوعات، فإذا ترك واجباً من الصلاة كمل من التطوع، وإذا ترك واجباً من الزكاة كمل من الصدقات، وإذا ترك واجباً من صيام رمضان كمل من صيام النفل، وإذا ترك واجباً من الحج كمل من حج النفل، وهكذا.
وهذا لا ينافي حديث: (إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة) على فرض صحته.
يقول المؤلف رحمه الله: لو قيل: إن هذا الحديث يعارض هذا الحديث فإنه يجب تقديم الحديث الأول؛ لأنه أثبت وأشهر، والقاعدة عند أهل العلم: إذا تعارض حديثان فإن أمكن الجمع بينهما فلا يعدل عنه؛ لأنه عمل بالحديث من الجانبين، فإن لم يمكن ننظر التاريخ فإن عرفنا المتقدم أو المتأخر يكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، فإن لم يعرف التاريخ ننظر إلى الترجيح، فإذا كان أحدهما أصح فهو مقدم على غيره، فإن لم يمكن الترجيح نتوقف.
يقول المؤلف: إن حديث (لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى الفريضة) غريب رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف أنه في وصية أبي بكر لـعمر قال له: واعلم أنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وقد كتبها أبو بكر لـعمر .
يقول المؤلف رحمه الله: (وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها، ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، وهذا هو معنى الحديث: (لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى الفريضة)، فإذا كان في الفريضة نقص يكمل بها النافلة، فإذا كملت الفريضة وبقيت له نافلة يثاب عليها، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً لها وإكمالاً لها فلم يكن فيها ثواب نافلة.
يقول المؤلف: ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وغيره يحتاج إلى المغفرة).
ومعنى ذلك: أن النافلة تكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولا تكون لغيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه، قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، أما غير الرسول عليه الصلاة والسلام فلا يجزم بأنه مغفور له؛ وهذا يدل على ضعف رفع هذا الحديث على هذا القول، وتأول هذا القائل قول الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79] وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وليس إذا فعل الإنسان النافلة وضيع الفريضة تقوم النافلة مقام الفريضة المطلقة، بل قد تكون العقوبة على ترك الفريضة أعظم من ثواب تلك النافلة.
وبهذا يكون المؤلف رحمه الله بين أن الإنسان أول ما يحاسب عليه من عمله الصلاة، فإن أكملها وإلا كملت من النوافل، وبهذا تكون هذه الحسنة ماحية للسيئات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر