لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ].
هذا حديث متفق عليه، والنية شرط في صحة العبادات كلها: من وضوء وصلاة وصوم وزكاة وحج، فلابد من النية، والنية محلها القلب، ولا يحتاج أن يتلفظ بها، فلا يقول: نويت أن أتوضأ، ولا يقول: نويت أن أصلي خلف هذا الإمام صلاة الفجر ركعتين، ولا يقول: نويت أن أصوم هذا اليوم من رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لأن هذا لا أصل له، بل التلفظ بالنية بدعة؛ لأن النية محلها القلب، والنية هي التي تميز الفرائض من النوافل، والعادات من العبادات، فإذا ذهبت إلى دورة المياه فهذا الفعل نية، وإذا ذهبت إلى المسجد بعد الأذان وتوضأت فهذا نية الصلاة، فلا تحتاج إلى التلفظ بالنية.
إذاً: لا يصح أي عمل إلا بالنية، فلو كان عليه غسل الجنابة ثم اغتسل ولا يقصد الجنابة وإنما قصد التبرد فلا ترتفع الجنابة، فيجب عليه أن يغتسل مرة أخرى بنية رفع الحدث، وإذا توضأ ولم ينو رفع الحدث وإنما قصد التبرد لأن الوقت حار، فلا يصح الوضوء ولا يرتفع الحدث، بل عليه أن يتوضأ بنية رفع الحدث، وهكذا جميع الأعمال لابد فيها من النية؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
ولابد من استمرار النية أثناء العبادة، وألا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، ولا ينوي قطع الصلاة حتى تتم الصلاة، فإن نوى قطعها بطلت، وإذا نوى الفطر أفطر على الصحيح، ولهذا قال عمر: من نوى الإفطار أفطر. وإذا نوى الوضوء للصلاة فإن له أن يقرأ القرآن، ويطوف بالبيت، ويفعل جميع ما تصح به الطهارة.
التسمية عند الوضوء مستحبة عند جمهور العلماء؛ لأن الأحاديث التي جاءت في التسمية كلها ضعيفة، لكن كما قال الحافظ ابن كثير : إن كثرة طرقها يشد بعضها بعضاً، ولهذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنها واجبة مع الذكر، فالذي ينبغي للإنسان أن يسمي عند الوضوء؛ خروجاً من الخلاف، ففي مذهب الحنابلة كما ذكرنا التسمية واجبة مع الذكر، وإذا نسي سقطت، وإذا تذكر في أثناء الوضوء سمى في أثناء الوضوء.
غسل الكفين ثلاث مرات مستحب، إلا إذا كان مستيقظاً من نوم ليل فقد قال بعض العلماء بالوجوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، فذهب الظاهرية إلى أن الأمر للوجوب، والجمهور حملوه على الاستحباب، لكنه متأكد إذا استيقظ من نوم الليل.
المستحب أن يتمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، وإن تمضمض مرة واستنشق مرة كفى؛ لأن الواجب مرة، والأفضل أن يأخذ غرفة واحدة ويتمضمض ببعضها ويستنشق ببعضها، ثم يستنثر بيده اليسرى يفعل هذا ثلاثاً، وإن تمضمض من غرفة واستنشق من غرفة فلا حرج، لكن الأفضل أن تكون المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، والمضمضة والاستنشاق داخلتان في غسل الوجه، فالأفضل أن يبدأ بهما أولاً، وإن غسل وجهه أولاً ثم تمضمض واستنشق فلا حرج.
يعني: أن حد غسل الوجه من منابت شعر الرأس من الأمام إلى ما انحدر من اللحية والذقن طولاً، وعرضاً من الأذن إلى الأذن، والواجب تعميمه بالغسل مرة واحدة، والأفضل أن يكون الغسل ثلاثاً.
والعبرة بالغسلة الواحدة التعميم، فإذا عممه يعتبر مرة واحدة؛ لأنه ليست العبرة بالغرفات بل العبرة بالتعميم.
ويجوز أن يغسل بعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة كما ثبت في الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين ومرتين، وثلاثاً ثلاثاً).
أي: إذا كانت اللحية كثيفة فيكفي غسل ظاهر الشعر، وإن كانت خفيفة وجب غسلها وإيصال الماء إلى البشرة، وتخليل اللحية الكثيفة سنة مستحبة ، والواجب غسل ظاهر الشعر منها.
أي: أن المرفقين تابعان لليدين؛ لقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، و(إلى) بمعنى (مع) يعني: مع المرافق؛ لأن ما بعد (إلى) أحياناً يكون داخلاً فيما قبلها وأحياناً يكون غير داخل فيما قبلها، وهنا دلت النصوص على أن ما بعد (إلى) داخل فيما قبلها، فيكون المرفق داخلاً في الغسل، وأما قوله سبحانه: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فما بعد (إلى) ليس داخلاً فيما قبلها؛ لأن الليل ليس فيه صيام.
وعندما يغسل يده يغسلها من أطراف الأصابع حتى يشرع في العضد ويغسل المرفق معه، والواجب التعميم مرة واحدة، فإذا عممها بغرفة أو بغرفتين تعتبر مرة واحدة فقط؛ فليست العبرة بالغرفات وإنما العبرة بالتعميم، ولابد من غسل الكفين مع اليدين إلى المرفقين، فلا يصح الوضوء إلا بأن تغسل كفيك مع اليدين.
وأما الدلك للأعضاء فمستحب.
ويسن البدء باليمين في طهارة الأعضاء للحديث: (ابدءوا بما بدأ الله به)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ويقول: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي)، وإن كان القول بالوجوب له وجاهة، لكن الراجح عند العلماء أن البداءة باليمين مستحب.
أي: يدخل الكعبين في الغسل، لقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وما بعد (إلى) داخل هنا فيما قبلها. وهي بمعنى (مع).
يعني: مع الكعبين فالواجب أن يعمم رجله بالغسل حتى يتجاوز الكعب ويشرع في الساق، والواجب مرة واحدة تعميم الرجل بالغسل بغرفة أو بغرفتين، ثم اليسرى كذلك، والمرة الثانية والثالثة مستحبتان، ويجوز للإنسان أن يغسل الأعضاء كلها مرة مرة أو مرتين مرتين أو ثلاثاً ثلاثاً، ويجوز مخالفاً بأن يغسل الوجه مرة واليدين مرتين والرجلين ثلاثاً، كل هذا جاءت به السنة (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثلاثاً ومرتين مرتين ومرة مرة).
وأما الزيادة فمنهي عنها للحديث: (من زاد فقد أساء) وهذا أقل أحواله الكراهة الشديدة.
قال: [ ويخلل أصابعهما ].
أي: عليه أن يخلل الأصابع؛ خشية أن ينبو الماء عنها.
رفع النظر إلى السماء جاء في حديث ضعيف، ولكن جاء في صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يتوضأ ويحسن وضوءه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
زاد الترمذي بسند جيد: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، وجاء في الحديث الآخر استحباب أن يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، مثل دعاء كفارة المجلس يقال: بعد الوضوء، لكن أظن أن هذا الحديث ضعيف.
وجاء عند النسائي : (اللهم اغفر لي ذنبي .).
وأما الذكر أثناء الوضوء فلم يرد فيه شيء، وما جاء عن بعض الناس أنه إذا غسل وجهه قال: اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه، وإذا غسل يده اليمنى قال: اللهم أعطني كتابي بيميني، فكل هذه الأحاديث لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الواجب النية في أول الوضوء، وغسل كل عضو مرة مرة، وأما ما زاد على ذلك فهو مستحب.
قال: [ ما خلا الكفين ومسح الرأس كله ].
يعني: غسلهما قبل الوضوء ثلاثاً مستحب ليس واجباً، وأما عند الاستيقاظ من نوم الليل فواجب.
الترتيب لابد منه، فيغسل وجهه، ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، فلو قدم بعضها على بعض لا يصح الوضوء، فلو غسل يديه ثم غسل وجهه سقط غسل يديه، وعليه أن يغسل يديه مرة أخرى مراعاة للترتيب، وكذلك لو غسل يديه ثم غسل رجليه ثم مسح رأسه، فإن عليه أن يغسل رجليه مرة أخرى بعد مسح الرأس مراعاة للترتيب.
قال العلماء: إن الله تعالى أدخل الممسوح في المغسولات في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] ولا نعلم لذلك فائدة إلا وجوب الترتيب، فلولا أن الترتيب واجب لما أدخل الله الممسوح بين المغسولات.
هذه هي الموالاة، وهي واجبة، ومعنى الموالاة: ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله في الوقت المعتاد، لكن لو كان الوقت فيه ريح شديدة ونشف العضو بسبب الريح فلا يضره.
فإذا غسل وجهه ثم غسل يديه ثم شرب الشاي أو القهوة خلال عشر دقائق ثم جاء ومسح رأسه ثم غسل رجليه، فإن هذا يخل بالموالاة، والدليل على هذا: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى لمعة في بعض أعضاء رجل قال له: ارجع فأحسن وضوءك).
فلو كانت الموالاة غير واجبة لأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل اللمعة فقط، فلما أمره أن يعيد الوضوء كاملاً دل ذلك على أنه لابد من الموالاة، وأما إذا كانت هناك لمعة في عضو ولم تنشف الأعضاء وكان ذلك في الحال، فإنه يغسل اللمعة ويغسل العضو الذي بعد ذلك الوضوء الذي فيه اللمعة، فإن كانت في اليد يغسل اللمعة ويمسح رأسه ويكمل الوضوء، وإذا كانت في الرجل يغسل اللمعة إذا كانت في الحال.
والتنشيف في الوضوء مسكوت عنه، وهو لا بأس به، وإنما الذي جاء في الغسل حديث ميمونة في صحيح مسلم قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخرقة فلم يقبلها، وجعل ينفض الماء بيديه)، فالأولى في الغسل ألا يتنشف، وإن تنشف فلا حرج، وأما في الوضوء فمسكوت عنه؛ ولذلك يقول العلماء: وتباح معونته في الوضوء وتنشيف أعضائه.
هنا مشى المؤلف على خلاف المذهب، قال الشيخ عبد الله البسام : المذهب أن التسمية واجبة، والمصنف ذكر أنها سنة اتباعاً لقوله في المذهب.
وما ذهب إليه المصنف هو قوله الجمهور والرواية الثانية عن الإمام أحمد ، وأما في المذهب فالتسمية واجبة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)، رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث ضعيف، والإمام أحمد رحمه الله قال: ليس يثبت في هذا حديث، ولا أعلم فيه حديثاً له إسناد جيد، لكن مجموعها يشد بعضها بعضاً.
قال: [ وغسل الكفين ] المراد غسل الكفين ثلاثاً قبل الوضوء، وأما غسلهما مع اليدين فهذا واجب وليس مستحباً.
قال: [ والمبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً ].
المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة مستحبة، وأما إذا كان صائماً فلا ينبغي له أن يبالغ فيهما؛ لحديث لقيط بن صبرة : (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وذلك خشية أن ينزل شيء من الماء إلى الحلق إذا كان صائماً.
قال: [ وتخليل اللحية والأصابع ].
تخليل اللحية مستحب إذا كانت كثيفة، وأما أن كانت صغيرة يرى من ورائها البشرة فيجب غسلها، وتخليل ما بين أصابع اليدين والرجلين مستحب.
قال: [ ومسح الأذنين ].
يعني: أن يمسح باطن الأذنين بالسبابتين وظاهرهما بالإبهامين.
قال الشيخ عبد الله البسام في تعليقه: المذهب أن الأذنين من الرأس فيكون مسحهما واجباً؛ وما رواه ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) هذا يؤيد الوجوب؛ لأن الأصل اتباعه عليه الصلاة والسلام، ولأن ظاهر الأدلة الوجوب؛ لأنهما من الرأس، فيمسحان معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأذنان من الرأس)، رواه أبو داود ، وروت الربيع : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه وأذنيه مسحة واحدة) رواه الترمذي .
وإذا كاناً من الرأس فالله تعال قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، فيكون مسح الأذنين داخلاً في الوجوب، لكن بعض الشافعية رحمهم الله يرى أنه لو مسح ربع الرأس أو نصف الرأس أو ثلث الرأس كفاه، لكن ينبغي للإنسان ألا يخل في مسح الأذنين.
قال: [ وغسل الميامن قبل المياسر، والغسل ثلاثاً ثلاثاً ].
يستحب أن يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى، والرجل اليمنى قبل اليسرى، لكن ينبغي للإنسان ألا يخل بالتيامن.
فلو بدأ باليسرى صح الوضوء؛ لأن التيامن مستحب، لكن من قال بالوجوب فله وجه.
وغسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، أو مرتين مرتين مستحب، والواجب مرة واحدة.
قال: [ وتكره الزيادة عليها والإسراف في الماء ].
الكراهة هنا كراهة شديدة، والقول بالتحريم له وجه؛ لما فيه من الإسراف، ولما فيه من مجاوزة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من زاد فقد أساء وتعدى وظلم).
فظاهر الحديث الحرمة، لكن المعروف عند العلماء أنه للكراهة الشديدة، والمذهب الكراهة أيضاً.
قال: [ ويسن السواك عند تغير الفم، والقيام من النوم، وعند الصلاة ].
السواك مستحب وليس بواجب، وذلك عند تغير الفم في أي وقت، وعند القيام للصلاة، وعند الوضوء، وعند دخول البيت، فيستحب في هذه المواضع.
قال بعض العلماء: إن للسواك فوائد عظيمة أكثر من مائة فائدة، فمن فوائده: أنه يذكر بالشهادة عند الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتسوك حتى في آخر حياته.
قال: [ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ].
وفي لفظ (عند كل وضوء)، وفي الحديث الآخر: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب).
قال: [ ويستحب في سائر الأوقات إلا للصائم بعد الزوال ].
يعني: يستحب السواك في جميع الأوقات إلا للصائم بعد الزوال، يعني: بعد الظهر، على خلاف بين العلماء في كون الزوال يعني بعد أذان الظهر أو بعد الصلاة، وعدم استحبابه بعد الزوال؛ لأنه يزيل رائحة الفم، ورائحة فم الصائم وإن كانت مكروهة في مشام الناس فهي محبوبة عند الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). والخلوف: هو الرائحة التي تنبعث من المعدة؛ لخلوها من الطعام والشراب، فهي مستكرهة في مشام الناس ومحبوبة عند الله؛ لأنها نشأت عن مرضاته وطاعته، والسواك يزيلها، فلذلك يكره السواك بعد الزوال هذا هو القول الأول وهو المذهب.
القول الثاني: أنه مستحب في جميع الأوقات ولا يكره، والسواك لا يزيل الخلوف؛ لأن الخلوف منبعث من خلو المعدة، وهذا هو الصواب، وأما المذهب فقد استدلوا بحديث: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي)، لكنه حديث ضعيف.
والصواب أن السواك يصلح في كل الأوقات، لحديث عامر بن فهيرة أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم)، وهذا هو الذي عليه المحققون وهو الصواب، لكن ينبغي للإنسان أن يتسوك بسواك لين وليس صلباً يجرح اللثة، ولا يتفتت فتنزل منه قطع إلى الحلق، فإذا كان بهذه المثابة فلا بأس به في أول الصيام وفي آخره بعد الزوال وقبله، هذا هو الصواب.
فإذا كان يصلي فإنه لا يتسوك، وكذلك أثناء الخطبة؛ لأنه مأمور بالإنصات.
يجوز المسح على الخفين ].
المسح على الخفين من المسائل العظيمة، وهي مما يعتقده أهل السنة والجماعة، وخالف في ذلك الرافضة فأنكروا المسح على الخفين، ومذهب أهل السنة والجماعة أن المسلم إذا لبس الخفين على طهارة واكتملت الشروط فإنه يمسح عليهما، وإذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه يغسلهما، وأما الرافضة فإنهم أنكروا هذه السنة وقالوا: إنه يجب على من لبس الخفين أن يخلعهما وأن يمسح ظهور القدمين، وأنكروا غسل الرجلين، فقالوا: إن كانت الرجلان مكشوفتين فإنهما يمسحان، أي: يمسح ظهر الرجْل إلى مجتمع الساق، ويقولون بأنه يوجد في كل رجل كعب واحد، واستدلوا بقراءة الجر في آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]، قالوا: فالرءوس ممسوحة والأرجل ممسوحة، وقوله: وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على رءوسكم والرءوس ممسوحة، والمعطوف على الممسوح ممسوح.
وأما أهل السنة والجماعة فاستدلوا بعده أدلة: الأول: بالسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذين نقلوا كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم غسلاً ومسحاً قولاً وفعلاً أكثر عدداً من الذين نقلوا لفظ الآية، فإذا جاز تطرق الوهم إليهم ففي جوازه في نقل الآية أولى، لكنه لا يجب، وبيان ذلك أن الصحابة كلهم توضئوا، ومن لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم منهم نقله عمن شاهده، وليس كل واحد يحفظ الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:6].
فالتواتر في نقل كيفية الوضوء أكثر وأقوى من التواتر في نقل لفظ الآية.
الدليل الثاني: قراءة النصب في: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]، فقوله: وأرجلكم معطوفة على الأيدي والوجوه، والمعنى: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم، لكن الله أدخل الممسوح بين المغسولات لبيان وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء.
وأما قراءة الجر، فأجاب أهل السنة عنها بجوابين: الجواب الأول: أن قراءة النصب محمولة على غسل الرجلين المكشوفتين، وقراءة الجر محمولة على المسح على الخفين، فتكون القراءة مع القراءة كالآية مع الآية.
الجواب الثاني: التوسع في لفظ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، وأن المراد به المسح العام الذي يطلق في لغة العرب على الغسل، ويطلق على المسح الذي هو إمرار اليد على العضد مبلولة بالماء، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة.
ومن الحكمة في مجيء: َامْسَحُوا في الرجلين التنبيه على أنه ينبغي تقليل الصب للماء على الرجلين؛ لأن السرف معتاد فيهما كثيراً.
فالمقصود أن الرافضة ليس لهم حجة في هذا.
وأجاب الرافضة عن قراءة النصب: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] وقالوا: إن أرجلكم معطوفة على محل رءوسكم؛ لأن محلها إذا حذفت الباء النصب، والتقدير: وامسحوا رءوسكم وأرجلكم، لكن أجيب بأن هذا غير جائز في اللغة؛ لأن العطف على المحل إنما يجوز إذا كان لا يتغير المعنى وهنا يتغير المعنى؛ لأن الباء في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] للإلصاق، والمعنى: ألصقوا بأيدكم شيئاً من الماء وامسحوا بها رءوسكم، فإذا حذفت الباء صار معناها إمرار اليد على العضو بدون بلل، وإذا أتيت بالباء دلت على الإلصاق: وهو إمرار اليد على العضو مبلولة بالماء.
إذاً: فلا يصح عطف وَأَرْجُلَكُمْ على محل رءوسكم؛ حتى لا يتغير المعنى.
ثم أيضاً في الآية جعل الله الغاية إلى الكعبين وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].
والقاعدة: أن مقابلة الجمع بالتثنية تقتضي أن لكل رجْل كعبين، بخلاف الأيدي فقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] ولم يقل: إلى المرفقين، والقاعدة: أن مقابلة الجمع بالجمع تأخذ قسمة آحاد، فإذا قابلت الأيدي بالمرافق اقتضى أن في اليد مرفقاً، ولم يقل في الرجلين: واغسلوا أرجلكم إلى الكعاب، وإنما قال: إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، ولو كانت الآية إلى الكعاب لصار في كل رجل فيها كعب واحد فقط، فلما قال: إِلَى الْكَعْبَيْنِ دل على أنه في كل رجل كعبان، وهما العظمان الناتئان من جانبي القدم، والرافضة يقولون: في كل رجل كعب واحد، وهو العظم الذي هو معقد الشراك في مجمع الساق والقدم. وهو خفي وليس بواضح.
وأنكروا أن يكون في كل رجْل كعبان، وهذا باطل؛ لأن الكعب معناه البروز والظهور، وهذا إنما هو في الكعبين الناتئين من جانبي القدم، وأما ما ذكروه فلا يسمى كعباً.
وقد ذكر العلماء مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد للرد على الرافضة، مع أنها مسألة فقهية فرعية.
وذكر الإمام مسلم رحمه الله وغيره حديث جرير : (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال وتوضأ ومسح على خفيه)، قال العلماء: وكان يعجبهم حديث جرير ؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، وهذا فيه الرد على من قال: إن المسح على الخفين منسوخ بآية المائدة؛ لأن المائدة فيها الغسل، ولهذا لما سئل جرير عن ذلك قال: (وهل أسلمت إلا بعد المائدة) يعني: بعد نزول سورة المائدة.
فهذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يكون فيها على بصيرة؛ لأن للرافضة الآن معتقداً في مسألة المسح على الخفين فهم ينكرون المسح على الخفين، مع أن الأحاديث فيه متواترة، والأحاديث المتواترة قليلة تقدر بأربعة عشراً أو خمسة عشر حديثاً، والباقي كلها أخبار آحاد، فإن من المتواتر: أحاديث المسح على الخفين، ومنها: حديث الحوض، ومنها: حديث الشفاعة، ومنها: حديث: (من بنى لله مسجداً )، ومنها: حديث: (من كذب علي) فهذه كلها متواترة، وألحق بعضهم في المتواتر أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر.
الجوارب جمع جورب، وهو: خف صغير يتجاوز إلى الكعب، والخف أطول منه يكون إلى نصف الساق.
والجورب مثل الشراب الآن تكون صفيقة، وقد تكون من قطن، وقد تكون من جلد، لكن لابد أن تكون صفيقة، يعني: متينة سميكة، وأما إذا كانت خفيفة ترى من وارئها البشرة فعند كثير من الفقهاء أنه لا يجزئ المسح عليها، ولابد أن تكون ثابتة لا تسقط مع المشي، فإن كانت مخرقة فلا يجزئ أيضاً المسح عليها، إلا إذا كان الخرق يسيراً فإنه يغتفر.
وذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه ما دام يسمى جورباً وبقي عليه الاسم ولو كان مخرقاً فإنه يمسح عليه، وقال: إن الصحابة مسحوا على العصائب في غزوة ذات الرقاع. لكن الأحوط للمسلم أن يحتاط لدينه بحيث تكون الشراب صفيقة، فإذا كانت خفيفة فإنه يلبس شراباً أخرى.
أي: أن المسح على الخفين يكون في الطهارة الصغرى في الحدث الأصغر، وأما الجنابة فيجب خلع الخف ولا يمسح على الخفين في الجنابة، ولا في الحدث الأكبر.
ومدة المسح يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، كما في حديث علي الآتي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ من الحدث إلى مثله ].
يعني: تبدأ مدة المسح من الحدث بعد اللبس إلى مثله، فإذا لبس الخف بعد صلاة الفجر ثم أحدث الساعة العاشرة تكون المدة من الساعة العاشرة إلى الساعة العاشرة، هذا هو القول الأول.
والقول الثاني: أنه يبدأ من المسح بعد الحدث وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فمثلاً: لو أحدث بعد صلاة الفجر ومسح لصلاة الظهر فلا تنتهي المدة إلا مع أذان الظهر.
والأقرب أن المدة تبدأ من الحدث بعد اللبس كما قال المؤلف رحمه الله، وهذا هو المذهب.
قال: [ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن، والمقيم يوماً وليلة) ].
هذا هو حديث علي رضي الله عنه.
وكذلك روى عوف بن مالك : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم) قال أحمد : هذا أجود حديث في المسح؛ لأنه كان في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر فعله.
أي: أنه إذا انتهت المدة بطل الوضوء، وعليه أن يخلع الخف أو الجورب ويتوضأ، وكذلك لو خلع الخف بطل، وعليه أن يتوضأ، حتى ولو كان على طهارة على الصحيح، خلافاً لما ذهب إليه بعضهم من أنه إذا كان على طهارة فإنه يستمر حتى يحدث.
أي: إذا مسح المسافر يومين ثم أقام وانتهى السفر بطل المسح؛ لأنه أقام، وكذلك إذا بدأ المسح وهو مقيم ثم سافر فليس له إلا يوم وليلة، أي: أنه إذا سافر ثم أقام أو أقام ثم سافر تكون المدة للمسح يوماً وليلة، بخلاف الصلاة إذا كان مسافراً ثم أقام انتهت الرخصة، أما إذا كان مقيماً ثم سافر فله حكم المسافر.
الصواب أن العمامة التي يمسح عليها هي ما كانت محنكة، أي: التي تدار تحت الحنك، فإذا لبسها على طهارة يمسح عليها يوماً وليلة؛ لأنه يشق نزعها، وأما ذات الذؤابة فليس هناك دليل على أنه يمسح عليها؛ لأنه يسهل نزعها، مثل: العقال، ولأن الحكمة من المسح على العمامة أنه يشق نزعها.
وذكر في الزاد وغيره أنه يمسح على العمامة إذا كانت محنكة أو ذات ذؤابة، والصواب أن يمسح عليها هي المحنكة، والعجيب أن المؤلف رحمه الله لم يذكر المحنكة مع أنها هي التي يمسح عليها، بل ذكر شيئاً آخر وهو جواز المسح على ذات الذؤابة والصماء التي ليس لها ذؤابة، مع أن الفقهاء يقولون: يمسح على المحنكة ذات الذؤابة، وأما الصماء فلا يمسح عليها.
إذاً: فالصواب أن التي يمسح عليها هي المحنكة، وكذلك خمار المرأة إذا كانت تديره تحت حلقها فإنه تمسح عليه.
أي: يشترط أن يلبس الخف والجورب والعمامة على طهارة كاملة، والدليل على هذا حديث المغيرة بن شعبة : (أنه لما كان في غزوة تبوك صب على النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، قال: فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما).
ولابد أيضاً أن يكون الخف ساتراً.
الجبيرة هي التي توضع على الجرح، وأصلها أعواد توضع على الكسر، وحكمها يختلف عن حكم الخف، فلا يشترط لها الطهارة؛ لأن الإنسان قد يصاب بالجرح وهو على غير طهارة، كذلك لا تتوقت بمدة، بل يمسح عليها حتى يبرأ الجرح، وقول المؤلف: (إذا لم يتعد بشد موضع الحاجة) هذا فيه نظر، والصواب أنه إذا كانت زيادة يسيرة احتاجها الجرح فلا حرج كأن يضع عليها شيئاً مما يوضع الآن كالجبس أو الرباط أو بلاستيك فإنه إن كان الماء يشق عليه ويضره فله أن يمسح على الجبيرة، فإن كان لا يستطيع المسح تيمم.
قوله: (إلى أن يحلها) أي: إلى أن يفك الجبيرة.
يعني: الحكم واحد للرجل والمرأة، فكما أن الرجل يمسح على الخف، فإن المرأة تمسح على الخف أيضاً، لكن الرجل يمسح على العمامة والمرأة تمسح على الخمار إذا كان مداراً تحت حلقها.
وكذلك الجبيرة يمسح الرجل عليها وتمسح المرأة عليها أيضاً.
وإذا كانت الجبيرة على بعض العضو فإنه يمسح على موضع الجبيرة ويغسل الباقي.
وقال العلماء: وإن لبس خفاً على خف فالحكم للخف الأعلى، فلو مسح الأعلى وخلعه بطل الوضوء؛ لأن الحكم للأعلى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر