إسلام ويب

الراحمون يرحمهم اللهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • رحمة الله تعالى بعباده واسعة وعظيمة، وهي أوسع لهم وأرجى، وفي هذا الدرس تجد بياناً لبعض مظاهر رحمة الله، التي منها ما وضعه الله من الرحمة في نبيه صلى الله عليه وسلم، التي من خلالها ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، وتجد تلك التربية متمثلة في عمر، مما يدعوك إلى أهمية وفائدة تعليم الناس كيف يتراحمون.
    اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإسلام، رفعت رءوسنا بالإسلام وكانت مخفوضة،وأنرت قلوبنا بالإسلام وكانت مظلمة، وشرحت صدرونا بالإسلام وكانت ضيقة. عز جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء رحمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، وملجأ المضطهدين، وعضد المستنصرين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.

    والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، من شرحت له صدره، ووضعت عنه وزره، ورفعت له ذكره.. من جعلته قدوة للناس، وإماماً للمتقين.. من جعلته خطيباً للناس إذا وفدوا، ومتكلماً لهم إذا احتشدوا، ورافعاً لعلمهم إذا عقدوا.. هديت به البشرية، وأنرت به أفكار الإنسانية، وزعزعت به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    فضل الرحمة

    أمَّا بَعْد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أن رحمة الله عمَّت الكائنات، وأن أعظم صفات المولى تبارك وتعالى هي الرحمة، فهو رحمن رحيم، رحمن الدنيا والآخرة.

    والملائكة يوم تتوسل إلى ربها ومولاها تبارك وتعالى تثني عليه بالرحمة، فتقول: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم ) [غافر:7] فرحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تبلغ ما بلغ علمه، رحمته عز وجل لا تتناهى، خلق الرحمة -كما في الصحيح- في مائة جزء، فجعل جزءاً واحداً في الدنيا، يتراحم بهذا الجزء الناس والحيوانات والعجماوات؛ حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تطأه، وأما تسعة وتسعون من الأجزاء فادخرها الله عنده يوم القيامة، والله عز وجل خير الراحمين، قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:118].

    فرحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا تتناهى، ولذلك طلب من عباده أن يكونوا رحماء، ومدح المؤمنين فقال عنهم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

    فما أعظم رحمة الله! وما أجل هذه الصفة يوم يتذكرها العبد المسلم فيكون رحيماً بعباد الله!

    وأبعد القلوب عن الله -تبارك وتعالى- القلب القاسي، فالله لا يحب الجبارين والمتكبرين، ولا الذين يحملون قلوباً قاسية لا تشفق ولا ترأف ولا ترحم ولا تلين.

    قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

    قست قلوبهم باللعنة وهم بنو إسرائيل، وقست بقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وقست بالزنا والتناحر والتقاطع، ولذلك قال الله فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13].

    أُتي الرسول صلى الله عليه وسلم بسبيٍ من الكفار، وفي السبي امرأة والهة، أُخِذَ ولدُها من بين يديها وهو طفل رضيع، فأصبحت حائرةً مضطربةً، تبحث في السبي، فكلما وجدت طفلاً وضعته على ثديها وهي تبكي، حتى وجدت طفلها، فأخذت الطفل، فوضعته على ثديها وهي تبكي، وروحها تكاد يفارق نفسها فقال عليه الصلاة والسلام: {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، -والله- يا رسول الله! وهي تقدر ألا تطرح ولدها في النار، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.

    عدم تعجيل العقوبة في الدنيا

    ومن رحمة الله: أن يرى العصاة الفجرة الجبارين المتكبرين يسفكون الدماء، ويأكلون الأموال، ويتعدون على الأعراض، ويغتصبون الأملاك، ورحمته لا تزال تكلؤهم، وستره لا يزال يغشاهم، وكنفه لا يزال يعمهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو لم يغفل عنهم، قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:41-42].

    الرحمة تشمل كل ذي كبدٍ رطبة

    يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن الرحمة لا تكون بين الناس فحسب، لا بين الرجل وزوجته، ولا بين الرجل وابنه فحسب؛ بل بين الكائنات فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً من بني إسرائيل مر يوماً من الأيام ببئر مطوية، وقد بلغ به من الظمأ ما الله به عليم، فنزل وشرب، فلما روي صعد من البئر، فرأى كلباً يلهث -والكلب من أخس الحيوانات- لكن الكلب يحمل كبداً رطبة، ويحمل قلباً يتأثر، -فقال الرجل الإسرائيلي يوم أراد الله أن يرحمه، ويتناوله بعين الرضا- قال: لقد بلغ بهذا الكلب ما بلغ بي من الظمأ، فعاد إلى البئر، وملأ خفه من الماء؛ وقدمه إلى الكلب فشرب، فرضي الله عن هذا من فوق سبع سماوات، وأدخله الجنة}.

    ويخبرنا عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم بمأساة عاشتها امرأة يهودية، كانت تحمل قلباً غليظاً، لكن على عالم القطط، وبعض الناس لا تظهر شجاعته إلا على القطط والكلاب؛ مقدام لكن على الكلاب، وشجاع وبطل لكن على القطط، وهذه المرأة الإسرائيلية أعلنت شجاعتها وبطولتها على قطة من القطط، فقد أغضبتها القطة؛ فحبستها في بيت، فأتت القطة تبحث عن الطعام، فلا طعام، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فماتت القطة، فكان جزاء هذه المرأة أن عذبها الله في نار تلظى.

    ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يرى هذا المشهد حين صلى بالناس صلاة الكسوف في المدينة، فتأخر من المحراب خطوة، ثم تقدم خطوة، فلما سلم سأله الصحابة عن ذلك، فقال: {عرضت لي الجنة، فرأيتها في عرض الحائط، ورأيت عنقوداً من عنب لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه بالنار -لأنه أول من أدخل الأصنام إلى جزيرة العرب- ورأيت امرأة تنهشها هرة تعذب في النار، لأنها حبستها في الدنيا}.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088783606

    عدد مرات الحفظ

    779009084