إسلام ويب

من جوامع الكلمللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وتلك معجزة من معجزاته، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

    وفي هذا الدرس شرح لهذا الحديث العظيم، واستنباط ما فيه من فوائد وأحكام.

    1.   

    الألفة والاجتماع من خصائص هذه الأمة

    الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أيها الإخوة الكرام: عنوان هذا الدرس: (من جوامع الكلم).

    وصاحب الجوامع هو محمد عليه الصلاة والسلام، فقد آتاه الله جوامع الكلم، ولم يخلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أفصح منه، وما نطق بالضاد أروع من محمد عليه الصلاة والسلام.

    وقبل أن أدخل في هذا الدرس ألفت أنظاركم إلى أمر معهود لديكم، وهو هذا السر الذي جعله الله عز وجل في هذه الأمة الخالدة، وهو أنه جمعهم على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يجمعهم سيف، ولا كيان، ولا دستور وضعي، وإنما حبٌ في الله تبارك وتعالى.

    فقد فشلت المجالس الأممية، والجمعيات العمومية، والقوانين الوضعية أن تجمع الناس، وأخفقت أن تجمع قلوبهم؛ ولذلك عرضوا مرةً من المرات الماسونية بديلاً عن الإسلام، وهي هيئة تقوم على إلغاء الفروق بين بني الإنسان، الفروق التي بين الإنسانية في الظاهر وإلا فهي الباطن يهودية، وجعلوا من البدائل: العلمنة، وهو مذهب إلحادي أذاعه أتاتورك في الدنيا؛ ليلغي الفروق بين البشر، لكنها أخفقت جميعاً، وبقي دينه عليه الصلاة والسلام مستعداً ليجمع الناس على كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].

    والتأليف مظهره في هذا الشهر، فنحن نستقبل فيه هذا البيت، الذي صدحت منه لا إله إلا الله، والذي انبعثت منه الرسالة الخالدة، وصلينا صلاة واحدة، وصمنا جميعاً المسلمين من جميع أنحاء العالم، فيجلس بعضنا إلى بعض في إخاء عجيب.. من الذي جمع مسلم اليابان مع مسلم الجزيرة، مع مسلم السودان والعراق والمغرب وتونس والجزائر والإمارات واليمن وكل بلاد الأرض؟ لقد جمعتهم لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    وهذا السر يذكره أهل العلم في كتبهم، وهو لا يوجد في أي دين آخر إلا في هذا الدين، وهو الولاء والبراء، والحب والبغض، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود أنه قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) وفي الصحيحين: (وأن تحب المرء لا تحبه إلا لله) وفي الصحيحين: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه).

    يقول محمد إقبال، وهو هندي:

    إن كان لي نغم الهنود ودنهم     لكن هذا الصوت من عدنان

    يقول: إن كنت هندياً، وجسمي ولحمي وشحمي هندياً، فأنا أحمل إيماناً أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.

    والجباه والقلوب كلها متجهة إلى الله، فله الحمد على هذه المظلة التي جمعتنا جميعاً وآخت بين قلوبنا.

    أما الدرس فهو كما قلت لكم: من جوامع الكلم.

    وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً).

    وعند الدارقطني: (وفواتح الكلم، وخواتمه، واختصر لي الكلام اختصاراً) فهو معجز في كلامه، تأتي بكلمة له عليه الصلاة والسلام؛ فتعرف أنه هو الذي قال الكلمة، ولا يستطيع أحد أن يقول غير هذه الكلمة، وكلامه دون إعجاز القرآن؛ لأن للقرآن منـزلة في الإعجاز لا يضاهيها كلام آخر من كلام البشر.

    ويقول هتلر في مذكراته لما أراد جيشه أن يدخل موسكو قبل الثلج والهزيمة، وقد وقف خطيباً فيهم، وقد رأى الهول والدمار في العالم، وظن أنه سوف يحتل العالم.. يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر. ولا أعلم هل قالها بلغته أم بالعربية، فهو لم يجد كلمة يعبر بها أعظم من هذه الكلمة، ولكن تعالوا إلى كلامه عليه الصلاة والسلام -لا أتحدث عن معجزة القرآن- من يستطيع من الناس أن يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)؟ هل يستطيع شاعر، أو أديب، أو فصيح، أو زعيم، أو قائد أن يقولها؟ أو يقول: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة

    1.   

    وثيقةٌ معجزةٌ من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم

    عندي في هذا الدرس وثيقة أريد أن أشرحها لكم، وهي وثيقة من محمد عليه الصلاة والسلام، كلمات معدودات ما فكر فيها ولا تأمل، إنما قالها فأعجزت أهل العلم، فهي تستحق أن تشرح في مجلدات، ويصنف لها تصنيف خاص.. يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إن الله حرم عليكم ثلاثاً، وكره لكم ثلاثاً: حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وهذه الألفاظ درر وجوهر!

    بالله لفظك هذا سال من عسل     أم قد صببت على أفواهنا العسلا

    أم المعاني اللواتي قد أتيت بها     أرى بها الدر والياقوت متصلا

    لو ذاقها مدنف قامت حشاسته     ولو رآها غريبٌ داره لسلا

    وفي الحديث قضايا:

    أولها: التحريم والتحليل للشارع الحكيم.

    الثانية: بلاغة الحديث، وفيه من أمور البلاغة أربعة أمور:

    اللف والنشر، والإيجاز، والسجع، والعدد لا يقتضي الحصر.

    القضية الثالثة: عقوق الأمهات، وفيها قضايا.

    وما معنى: وأد البنات، ومنعاً وهات، و(كره)؟

    وما هي القضايا في قيل وقال، وكلام أهل العلم وشراح الحديث فيها؟

    وما المقصود بالسؤال؟

    ومتى يكون صرف المال إضاعة؟ ومتى يكون حفظاً؟ ومسائل في هذا الباب ثم ننتهي.

    أولاً: يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله حرم عليكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً...) الحديث، هذا لف، وقد سبق في بعض المحاضرات أن هذا يسمى لفاً عند أهل البلاغة.

    واللف: أن تأتي بالمعاني وتجمعها، والنشر: أن تشرحها، ويسميها أهل الإعلام من المتأخرين: الموجز والتفصيل، يقول: كان هذا هو الموجز وإليكم الأنباء بالتفصيل.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام استخدم طريقة بلاغية بديعة تسمى: اللف والنشر، وفي القرآن يقول الله تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3] انتهى اللف، ويأتي النشر فيما بعد.

    والتحريم والتحليل ليس لأحد إلا للشارع الحكيم، وليس لأحد من البشر.

    فأي زعيم أو موجه أو منظر أو عالم أو فقيه أو محدث لا يملك حق التشريع في الدين، والعلماء يُحتج لأقوالهم ولا يحتج بأقوالهم، والتحليل والتحريم لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] فإذا رأيت رجلاً يحلل أو يحرم من غير دليل شرعي، فهو معتوه أو أحمق أو زنديق؛ لأن من الزنادقة من أتى يستهزئ بالدين، فحلل وحرم بلا برهان، فخرج بهذا التحليل والتحريم من الملة.

    1.   

    التحليل والتحريم حقٌ محضٌ للشارع الحكيم

    المسألة الأولى: التحريم والتحليل -كما تقدم- للشارع الحكيم: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] والرسول عليه الصلاة والسلام يملك حق التحليل والتحريم، بخلاف خوارج العصر الذين يأخذون بظاهر القرآن، كصاحب الكتاب الأخضر وغيره، ويقولون: السنة لا مجال لها هنا، وليس لها مصداقية ولا مكانة، ونأخذ بالقرآن فحسب.

    وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يوشك رجل شبعان ريان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: دونكم هذا القرآن ما أحل فأحلوه وما حرم فحرموه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فالسنة مثل القرآن، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، قال ابن تيمية: الخوارج لا يأخذون من السنة إلا بما وافق ظاهر القرآن، أما أهل السنة فيأخذون بالسنة إذا صحت حتى في العقائد، والمعتزلة لا يأخذون في العقائد بأحاديث الآحاد، بينما أهل السنة يأخذون بأحاديث الآحاد في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك.

    وهذه قواعد لا بد أن تفهم، خاصة لشباب الصحوة الرائدة المقبلة إلى الله، الذين يجب عليهم -وجوباً لا استحباباً- أن يربوا أذهانهم على العلم الشرعي، لتكون هذه الصحوة منضبطة، فإن للصحوة ضوابط عشرة، وهي مجموعة في رسالة سوف تخرج اسمها: عشرة ضوابط للصحوة الإسلامية، والضابط الثالث: مصدر التلقي: الكتاب والسنة، وهذا إذا ضلت عنه الصحوة أو حادت فلن تكون صحوة موجهة، وسوف تكون مبتدعة، وفيها من الخلل العجيب والانحراف الغريب ما الله به عليم.

    1.   

    بلاغة الحديث

    المسألة الثانية: بلاغة الحديث، وقد سبق اللف والنشر.

    الإيجاز

    وتأتي مسألة الإيجاز والاختصار.

    ولو أراد أحدنا أن يتكلم عن هذه القضايا لأخذ ست محاضرات: محاضرة في عقوق الوالدين، ومحاضرة في وأد البنات، ومحاضرة في قيل وقال، ومحاضرة في كثرة السؤال، ومحاضرة في إضاعة المال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام جمعها في كلمة، وهذه هي البلاغة والفصاحة: ومَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] فهو يخرج من بين الصخور والجبال السود في مكة فإذا هو أفصح فصيح.

    يقول كريسي موريسون الأمريكي: إن من أعظم معجزات هذا النبي الأمي أنه ما تعلم ولا قرأ ولا كتب، وبعد أربعين سنة يكون أكبر مفتٍ في الدنيا، وأكبر خطيب في المعمورة، فهذه أكبر معجزة.

    إنسان عاش أربعين سنة، ما حمل قلماً ولا عرف سبورة ولا شيخاً ولا أستاذاً، ويأتيه الوحي في حراء، ثم ينطلق يتكلم للناس فإذا هو أفصح من يتكلم في المعمورة، وأفتى مفتٍ، وأخطب خطيب، وأشجع شجاع، وأقوى قائد، وأعظم سياسي في المعمورة! فهذه معجزة وحدها.

    يقول شوقي:

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له     وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

    يقول: عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، لكن أنت أحييت شعوباً، أسلم أهل الجزيرة، وقد كانوا رعاة غنم وأبل، ولم يكن عندهم ثقافة ولا حضارة ولا فنون ولا دراسة ولا شيء، وبعد خمس وعشرين سنة يدخلون حدائق الأندلس، ويؤذنون في قرطبة، ويدخلون السند، ويستشهدون في كابل، ويرفعون لا إله إلا الله في صقلية وقبرص، وهذا كله بهذا الدين.

    وهذا هو السر العظيم الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام -الإيجاز في الكلمات- وهذه مفتقده عندنا مهما أوتينا من الفصاحة، وهي موهبة من الله.

    ما بنى جملة من اللفظ إلا     وابتنى اللفظ أمة من عفاء

    كلمة واحدة منه عليه الصلاة والسلام يحيي بها الله ألوفاً من الناس.

    السجع محموده ومذمومه

    الأمر الثاني: السجع.

    والسجع هو: اتفاق أواخر الكلم على حرف، مثل: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات} على التاء ثلاث مرات، ثم قال: { وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} وهنا على اللام.

    وفي هذه القضية مبحث، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من الأعراب فقال: {يا رسول الله! كيف تدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل} فالأعرابي سجع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودى جنيناً، حيث ضربت امرأةٌ امرأةً حاملاً فأسقطت جنينها من بطنها، فأمر صلى الله عليه وسلم في هذا الحمل بدية جنين، فأتى شيخ القبيلة يعترض، ويقول: {كيف تدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان؟} فهنا غضب صلى الله عليه وسلم وقال: كيف تسجع مثل سجع الكهان.

    فيقول أهل العلم: كيف غضب عليه الصلاة والسلام، بينما قد ورد عنه أنه سجع. والقرآن فيه سجعٌ كثير: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً [الذاريات:1-3] وهذا سجع.

    ومسيلمة الكذاب عليه لعنة الله، عندما أتى يقول في قرآنه المخرف، الذي أوحاه له الشيطان الرجيم -وقد وذكره ابن كثير في البداية وغيره- يقول: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً.. يعارض بذلك سورة الذاريات، وأتى بكلام كثير، يقول: يا ضفدع بين الضفدعين، نقنقي ما تنقنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين.. فهذا سجع، وقد كذبه المؤمنون ولعنوه.

    فما الفرق بين السجع المحمود والسجع الذي ذمه عليه الصلاة والسلام؟ يقول بعض الفضلاء: الفرق في أمور:

    أولاً: ذاك تكلف والرسول عليه الصلاة والسلام ما تكلف، بل أتى سجية هكذا، مثل الهواء والماء البارد، فتكلم به فأتى على لسانه، وأما العربي فإنه تكلف، ففكر فيها ساعات ونظمها، وقد قال عمر كما في صحيح البخاري في كتاب الأدب: [[نهينا عن التكلف]] ولذلك ينهى الأئمة في دعاء الوتر أن يتكلفوا في الدعاء، فبعضهم يبقى أربعين دقيقة يدعو بالناس في القنوت أو أكثر، ويبكي ويُبكي الناس في القنوت وهو لم يبك في القرآن، يمر بسورة يوسف التي تبكي الحصى والحجارة، التي كان أبو بكر لا يقرؤها إلا ويبكي، ويبكي المسجد معه، فلا تجد الإمام يهتز عندها ولا يهتز المصلون، ويمر بسورة طه، وق، والحجرات، فلا يتأثر، فإذا أتى في الوتر أتى بسجع متكلف، ويقول: اللهم انقلنا من ظلمة اللحود التي فيها الدود، إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود.. ويبقى على الدال نصف ساعة، وهذا التكلف وتطلب السجع في الكلام منهي عنه، حتى وجد أن بعض الأئمة يتحفظ دعاء التراويح من قبل رمضان، فيكتبه في أوراق ويحفظه، والمسألة سهلة، لماذا لا يدعو بجوامع الكلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، فالدين ليس فيه تكلف.

    وهناك مادة في علم النفس يسمونها: التكلف، وبعضهم بتكلف حتى في الصوت، وقد سبق في بعض المناسبات أن الأمريكي دايل كارنيجي في كتاب: دع القلق وابدأ الحياة، يقول: لا تتقمص شخصية غيرك، ويقول: أنت خلقك الله شخصية مستقلة، لا تتقمص شخصية غيرك، لكن هنا أحسن، وأروع وأجود من هذا الكلام قول الرسول عليه الصلاة والسلام عند الترمذي، ولو أن في سنده نظر: {لا يكن أحدكم إمعة} أي: لا تلغي شخصيتك وتذوب، وبعض الناس من الشباب يعجب بعالم فيقلده حتى في سعاله ونحنحته، مع أنه قد خلق الله له سعالاً خاصاً، لكنه يسعل مثل سعال الشيخ، ويبكي مثل بكاء الشيخ، ويمشي مثل مشية الشيخ، وهذا تقليد مذموم.

    والممدوح من التقليد أن تقلد الشيخ في الكرم والعلم والصبر والحلم، أما أن تقلده في هذه الحركات الظاهرة فهذه سذاجة وبرود، وهذا شيء ثقيل على النفس ولا يصلح.

    وأعود إلى الموضوع فأقول: السجع في كلام الأعرابي جاء متكلفاً، وكلامه عليه الصلاة والسلام هنا بغير تكلف.

    الأمر الثاني: أن سجع ذاك الرجل الذي ذمه عليه الصلاة والسلام أتى لغرس الباطل وصرف الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه ذلك، ورفض عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ؛ لأنه لا يصح، حيث أنه أتى لفرض الباطل ونسف الحق.

    العدد الوارد في الحديث لا يقتضي الحصر

    جاء في الحديث: {حرم عليكم ثلاثاً وكره ثلاثاً...} الحديث، وهذا لا يقتضي الحصر، فقد حرم الله عز وجل أشياء كثيرة تبلغ المئات، حرم الشرك والزنا والربا وحرم الكذب والغيبة والنميمة.. هنا لا يقتضي الحصر.

    وهناك عدد لا مفهوم له، مثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً... [التوبة:80] الآية، فهذا لا مفهوم له، فلو استغفر عليه الصلاة والسلام فوق السبعين فلن يغفر الله لهم، لكن العدد معروف عند العرب، أي: أنك لو فعلت هذا الفعل، ووصلت إلى هذا العدد، -والمقصود ولو ما فوقه- ما فعلنا لك ما أردت.

    1.   

    بيان تحريم عقوق الأمهات ومعناه

    المسألة الثالثة: قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات...) الحديث، ويدخل فيه عقوق الآباء، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الجنة تحت أقدام الأمهات) وقد علقه البخاري في الصحيح، ومعنى ذلك أن الجنة قريبة إذا بر العبد أمه، فهي في متناول يده وفي قربه بسبب هذا البر.

    وقال أهل العلم: للأم ثلاثة أرباع الحق، وللوالد الربع وقد أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، لما جاءه رجل وقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) فجعل للأم ثلاثة أرباع الحق، وللأب الربع؛ لأن الأم قامت بأمور لا يعلمها إلا الله، من البر، والصلة، والعناء، والمشقة، والأسى، واللوعة.

    وورد في ترجمة ابن عمر رضي الله عنهما بسند جيد، أنه كان يطوف بالبيت في شدة حرارة الشمس، ورجلٌ من أهل اليمن يطوف بأمه، وقد تصبب العرق من وجه اليماني، وهو متعب ومرهق، فقال: [[يا بن عمر! أرأيتني جزيت أمي بما فعلتُ لها؟ -يطوف بها في حرارة الشمس وهي على ظهره- قال ابن عمر: لا والله! ولا بزفرة من زفراتها]].

    وأورد الزمخشري في الكشاف، ونسبه إلى الطبراني وفي سند الحديث كلام: ( أن رجلاً وفد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: يا رسول الله! ابني ربيته، فلما كبر عقني وظلمني واضطهدني! قال: هل قلت فيه شعراً؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ -لأن العرب كانت تنفث همومها في الأشعار، إذا اهتم الواحد منهم أو عقه ابنه، أو طال عليه الليل، أو ضاعت ناقته، أو سقطت منه حذاؤه، نظم قصيدة، فهي أمة فصيحة رائعة، تتعامل مع الشعر، فلما أتاها الوحي كفاها الوحي- قال: هل قلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم. قال: ماذا قلت؟ قال:

    غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً     تعل بما أجري عليك وتنهل

    إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت     لسقمك إلا شاكياً أتململ

    يقول: يا بني! ربيتك، وحرصت عليك، وأنشأتك، حتى إذا مرضت أنت كأني أنا المريض، فلا أنام الليل إذا ما نمت أنت.

    فلما بلغت السن والغاية التي     إليها مدى ما فيك كنت أؤمل

    جعلت جزائي غلظة وفظاظةً     كأنك أنت المنعم المتفضل

    فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، وجاء بالابن وهزه بتلابيب ثوبه، وقال: أنت ومالك لأبيك) وأصل كلمة: ( أنت ومالك لأبيك) صحيحة، لكن القصة فيها كلام من باب أحاديث السير.

    فعقوق الأمهات يدخل فيها تبعاً عقوق الآباء.

    وما معنى عقوق الوالدين؟

    قال بعض العلماء: قطع الأم والوالد من الزيارة، وقال بعضهم: ألا تنفق عليهما وهم يستحقون النفقة، وقال بعضهم: أن تعقهم حتى يبكون من العقوق، فإذا بكوا فقد بلغت درجة العقوق.

    والصحيح أن عقوق الوالدين يكون بتكدير خاطرهما، وعصيانهما في غير معصية الله عز وجل، وعدم الوفاء بحقوقهما، فهذا هو العقوق، وإذا لم يرض عنك أبوك وأمك فأنت عاق، وإذا رضيت الأم والوالد فقد وجد البر وانتفى العقوق.

    وهذا أمر نسبي عند بعض الناس، فقد يقول بعضهم: أمي في مدينة وأنا في مدينة، فهل هذا من العقوق؟

    والجواب أن يقال: لا. ليس هذا من العقوق؛ لأنها في مدينة وأنت في مدينة، فإن كانت راضية عنك وهي في تلك المدينة فقد بررتها، وإن كانت ساخطة عليك ولو كانت في البيت التي تسكن فيه فقد عققتها، هذا هو الصحيح.

    1.   

    تحريم وأد البنات

    قال عليه الصلاة والسلام: (ووأد البنات...) الحديث، وهو قتل البنات وهن على قيد الحياة، وهذا مذهب للعرب، حيث كانوا في الجاهلية يصيبهم العار من أن يرزق الرجل منهم بنتاً؛ فيذبحها ويقتلها وهي صغيرة، قال تعالى: وإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] فسوف يسألها الله، ويسأل من قتلها.

    أول من بدأ وأد البنات

    وأول من قتل الموءودة قيس بن عاصم المنقري التميمي، وهو من سادات العرب، وكان حليماً كريماً، لكنه خشي العار كما زعم، فأتته ابنة فقتلها وكسر عنقها ودسها في التراب: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] فدسها في التراب، وقد رزقه الله الإسلام فيما بعد، وكان سيداً عجيباً، حتى يروى في السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما أتاه قيس بن عاصم قال: {هذا سيد أهل الوبر} وكان حليماً جد حليم، وسيداً مطاعاً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! رق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي؛ فعظني، قال: يا قيس! إن مع القوة ضعفاً، وإن مع الغنى فقراً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، يا قيس! إن معك قريناً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حي، وهو عملك} فبكى قيس بن عاصم، وهو المقصود بقول القائل:

    عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما

    تحية من ألبسته منك نعمةً     إذا زار عن شحط بلادك سلما

    وما كان قيس موته موت واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما

    وقد كان قيس -واسمحوا لي أن أستطرد فيه- كان من أحلم العرب، أي: واسع البال، كريماً، يكظم الغيظ، ويعفو، قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، قالوا: كيف؟ قال: كنت جالساً معه في مجالس بني تميم، وقد اجتمع شيوخ بني تميم، وقد احتبى -والحبوة: أن تلف كساء على ركبتيك وأن تجلس القرفصاء- قال: فأتت امرأة فدخلت عليه، وقالت: ابنك مقتول! -ابن قيس بن عاصم كان يلعب مع الأطفال، فرماه أحدهم بحجر فإذا دماؤه في الأرض - قالت: ابنك مقتول! قال: من قتله؟ قالت: ابن فلانة، قالوا: فو الله ما قطع قصته -كان في قصة، فحدثهم بها حتى أتمها- ولا حل حبوته، ثم قال: اغسلوا ابني وكفنوه وتعالوا به، فغسلوه وكفنوه وأتوا به، فقال: اذهبوا بمائة ناقة إلى أمه وأرضوها، فدفع الدية عن الجيران.. فهل بعد هذا حلم؟! وهل بعد هذا كرم؟!

    وأد المرأة المعاصرة وضروبه

    وقد انتهى وأد البنات -والحمد لله- في الإسلام، لكن وأد المرأة اليوم غير وأد الجاهلية، ففي الجاهلية كانوا يذبحونها بالسكين، لكن وأد الجاهلية العصرية هو قتل لإرادة المرأة وحريتها وكرامتها وحقها، وهم يزعمون أنهم ينادون بحرية المرأة، وأنهم يحافظون على حقوق الإنسان.

    الحاكمون وواشنطن حكومتهم     اللامعون وما شعوا وما غربوا

    فهم الذين أكلوا المرأة وشربوها في كرامتها ومروءتها، فوأد المرأة في هذا العصر أن يقطع حجابها، وأن يهاجم الحجاب، ويدعى أنه رجعية وتخلف، وما هو إلا العظمة والروعة والجمال للمرأة، وما هو إلا الستر والصون والكرامة.

    ووالله! يوم كانت المرأة متحجبة كانت لها قيمة، وكانت النفوس تحبها وتقدرها، فلما تبذلت المرأة، وأدخلت بعد الحرب العالمية الثانية في أتون المصانع، وأصبحت عاملة، وأصبحت موظفة وسكرتيرة وتشارك في البرلمان، أصبحت ممجوجة، ومملولة، ومتبذلة.. يقول الشاعر العربي:

    إذا سقط الذباب على طعام     رفعت يدي ونفسي تشتهيه

    وتجتنب الأسود ورود ماء     إذا كُنَّ الكلاب ولغن فيه

    ومن وأد المرأة: أن تمنع من إنشاء بيت إسلامي، بحجة الفاحشة الكبرى: فتح الروتاري وغيرها، وإدخال النساء تحت مظلة الإنسانية والحب الإنساني الذي ما أنزل الله به من سلطان، لتربي غير أبنائها من زوجها، وتورث الفاحشة الكبرى التي أظلمت بها الدنيا.

    ومن وأد المرأة: أن تجعل المرأة في غير المكان المناسب الذي خلقت له، فقد خلقها الله أمينة على الجيل ومربية له..

    الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددت شعباً طيب الأعراق

    الأم نبت إن تعاهده الحيا     بالري أورق أيما إيراق

    فالأم رسالة، فقد أخرجت العظماء، فهذا خالد أُمه امرأة، وسعد وطارق وحسان وابن تيمية وصلاح الدين والعظماء على مر التاريخ، فالمرأة أرادها صلى الله عليه وسلم والإسلام أن تكون جوهرة في صدر، أما أن تكون متبذلة فلا.

    ومن وأد المرأة: أن هاجموها وسحقوا كرامتها أمام العالمين، مرة بمقالةٍ يستهزئون بالنقاب والحجاب ويسمونه خيمة، ومرة يقولون: تأخر المرأة وتخلف عقل المرأة، ومرة يقولون: متى يسمع صوت المرأة؟! ومرة يكتب كاتب في بعض البلاد، ويقول: المرأة إلى أين؟

    نقول: المرأة إن صلحت إلى جنة النعيم، وإن فسدت فإلى نار تلظى، لكن أنت يا مغفل يا مغرور! أنت يا عميل،! أنت يا مخزي الرسالة! أنت يا ممحوق البركة إلى أين؟! وأنت تحت أي لافتة تتكلم؟ فنحن تحت قضية كبرى قضية لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن أنت تنادي أختك، وتنادي أمك وزوجتك أن تخرج إلى الشارع!

    ومن وأد المرأة: أن تحرم العلم الشرعي، فتربى على الجهل؛ لأن بعض الناس الآن يقولون: المرأة إذا أصبحت جاهلة فإنها تصبح جيدة وعاقلة، ولا تعرف السوء، وتصبح خاماً قابلاً للتوجيه، وهذا خطأ، لأن المرأة الجاهلة جاهلة، فلابد أن تعلم المرأة، ولكن أي علم؟ إنه العلم الشرعي، وبعض الناس أرسل ابنته إلى بروكسل لتطلب العلم! انظر إلى هذا العلم التي تأتي به هذه البنت في السادسة عشرة! ذهبت إلى بروكسل ومكثت أربع سنوات هناك بلا محرم، تسكن في كل فندق وبارة، وتأتي بعلم، فلا بارك الله فيها ولا في علمها إن لم تتب!

    لقد ذهب الحمار بأم عمرو     فلا رجعت ولا رجع الحمار

    نحن لا نفتقر إلى تدريس المرأة هندسة التربة في دول أوروبا أو أمريكا أو الصين، وتأتينا وقد مسخت من لا إله إلا الله، وتحاربنا في عقر دارنا، لا نريدها ولا نريد علمها ولا شهادتها، نريد العلم النافع، الذي يربي امرأة تأتي بالأجيال وتوجه الجيل.

    فهذا من وأد البنات، وهو وأد آخر يكتشف في هذا العصر، اكتشفه علماء الجيولوجيا من أهل الفقه الإسلامي، اكتشفوا أن هناك وأداً وحرباً، وقد يكون هناك -إن شاء الله- محاضرة اسمها: حرب على المرأة، ينقل عن كتبة العلمانية، وعن فروخهم وأذنابهم، وعن الشعراء ما قالوه في البنت المسلمة بحجابها وسترها، ويرد عليها -إن شاء الله- من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.

    1.   

    تحريم المنع والبخل وتحريم السؤال والطلب

    قال صلى الله عليه وسلم: (وحرم عليكم منعاً وهات...) الحديث، منع: أن تمنع ما بيدك، فالبخل حرام في الإسلام، والبخل نوعان: بخل بالعلم وبخل بالمال، والبخل بالعلم أشد وأنكى، وهو من أكبر الذنوب والخطايا، يقول سبحانه عن البخل بالعلم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160] فلم يكن عند علماء الإسلام بخل بالعلم، وقد كان علماء السلف علماء عامة، كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين وابن المديني ومسلم والترمذي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن تيمية وابن القيم، فهؤلاء كانوا علماء عامة، لم يكن العالم يغلق عليه بابه فإذا أتيته تستفتيه كأنك تراجعه في معاملة، ويفتيك بالقطارة كأنه ينفق عليك من شحمه ولحمه ودمه! لقد كان علماء السنة في المسجد، والشارع، والعشة، وفي البيت والمهرجان والمقبرة، في كل مكان ينشرون علمهم كالسيل، فهذه ميزة العلماء.

    وقد علقها محمد الراشد -عمر الله وقته- في كتابه الجيد المنطلق، فقد كتب فصلاً بعنوان: علماء السنة علماء عامة.

    وهذا ميزة علماء السنة عن علماء البدعة؛ لأن بعض الناس الآن يقول: العالم لا بد له أن ينفصل عن المجتمع، ولا بد أن يربي الشباب تربية فردية، ولا يتصل بالعامة فقط لأن الانتقاء وارد، ونحن نقول: قد تكون هذه من الوسائل، لكن أن يحكم حكماً عاماً، ويحجز علماء الإسلام وقضاته ودعاته عن العامة فليس بصحيح، هذه نظرة تقبل النقض، وقد تصلح في بعض الفترات وبعض المناطق ولا تصلح في بعض.

    الثاني: البخل بالمال، قال تعالى: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37] البخل شر أسود، وهو أشر الأخلاق، والعرب ما ذمت خلقاً كما ذمت البخل وكرهته، حتى أصبح عندهم مثل الكفر تماماً.. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].

    (منعاً) أي: حرّم الله على الإنسان أن يمنع الحقوق التي عليه، والكلام على هذه يطول، وإنا أرشح أن تكون هناك محاضرة اسمها: منعاً وهات؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يشرح أنواع المنع، ومتى يكون المنع واجباً، أو مستحباً، ومتى يكون محرماً، أو مكروهاً، وماذا يمنع، ومتى يمنع.. إلى غير ذلك.

    وهات: أي: الطلب والجدوى، والإنسان شريف، واليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا يد المعطي، واليد السفلى يد الآخذ، جاء في صحيح مسلم: (ومن سأل أموال الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لأن يأخذ أحدكم حباله فيذهب فيحتطب فيبيع، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تزال المسألة بالعبد حتى تأتي خدوشاً في وجهه يوم القيامة) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يأتي وليس في وجهه مزعة لحم) أي: ملمساً له، والحديث صحيح، صححه ابن حجر وغيره.

    فسؤال المال من غير حاجة ملحة محرم، والذين يسألون ويشحذون الناس ولهم ما يكفيهم، لا ميزان لهم عند الله ولا قدر.. شاب في الثلاثين يطلب الناس! اذهب يا أخي وتاجر وابذل واخدم نفسك.

    وهناك ما يسمى بالبطالة عند شباب الصحوة، وأنا أستغفر الله أن أتهم هذه الصحوة المباركة بشيء، لكن يقولون: وجد في بعضهم بطالة، أي: عدم طلب الرزق.. [[دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد، فوجد شباباً جالسين في المسجد، فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: نعبد الله، قال: من يطعمكم ويسقيكم؟ قالوا: الله، قال: أدري أنه الله -عمر يدري أن الله هو الذي يطعم ويسقي- قال: لكن من يقدم لكم الطعام والشراب؟ قالوا: جيراننا، قال: انتظروني قليلاً، فذهب رضي الله عنه وأغلق عليهم الباب وأخذ درته -الدرة قطعة خشب تخرج الوساوس من الرءوس، إذا ضرب بها عمر رجلاً عرف القبلة، فالذي لا يعرف القبلة فهذه الدرة مثل البوصلة يعرفه عمر القبلة بهذه العصا.

    فدخل عليهم وضربهم، وقال: اخرجوا قاتلكم الله! إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]].

    فلذلك لا يعترف الإسلام بمقولة: طلب الرزق يعطلني عن الاستقامة والعبادة وصلاة التراويح وقراءة القرآن، ولما فعل المسلمون ذلك أنتج الكافر الطائرة والثلاجة والبرادة والصاروخ، وأنتجوا السيارة وكل شيء حتى الطباشير، وأصبحنا نحن نأكل ونقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وهذا جيد وممتاز، لكن ماذا قدمنا نحن؟ لماذا لا ننتج مثلما أنتجوا؟ ولماذا لا نبدع كما أبدعوا؟

    منهم أخذنا العود والسجارة     وما عرفنا نصنع السيارة

    استيقظوا بالجد يوم نمنا     وبلغوا الفضاء يوم قمنا

    1.   

    كراهة (قيل وقال) وبيان معناها

    الكراهة قد تكون تحريماً، وقد تكون كراهة بلا تحريم.

    قال عليه الصلاة والسلام: (وكره قيل وقال...) قيل: هو الذي يشعب الكلام على الناس وينقل الكلام، ما همه إلا المراسلة، فهو وكالة أنباء، قال فلان، ورد عليه فلان، وسمعت أن فلاناً قال، ولكن فلاناً يعترض عليه، فهو ينقل الشائعات، ليس عنده عمل، ولا يعرف كيف يقرأ القرآن، ولا يتدبر ولا يطلب العلم، ولا يدعو إلى الله، وإنما هو فارغ، من العمل، فيجلس من الصباح يتبرع بنقل الأخبار.. سمعت فلاناً قال فيك اليوم، وأنا لا أريد أنه قال فيك، فماذا تقول أنت؟ قال: أقول فيه كذا، فيذهب إلى فلان ويقول: قد أخبرته بما قلت فيه، فقال فيك كذا... فهل هذا عمل مسلم مؤمن؟!

    إن هذا عمل الذين لا يرجون لله وقاراً، وهم الفارغون في كل زمان ومكان، وهم الذين يسمون شيوخ القمر، ويخططون في التراب، ليس لهم أصالة ولا مكانة، وليس لهم حفظ ولا وقت، ثم تضيع أوقاتهم.

    إذاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وهي استحداث الأقوال وجمعها.. بعض الناس يتظاهر بالعلم وليس عنده علم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور) أي: الذي يتظاهر بما ليس عنده مثل الرجل الذي له ثوب واحد، لكن له أكمام ثوبين، فيظهر للناس أن عنده كمين كأن عليه ثوبين، وهو ثوب واحد، فهذا مثل المتشبع بما لم يعط، كرجل فقير، إذا جلس في المجلس يتظاهر أمام الناس أنه غني، ويقول: أمرت أن يحول لنا شيكات على البنك اليوم! وماذا فعلت يا فلان في أراضينا في المدينة الفلانية؟ وماذا عملت في معرضنا؟ وليس عنده لا معرض ولا سيارات ولا شيء، فهو أعمى ويناقر، حشفاً وسوء كيلة.

    فالذي يستحدث الأقوال وليس عنده علم، فإذا قيل له: يا شيخ! ما رأيكم في المسألة؟ قال: فيها ستة عشر قولاً! وهي ليس فيها إلا قول واحد، فإذا قيل له: أفدنا أثابك الله! قال: قال قوم كذا، وقال قوم كذا، وقال قوم كذا، فترك السائل وهو في ربكة ما بعدها ربكة، وهو لا يحفظ دليلاً لكل مسألة ولا يدري.

    يقولون: أحد الحمقى كان له ابن عنده علم، وابنه هذا يريد أن يتظاهر أن أباه عالم، فقال لأبيه: إذا سألك الناس فقل: فيها قولان، وأنا سوف أفتيهم، لكن نريد أن يعرفوا أنك عالم ولست بجاهل، قال: سأفعل. فسألوه، فقال: فيها قولان، قالوا: وما تفصيلها؟ قال: أحيلكم على ابني، فالابن يفصل، هذا يوجز وهذا يفصل، قالوا: ما رأيك في الله عز وجل؟ قال: فيه قولان، سبحان الله! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    فهذه (قيل وقال) وهي استحداث الأقوال، وقد عرض لها ابن تيمية وقال: هي التكثر بأقوال أهل العلم ولو لم يكن لها أصل.

    وليس كل خلاف جاء معتبراً     إلا خلافٌ له حظ من النظر

    1.   

    كراهة كثرة السؤال

    وكثرة السؤال: وهو الذي يسأل العلماء تعنتاً، فيعنتهم بالمسائل، لا لقصد الاستفادة، وهذه توجد عند الشباب بكثرة يقول: هذا الشيخ شاب، وبادئ في العلم، وأنا سآتي له بمسألة توقفه عند حده وتخجله في المجلس! فهذا منهي عنه، وما يفعل ذلك إلا الذي في قلبه مرض، نعوذ بالله! فيقول: يا شيخ! ما رأيك في أطفال أهل الفترة؟ أو ما رأيك في أطفال المشركين؟ أو ما رأيك في دوران الأرض حول الشمس، والشمس حول الأرض؟ فهذه من المسائل التي لا يستفاد منها.

    ونحن نقول له: رأينا فيك كرأي عمر في صبيغ بن عسل، حينما أتى بهذه المسائل فقال له عمر: انتظر، ثم أرسل عسب النخل فرشه بالماء، وقال: والله لا يحول بيني وبينه أحد، فضربه عمر ضربةً حتى أغمي عليه، ثم رش الرجل بالماء واستفاق، يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، ثم ضربه عمر ضربةً، حتى أغمي عليه، فرشه عمر، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن كانت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد دوائي فقد شفيت والحمد لله. فهذا العلاج لا يخرج إلا من صيدلية عمر.

    فبعض الناس يأتي بمسألة يتعنت حتى يحرجك أمام الناس ويخجلك، وهذا من كثرة السؤال، قال مالك في السؤال عن الأغلوطات -أي: أغلوطات المسائل الصعبة-: ونهينا عن التكلف، فمن فعل ذلك فقد أساء وتعدى وظلم. فقد تجد الرجل لا يعرف سجود السهو، لكنه يسأل عن مسائل ما وقعت، يقول: يا شيخ! ما رأيك في أهل القطبين، القطب الشمالي والقطب الجنوبي كيف يصلون؟ فتجيبه بجواب، فيقول: لا. هذا خطأ، وكيف يصومون؟ فتجيبه فيقول: لا. هذا خطأ.. إذاً طالما تعرف الجواب فلا تخطئنا.

    وإذا قلت له: سجود السهو قبل السلام أم بعده؟ فيقول: لا أدري. هذا الذي هو دائماً معك في كل صلاة، وأما أهل القطبين فلا يمرون بك ولا في العمر مرة، فلماذا تتشاغل بهم؟

    1.   

    معنى إضاعة المال وبيان كراهة ذلك

    قال: (وإضاعة المال): والإضاعة على أنواع:

    إضاعة معصية، كما يفعل بعض التجار اليوم حينما يضيعون أموالهم، قال الله: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] كالسفر للفاحشة إلى الخارج، وشرب الخمر، ودور الدعارة، والربا، ومحاربة الدين، والعهر، والخمارات، والبارات،والغناء الماجن، والمجلات الخليعة، ودعم المؤسسات الشريرة المحاربة للدين، ودعم العلمنة في الساحة، ومحاربة الإسلام بهذا المال الذي سيكون عليهم حسرة ثم يغلبون.

    ومن إضاعته أيضاً: الإسراف فيه، وهذا يوجد حتى عند كثير من الملتزمين، فإن بعضهم عنده ثلاثون ثوباً، وفي كل صلاة يلبس ثوباً، وهذا من إضاعة المال، وعليه أن يقتصد، فإن الدين وسط، والإسلام لا يعرف الدروشة، فإن بعضهم يجعل الزهد في الثوب، وعنده عمارات وقصور، لكن ثوبه بخمسة وثلاثين ريالاً حتى يظهر أنه زاهد، أتزهد في الثوب ولا تزهد في الأراضي والعقارات والبنايات والمعاقل؟ هذا ليس بصحيح.

    وكذلك الإسلام لا يؤيد الترفه كثيراً؛ فقد جاء في الحديث الحسن: (البذاذة من الإيمان) فالترفه منتشر، حتى أن بعض الشباب المعرض يشتري كبك -نوع من أزرار الملابس- بخمسمائة ريال، وحذاء بستمائة ريال، وعليه من الملابس ما يعادل أربعة أو خمسة آلاف وهو لا يساوي اثنا عشر ريالاً، وملابسه بستة آلاف، يقول أبو الفتح:

    يا متعب الجسم كَمْ تسعى لراحته     أتعبت جسمك فيما فيه خسران

    أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

    استكمال الفضائل بالقرآن، والاستقامة، والتوبة النصوح، والصدق مع الله، ومجالسة الصالحين، وحمل رسالة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والصدق مع النفس ومع الله عز وجل وأن تكون عبداً لله تبيع نفسك من الله ثم لا ترجع في البيع أبداً: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

    وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755945228