إسلام ويب

نشرة الأخبارللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يتناول هذا الدرس بعض الأحداث العظيمة التي تهم الإسلام بشكل عام وتهم الصحوة بشكل خاص, ومن هذه الأخبار:

    صحوة في كل مكان.

    توبة المغنين.

    انهيار الشيوعية وانتصار الإسلام.

    ثم ختم الأخبار بلقاءات مع فضيلة الشيخ: ابن باز , والشيخ: الألباني, والشيخ: ابن عثيمين , ولم تخل هذه اللقاءات من الدروس والعبر المفيدة لطلاب العلم خصوصاً وللمسلمين عموماً.

    1.   

    سبب طرح موضوع نشرة الأخبار

    الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثراً.

    أمَّا بَعْد: عنوان هذا اللقاء (نشرة الأخبار) وهو عنوان عصري، والسلف لهم عناوين أخرى، وهي أنه كان من منهج القرآن أن يُسأل القادم عن خبره، وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل به نازل سأله عن اسمه ونسبه وعن قبيلته، فآثرت هذا العنوان، وسوف أذكر الموجز، ثم التفصيل إن شاء الله، ولعله أن يكون هناك فائدة، ولعل من قوالب الحق التي يعرض فيها ما ينفع، كلما تعددت الأساليب.

    دخلت الملائكة على إبراهيم عليه السلام، وكان من أكرم الناس، وله روغتان في القرآن: روغة كرم، وروغة شجاعة فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93] هذا في الأصنام فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] وراغ هنا، أي: ذهب بخفية، مثلما يذهب الكريم، فإنه إذا دخل الضيف بيت الكريم، يقوم الكريم فيروغ بخفية ويأخذ السكين بخفية، ويذبح الخروف بخفية.

    وأما البخيل: فيتحنحن ويتمنمن، ويلقي محاضرات، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويَسنُّ شفرته أمام الضيف، ويصلي ركعتي الاستخارة، ويسأل الضيف هل أنت مقيم فنجعله عشاء، أو أنت مسافر فنجعله غداء، وما تأتي هذه الوجبة حتى يمل الضيف المجلس، ويسأل الله عز وجل أن يفرج عليه هذه الكربة.

    إبراهيم لما دخلت عليه الملائكة قام سريعاً -وانظر إلى الكرم- وذهب عليه السلام إلى عجل -ولم يقل خروفاً- كان العجل سميناً وهذا لا يفعله إلا كرماء الناس، وأيضاً مع أن الضيوف كانوا ملكين أو ثلاثة ومع ذلك يذبح عجلاً سميناً، قال أهل العلم: إذا وجد من يأكل الطعام فلا عليك ولو كثرت. ولفظ القرآن، قال: (سمين) وليس بهزيل، وفي سورة هود: (حنيذ) وقد جمع بينهما أهل العلم، قالوا: عجل سمين وحنذه؛ لأن الحنيذ يأكل منه الضيف أكثر ومن جرب عرف، والتجربة أكبر برهان فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:27] ومن حكمة الله عز وجل وقدرته أن خلق الملائكة من نور لا يأكلون الطعام، فلما قدمه إليهم, قال ابن القيم: فيه أدب، فمن الأدب أن تقدم الطعام إلى الضيف، لا تقدم الضيف إلى الطعام، ولذلك نحن ابتعدنا عن الأدب الإسلامي الأصيل، يوم جعلنا الضيف يقوم إلى السفرة، وما نجعل السفرة تقدم إلى الضيف، هذا هو الأقرب لكن لا غضاضة، والمسألة فيها سعة.

    (فقربه) ولم يقل: قربهم إليه، وإنما قرب الطعام إليهم, وفي ذلك راحة للضيف لأنه جالس والطعام يأتي إليه، وقد كان الأولون يفعلون ذلك، حتى أتت المدنية فجعلوا سفرة الطعام في مكان، والمجلس في مكان, والغسالة في مكان، والنشافة في مكان، فلما قربه إليهم نظر إليهم، قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] وهذا من الأدب، فإنه لم يقل ما لكم لم تأكلوا! نحن تعبنا وسلخنا وذبحنا، وإنما قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] فقالوا: نحن لا نأكل، قال: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الحجر:57] سألهم: ما هو الخبر؟ وهذا هدي الإسلام, وهو أدب عربي قح، والعربي كان إذا نزل به الضيف سأله عن أحواله وأخباره.

    وعند الترمذي بسند فيه ضعف: (إذا عرف أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه وعن نسبه، فإنه واصل المودة) وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13] فالأصل أن تسأل الضيف الذي نزل عندك، ممن أنت؟ ومن أي قبيلة؟ -وليس هذا من العنصرية- هل جاءكم مطر؟ كيف أهلكم؟ لأنك إذا سكرت شفتيك خاف منك الضيف، والبخيل لا يتحدث مع الضيف، وإنما يسارقه النظر، ويعد لقمات الضيف، وينظر هل كبر أم صغر، ويكاد يبتلعه، حتى ينطوي الضيف وينقبض.

    قال العربي الأزدي والأزد جدكم:

    أحادث ضيفي قبل إنزال رحله     ويخصب عندي والمكان جديب

    وما الخصب للأضياف أن يُكْثَر القِرى      ولكنما وجه الكريم خصيب

    فقبلما يضع السرج من على الحمار، أو القتم من على الجمل، فيبدأ صاحب البيت بالترحيب بالضيف وهو لا يزال في الحوش والجرين وهذا من الكرم، قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - لوفد عبد القيس لما سألهم: ( من القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا نداما).

    فالسنة إذا قدم إنسان بعد أيام أو أسابيع أن يتحدث لإخوانه وأحبابه بأخباره، وأنا لا أعلم أحباباً أحب إلينا منكم -يشهد الله تعالى- في الله عز وجل؛ لأنا نعلم أنكم صفوة المجتمع، وأنتم جلستم في بيت الله وتركتم أعمالكم وأتيتم تسمعون ذكر الله، فحفت بكم الملائكة، وتنزلت عليكم الرحمة، وغشيتكم السكينة، وذكركم الله فيمن عنده، والله يقول لكم في آخر المجلس: (انصرفوا مغفوراً لكم؛ فقد أرضيتموني ورضيت عنكم -فنسأل الله الكريم من فضله- فتقول الملائكة: يا رب! عبدك فلان فيهم ما جلس إلا هكذا -أي: ليس له غرض في الجلوس- قال: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

    ولذلك كان علماء السلف لا يدعون مجالس الذكر مع أنهم كانوا أعلم من المتكلم وأفقه، ومع ذلك يريدون دعوة مستجابة، أو مغفرة من الحي القيوم.

    1.   

    موجز عناوين الأخبار

    نشرة الأخبار هذه فيها مسائل:

    الخبر الأول: صحوة في كل مكان: ففي هذين الأسبوعين -في الربيع- أتيت بأخبار.

    الصحوة في كل مكان.

    الجزء الثاني: توبة المغنيين في بلادنا، بل جمعٌ من المغنيين, سوف أخبركم بأسمائهم تابوا في أشهر معدودة من الغناء والفن، وكسروا الأعواد، وأقبلوا يتوضئون ويسجدون ويبكون في المساجد.

    الخبر الثالث: انهيار الشيوعية وانتصار الإسلام.

    الخبر الرابع: سلام على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وشيء من سيرته؛ لأني لقيته في مكة في هذا الربيع.

    الخبر الخامس: لقاء حار بفضيلة المحدث الكبير محمد ناصر الدين الألباني، فقد جلست معه مع بعض طلبة العلم ما يقارب ثلاث ساعات في أسئلة سوف أعرضها لكم وأعرض جوابه.

    الخبر السادس: جلسة مع الشيخ الفاضل العلامة محمد الصالح بن عثيمين، وسوف أقص عليكم من خبره: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111].

    ثم ننتهي ببعض الأمور، والله الذي يفتح ويهدي سواء السبيل، وعسى الله أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم.

    كان هذا هو الموجز وإليكم تفاصيل الأنباء.

    1.   

    تفاصيل الأخبار

    صحوة في كل مكان

    الخبر الأول: أما صحوة في كل مكان فحدث ولا حرج: (في كل أرض بنو سعد) والله يريد لهذه الأمة أن تتجه إليه، ويريد أن يكون المستقبل لها فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد:17] محاضرات في مكة وفي جدة وفي الباحة وبـالجرشي والمخواة، لكن تمتلئ المساجد والأرصفة والطرقات من الشباب والنساء والكبار، يريدون ما عند الله، شباب أعلنوا توجههم إلى الله.

    والله إن الإنسان يقف أحياناً فتدمع عيناه مما يرى من هذا الإقبال العظيم، سبحانك يا رب! قبل سنوات امتلأت المقاهي، وأعرض الناس عن المساجد، واليوم لا يجد كثيرٌ من الناس أماكن للجلوس لحضور المحاضرات أو لرؤية المحاضر، أو لسماع المحاضرة، زحام رهيب، وإقبال على الطاعة، وصحوة في كل مكان، لقيت طلبة بعضهم جاء من فلسطين وقد جاءوا من سنغافورة، وقالوا: هناك صحوة، وبعضهم في البرازيل، وأتت رسالة من أستراليا قالوا: الأشرطة التي تلقى هنا تصل إلينا بعض ثلاثة أشهر.

    اتجهت الدنيا إلى الواحد الأحد؛ لأن الله يريد أن يسعد الدنيا؛ ولأنه لطيف بالخليقة، ومن لطفه أن يرد الخليقة للإسلام، ولذلك يقول سيد قطب قبل ثلاثين أو أربعين سنة: المستقبل لهذا الدين، ونقول له: يا أستاذ رحمك الله! لو رأيت الصحوة والعودة، لعلمت أن المستقبل لهذا الدين، ولي عودة على هذه القضية.

    توبة المغنين

    أما توبة المغنيين في بلادنا، فقبل أسبوع كانت محاضرة وهي موجودة في تسجيلات أبها بعنوان: "رسالة إلى المغنيين والمغنيات" وقد حضرها جمع هائل من المسلمين، وحضرها أيضاً اثنان من المغنين الذين تابوا، وأتيت بقصاصات من جريدة الجزيرة وعكاظ، وبعض الصحف التي تحدثت عن سبعة تابوا إلى الله وعادوا في أشهر معدودة.

    حضر المحاضرة المغني الشهير، والذي أصبح عابداً داعية (مسفر القثامي) و(يحيى أبو الكرم) صاحب الصوت الجميل، وسوف تسمعون صوته في آخر الشريط الثاني من المحاضرة.

    ثم قام بعد المحاضرة ليتكلم عن مرحلتين ويومين وليلتين في حياته، مرحلة ما قبل الهداية، ومرحلة ما بعد الهداية، مرحلة يوم كان يأخذ العود، ويعزف على الموسيقى، وكان عنده فرقة، وكان عنده ناي وطبل ودف، ووتر وسهر، وضياع وكأس وسيجارة، وجمهور ولغو ولهو: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:70].

    ومرحلة يوم هداه الله، قام ووجهه قد أشرق بالنور, وعليه لحية جميلة من لحى أهل السنة والجماعة، وثيابه من ثياب أهل السنة، وعنده سواك، وقام أمام الألوف من الناس، يقول: أنا أبو الكرم، قد كنت مغنياً وأصبحت عابداً لله، ثم اندفع يبكي، وتحدث عن روعة الإيمان ونوره، وعن إشراق القرآن، وسوف تسمعون كلامه، فسأله الناس أن يقرأ بصوته الجميل الذي كان يغني به إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] فقام واندفع واختار بصوته الجميل سورة (ق) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] ما كأني سمعت في حياتي صوتاً أجمل من صوته، فماذا فعل الجمهور؟ انفجر الناس يبكون، حتى تراد المسجد بالبكاء، ولعلكم تسمعونه في الشريط، حتى صوروا لنا يوم القيامة، وكان هو يؤدي القرآن تأدية بالغة مؤثرة، وتنسكب دموعه مع القرآن؛ لأنه عاش القرآن.

    وفي المحاضرة تاب سبعة منهم: (محمد البيتي) غفر الله ذنبه، وحمد سعيه، أعلن أنه كسر العود، وعاد وترك الربابة والموسيقى، وأصبح من حَمَامات المسجد، وأنه لا يريد أن ينشأ ابنه على الغناء ولا على الوتر، ولا على الموسيقى، وقال: تفكرت في الغناء فإذا هو شهرة، ثم ماذا؟ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].

    و(مشاري) شرى نفسه من الله، كان مغنياً ثم عاد إلى الواحد الأحد، وهو مشهور، وله أكثر من خمسين أغنية، قد نفضت العالم العربي، وعاد وتركها وطلب من القائمين على الإعلام أن يمسحوها وأن يدمروها؛ لأنه أسس بنيانه على تقوى من الله أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109] عاد إلى الله، اسمه مشاري اشترى نفسه من الله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].

    ومن العائدين -أيضاً- عودة العودة عاد إلى الله، وليس بغريب وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] كان له جمهور، ولكنه طلب أن تمحى أشرطته المرئية والمسموعة، وقال: تبت إلى الله، وحياتي لا يمكن أن تكون حياة غناء، حياتي أغلى وأرفع, وسوف أكون من اليوم عبداً للواحد الأحد.

    و(بالخياط) تاب، وغيرهم كثير ولعلكم تسمعون بأسمائهم، والعجيب أننا سمعنا أن (مايكل جاكسون) قد تاب أيضاً وسواء تاب أو لم يتب المهم أن قوافل وأفواجاً أعلنوا توبتهم, وسوف تسمعون الإعلانات قريباً في الصحف عن الذين تركوا الغناء وأقبلوا إلى المساجد واهتدوا بهدى الله.

    لأن الغناء يحطم الإرادات، ويمحق العزائم، ويطفئ نور الإيمان، ويطارد القرآن، ويحارب الفضيلة، وينشر الرذيلة، ويبني للفحشاء صروحاً، ونقل في نفس الشريط الذي لعلكم سوف تسمعونه فتوى لما يقارب عشرة من أهل العلم، من المتقدمين والمتأخرين كـابن تيمية وابن القيم وابن باز والألباني، وهي مقروءة وسوف تسمعون فقرة عن بعض الأغاني التي أخذتها من بعض القصاصات والصحف، والتي بعضها كفر، وبعضها فسق, وبعضها معصية.

    فبعضها يعارض القضاء والقدر، وبعضها يستهزئ بالإسلام، وبعضها يقسم بغير الله، وبعضها يدعو إلى الفاحشة ونبذ الرذيلة، وإدخال الرذيلة -والعياذ بالله- على كل حال هذا من الأخبار وهم أبناؤكم، وأقاربكم، وإخوانكم، دفعنا إلى إخراج ذاك الشريط النصح ثم البيان ثم الرحمة بهم، وقاد عادوا إلى الله.

    شباب الحق للإسلام عودوا     فأنتم فجره وبكم يسود

    وأنتم سر نهضته قديماً     وأنتم فجره الباهي الجديد

    الخطوط السعودية تشهد صحوة، جلسنا معهم في كل مطار، فإذا هم يهتدون، وإذا الوجوه التي تراها قبل أسبوع تغيرت وأصبح النور يتلألأ فيها: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35].. أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    ودخلنا الجيش فرأينا على مستوى القيادات والضباط والجنود عودة صادقة، وأصبحوا يسألون عن مسائل وجزئيات في سنة محمد عليه الصلاة والسلام، والأمن العام، والدوريات، والمرور، والتجار، والفلاحين فلله الحمد أولاً وأخيراً, اللهم لا تخذل محمداً في أمته.

    بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا     من العناية ركناً غير منهدم

    لما دعا الله داعينا لطاعته     بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم

    تجلس مع رجل مصري فتسأله فيخبرك أن عندهم صحوة وعودة ورجوع، واليمني يخبرك ماذا يفعل الدعاة؟ وماذا يفعل الشباب؟ وكيف ينتشر الإسلام، وهكذا الإماراتي والكويتي والسوداني والعراقي وكل شعب يعلن أن المستقبل لهذا الدين, فلله الحمد والشكر.

    انهيار الشيوعية وانتصار الإسلام

    الخبر الثالث: انهيار الشيوعية في العالم وانتصار الإسلام، اقرءوا الصحف، أول ما يفاجئك في الصباح أن ولاية انقسمت من روسيا وأعلنت التمرد، وخرجت بمظاهرات عارمة تحطم دبابات الملاعين الملاحدة، أليس في ذلك انتصار للإسلام، ومن هذه الدول: رومانيا وتشيكوسلوفاكيا وأذربيجان وأوزباكستان وبخارى، أراضينا تعود إلينا، تعلن الإسلام، بخارى قطعة منا، عشنا معها وعاشت معنا، كتبنا بدمائنا في بخارى، وفتحناها بلا إله إلا الله، وخطبنا على منابرها، ثم تركنا فيها شهداءنا ودماءنا، ودموعنا وأشلاءنا ثم عدنا.

    البخاري صاحب الصحيح من هناك، وقبره هناك، فلماذا تصبح بخارى شيوعية لا بد أن تعود إلى الإسلام، فها هي الآن تعود إلى الإسلامk موسكو وهي العاصمة افتتح فيها مركز إسلامي والمؤذنون يؤذنون كل يوم خمس مرات في وسطها، كلما حان الوقت سمعت المكرفون كما قال الثقة: يدوي وسط العاصمة الملحدة، عاصمة الأنذال الأرذال الملاحدة، يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

    بلادي كل أرض ضج فيها     دعاء الحق يدعوها حنينا

    وأينما ذكر اسم الله في بلد     عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

    أيضاً (سمرقند) تعود إلى الله، ومنها السمرقندي، و(طشقند) منها الطاشقندي، و(ترمذ) التي منها الترمذي، وهي أرض سيبويه تعود إلى الإسلام، وأرض الكسائي وأرض النسائي، وأرض المؤرخين ابن قتيبة، وأرض الأئمة وأرض الزعماء تعود إلى الواحد الأحد، وليس بعجيب فهي بشرى.

    وأما الشيوعية فقد كتبت عليها اللعنة كل يوم تنسحق دولة ويتحطم كيان.

    لما رأت أختها بالأمس قد خربت     كان الخراب لها أعدى من الجرب

    هنا تضعضع العالم الغربي, واهتز وشعر بالخطر فعلاً، وبدأت التحليلات الغربية تختلف، فطائفة من الغربيين أبدوا الارتياح الكامل لهذه الخطوات الديمقراطية وتفاءلوا بمستقبل زاهٍ للإنسانية، كما نسمع الآن ويردد كثيراً، وأن الإنسانية والعالم الإنساني مقبل على مرحلة انفراج، وأن النظم الشمولية ستنتهي، وأن الديكتاتوريات ستسقط، وأن... وأن وغير ذلك.

    وقالوا: إن هذا هو نتيجة ثورة الإنسانية، وتفاعل الحرية في قلوب العالم أجمع، هذه كانت تحليلات، وتحليلات أخرى تقول: لا. الاتحاد السوفييتي دائماً يلدغ، الشيوعية لم يتنازل عنها، وإنما هذه حركة التفاف، وهي عملية مخادعة، واختلفت التحليلات، والذي يتتبع العملية يقول: لا يمكن أن تكون هذه إلا عملية مقصودة، كيف السقوط بهذه الدقة، ثم لماذا يبرز في كل دولة يسقط فيها الشيوعيون، يبرز في محله الشيوعيون الناقمون، (الشيوعيون الإصلاحيون) كما يسمون؟!

    فكأن تروتسكي الذي قتله استالين عام (1940م) كأنه أعيد من جديد، أو غيره الدولية الثانية والدولية الثالثة والدولية الرابعة مجموعات الأحزاب الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي، يرون -أيضاً- الارتياح الذي تُقابل به الأحزاب الشيوعية في بلادها هذا الحدث فيقول: لا بد أن هذا أمرٌ مدبر بليل، ووراءه ما وراءه من خطر على أوروبا.

    على كل حال وصلت بعض التحليلات إلى القول: إن جرباتشوف دسيسة أمريكية، أي رُبي على عين أمريكا، ووضع ليهدم الشيوعية، وليأتي في مؤتمر مالطا ويقول لـبوش: نحن لن نتقاسم العالم معكم، والبعض الآخر يقول: بالعكس, إن جرباتشوف هو الذي سيحتوي العالم ويريد أن يحتوي العالم عن طريق هذا الخداع.

    هذه تحليلات مختلفة، لكن أقول: نحن نقتصر على الأمور الظاهرة، ثم لنا الحق جميعاً أن نستنتج منها ما يمكن أن نستنتجه.

    لقاء مع فضيلة الشيخ: ابن باز

    لقاءات مع أهل العلم: السلام على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: ربما قال بعضكم: الخبر ليس بجديد؛ لأننا كلنا نعرف الشيخ عبد العزيز بن باز، وماذا سوف تخبرنا بالعَلَم؟ والعَلَم لا يُعَرَّف.

    بينما يذكرنني أبصرنني     عند قيد الميل يسعى بي الأغر

    قال تعرفن الفتى قلن نعم      قد عرفناه وهل يخفى القمر

    الشيخ عبد العزيز مشهور، لكن في سيرته جزئيات لا يعرفها الناس.

    - ترجمة ذاتية للشيخ عبد العزيز بن باز:

    المقابل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أيها الإخوة! نحن الآن في حضرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، في لقاء نستطيع أن نسميه: لقاء السيرة الذاتية للشيخ عبد العزيز بن باز مع عرض بعض الأسئلة حول قضية العلم والعلماء والدعوة والدعاء.

    وفي البداية: نرحب بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ونشكر له هذا الوقت الذي اقتطعه من وقته الثمين، فمرحباً بك شيخنا عبد العزيز.

    الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

    المقابل: نحن -شيخنا الفاضل- سنبدأ هذه الأسئلة بما يشبه الترجمة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فنرجو من الشيخ أن يقدم نفسه للأخ المستمع.

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أمَّا بَعْد:

    فقد كتبت في هذا شيئاً ليعرف القراء حقيقة ترجمتي مُوَصَّلَةً, وهي موجودة عند كثير من الإخوان، وهي أيضاً موجودة في مجلدي الأول من الفتاوى والمقالات التي تم جمعها وطبعها أخيراً، وقد صدر الجزء الأول منها والحمد لله، ومن ذلك أولاً: أني ولدت في الثاني عشر من ذي الحجة عام 1330هـ، ونشأت والحمد لله يتيماً في حضانة والدتي رحمة الله عليها، وكان والدي قد توفي في ذي القعدة من عام 33هـ، وأنا في آواخر السنة الثالثة من عمري، ودرست القرآن وحفظته قبل البلوغ، وكانت دراستي على الشيخ الكريم رحمة الله عليه عبد الله بن فريد، وكانت له مدرسة في شمال مسجد الشيخ عبد الله رحمه الله، المسمى أخيراً مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه في بلد الرياض.

    ثم شغلت بطلب العلم على المشايخ في الرياض، وأول من قرأت عليه شيخنا العلامة قاضي الرياض الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم جميعاً، وكان ذلك في حدود السنة الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين إلى أن تعينت قاضياً في الخرج في عام 1357هـ.

    والشيخ وضع له القبول في الأرض، والقبول ليس بيد أحد من الناس بل هو بيد الواحد الأحد، فإنه إذا أحب عبداً جعل الناس يحبونه، وإذا أبغض عبداً جعل القلوب تبغضه، فالحب هذا لا يصطنع، ولا يأتي بالحديد والسكاكين ولا بالهراوات، بل الحب موهبة وعطية من الله عز وجل.

    وفي الصحيح يقول البخاري: باب المقة من الله، أي: الحب من الله، {إن الله إذا أحب عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض, وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغض في الأرض} وفي بعض الروايات: {حتى يشربون للمحبوب مع الماء البارد حبه، ويشربون للمبغوض مع الماء البارد بغضه}.

    ولذلك تجد بعض الناس بغضتهم القلوب بأعمالهم في الخفاء، وبعض الناس أحبتهم القلوب ولو أنهم لم يقدموا للناس شيئاً، ولكن بأعمالهم في الخفاء.

    الشيخ عبد العزيز جمع الله له أموراً منها: التقوى، رجل أول ما فيه أنه طلب العلم لوجه الله، هذا ما نحسبه والله حسيبه، ثم فقد البصر، ولكن لم يفقد البصيرة، عمي وعمره تسع عشرة سنة.

    ثم يقول: وقرأت على الشيخ صالح ما جرت العادة أن يقرأه الطالب في ذاك الزمان من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه: كـالثلاثة الأصول، وكتاب التوحيد وكشف الشبهات، وقرأت عليه أيضاً في عمدة الحديث للشيخ عبد الغني المقدسي، ولا أذكر الآن هل قرأت عليه العقيدة الواسطية أم لا.

    ثم قرأت على فضيلة شيخنا العلامة الكبير الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ولازمته كثيراً نحواً من عشر سنين أو أكثر، وقرأت عليه جميع العلوم الدينية التي يقرأها الطلبة في زماني في ذلك الوقت في الفقه والحديث والنحو, وسمعت عليه كتباً كثيرة من الكتب الستة ومن غيرها رحمة الله عليه، وكانت مجالسه في المسجد وفي بيته عامرة بالعلم -رحمه الله- وكان يجلس بعد صلاة الفجر في المسجد إلى طلوع الشمس يقرأ عليه الإخوان في بلوغ المرام، وفي النحو، وفي زاد المستقنع مختصر المقنع وفي كتاب التوحيد بعض الأحيان، ثم يذهب رحمة الله عليه ويجلس في بيته إلى قرب الضحى، فيقرأ عليه في المختصرات والمطولات، إلى أن يشتد الضحى، ثم يجلس بعد الظهر فُيقرأ عليه في المختصرات والمطولات وأنا من جملة من يحضر ويقرأ ويشارك في استماع الدروس، وهكذا من بعد العصر إلى قرب الغروب، وكان يجلس بعد المغرب ويقرأ عليه الطلبة في الرحبية في علم الفرائض، وكنت ممن درس عليه الرحبية مرات رحمه الله، وأخذت عنه علم المواريث أنا وجملة من المشايخ الذين تولوا القضاء وغيرهم رحمة الله عليهم، وبارك الله في الأحياء منهم.

    وكانت مجالسه عامرة بالعلم، والتوجيه إلى الخير، والنصح لله ولعباده، والإجابة عن أسئلة الطلبة، مع العناية بالدليل والترجيح، فجزاه الله عنا وعن العلم وأهله وعن جميع المسلمين أفضل الجزاء، وبارك في ذريته وجعلهم صالحين موفقين.

    وقرأت عليه أيضاً في أصول الفقه، وفي مصطلح الحديث، وقرأت عليه جملة من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من كتاب التوحيد وثلاثة الأصول والعقيدة الواسطية وكشف الشبهات وأصول الإيمان وفضل الإسلام، رحمه الله، وسمعت عليه كثيراً، ومن مؤلفات الشيخ أيضاً رحمه الله مثل مختصر السيرة النبوية، وسمعت عليه أيضاً الكتب الستة بقراءات كثير من الطلبة، وسمعت عليه جملة من مدارج السالكين للعلامة ابن القيم رحمه الله.

    العجيب أنهم يقولون: إن الشيخ لا يعرف يكتب اسمه، مع هذا العلم الهائل من القرآن وكتب الحديث وكتب العلم التي في رأسه، كلها مناولة، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19].

    بعض الناس عيونه كالكشافات ولكن قلبه مظلم لا يبصر شيئاً، له عيون يرى ويبصر لكن يبصر الفاحشة والمعصية والجريمة، وأما النور فلا يبصره، وبعض الناس لا يملك بصراً ولكن يملك بصيرة.

    فالشيخ عبد العزيز يملك بصيرة وقلباً لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    ابن أم مكتوم أعمى، والله يسميه أعمى في القرآن، يقول: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] فيقول سيد قطب: لماذا يعبس في وجهه؟ لعل هذا الأعمى أن يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء -الوحي- وبالفعل كان ابن أم مكتوم الفقير المسكين أعمى، ولكن استقبل نور السماء.

    يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول: {يا رسول الله! أنا نائي الدار (بعيد الدار) وليس قائدٌ يلائمني، فهل تجد لي رخصة في الصلاة في البيت؟ فرخص له، فلما ولى دعاه -والحديث صحيح- قال: أتسمع (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) قال: نعم. قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} فكان يأتي الأعمى إلى المسجد في البرد أو في السيل أو في الحر أو في الظلام بلا قائد -يتلمس في الظلمات ليجعل الله له نوراً يوم ينقطع النور من المجرمين- حتى يصل إلى المسجد. فقل لي بالله: أين الشباب الذين فقدوا المساجد مع أن بيته بجوار المسجد ولا يعرف طريق المسجد، ولا يهتدي إليه؟! منحه الله قوة، وشباباً، ومالاً، وصحة، وسيارة، وكل ما تمنى، ثم يعرض عن منهج الله.

    من خان حي على الفلاح      خان حي على الكفاح

    فهذا ابن أم مكتوم الأعمى لما سمع الجهاد.

    قال: [[لبسوني السلاح، قالوا: أعذرك الله أنت أعمى، قال: والله لا أقعد, والله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41]]] فنفر وركز الراية في القادسية وهو أعمى فقتل مكانه فأصبح شهيداً، أليس هذا نور؟ أليس هو منارة تتلقى نور السماء.

    الشيخ عبد العزيز عمي مبكراً، لكن بدأ يلتمس النور من الواحد الأحد، ابن عباس عمي في السبعين من عمره، عالم الأمة هذا العجيب الفطحل الذي يمور علمه مثل البحر بل أكثر, فالبحر الذي إذا طم وعم أقل من علم ابن عباس , كانت العلوم تتفجر منه، يجلس بعد الفجر وهو أعمى في آخر عمره، فيسأله أهل القرآن إلى ارتفاع الشمس، ثم يأتي أهل الحديث فيسألونه حتى يقرب الضحى، ثم يأتي أهل التفسير فيسألون إلى منتصف الضحى، ثم يأتي أهل اللغة، ثم يأتي أهل الشعر، يتفجر كالبحر، عمي فقال بيتين جميلين، يقول:

    إن يأخذ الله من عيني نورهما     ففي فؤادي وقلبي منهما نور

    قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوجٍ     وفي فمي صارم كالسيف مشهور

    القلب حي، والعقل حي، ومعه نور المسجد ونور القرآن، وإذا ذهبت العيون فعلى العيون السلام، يقول الله عز وجل في صحيح البخاري وهو حديث قدسي: {إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} والحبيبتان: العينان، لكن بعض الناس عنده حبيبتان ولكن ليس عنده نور: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    الشيخ عبد العزيز بن باز متواضع، تأخذه الطفلة فيقف معها، وهذه هي أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، يوقفه الرجل في الشمس على متاعب الشيخ وعمره الآن ثمانون عاماً, ويقف وهو في باب السيارة رجل في السيارة ورجل في الأرض ويمسكه الرجل ويقص عليه قصته، والشيخ يصغي، وهو مرهق جداً من الأعمال والأشغال، أمور الأمة الإسلامية تدار عليه، فيصغي حتى يكون الرجل هو الذي يترك الشيخ فيركب الشيخ.

    بعض الشباب يقصون على الشيخ قصصاً فما يرد الشيخ إلا بالدموع، يتأثر بأحوال العالم، يخبرونه عن أخبار أفغانستان والفلبين فيبكي.

    وقته معمور بذكر الله عز وجل، في الصباح يتنفل ثم يلقي دروساً في الغالب، ثم يذهب إلى عمله فيعود في الثانية ظهراً، وهو مضياف، هو حاتمي العصر، ولن تجد بيته يخلو من الضيوف، وهذه شهادة أقولها للتاريخ، فهو من أكرم الناس، فإفطاره وغداؤه وعشاؤه مضيف وعلمه وماله وجاهه مبذول، وشفاعته للمسلمين فهو كما قال الأول:

    هو البحر من أي النواحي أتيته     فدرته المعروف والجود ساحله

    ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز: الصبر، فإنه مثل الجمل وقد رأيته كثيراً في المحاضرة، لا يتحرك في الدرس أبداً، يبقى كأنه صخرة في مكانه، فإذا رد بشته أو تنحنح عرف الطلاب أنه قد انتهى الدرس.

    ويجلس متأدباً لا يقاطع المتكلم مهما تكلم، فإذا انتهى المتكلم ولو من ساعتين، قام فعقب بأدب، ولذلك أحبته الطوائف والجماعات، والناس والمشارق، لا يجرح أبداً ولا يعرف الجرح، لسانه كالعسل، وهذه مواهب يجمعها الله لمن يشاء، وهذا تسديد من الله عز وجل، ومن ميزات الشيخ عبد العزيز بن باز: أنه محدث يعرف الأثر.

    العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة هم أولوا العرفان

    دائماً قال الله وقال رسوله، واستمع إليه في الفتوى، استمع إليه في (نور على الدرب) إذا أتى يفتي يقول: رواه أبو داود بسند جيد.. رواه مسلم.. رواه البخاري.. الحديث في الترمذي.. رواه الحاكم حفظ ونور، وهو يقيد المسائل بالدليل من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا عارض كلام رجل الدليل ترك كلام أي رجل مهما كان لكلام محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك فتواه كما قال الأول:

    إذا قالت حذامِ فصدقوها     فإن القول ما قالت حذامِ

    الآن العجوز تقول لابنها: لو تتعلم حتى تصبح مثل ابن باز.

    رجال في أفريقيا أخبرنا بعض الشباب عنهم، بل حتى في أمريكا، إذا قلت لبعض الشباب: أفتى فيها ابن باز بكذا وكذا سكت، انتهى! بل بعض الجمعيات الإسلامية والمؤتمرات تُعقد فإذا عرضت فتوى الشيخ صوتوا عليها بالأغلبية، وهذا القبول من الواحد الأحد.

    ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز: سلامة الصدر، يقول من يقرب منه ومن يعرفه من طلابه والمشايخ والعلماء: ما رأينا أسلم صدراً للمسلمين منه، لا يحمل حقداً ولا حسداً ولا غشاً، ولا غلاً لأحد، وهذه هي أخلاق العلماء، ينام وليس في قلبه شيء، يخبره بعض الناس ببعض ما يقال عنه، فيقول: غفر الله لهم، اللهم اعف عنهم، سامحهم الله، وهل هذه إلا الحياة.

    يقول أحد الصحابة: كنا جلوساً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فخرج علينا رجل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذاك من أهل الجنة ثلاثة أيام، قال بعض الصحابة: فذهبت معه إلى بيته فلما نمت عنده ثلاث ليال، وإذا صلاته كصلاتنا, وصيامه كصيامنا, وذكره كذكرنا، فسألته: ما بالك؟ فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك من أهل الجنة ثلاثاً، قال: لست بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن والله ما بت ليلة من الليالي وفي قلبي غشٌ أو حقد أو غل أو حسد على مسلم, قال ذاك الصحابي: تلك التي ما استطعنا لها، أو ما نطيقها} فهذه من مميزات هذا العالم.

    وأنا أذكر بعض أبيات قيلت فيه، منها ما قاله عالم المغرب تقي الدين الهلالي الذي توفي قبل سنة رحمه الله وهو محدث كبير، يقول:

    خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا     على آل باز إنهم بالثناء وأحرى

    وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه     رأى فيه المشقة والعسرى

    وهذا صحيح فإن الشيخ لا يأتي عليه آخر الشهر إلا وهو مديون، هذا معلوم من سيرته واسألوا الكتب التي تكلمت عنه، مثل: (علماء ومفكرين عرفتهم) وقال المجذوب في قصيدة للشيخ عبد العزيز بن باز، يقول:

    روى عنك أهل الفضل كل فضيلة     فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم

    فلما تلاقينا وجدناك فوق ما     سمعنا به في العلم والأدب الجم

    فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا     يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي

    اسم الشيخ ابن باز، والباز هو الصقر، يقول: الباز إذا صاد أدمى لكن أنت تصيد القلوب ولا تدميها.

    وقلت في قصيدة بعض الأبيات اسمها البازية، لأنها مذكورة ولكن أذكر بعضها:

    قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي     فقمت أنشد أشواقي وألطافي

    لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا     فهو الغفور لزلاتي وإسرافي

    عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم     لأنها ذكرتني سير أسلافي

    يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن     أجرى الدموع كمثل الوابل السافي

    وفي آخرها:

    يا شيخ يكفيك أن الناس قد شُغلوا      بالمغريات وأنت الثابت الوافي

    أغراهم المال والدنيا تجاذبهم     ما بين منتعل منهم ومن حافي

    وفيها:

    سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها     في ذمة الله فهو الحافظ الكافي

    من ميزة الشيخ عبد العزيز بن باز: كثرة الذكر، يكلمك بالهاتف -وجرب أنت معه- وهو يسبح، يستمع المكالمة وهو يذكر الواحد الأحد.

    ودعا داعٍ إذ نحن بـالخيف منمنى      فهيَّج أشواق الفؤاد وما يدري

    دعا باسم ليلى غيرها فكأنما     أطار بليلى طائراً كان في صدري

    الشيخ له وردان في اليوم، بعد صلاة الفجر -أقول لكم من باب الاقتداء لعل الله أن ينفع بذلك- فبعد الفجر بعد أن ينتهي من التسبيحات، يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، لا يتركها مهما كان، وبعد العصر كذلك, ولا يتكلم حتى ينهيها، والشيخ يقوم قبل الفجر ليستأنف جلسته التي تعودها مع السحر مع الواحد الأحد يوم يتنزل في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟}.

    ولذلك أنا رأيت ولاحظت إذا خرج الشيخ لصلاة الفجر يصلي بالناس عليه هالة من النور، وقد قالوا للحسن البصري: ما بال قوَّام الليل عليهم نور؟ قال: خلوا بالله فأكسبهم نوراً من نوره.

    والشيخ عبد العزيز بن باز حِفظه عجيب في القرآن، يقول بعض الناس: ما أظنه يخطئ خطأ، يحفظ القرآن مثل الفاتحة، يبدأ بسورة الفاتحة، وبعد أيام وإذا هو في سورة الناس يسرده سرداً، ثم إذا جاء يستشهد ينتزع الآية من موضعها، ويستنبط لك استنباطاً عجيباً سهلاً ما سمع الناس بمثله.

    والشيخ قريب من الطلاب ينشر علمه في كل مكان، ينشره في الطريق والشارع، وفي الهاتف والمكتب، وهذا هدي علماء السلف؛ لأن العالم في الإسلام لا يغلق على نفسه البيت ويقطر على المسلمين بالقطارة، ولا يجلس أحدهم تحت المكيف وينتظر أن يطرق عليه الناس، لا. بل علماء أهل السنة في المساجد والشوارع والسكك والمكاتب يسألهم الناس، هذه بعض ذكرى لما التقينا بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.

    لقاء حار بفضيلة المحدث الكبير محمد ناصر الدين الألباني

    الخبر الخامس: وصل إلى مكة وجدة قبل ثلاثة أسابيع أو أربعة العلامة الألباني وكانت من فرص الحياة أن أرى ذاك الرجل، كنت أتمنى من الله الواحد الأحد أن أراه، وهو رجلٌ عجيب أفنى عمره في العلم, وهو الآن يقارب التسعين من عمره، ما يقارب ستين سنة منها في خدمة الحديث النبوي، حتى كأنه ما مر بحديث إلا خرجه أو تكلم فيه.

    أتدرون ما هي بداية حياته؟ من أراد منكم أن يعرف ذلك فليعد إلى علماء ومفكرون عرفتهم والشيخ ليس له شيخ، ولم يتعلم في مدرسة، ولم يدخلها بل تعلم من أبيه بعض الفقه الحنفي، ثم جلس يصلح الساعات في دمشق في الشارع العام، وإذا كان عندك ساعة معطلة فإنك تعطيها الألباني ليصلحها، وكان دقيقاً في علم الساعات، يركب الساعات الخراشة البيتية والساعات الصغيرة، ولا زال إلى الآن يجيد تصليحها إذا خربت.

    فأكسبته هذه الدقة والصبر, حتى مر به بعض الناس بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فرأى تخريج العراقي له في الحاشية، فأعجبه التخريج، فأخذ هذا التخريج فكتبه في أوراق أخرى، ثم قال في نفسه -حكمة بالغة من الله-: لماذا لا أخرج مثل هذا التخريج، فأخذ يخرج من الكتب، ثم فتح الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فجمع الصحيحين ثم السنن، ثم المسانيد، ثم المعاجم، ثم كتب الرجال، ثم كتب الأطراف، ثم دخل مكتبة الظاهرية، ففتح الله عليه فتحاً عظيماً، والرجل من أجلد الناس وأصبرهم يجلس في المكتبة عشر ساعات، يقولون: لا يرفع رأسه، ويقولون: عنده سلم في مكتبة الظاهرية يصعد في السلم ليبحث عن حديث، فيبقى على رأس السلم ما يقارب الساعتين أو الثلاث وهو واقف، يبحث عن المخطوطة ويردها، ويناقش الحديث.

    أما بالنسبة لمصدر دخله وكسبه أثناء ما كان يشتغل بالحديث، فإنه كان عنده (تاكسي) يشتغل فيه يومين لأهله، ثم يعود بقية الأيام يبحث في الحديث، كان فيما قيل: يوضع له الإفطار في الصباح فلا يدري أن الإفطار وضع له حتى يؤذن للظهر فيتنبه، فإذا الإفطار قد برد وقد رزقه الله جلداً وحباً في قراءة كتب الحديث, والله إذا أراد بعبد خيراً حببه إلى هذا المسلك، فأخرج كتباً لم يسمع الناس بمثلها، وفيها تخريجات عجيبة.

    رأيته وهو طويل البنية، إذا رأيته تعرف أن هذا بخاري، ليس في رأسه ولا في لحيته شعرة سوداء، بل قلنسوته بيضاء، ووجه أبيض مشوبٌ بحمرة، ولحيته بيضاء، وثوبه أبيض نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

    والشيخ مصاب -شافاه الله- وذات مرة قال للطلاب في جدة في اجتماع ما: ادعوا لي بالشفاء علِّي أن أكمل كتب الحديث؛ فانهار المسجد بالبكاء ودعوا له بالشفاء، أسأل الله أن يشافيه، فإنه مريض في أرجله، ومع ذلك يقود السيارة هو بنفسه، وقد أتى بالبر ولم يأت بالطائرة من الأردن، وبعض الشباب يمزح يقول: إن الشيخ يتجاوز السرعة وقد أساء إلى المرور فإنه أسرع مائة وستين الله أعلم، لكن على كل حال هو يقود السيارة حتى في جدة ومكة ومعه الشباب، ومرضه في أقدامه كان يُدَلَّك وهو جالس.

    ظفرنا به في مكة:

    أيا ليلة من أنسها وعطائها     على أنها في ساعة الوجد حلت

    ليلة مع الألباني، كانت ما يقارب ثلاث ساعات، وكانت الأسئلة كما يلي:

    أولاً: رحبت به بقصيدة وسوف تنشر -إن شاء الله- لكن ليست بطويلة ما أمكنني الوقت، قلت في بعض الأبيات:

    هاكم سلام الله يا إخواني     قولوا رعاك الله يا ألباني

    يا حافظاً سنن الرسول بعصرنا     كـالترمذي أو أحمد الشيباني

    يا دارقطني الشريعة إنني     أشكو إليك وحبكم أشجاني

    إلى آخر ما قيل، ثم سئل الشيخ في تلك الجلسة ما يقارب عشرين سؤالاً، وهي مسجلة في أشرطة وقد سألته خمسة أسئلة للفائدة.

    السؤال الأول: أيها المحدث الكبير! سمعنا أنك أفتيت، وقد كتبت في آداب الزفاف بهذا، بأن الذهب المحلق لا تلبسه النساء؟

    -هذا فتوى الشيخ وهي مشهورة، حيث إنه حرم الذهب المحلق للنساء، وقد رد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رداً عجيباً وهو قول مخالف للإجماع- فما رأيكم خاصة أنه كتب بعض الفضلاء كتاباً يرد على فضيلتكم وفي شريف علمكم أن الأدلة واردة في ذلك، وهو كتاب (المأنق في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق للنساء) للأستاذ مصطفى العدوي جزاه الله خيراً.

    فأجاب الشيخ بإجابة طويلة في الشريط ولم يرجع عن رأيه, والرأي الصحيح هو خلاف ما رأى الشيخ، لأن الله يريد أن يتفرد بالكمال، لأنه لو كان العالم لا يخطئ في مسألة لتصور الناس فيه بعض التصور، لكن مهما أتيت من عالم فلا بد أن يخطئ، قال مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر، أي: محمد صلى الله عليه وسلم, بأبي هو وأمي، فالعالم له خطأ، ولكنه إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد.

    ثم سألت الشيخ عن رواية أبي الزبير في صحيح مسلم فأجاب إجابة يعرفها المتخصصون في الحديث، وذكر أن هناك اصطلاحات لـمسلم يعرف الروايات التي يرويها أبو الزبير عن جابر؛ لأن أبا الزبير يعنعن وهو مدلس، ثم سألته عن رواية المبتدع، وعن بعض الأحاديث الضعيفة التي نسبت إلى مسلم، وعن بعض المسائل، ثم سأله بعض المحبين.

    إنما الطريف في الجلسة تواضع الشيخ الجم، حتى تشعر أنك أمام رجل عادي بسيط، وهو عالم يتسابق الطلبة عند حذائه، إذا أراد أن يخرج حاولوا أن يركبوا حذاءه في رجله فيرفض؛ لأنه ليس بالسهل، رجل عالم، أفنى ستين سنة من عمره في كتابة الحديث، وتقديم الحديث للمسلمين، والعجيب الذي أعجبني فيه صبره، لا إله إلا الله ما أصبره! يجلس الجلسة الواحدة أربع ساعات يتحدث لا يمل، حتى تقول أنت: قف.

    سألته عن الحديث الضعيف هل يستدل به في فضائل الأعمال أم لا؟ فبقي يجيب ويجيب ويجيب! حتى قلت له: يا فضيلة الشيخ! لا نريد أن تلقي محاضرات بل نريد أن تجيب على الأسئلة حتى نستفيد منك أكثر وأكثر، فيقف، لكنه في هذا الفن مثل البحر.

    يقول الألباني: هنا نصل إلى نتيجة أن كون حديث ما ضعيفاً لسبب أن إسناده ضعيفٌ أو حسن أو صحيح عند البعض بسبب أنه تتبع طرقه، هذه قضية نسبية، ولذلك فلا ينبغي لطالب العلم أن يشكل عليه أمر اختلاف المحدثين القدامى فضلاً عن المشتغلين بالحديث اليوم، أن هذا يحسن وهذا يضعف؛ لأن هذه قضية لها أسباب توجب الاختلاف أكثر من الأسباب التي توجب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية؛ لأن الحكم الواحد قد يكون مرجعه إلى نص واحد من الكتاب أو السنة، ومع ذلك تختلف الآراء وتختلف الاجتهادات.

    أما الاختلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه فهو أشكل بكثير من ذاك الاختلاف الفقهي؛ لأن مرجعه إلى ما ذكرته آنفاً، إلى أن بعضهم وقف في نقده للحديث على الإسناد الواحد؛ فضعف الحديث، والآخر وقف لهذا الحديث على أسانيد أخرى فحكم بمجموعها على تحسين الحديث، وقد قلت لكم فيما أظن في الأمس القريب: إن علماء الحديث قد نصوا في المصطلح أن طالب العلم إذا رأى حديثاً بإسناد ضعيف فلا يصح له أن يقول: هذا حديث ضعيف، وإنما يعبر عن واقعه بأن يقول: إسناده ضعيف، وهذا من دقتهم في نقدهم، وفي اصطلاحهم؛ لأن ثمة فرقاً واضحاً جداً بين أن يقول القائل: هذا حديث ضعيف؛ لأنه يعطي حكمه حول الحديث، وبين أن يقول: إسناده ضعيف؛ لأنه يقتصر في حكمه على الإسناد.

    هذا الحكم لا ينافي قول من قد يقول: حديث إسناده حسنٌ، أو إسناده صحيحٌ؛ لأنه لا يعني الإسناد الذي ضعفه الأول، وبالأولى والأحرى إذا قال: حديث حسنٌ أو حديث صحيح، فلا ينافي قول من قال: إسناده ضعيف؛ لأنه: يعني أنه حسن أو صحيح بمجموع طرقه.

    إذا عرف هذا التفصيل، حين ذاك يجب على طالب العلم أن يتذكر الحقيقة التالية، وهي:

    إنه ليس من نشأ في هذا العلم يجب أن يعتمد على بحثه؛ لأنه يكفي أنه ناشئ وسائر في هذا الدرب من أوله، فما ينبغي أن تتشوش أفكار الطلاب لمجرد أن ظهر إنسان له بحث ما في حديث ما، فيقول: بعض الباحثين ضعف هذا الحديث؛ لأن الأمر أقل ما يقال فيه: لماذا ضعفه؟

    ولما أتت وجبة العشاء، قال لنا الشيخ: أستأذنكم، أنا لا أريد العشاء، أنا لا أتعشى، يقولون: تمر به أيام لا يأخذ إلا كأس ليمون، ومع ذلك هو من أجلد الناس، يبقى ينحت في الكتب من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء، ومن العشاء حتى ينام.

    فقولوا لي يا طلبة العلم: ماذا نريد أن نحصل عليه من العلم إذا كان أحدنا إذا أتى الصيف قال: حرٌ، إذا أتى إن شاء الله البرد، فإذا أتى الشتاء, قال: إذا أتى الصيف، رحلة الشتاء والصيف، وإذا مسح الدكتور بعض المقررات قالوا: غفر الله لك، ورفع الله ميزانك يا شيخ! أحسنت فينا، فأصبحت المواد محذوفة من أولها إلى آخرها.

    وبادره وخذ بالجد فيه     فإن أعطاكه الله انتفعتا

    وإن أوتيت فيه طويل باع     وقال الناس إنك قد رأستا

    فلا تأمن سؤال الله عنه     بتوبيخ علمت فهل عملتا

    الشيخ الألباني كان يطيل في الإجابة علينا, قلنا: لا تطيل، قال: تطيلون في الأسئلة، وتقولون: لا أطيل في الإجابة، مثلي ومثلكم كما قال الأول:

    غيري جنى وأنا المعاقب فيكم     فكأنني سبَّابة المتندم

    هو يحفظ من الشعر العربي الجميل، سبابة المتندم يعضها وليس لها ذنب.

    على كل حال ودعناه وذهب في حفظ الله، وسمعت من بعض الأحبة أنه سوف يذهب إلى الدمام ثم الطائف ثم أبها؛ لأنه سوف يبقى فترة هنا، فإذا جاء فسوف تسعدون بالجلوس معه ورؤيته أطال الله عمره على طاعته، حتى يخرج من هذه الكنوز والدرر للأئمة الإسلامية, وأنا مقصودي من هذه اللقاءات هو استطرادات في حال هؤلاء الأعلام لأنها تربية لنا ولكم ولشبابنا.

    لقاء وجلست طيبة مع الشيخ العلامة محمد الصالح بن عثيمين

    الخبر السادس: وهذا الشيخ لا يخفى على أحد من المسلمين وهو علم ومنارة، أهل عنيزة وغير أهل عنيزة، وهذا الرجل يميزه أمور: زهده في الدنيا، وشيخه من أذكى الناس، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وبقي عليها فترة من الفترات حتى أخرج كنوزاً من العلوم.

    الشيخ محمد الصالح بن عثيمين يميزه دقته وذكاؤه العجيب، استدلاله بالنصوص، وإخراجه الدرر والكنوز، ويميزه: أنه مربٍ، ليس واعظاً فحسب، بل يربي وعنده ما يقارب ثلاثمائة شاب من طلاب العلم وأنا رأيتهم في القصيم في عنيزة يربيهم، وعنده صبر مع الطلاب، وله درس في الصباح وبعد العصر وبعد المغرب في أغلب الأيام، فيجتمع الشباب عليه، ولذلك يرفض السفر فقد دعوناه إلى أبها، ودعاه أهل تبوك، وغيرها من المناطق لكنه يرفض أن يرتحل من أجل طلابه لأنه يربيهم، فهو مربٍ، وفقيه، ثم صابر محتسب.

    وشروحه من أعجب ما يكون، ويميز الشيخ اعتصامه كذلك بالدليل، فهو علامة في معرفة استنباط أخذ الحكم من الدليل، وهو علامة في أصول الفقه، وفي النحو.

    - ترجمة ذاتية للشيخ ابن عثيمين:

    يقول ابن عثيمين: ولدت في رمضان عام (1347هـ) ونشأت في عنيزة، وتلقيت العلم على عدة علماء، وانتقلت إلى الرياض للدراسة في المعاهد العلمية أول ما أنشئت، ثم في كلية الشريعة، ثم عدت إلى عنيزة بعد مضي سنتين من الدراسة في الرياض، ثم أكملت الدراسة في الكلية منتسباً، وصرت مدرساً في معهد عنيزة، ثم انتقلت إلى الجامعة.

    القابل: شيخ محمد! بالنسبة لطريقة الدراسة، أنت درست في السابق وترى الآن أساليب الدراسة في الحاضر، هل هناك من فرق؟ وهل ترى أن الأساليب القديمة أفضل من الحديثة؟

    الشيخ: في السنوات الأخيرة أصبح الناس يجمعون بين الأساليب الحديثة والأساليب القديمة، وهي حضور الدروس في المساجد، فقد انتشر ولله الحمد في السنوات الأخيرة الدرس في المسجد انتشاراً كثيراً، وصار الناس يستفيدون منه استفادة كبيرة، ولا ريب أن دروس المساجد فيها خير كثير وبركة، ويجد الإنسان فيها لذة في تحصيل العلم والاستفادة منه، ويجد ثباتاً واستقراراً فيما تعلمه أكثر من المدارس النظامية.

    المقابل: شيخ محمد! بالنسبة لدروسك التي تقدمها في المسجد، ماذا تدرس فيها من العلوم؟

    الشيخ: أدرس فيها علوماً شتى: التفسير، والحديث، والفقه، والتوحيد، والعقيدة، والنحو، والمصطلح.

    المقابل: الملاحظ بشكل عام، وإن كنت ذكرت أنت يا شيخ/ محمد! أنك تدرس التفسير، لكن يرى كثير من الشباب أن هناك تقصيراً في الاهتمام بالتفسير من كثير من العلماء، فما رأيكم في هذا القول؟

    الظاهر بأن الأمر كذلك، وأن كثيراً من الشباب أصبحوا يهتمون بالسنة أكثر مما يهتمون في تفسير القرآن، وهذا لا شك أنه نقص؛ لأن الاهتمام بالقرآن أولى من الاهتمام بالسنة، فإن القرآن قال الله تعالى فيه أنه تبيان لكل شيء، وهو الحجة التي لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، وأما السنة فتأتي في الدرجة الثانية وفي المرحلة الثانية بعد القرآن، ولا شك أن الاهتمام بها من الاهتمام بالقرآن أيضاً؛ لأن السنة تفصل القرآن، وتبينه، وتدل عليه, وتعبر عنه، لكن الشيء الذي فيه نقص هو الاعتناء الكامل، وصرف الهمة كلها إلى السنة دون الاعتناء بالقرآن وما يشتمل عليه من المعاني العظيمة.

    فالذي أرى أن يبدأ الطالب أولاً بتفسير القرآن قبل كل شيء، ثم بالسنة، ثم بما كتبه أهل العلم من مسائل العقيدة وغيرها.

    والشيخ خفيف الظل، أي: دعوب، لطيف المزاج، ولذلك يقرب منه الطلاب؛ لأن الطلاب لا يريدون الإنسان المكشر المنفر، الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا} والرسول صلى الله عليه وسلم سهل الخلق، وكان يمزح، وقرأت في صحيح الجامع للألباني حديثاً صح عند أحمد وغيره، قالت عائشة: ذهبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال للصحابة: تقدموا تقدموا، قالت: فتقدموا، فقال لـعائشة: سابقيني سبحان الله! تصوروا هذا الخلق العظيم من محمد صلى الله عليه وسلم! نحن لما نتحدث عن هؤلاء العلماء الأفاضل والمشايخ فإننا نعظمهم, لكن إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان كالشمس إذا ظهرت غاب كل كوكب ونجم, وإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل.

    المصلحون أصابع جُمعت يداً      هي أنت بل أنت اليد البيضاء

    ألم تر أن السيف ينقص قدره     إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

    قال: تقدموا، فتقدموا، قال: سابقيني فسابقته رضي الله عنها فسبقته؛ لأنها خفيفة كانت شابة فتية، وهو صلى الله عليه وسلم قائد يتحمل ويتعب، ومفتٍ وخطيب، وواعظ وموجه، وإداري وسياسي، وزعيم واقتصادي، وعلَّامة ويتلقى الوحي، ويربي وينهى -سبحان الله- فسبقته، فأخذها صلى الله عليه وسلم أي: حفظها لـعائشة.

    قالت: وبعد سنوات أتى الصحابة في غزوة، فقال لهم: تقدموا، فتقدموا، فقال: سابقيني، قالت: فكثر علي الشحم، وثقل بدني، فسبقني، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {هذه بتلك} سبحان الله! بعض الناس يقول: هذا فضول، أي: هل وجد في حياته صلى الله عليه وسلم من الفراغ أن يسابق أهله؟ نقول: نعم. لأنه مربٍ، حتى مع الأطفال فإنه يداعبهم.

    تجد بعض الناس إذا قيل له: لماذا لا تمازح أطفالك؟ قال: أنا مشغول، اشتغلنا عنهم بهذه الدنيا، يا أيها الذي أنهى عمره، وفتن نفسه! هذا معلم الخير أكثر شغلاً منك، ومعلم الخير وقته مزحوم بقضايا وأحداث الأمة، بل جاء في الصحيحين {أنه صلى الله عليه وسلم أخذ أمامة وصلى بها العصر، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها}.

    يا أيها الرجل! محمدٌ صلى الله عليه وسلم صعد على ظهره الحسن في صلاة العصر أو الظهر، وهو يصلي بالناس -والحديث صحيح- فمكث في السجود حتى نزل هذا الطفل، ثم قال: {إن ابني ارتحلني وخشيت أن أقوم فأوذيه} سبحان الله! شريعة وإسلام، لكن عيبنا نحن أنا لا نطالع السيرة، ولا نطالع الأحاديث، وقليل من الناس من يطالع كيف كان تعامله وتربيته لأصحابه فلذلك علينا أن نهتم بذلك.

    والشاهد: يوم تعرضنا للشيخ العلامة محمد الصالح بن عثيمين -أثابه الله- وتواضعه مع الطلاب، وأنه أخذ ذلك من رسول الله عليه الصلاة والسلام واستفاده منه.

    والشيخ يميزه بعد نظره في أمور الدعوة فهو رجل يعطيك درراً إذا تكلم، ورجل ذو خبرة طويلة فهو في الرابعة والستين من عمره أو ما يقاربها، يخبرك كيف يكون فن الدعوة؛ لأن بعض الشباب الآن يريد الدعوة، لكن يتخذ من الأساليب ما يؤدي إلى نتائج عكسية للدعوة, فإذا أراد أن ينكر أغلظ في الإنكار، وإن أراد أن ينهى أغلظ في النهي، فلا يقبل الناس منه شيئاً فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    ولذلك تجد بعض الشباب يأتي متحمساً، يقول للعالم: لماذا لا تفعل كذا وكذا؟ لماذا لا تقول: كذا وكذا؟ وكأنه أعلم من العالم، لا. العالم يعرف المصالح وهو ذكي، وأنت يا أيها الطالب! إذا عرفت جزئية أو حديثاً لا يعلمه العالم لكنك عرفت أنت مسألة وهو يعرف مليون مسألة، يعرف المصالح والمفاسد، بعيد النظر، ويعرف الواقع، ومجريات الأمور، فلذلك يجب أن تستفيد من هؤلاء القمم من العلماء، ولا بد أن تقلدهم في الخير وتقتدي بهم، وتنظر كيف يتعاملون في الواقع.

    جرح المشاعر في الدعوة ليس بصحيح، فمن الأخطاء أن يأتي شاب يجرح مشاعري ثم يقول: أدعوك إلى سبيل الله!

    أحد الناس مر بجزار وبيده ساطورة يقطع اللحم، فقال للجزار: صلّ يا حمار! -والحمار لا يصلي- فقال الجزار: انتظر يا عدو الله، وأتى عليه بالساطورة يريد أن يقسمه نصفين، فولى هارباً وعلم أنه أخطأ؛ فهذا اللفظ ليس له داعٍ.

    بعض الناس إذا أنكر، أنكر بفضاضة فيقول: حسبنا الله عليك.. سلط الله عليك.. الله يدمرك، ونقول لهذا: لماذا يدمره الله؟ أنت ما بلغت حق البلاغ، الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] أنت ما بلَّغت حق البلاغ؛ لأن حق البلاغ أن تقدم الإسلام طرياً ناضجاً مقبولاً، أما أن تأتيني بالعصا، وتكسر ظهري، وتنفرني، وتجرح مشاعري، وكياني، ثم تقول: أدعوك! لا أقبل أبداً.

    للإنسان كرامة: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] أنا أستطرد متعمداً؛ لأنه ينبغي علينا أن نعرف كيف نوصل الكلمة إلى أهلها، وكيف نكون حكماء مع الناس، عل الله أن يهدي بأيدينا؛ لأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

    ذكرت في محاضرة ماضية اسمها (ففروا إلى الله) في مسجد الرحمة في جدة، قصة رجل صالح عنده من العلم أشبه شيء بالعوام، لكن عنده حكمه وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] وكان في هذه المنطقة يوجد رجل مروج للمخدرات شاب مشهور بهذا، وترك المسجد والصلاة، وعق والديه، وقاطع أرحامه، وأخذ يطارده رجال الأمن، وهو يطاردهم، هم بالرشاش وهو بالرشاش، حتى يئس منه أبوه وأمه، وبكوا عليه ودعوا عليه، فأتى هذا الرجل الصالح وقال: لماذا لا أجرب أن أهديه إلى طريق الله المستقيم، ليكون في ميزان حسناتي يوم القيامة {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} لكن ماذا فعل؟

    قال: أول ما أفعل أن أدعو الله أن يصلحه فإن الصلاح والهداية من عند الواحد الأحد إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] قال: فكنت أقوم في آخر الليل فأصلي ركعتين في السحر - ولعلنا نقتدي به- وأبكي، وأقول: يا رب! افتح على نفس ذاك الشاب وقلبه وأن تعيده إلى الدين، قال: واستمريت على هذا أياماً، قال: ثم أخذت هدية، والهدية طيبة، و(اللُّهى تفتح اللَّهى) يقول ابن تيمية: إذا حرم الله حراماً، جعل من الحلال ما يكافئه.

    أنت لا بد أن يكون لك أسلوب جميل في الدعوة: بسمة، أو زيارة، أو عزومة، وإذا رأيت أن العاصي هذا يمكن أن تصلحه كبسة فاذبح له كبشاً واطبخه، وأكرمه حتى يهتدي؛ لأنك قد تدخل الجنة بكبسة، وإذا رأيت أنه يعجبه هدية ما فاهدها له لعله يهتدي، قال: فأخذت هدية ووصلت إليه، وقلت: أرى عليك آثار الخير فاستنار قلبه وهذا من الكلام الطيب, فإنه لا توجد آثار الخير على مروج مخدرات، لكن هذا الأسلوب من باب: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ولو قال له: أرى عليك آثار المعصية والفجور، فإنه لن يهتدي أبداً.

    قال: فأعطيته الهدية، فقبلها، فقلت في نفسي: الحمد لله، لن أكلمه بكلمة مادام قد قبل الهدية، قال: ثم عدت إلى بيتي، قلت: هذه ثاني خطوة، الخطوة الأولى: الدعاء في السحر، والخطوة الثانية: الهدية، ثم تركه أياماً ثم ذهب إليه، وقال: أريد أن تأتي؛ لأنك أكرمتني بقبول الهدية، وسبق بيني وبينك زيارة، أن تزورني لوجبة خفيفة، قال: نعم سوف أزورك، الناس على الفطرة: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].

    الآن المجرم الفاسق في الشارع، الذي لا يصلي إذا قلت له: يا كافر! وهو كافر في الشرع لأنه ترك الصلاة، إذا قلت له:يا كافر! فإنه يخرج السكين ويؤذيك، والفاسق إذا قلت له: يا فاسق! قال: أنا فاسق؟! فيقاتلك؛ لأنهم لا يرضون الكفر ولا الفسوق، لكن الشيطان ركبهم، قال: فأتاني وتغدى فما كلمته بكلمة، وبعد أيام ذهبت إليه, وقلت: أريد أن أخرج أنا وأنت في نزهة، قال: فركب معي في السيارة، فذكرت الله معه وأسمعته بعض المحاضرات التي فيها بعض الكلمات الحارة التي تصل إلى القلب، قال: فما رد علي إلا بالدموع، وقال: أشهد الله وملائكته وحملة عرشه، ثم أشهدك أني تبت إلى الله، أسألك بالله أن تمر لي في كل صلاة وتنبهني قبل صلاة الفجر لأصلي.

    وفي أيام تحول إلى الهداية، ودخل على والديه فإذا هم يبكون من الفرح.

    طفح السرور علي حتى إنني     من عِظْمِ ما قد سرني أبكاني

    فهل يعجزنا هذا الأسلوب؟ وهل جرب أهل الأساليب الغليظة والشديدة هذه الأساليب الطيبة في الدعوة إلى الله.

    هذا من ضمن ما استطردت به في سيرة الشيخ، وإنما مقصودي بالعلماء الثلاثة أن يكونوا قدوة لنا, لأن الصحوة عندنا عظيمة، لكنها هائجة مائجة، مثل الجمل الهائج تحتاج إلى خطام وزمام، فهناك شباب وهناك عودة، لكن الشباب عندهم حماس، ويريدون علماء، لأن العلماء مثل إشارات المرور, تنبه السائرين في الطريق عن الوقوع في الأخطاء, فهذه: هدئ السرعة, وتلك: أمامك منحنى، ممنوع التجاوز، ممنوع الوقوف.. فالعلماء مثل هذه الإشارات، فيقولون للشاب: اطلب العلم، لا تتكلم عن هذا الشيء، اترك هذه القضية، أو لا تتحدث اليوم، أو لا تتحدث في هذه القضية على المنبر، اكتبها كتابة، هذه المسألة لا تذكرها في المجلس، لا ترافق فلاناً، فهذه مسئولية طلبة العلم والعلماء والدعاة.

    لأنا نعرف أن في الناس حماساً، لكن يحتاجون إلى علماء ويحتاجون إلى دعاة، ويحتاجون إلى حكماء.

    من أخبار عطلة الربيع: تزوج أحد المحبين في مكة، في مهبط الوحي، وقد أقيم في أثنائه حفل جميل تم تسجيله، وهو شريط موجود في التسجيلات، اسمه: (زواج في مهبط الوحي) وأخوه معنا هنا، الشيخ حامد المصلح القحطاني الداعية المعروف، أخو الشيخ سعد تزوج زواجاً عجيباً، والزواج هذا كان فيه ذكر الواحد الأحد، وفقرات، واستبدلوا الغناء واللهو والعبث والشرود عن منهج الله، بأساس من كلام طيب دخلت فيه الآية العجيبة التي هزت الكيان، والحديث الطيب، والقصة العجيبة، والفكاهة، والطرفة، وبيت الشعر، والمواقف المحرجة من الشيخ سعيد ومني، وهي مضحكة في الحقيقة، لكن على كل حال، أقول: هي بديل عن فقرات اللهو والغناء.

    شيخ سعيد معذرة هل لديك طرفة عاجلة، وإن كان لا بد فطرفة قديمة؟

    هناك طرفة محفوظة مثل ما قال الشيخ، ليست من طرائفي أنا، وإنما طرفة قرأتها، ولها مناسبة زواج، وهو أنه في حفل زواج سمع به أشعب وأشعب يضرب به المثل في الطمع وفي حب الولائم، وكان صبيان الحي يتبعونه حتى تأذى منهم فأراد أن يصرفهم عنه فقال لهم: إن في بيت آل فلان عرساً، فإن أردتم الطعام فاذهبوا، فصدقوه ومضوا، فلما مضوا جلس يفكر، وقال: يمكن أنني صادق، فلحق بهم، ولم يكن هناك زواج فعلاً، لماذا لم تضحكوا؟ أظنها باردة.

    أعطيكم طرفة حارة تجعلكم تضحكون منها غصباً، هذه النكتة على النساء والرجال، يقال: إن جحا مرضت امرأته، فجاء إلى التنور ليشعل النار، فحاول وانتهت علبة الكبريت قبل أن تشعل النار، وكلما حاول أن يشعلها لا تشتعل، أخيراً فكر، وذهب إلى غرفة امرأته وهي مريضة، وأخذ شيلتها من على رأسها، ولبس شيلتها وأوقد النار فاشتعلت من أول لحظة، فقال: حتى النار تخاف من زوجتي.

    ويعلم الله أن الإنسان لا يذكر هذه إلا ليزداد الخير وينتشر، وإلا لا بأس أن يتحدث الإنسان، ولا بأس كما يقول ابن القيم في أحد كتبه في مقدمته. هذا الكتاب من أحسن ما كتب، وما سمعت كتاباً كتب مثله، لكي يجعلك تقرأه، نحن نعرف أن بضاعتنا لا تصلح، وأنها مزجاة، لكن نقول كما قال الأول: وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].

    فعل الله أن ينفع بها, ولا بأس أن يتحدث الإنسان عما يكتب أو يقول من أجل نشر العلم، والاستفادة منه ومن أجل أن يعم الخير، وأن يزيد الله من حسناته وأجوره لا رياء ولا سمعة، والله أعلم بالنيات مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    هذه من أخبار هذه الرحلة وعسى الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها.

    1.   

    نصائح وتوجيهات

    بقي لدي بعض المسائل، وهي وصايا سهلة، ومكررة، لكن لا بد من التكرار، فأهل الإعلانات الآن يجعلون إعلاناً على الشارع عند إشارة المرور -مثلاً- وهو يعمل على الكمبيوتر، يؤشر وينطفئ ويعيد نفس العبارة، قالوا: إذا لم تجدها في اليوم مائة مرة، فلن تشتري هذا الغرض.

    ولذلك أهل الصحف دائماً في عكاظ -مثلاً- تجد إعلاناً عن الأطياب، مع أنك أنت تعرف أنها قارورة كذا، وأنها فرنسية، وأنها موجودة في السوق، لكن لكثرة رؤيتك لها وكثرة تعاودها على ذهنك تجعلك تذهب تشتريها، فوجب على أهل الحق أن يستغلوا هذه الأساليب؛ وأهل الحق الآن ينقصهم الأساليب المتنوعة، فأهل الباطل غلبونا في الأساليب، فعندهم الشاشة، وعندهم أقمار صناعية، وصحف، وإعلام، وكلماتهم رنانة.

    بينما أهل الخير إذا أعلنوا فإنهم يعلنون بإعلانات ميته، وإذا تكلموا أتوا في الغالب بأساليب ميتة، فوجب على الداعية أن يكرر العبارة، لا يقول: كررت، بعض الإخوة كتب لي رسائل هنا أنه نجد بعض الأحاديث والقصص في الأشرطة مكررة، أقول: لسنا مغنيين ولا فنانين حتى نأتي كل يوم بأغنية جديدة، بل نحن نتعامل مع الكتاب والسنة، فقصة موسى أعيدت في القرآن ما يقارب ثلاثاً وعشرين مرة، تأتيك قصة موسى في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في يونس، ثم في طه، ثم في الشعراء، ثم في القصص، وهكذا كتابنا يتجدد لكن بأساليب، إذا أتيت بالقصة فاعرضها بأسلوب، ثم ردها بأسلوب آخر، ثم اقلبها في أسلوب ثالث حتى يتقبلها الناس، فالتكرار منقبة، وليس مثلبة.

    قالوا تكرر قلت أحلى     علماً من الأرواح أغلى

    فإذا ذكرت محمداً     قال الملا أهلا وسهلا

    كرر العلم يا كريم المحيا     وتدبره فالمكررة أحلى

    فأنت لا تيأس من المكرر، أقول: من المكررات في الوصايا: أوصيكم بطلب العلم وتحصيله، سواء كنا كباراً وصغاراً، لا يوجد عندنا في الإسلام سن لطلب العلم، وسن للحفظ، وسن للفهم، لا. هذا عند ديكارت وكانت، أما محمد عليه الصلاة والسلام، فالعلم حتى تدخل في القبر، من المهد إلى اللحد.

    يقول البخاري: (وتعلم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كباراً) فأنت تحرص على العلم في الستين والسبعين والثمانين، والعلم مبذول الآن وله وسائل عجيبة، منها الحلقات في المسجد، ومنها الكتب، والشريط الإسلامي، والكتيبات، ومنها سؤال أهل العلم بالهاتف، وغيرها وغيرها كثير، فطلب العلم أوصيكم به، لن يضل طالب العلم؛ لأنه يكون على بصيرة، ويسلمه الله من الشهوات والشبهات، ويكون مسدداً في أقواله وأعماله، يزداد إيماناً كل يوم، وطالب العلم ينفي الله عنه النفاق، وله من الفضائل كما صح في الحديث: (تستغفر له حيتان البحر، وطيور السماء، وحتى النملة في جحرها).

    فطلب العلم احرصوا عليه يا إخوتي! أي تخصص سواءً كنت في الكهرباء، أو في شركة، أو كنت تدرس في الطب أو الهندسة، أو المعهد الصناعي، أو التكنولوجيا، في أي مكان، سواء كنت تاجراً أو فلاحاً عليك أن تطلب العلم, والعلم سهل ميسر، فولاة العلم في بلادنا يشجعون، مساجد واسعة، وكتب محققة، والعلماء متواجدون، والوسائل سهلة، ما عليك إلا أن تطلب العلم.

    والآن أبشركم أن أكثر مدن المملكة سوف يفتح فيها دروس، وقد اطلعت على خطاب من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز موجهاً لسماحة الشيخ إبراهيم بن راشد الحذيفي، رئيس محاكم عسير يشجعه فيه على إقامة الدروس وعلى الإشراف على الدروس التي في المنطقة، وأطلعني سماحة الشيخ الحذيفي على هذا الخطاب فشكرته له.

    وأبشركم أن الدروس سوف يكون لها مستقبل, فوصيتي بالحضور، وأن يجتهد العبد في تحصيل ما ينفعه، في أبها دروس كثيرة ومحاضرات، وكل صباح في هذا المسجد بعد كل فجر درس في مسند أحمد، غداً نأخذ الحلقة الثالثة والثلاثين والله الموفق، والذي نرجوه من الواحد الأحد أن يجعلها في ميزان الحسنات، ولا نسأل من الله إلا أن يكفر بها السيئات، فإنا نفتقر إلى عفوه ورحمته، ولا يؤاخذنا بذنوبنا، ونحتاج إلى دعاء منكم أنتم، وأنتم تحتاجون إلى دعاء منا، فهو مبذول ومطلوب، مبذول منا أن ندعو لكم، ومطلوب منكم أن تدعوا لنا بظهر الغيب, ولعلنا أن نسدد نحن وإياكم ونجتمع بكم في الجنة مثلما اجتمعنا هنا، حتى نتذاكر إن شاء الله، نقول: كنا في أبها نجتمع في ذاك المسجد فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28].

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755984615