إسلام ويب

دروس من سورة طهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تناول الشيخ قصة موسى عليه السلام من سورة (طه) ذاكراً بعضاً من صفات موسى عليه السلام.

    وعرض قصة النداء لموسى في الطور وما وقع فيها من معجزة العصا واليد وإرساله إلى فرعون تأييد الله له بهارون، وتذكيره سبحانه لموسى بما أنعم الله عليه من قبل.

    وتحدث عما وقع بين موسى وفرعون، مبيناً حفظ الله لموسى عليه السلام وتسديده في جوابه لفرعون.

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكـر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالميـن نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريـكٌ في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.

    والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، كسر الله به ظهور الأكاسرة، وقصر بدعوته آمال القياصرة، الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    إلهي لا تعذبني فإني     مقرٌ بالذي قد كان مني

    وما لي حيلةٌ إلا رجائي     وعفوك إن عفوت وحسن ظني

    فكم من زلة لي في البرايا     وأنت علي ذو فضلٍِ ومنِّ

    يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعف عني

    أيها الكرام: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    حديثنا عن موسى عليه السلام، وعن دعوته الهائلة التي طرقت العالم، وعن قصصه العجيبة، وموسى عليه السلام له قطاع كبير في القرآن حتى قال بعض العلماء من السلف الصالح: كاد القرآن أن يكون لموسى، ما تكاد تقرأ سورةً إلا وتسمع قول الله يقرع أذنيك، ويصادف قلبك: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى [هود:96] وموسى عليه السلام كانت دعوتـه على المستويات جدلية علمية، وعملية ميدانية، وحربية عسكرية، وموسى عليه السلام ذكر -كما أسلفت- في القرآن كثيراً، وذكر في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم طويلاً.

    صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه لما قرأ سورة الكهف مع قصة موسى والخضر، وانتهت القصة بقول الخضر: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] قال صلى الله عليه وسلم:(رحم الله موسى! لوددنا أنه انتظر حتى يقص علينا من خبرهما).

    شدة حيائه عليه السلام

    موسى وآدم يتحاجَّان

    وصح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما أنه قال:{تحاجَّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته أخرجتنا من الجنة بمعصيتك؟} يلومه ويعتب عليه في هذه المعصية، لا على القضاء والقدر.

    ولذلك يقول ابن تيمية: ويل للجبرية، ظنوا أن موسى عليه السلام قدرياً، وما كان قدرياً، فقال آدم عليه السلام: {أنت موسى الذي كلمك الله، وكتب لك التوراة بيده، وأنجاك الله أتلومني على شيء قد كتبه الله علي، بكم وجدت الله قد كتب علي هذا قبل أن يخلقني؟، قال: بأربعين عاماً، قال: فلم تلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فقال عليه الصلاة والسلام: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه بالحجة.

    ونعيش مع موسى عليه السلام في سورة طه، في أول لقاء بين الله عز وجل وبينه، لقاء الكلام مباشرة، ولم يكلم الله- عز وجل- أحداً من الناس مباشرة بلا ترجمان إلا موسى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9].

    الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، فبعد أن افتتح الله السورة وأتى بكلام عجيب عن التوحيد والعقيدة، قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9] لا، والله ما أتاه، ومن أين يأتيه وما قرأ، وما كتب، ولا تعلم، ولا درس إذ هو أُميِّ! قال: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً [طه:9-10].

    لم يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة طه قصة موسى -وقصته طويلة وهي منثورة في كتاب الله- كما ذكرها في سورة القصص يوم خرج إلى أهل مدين بعد أن قتل نفساً، هارباً إلى الله، وضاقت به الدنيا بما رحبت، وخوفه البشر بسوطهم وبسيفهم، ولكن:

    فالزم يديك بحبل الله معتصماً     فإنه الركن إن خانتك أركان

    يا واهب الآمال أنت     حفظتني ورعيتني

    وعـدا الظلوم علي كي      يجتاحني فنصرتني

    فانقاد لي متخشعاً     لما رآك منعتني

    فإذا خفت من شيء، فاعتصم بالله، وإذا دهتك من الدواهي أمور، فاعتصم بالله، وإذا ضاقت بك الحيل، فالتجئ إلى الله، وإذا كثرت عليك المشكلات والصعوبات، فرد أمرك إلى الواحد الأحد، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].

    وفي كتاب الزهد للإمام أحمد بسند حسن، قال: لما لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عبده موسى بعد أن سقى للجاريتين وتولى إلى الظل، قال: يا رب، فقير غريب مريض جائع -يشكو حاله- قال الله عز وجل: يا موسى، الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والجائع من لم أكن أنا مطعمه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه.. ثم شرفه الله بالدعوة.

    بداية نبوته عليه السلام

    قال تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9] هل أتاك يا محمد هذا الحديث المذهل العجيب الذي سمعت به الدنيا، وأنصت له الدهر، وتناقلته الركبان، وروته الأجيال جيلاً بعد جيل؟ إِذْ رَأى نَاراً [طه:10] أتى بأهله بعد أن رعى الغنم عشر سنوات، وكانت امرأته في المخاض، فأظلم عليه الليل، ومعه قطيع من الغنم، والأنبياء كلهم عليهم السلام رعوا الغنم؛ لأن من يرعى الغنم يجد دربة وحلماً وتجربة لرعي الأمم -ولذلك رعى رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الغنم- فأظلم على موسى الليل، وكان في تلك الليلة - كما ذكر ابن كثير - سحاب ومطر وبرق ورعد، وأراد أن يشعل ناراً يستدفئ بها هو وأهله، ويوقد بها طعامه، لكن لم توقد النار، أتى بالحجارة يقرع حجراً بحجرٍ، فما قدحت ناراً لحكمة أرادها الله.

    راعي غنم ليس في مخيلته أن يكون نبياً من الأنبياء، ورسولاً من الرسل، ومن أولي العزم الخمسة، فلما أظلم عليه الليل رأى ناراً تلمع في طرف وادٍ بعيدٍ، فاستبشر، وقال: هذه النار إما أن أجد منها قبساً آتي به إليكم لتستدفئوا، ونتعشى على النار، وإما أن أجد خبراً من الأخبار لعل صاحب هذه النار يهديني الطريق، لكن وجد من يهديه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ووجد من يهديه إلى لا إله إلا الله، إلى الطريق المستقيم الذي إذا لم يهتد إليه العبد فوالله لن يهتدي أبداً، والذي إذا لم يسترشد به العبد فوالله لـن يرشد أبداً، والذي إذا لم يستكف به العبـد، فوالله لا يكفـى أبداً، والذي إذا لم يحتم به العبد، فلن يحتمي أبداً، فذهب وإذا بالنار غير النار، فلما اقترب منها، سمع هاتفاً يهتف.

    وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى [طه:9-11] سبحان الله! من يعرف موسى في الصحراء؟! ومن هو موسى حتى يعرف عند القبائل الصحراوية والبادية؟! ومن هذا الذي يعرفه، وهو ليس له قرابة ولا رحم ولا أخوال ولا أبناء عم في الصحراء؟ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [طه:11-12] سبحان الله! الله يعرِّف موسى به، ما أعظم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى! وموسى يعرف الله بآياته وأسمائه وصفاته وصنعه في الخلق، سبحان الله!

    وفي كل شيء له آيةٌ     تدل على أنه الواحد

    فيا عجباً كيف يعصى الإله     أم كيف يجحده الجاحد

    إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [طه:12] لماذا يخلع نعليه؟ وما هو السر في خلع النعلين؟

    قال أبو ذر وأبو أيوب وعلي بن أبي طالب ثلاثتهم قالوا: [[كانت الحذاء من جلد حمار، والوادي مقدس لتكليم الله عز وجل]] سبحان من يشرف بقعةً على بقعة، وإنساناً على إنسان، وبلداً على بلد، وزمناً على زمن، مكة الحرم قطعة أرض بين جبال سود، لا حدائق غناء، ولا بساتين وارفة الظلال، ولا أنهاراً، ومع ذلك شرفها الله على بقاع العالمين، ومحمد عبد من العباد من لحم ودم وعصب وعظم شرفه الله على الناس، ويوم عرفة ساعات ودقائق ولحظات وأمنيات جعلها الله أعظم الأيام من أيام السنة، ويوم الجمعة كذلك يوم من أيام الله جعل الله له ميزة.

    إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [طه:12] اليوم تقدس الأودية، الليلة حدث عظيم في حياتك يا موسى، هذه الأوقات سوف تعيشها مع الله، وسوف تجد من الله- عز وجل- كلاماً عجيباً إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:12-13].

    أنت اليوم يا راعي الغنم مختار لتكون رسولاً، أنت اليوم يا راعي الضأن، سوف تبعث إلى الطاغوت الأكبر إلى شيخ الضلالة فرعون تدعوه إلى لا إله إلا الله، أنت يا من يهش على غنمه بعصاه سوف يكون لك ذكر في القرآن والتوراة والإنجيل، وسوف تكون نبياً من الأنبياء، أنا اخترتك ما زكاك أحد لدي، وأنا عرفتك وما توسط لك أحد من الناس، ولا شفع لك أحد من البشر، من الذي يعلم المزكى من غيره إلا الله! فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] الصور صور، والبشر بشر، والناس ناس، لكن القلوب يعلمها الله.

    جاء عند ابن كثير: أن الله قال له: أتدري يا موسى لماذا اخترتك؟ قال: لا أدري يا رب، قال: نظرت في قلوب العباد، فوجدت قلبك أكثر قلوب العباد تواضعاً لي، سبحان الله! موسى كان أعظم الناس تواضعاً لله، أثر عنه أنه ما جلس مع أحد من الناس إلا ظن أن جليسه أعظم منه وأعلى وأحسن، لكن أين حالنا من هذا الصنف؟ ربما يظن أحدنا أنه خير من في المسجد -نعوذ بالله من الغرور، والعجب، ونعوذ بالله من التيه والانقطاع من حبل الله- لأن من يركب رأسه في الضلالة والفجور والمعصية، ثم يظن أنه من خير الناس، هذا رجل مخذول محروم، أصابه خذلان وحرمان من طاعة الله عز وجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088779885

    عدد مرات الحفظ

    778980781