إسلام ويب

الصائمون الصادقونللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خمس عشرة مسألة أوردها الشيخ في الإخلاص، والمتابعة، والصدق، وصوم القلب والجوارح، واستغلال الأوقات في الدعاء والمناجاة .. كلمات مضيئة، وأشعار وضيئة، قصص وأقوال .. وصايا ونصائح، فإذا أردت أن تكون من صنف الصائمين الصادقين فاستنر بهذه المادة.
    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهداية الربانية فأنار به سبل الإنسانية، وهدى به البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:

    شكر الله لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم رئيس هذا النادي، وأعضاء هيئته، والمشاركون والحضور، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما جمعنا بكم هنا أن يجمعنا هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106].

    عنوان المحاضرة: (الصائمون الصادقون) والداعية المسلم يجتاب النوادي كالمساجد، ويحضر المحافل كالأسواق، ويشهد مجامع الناس، وله أن يشارك ويرى، فما معنا إلا إخوان، وما أتينا إلا إلى خلان، وما زرنا إلا الجيران، نحن وإياهم في هدف واحد، والمقصد هو وجه الله -إن شاء الله- لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرسولنا أول داعية بعد الفترة، طرق سمع التاريخ وتكلم على منبر الدنيا، جاب الأسواق، وحضر الأندية، وتكلم في مجامع الناس؛ ليبلغ راية الله، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان عن الداعية المسلم وعن دوره في الحياة:

    أنت كنز الدر والياقوت فـي     لجة الدنيا وإن لم يعرفوك

    محفل الأجيال محتاج إلى     صوتك العالي وإن لم يسمعوك

    أما عناصر هذه المحاضرة فهي تدور على سبع عشرة مسألة:

    المسألة الأولى: إخلاص العمل لوجه الله في كل عمل.

    المسألة الثانية: المتابعة للإمام الأعظم محمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

    المسألة الثالثة: الصدق وحسن التوجه إلى الباري جلت قدرته.

    المسألة الرابعة: قلوب صامت عن السوء، كيف تعيش القلوب في رمضان؟ وكيف تحيا بذكر الواحد الديان؟ وكيف ترفرف على سبحات الرحمن؟

    المسألة الخامسة: فهي العيون التي عرفت الصيام، كيف تصوم العيون..؟

    سهر العيون لغير وجهك ضائع     ورضا النفوس بغير ذاتك باطل

    المسألة السادسة: فهي ألسنة هجرت اللغو وحبست عن الكلام في غير مرضاة الله فهو صيامها، وسوف نقف عند هذه المسائل بإذن الله.

    السابعة: أذن تأبى الخنا والزور، وقاطعت كل أغنية ماجنة، وكل كلمة فحش، وكل كلمة فيها بذاءة.

    المسألة الثامنة: يد تمتد بالإحسان وتكف عن الباطل في رمضان وفي غير رمضان.

    المسألة التاسعة: فما هي الرِّجل! التي تحمل صاحبها لتقف على ساحة الحق وتحجم عن المنكر؟

    المسألة العاشرة: البطون الجائعة في مرضاة المولى.

    المسألة الحادية عشرة: أكباد ضمئت لتشرب من الكوثر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    المسألة الثانية عشرة: الصائمون في جلسة السحر مع رب العزة والجلال، يوم يتجلى لعباده في الثلث الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟

    المسألة الثالثة عشرة: الصائمون يسافرون مع القرآن الكريم في رحلة ممتعة.

    أما المسألة الرابعة عشرة: فهي في دقائق الإفطار روعة وجلال، يوم تأتي الشفاه إلى الطعام وتمتد الأيادي إلى فضل الله، إنها ساعة الاستجابة، وللصائم فيها دعوة لا ترد.

    المسألة الخامسة عشرة: صلاة التراويح، حشد هائل من المؤمنين يحضرون جلسات الخير والسجدات التي تعتقهم من الرق والعبودية لغير الله.

    المسألة السادسة عشرة: الفقراء يمدون أيديهم.

    المسألة السابعة عشرة: رمضان مدرسة روحية تربوية.

    تلكم أيها الفضلاء النبلاء! أيها السادة الأخيار الأبرار! أيها المستقبلون لشهر رمضان! تلكم المسائل التي نريد أن نتكلم عنها في هذا الدرس بحول الله.

    يا رب هب لي بياناً أستعين به     على قضاء حقوق نام قاضيها

    فمر سري المعاني أن يواتيـني     ربي فإني ضعيف الحال واهيها

    الأدلة الدالة على وجوب الإخلاص لله تعالى

    أما إخلاص العمل فالمقصد هو الله، وكان أحد الوعاظ إذا جلس في مجلس الوعظ قال وهو يلتفت إلى السماء: إنك تعلم ما نريد قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] فما عمل للدنيا يفنى، وما عمل لأجل الناس يذهب للناس قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وقال عز من قائل: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] صائمان اثنان، هذا جائع وذاك جائع، وهذا ظمئ وذاك ظمئ، وهذا سهر وذاك سهر، ولكن..

    لشتان ما بين اليزيدين في الندى     يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم

    أما ذاك فتقبل الله عمله؛ لأنه قصد وجه الله، ورضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه أراد بعمله وجه الله، وهذا رد الله عليه عمله كله، فلا قبل جوعه ولا ظمأه ولا سهره ولا صيامه..!

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله عز وجل: من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} والله يترك من يشرك معه، وهذه هي المراءاة، وفي الصحيحين {من راءى راءى الله به، ومن سمع سمّع الله به}.

    إذاً يا أيها الفضلاء! يا أيها النبلاء! لا بد أن نعرف مسألتين في الإخلاص:

    معرفة الله سبب الإخلاص

    أولها: أن نعرف الله، فهو القدير الذي بيده مفاتيح القلوب، والمعطي والمفقر، والمانع والقابض، والباسط والرازق، والمحيي والمميت، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3].

    إخوتي في الله! يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} كثير من الناس يجودون صلاتهم من أجل الناس، ويصومون من أجل الناس، ويتلون كتاب الله من أجل الناس قال الله فيهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22].

    فأوصي نفسي -أولاً- وإياكم بمعرفة الباري، من هو الله؟

    إن الله تعالى يوم لقيه موسى ليملي عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة التوحيد، قال: يا موسى! إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] ولذلك أعلن شاعر السودان الإيمان في قصيدته وهو يتكلم عن رسالة التوحيد التي تركها كثير من شعرائنا، وصاروا يتكلمون عن الفتاة، والزهرة، وعن الهيام، والشاطئ والماء، ولكن لا يربطون ذلك بالواحد الأحد، أما شاعر السودان فيقول في قصيدة الإيمان:

    بك أستجير ومن يجير سـواكا     فأجر أجيراً يحتمي بحماكا

    إلى أن يقول:

    أشكو إليك مصائباً أهفو بهـا     يا رب هل من غافر إلاكا

    إبليس يخدعني ونفسي والهوى     ما حيلتي في هذه أو ذاكا

    ثم يقول وهو يتكلم عن الإخلاص والإيمان والتوحيد:

    قل للطبيب تخطفته يد الـردى     من يا طبيب بطبه أرداكا

    قل للمريض نجا وعوفي بعدمـا     عجزت فنون الطب من عافكا

    والنحل قل للنحل يا طير البوادي     ما الذي بالشهد قد حلاكا

    وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ      فاسأله من ذا بالسموم حشاكا

    واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو      تحيا وهذا السم يملأ فاكا

    فالحمد لله العظيم لذاته     حمداً وليس لواحد إلاكا

    لا بد أن ندخل المسجد موحدين، والنادي موحدين، والسوق موحدين.

    ما هي رسالتنا؟ وما هي أصالتنا؟ ما هو عمقنا؟ ما هو شرفنا في الحياة؟؟

    شرفنا وأصالتنا وعمقنا هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، نحن لم نخلق للغناء، ولا للرقص والتطبيل والمسرحية الآثمة، والفيديو المهدم، أتعلمون أن أرذل الناس هم هؤلاء المغنون الذين يصدون الناس عن لا إله إلا الله، الذين يقربون الزنا والفحش والبذاءة وقلة الحياء من الأمة!! هؤلاء والله عيب أن يتصدروا المجتمع، وعيب أن يقودوا الشباب! وعيب أن يتصدروا الموكب! وعيب أن يكونوا في أول الركب! هؤلاء لا قيمة لهم؛ لأن أهل القيمة هم أهل الإيمان الذين خاطبهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب:70] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] هم أهل الإيمان..

    عباد ليل إذا جن الظلام بهـم     كم عابد دمعه في الخد أجراه

    وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم     هبوا إلى الموت يستجدون لقياه

    يا ربُ فابعث لنا من مثلهم نفراً     يشيدون لنا مجداً أضعناه

    أضعناه ومزقه شامير ورابين، وأعداء الشعوب؛ يوم تركنا لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم

    أما العنصر الثاني فهو متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، أولاً: اسأل نفسك في صيامك، وصلاتك، وحجك، في هديك، في ليلك ونهارك من هو إمامك؟ من هو قدوتك؟ من هو الذي تحبه في الحياة؟

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه     فيه العفاف وفيه الجود والكرم

    يا خير من دفنت القاع أعظمه     فطاب من طيبهن القاع والأكم

    اسأل نفسك من هو قدوتك في الحياة؟ اعرض أعمالك على محمد عليه الصلاة والسلام وعلى أعماله فإنه برهان، زن أقوالك بأقواله فإنه ميزان، اعرض نفسك عليه فإن قبلت فبها ونعمت، إن وافقت النسخة النسخة فقد نجحت وأفلحت، وإن اختلفت النسخة عن النسخة فاعرف أن في البضاعة بهرجاً، وأن في العملة زيفاً، وأن في البضاعة غشاً لا يقبله الله، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

    من الذي أحيا القلوب بإذن الله؟

    من الذي غرس فيها لا إله إلا الله وكانت ميتة؟ من الذي أخرج للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياً وطلحة والزبير وحسان وابن عباس؟

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له     وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

    أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه     والرسل في المسجد الأقصى على قدم

    كنت الإمام لهم والجمع محتفل     أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتمم

    أليس كسافة؟ أليس خزياً وعاراً أن يحفظ بعض الناس تواريخ البشر وينسون تاريخ أعظم البشر! يقرءون سيرة أخس البشر ويتركون سيرة أكرم البشر؟! يحفظون آداب أحقر البشر الأقزام! ويتركون العظيم الذي لم يطرق العالم مثله!

    والله لقد شهد الأعداء له، والله لقد اعترفوا بفضله، جولد زيهر المجري الذي هاجم الحديث يتهيب عن الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عظيم! إنه رجل عبقري! نشر الخير في الأرض.."

    أتطلبون من المختار معجزة     يكفيه شَعْبٌ من الأموات أحياه

    أهل الجزيرة، أهل الضأن، والغنم، والإبل، والعمالة، والجهالة، والضلالة، يخرجهم بعد خمس وعشرين سنة ليحملوا لا إله إلا الله في طشقند وسمرقند والهند ويقفون على ضفاف الأطلنطي ونهر الأوار. بماذا أخرجهم؟ لقد أدبهم ووجههم إلى المنهج السليم؟!

    فالمطلوب منا في العنصر الثاني المتابعة في الصيام، ما هو هديه في الصيام؟ وكيف كان صائماً؟ وأحسن من أدلكم على تأليفه في هذا الموضوع هو الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد.

    فهديه صلى الله عليه وسلم في الصيام، أنه كان أصبر الناس على الصيام، يواصل الليالي والأيام ولا يأكل اللقمة ولا يشرب جرعة، فكان الصحابة يحبون أن يواصلوا مثله ولكن هيهات! شتان ما بين الفريقين والواديين والمثلين، هم فضلاء لكنه من نوع آخر!

    وإن تفق الأنام وأنت منهم     فإن المسك بعض دم الغزال

    يقول: {إني لست كهيئتكم} ورفض أن يواصلوا معه قالوا: ولم؟ قال: {إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} يا للعظمة! يا للجلال! الله يطعمك ويسقيك فيكف تكون صائماً؟

    قال ابن القيم: ليس طعاماً محسوساً، ولا شراباً محسوساً، طعام المعاني، طعام أرواح الكلمات النيرات التي تتنزل عليه من السماء، طعام الإشراق والحكمة، طعام المعرفة؛ ولذلك يقول الأندلسي يوصي ابنه:

    فقوت الروح أرواح المعاني     وليس بأن طعمت ولا شربتا

    قوت الروح القرآن، قوت الروح المعاني، تجد الشاعر الذي يعيش الأحاسيس فينظم قصيدة جميلة فيشبع من قصيدته وجمالها، فينسى الطعام، وينسى الخبز والماء والفاكهة! فنقول: لم؟ فيقول: أنساني جمال التصوير والإبداع في القصيدة، والإشراق في المعاني أن آكل أو أشرب! فما بالك بمن جبريل يتنزل عليه بالوحي والكلام من السماء؟ قال: يطعمني ربي ويسقيني.

    قال ابن القيم: يطعمه معاني وكلمات نيرات وحكماً، ثم يستشهد بقول شاعر عربي سافر إلى محبوبته! فنسي الطعام والشراب وأصبح على الناقة يمشي ويقول:

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها     عن الطعام وتلهيها عن الزاد

    لها بوجهك نور تستضيء به      ومن حديثك في أعقابها حاد

    إذا تشكت كلال السير أسعفها      شوق القدوم فتحيا عند ميعاد

    هذا طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام يوم يواصل، أما الذي يُطْلَبُ منا: هو أن نعيش رمضان كما عاشه عليه الصلاة والسلام، فحياة النوم من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب ليست بحياة، وليس هذا بصيام، يصوم الإنسان وهو يحلم ويرى في المنام أنه صائم وهو لم يصم! لا جاع ولا ظمئ ولا عاش مع القرآن، أهذا صيام؟ من أين أتى هذا الصيام؟ حياة السهر في غير طاعة منذ صلاة العشاء، بل بعضهم يترك صلاة التراويح والقيام ويذهب للسهر حتى صلاة الفجر، يسهر مع أغنية ماجنة، أو عزف على الناي، أو رقصة وعرضة شعبية إلى السحر، يوم يتنزل الله إلى السماء الدنيا!

    قلت لليل: هل بجوفك سر     عامر بالحديث والأسرار؟

    قال: لم ألق في حياتي حديثاً     كحديث الأحباب في الأسحار

    يوم تمتد الأكف: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] من يتوب عليك؟ من يهديك سواء السبيل؟ من يرزقك؟ من يحل مشكلاتك في الحياة؟ من يؤمن مستقبلك إلا الله؟ قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] كل المخلوقات يموت إلا الله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    يا إخوتي في الله! حياة الصيام هي حياة القرآن، حياة تحفظ سمعك وبصرك وقلبك عما لا يرضي الله.

    الصدق وحسن التوجه إلى الباري

    الإخلاص شيء من الصدق والصدق شيء من الإخلاص، لكن الصدق يزيد عليه، الصدق أن تصدق في عبادتك قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] أن تصدق في الكلام، أن تصدق في العمل، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} الصدق عجيب! الصدق من أحسن ما يكون!

    سجن أحد الأخيار من العلماء في سجن بغداد، وكان الذي سجنه هو الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور، وسبب السجن أن الخليفة قال له: لابد أن تخبرني أين عيسى بن زيد -وهو من نسل وأحفاد علي بن أبي طالب - وعيسى بن زيد رجل فاضل عظيم، ولكنه اتهم بأنه يريد الخلافة، فأتى الوشاة، وقالوا: هذا الرجل الصالح في بيتك. فذهبوا به إلى الخليفة، فقال له الخليفة: أخرج عيسى بن زيد. قال: والله ما كذبت في حياتي، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كان عيسى بن يزيد بين جلدي وعظمي ولحمي ما أخرجته، أتقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اضربوا عنقه. فاقتربوا بالسيف من عنقه قال: قل لي: أين هو؟ قال: والله لا أكذب أبداً، وهل جزاء الصدق إلا الجنة، اضرب عنقي. فضرب ففصل رأسه عن جسده، (ذكر هذه القصة ابن خلكان).

    أدخلوا رجلا من الصالحين قيل: إنه زر بن حبيش على الحجاج، فقال الحجاج: أين ابنك؟ قال: أنا لم أكذب في حياتي، ولو كذبت كتمت عليك أين ابني فأنا كاذب، ابني في البيت. فجازاه الله جزاء الصدق بالصدق، ومعنى الصدق: أن تصدق في العبادة وأن تكون موافقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088782390

    عدد مرات الحفظ

    778995659