إسلام ويب

سلسلة من أعلام السلف الإمام سفيان الثوريللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة ما بقي فيها العلماء العاملون الذين تحيا بهم الأمم ويرشدون الناس إلى طريق الخير والهدى والحق، ومن هؤلاء العلماء سفيان الثوري الإمام العالم العلم إمام أهل زمانه المشهور بالزهد والورع والصدع بكلمة الحق رحمه الله رحمة واسعة.

    1.   

    بين يدي ترجمة سفيان الثوري

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    ثم أما بعد.

    فما زلنا -بحمد الله تعالى- في هذه الجولة المباركة مع العلماء الأعلام والأئمة الكرام، نسعد بصحبتهم ونأخذ من هديهم وننهل من بركة علمهم وعملهم في سلسلة التراجم التربوية من أعلام السلف.

    والعالم الذي نتشرف بترجمته اليوم عالم زمانه والمقتدى به في أوانه، سيد من سادات العلماء العاملين والعباد المجتهدين، إنه عالم الكوفة وشيخها سفيان بن سعيد الثوري من بيت خير وعلم وفضل، فأبوه من كبار الثقات بالكوفة، وإخوته من العلماء الأفذاذ، فرحمة الله على الجميع.

    والدارس لتراجم العلماء يرى حاجة الطلاب إلى دراستها، والانتفاع ببركتها، إلا أنها كسائر العلوم المدونة تحتاج إلى تصفية، فقد يكون فيها شيء من الغلو أو العصبية المذهبية، أو الحكايات الملفقة والأخبار المزوقة التي تخالف روح الشرع المتين، وتنادي على نفسها بالوضع، فمن ذلك ما أتى في ترجمة هذا الحبر: أنه عندما طلبه أبو جعفر لاذ بالبيت، وقال -ومعاذ الله أن يُنسب ذلك إليه-: أكون بريئاً منك إذا دخل أبو جعفر مكة، فمات أبو جعفر قبل أن يدخلها.

    فأمثال هذه الحكايات إن قصد بها بيان كرامة سفيان رحمه الله ففيها نسبة سوء الأدب إليه، فهو في الخشية والورع والأدب بمكانة، فنحن نقتصر على الأخبار التي تنشّط الهمم وتشحذ العزائم على الاجتهاد في الطاعة والزهد والورع والخشية، وإمامنا في هذه الرسالة أستاذ هذه الصنعة، وقد جمع بين العلم والعمل والشجاعة في الجهر بكلمة الحق.

    قال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، وحصل الإجماع على إمامته بحيث يُستغنى عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد.

    وقال ابن مهدي : ما كنت أقدر أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبة منه.

    وقد قال بعض السلف: على قدر محبتك لله عز وجل يحبك الخلق، وعلى قدر خشيتك من الله عز وجل يهابك الخلق، وعلى قدر انشغالك بالله عز وجل تشغل الخلق بأشغالك.

    1.   

    نسب سفيان الثوري ومولده

    اسمه ومولده وصفته:

    اسمه: سفيان بن سعيد بن مسروق بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن مناة بن أد بن طابخة بن إلياس .

    مولده:

    ولد سنة 97 هـ اتفاقاً، أي: أنه لا يوجد خلاف في أنه ولد سنة 97 هـ.

    ووالده المحدث سعيد بن مسروق الثوري من أصحاب الشعبي وخيثمة بن عبد الرحمن من ثقات الكوفيين.

    وعداده في صغار التابعين.

    وقد انتهينا من ذكر صغار التابعين بذكر شعبة والأعمش وأبي حنيفة ، ونبدأ بهذه الترجمة في بيان كبار أتباع التابعين: سفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد وحماد بن زيد .. وغيرهم.

    روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه أولاده سفيان -الإمام الذي نحن بصدد ترجمته- وعمر ومبارك، وحدث عنه شعبة بن الحجاج وآخرون.

    موطنه:

    ولد رحمه الله بالكوفة في خلافة سليمان بن عبد الملك .

    وقال أبو نعيم : خرج سفيان من الكوفة سنة 155 هـ ولم يرجع إليها.

    ولم أقف على شيء من صفته رحمه الله، فقد كان اعتناء أكثر المترجمين له في بيان أحواله وأقواله وثناء العلماء عليه، ولا شك أنه أولى بالاهتمام، والله المستعان.

    1.   

    ثناء العلماء على سفيان الثوري

    ثناء العلماء عليه:

    وهذا بحر لا يُدرك قعره ولا يُنزف غمره، ولا نُحرم بفضل الملك الوهاب من نقل ما أُثر من ذلك في هذا الكتاب.

    قال وكيع: كان سفيان بحراً.

    وقال الأوزاعي: لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا والصحة إلا سفيان .

    وقال ابن المبارك : لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان .

    قال سفيان بن عيينة : ما رأيت أحداً أفضل من سفيان ولا رأى سفيان مثل نفسه.

    وعن يحيى بن سعيد وسألوه عن سفيان وشعبة قال: ليس الأمر بالمحاباة، ولو كان الأمر بالمحاباة لقدمنا شعبة على سفيان لتقدمه.

    لأن شعبة من صغار التابعين، وسفيان من كبار أتباع التابعين.

    فقال: لو كان الأمر بالمحاباة لقدمنا شعبة على سفيان لتقدمه، فإن سفيان يرجع إلى كتاب وشعبة لا يرجع إلى كتاب، وسفيان أحفظهما، وقد رأيناهما يختلفان فوجدنا الأمر كما قال سفيان .

    وقال أبو بكر بن عياش : إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم.

    وعن يحيى بن معين قال: ما خالف أحدٌ سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان .

    وقال أحمد بن عبد الله العجلي : أحسن إسناد الكوفة سفيان عن منصور بن معتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود.

    وقال شعبة وسفيان بن عيينة وأبو عاصم النبيل ويحيى بن معين وغير واحد من العلماء: سفيان أمير المؤمنين في الحديث.

    وقال يونس بن عبيد : ما رأيت أفضل من سفيان فقال له رجل: يا أبا عبد الله ! رأيت سعيد بن جبير وإبراهيم وعطاء ومجاهد -وهؤلاء من التابعين- وتقول هذا؟ فقال: ما رأيت أفضل من سفيان.

    وروى وكيع عن شعبة قال: سفيان أحفظ مني.

    وقال عبد العزيز بن رزمة : قال رجل لـشعبة : خالفك سفيان فقال: دمغتني.

    وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً، فقال: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]، وأبو إسحاق السبيعي من التابعين.

    وقال محمد بن عبد الله بن عمار : سمعت يحيى بن سعيد يقول: سفيان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش .

    وعن شعيب بن حرب قال: إني لأحسب أنه يُجاء غداً بـسفيان حجة من الله على خلقه، يقال لهم: لم تدركوا نبيكم قد رأيتم سفيان .

    وقال ابن المبارك : كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من الثوري.

    ومع علو شأنه وارتفاع قدره وجمعه بين العلم والعمل لم يكن رحمه الله بالمعصوم، فقد لخّص الحافظ الذهبي مناقبه وما أُخذ عليه رحمه الله.

    فقال: قد كان سفيان رأساً في الزهد والتأدب والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الألفاظ، رأساً في الفقه لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين، واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير، كان يثلث بـعلي ، أي أنه يقدم علياً على عثمان ، وهو على مذهب بلده أيضاً في النبيذ، أي: أنهم كانوا يجيزون النبيذ الذي يسكر كثيره ولا يسكر قليله.

    ويأتي في ذكر ترجمة وكيع أيضاً أنه وقع في ذلك.

    ويقال: إنه رجع عن كل ذلك، وكان يُنكر على الملوك ولا يرى الخروج أصلاً، وكان يدلّس في روايته، وربما دلّس عن الضعفاء، وكان سفيان بن عيينة مدلساً لكن ما عُرف له تدليس عن ضعيف، فكان يدلّس عن ثقات.

    1.   

    زهد سفيان الثوري وورعه رحمه الله

    زهده وورعه رحمه الله:

    والمقصود بالزهد: خلو القلب من الدنيا وعدم الحرص عليها، فليس الزهد نفض اليدين منها والقلب متعلق بها شديد الشغف بحبها.

    قال يحيى بن نصر بن حاجب : سمعت ورقاء بن عمر يقول: إن الثوري لم ير مثل نفسه.

    قال وكيع : سمعت سفيان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.

    وعن عيسى بن يونس قال: مات سفيان الثوري مستخفياً، قد جمع قميصه خريطة قد ملأها كتباً. أي: كتابة.

    وعن شعيب بن حرب قال: قال لي الثوري : يا أبا صالح ! احفظ عني ثلاثاً: إذا احتجت إلى شسع -وهو رباط النعل- فلا تسأل، وإذا احتجت إلى ملح فلا تسأل، واعلم أن الخبز الذي تأكله بملح عجن، وإذا احتجت إلى ماء فاستعمل كفّيك فإنه يجري مجرى الإناء.

    وقال أبو قطن : عن شعبة : ساد سفيان الناس بالورع والعلم.

    وعن أبي السري قال: قيل لـفضيل بن عياض عما كان يذهب إليه من الورع: من إمامك في هذا؟ قال: سفيان الثوري .

    أُهدي لـسفيان ثوبٌ فرده، فقال له من أهداه: لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده عليّ. قال: علمت أنك لست ممن يسمع الحديث، ولكن أخاك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره.

    وعن قتيبة بن سعيد قال: لولا سفيان لمات الورع.

    وعن عبد العزيز القرشي قال: سمعت سفيان يقول: عليك بالزهد يبصّرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.

    وقال العمري: معاشر القراء! كلوا الدنيا فقد مات سفيان الثوري .

    وعن حفص بن غياث وذكر الثوري فقال: كان يتعزى بـسفيان وبمجالس سفيان عن الدنيا.

    وعن يحيى بن اليمان قال: كان سفيان الثوري يتمثل بهذا البيت:

    باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً بدارس خلق يا بئس ما اتجروا

    أي: باعوا الآخرة بالدنيا.

    1.   

    عبادة سفيان الثوري وخشيته

    عبادته وخشيته:

    عن علي بن فضيل قال: رأيت سفيان الثوري ساجداًً حول البيت، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، أي: أنه طاف سبعة أشواط وهو في نفس السجدة.

    وعن ابن وهب قال: رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي لصلاة العشاء.

    وقال رجل لـسفيان : أوصني! فقال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها.

    وعن عبد الله بن عبدان أبو محمد البغلاني قال: حدثنا عبد الله أن رجلاً كان يتّبع سفيان الثوري فيجده أبداً يُخرج من لبنة - أي: طوب - رقعة ينظر فيها، فأحب أن يعلم ما فيها، فوقعت الرقعة في يده فإذا مكتوب فيها: سفيان ! اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل.

    وعن عطاء الخفاف قال: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً. فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً.

    وكما قال بعضهم: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا؛ لما نرى من خوفه وجزعه.

    وعن عبد الرحمن رسته قال: سمعت ابن مهدي يقول: بات سفيان عندي فجعل يبكي. فقيل له؟ فقال: لذنوبي عندي أهون من ذلك -ورفع شيئاً من الأرض- إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت.

    وعن يحيى القطان قال: ما رأيت رجلاً أفضل من سفيان ، لولا الحديث كان يصلي ما بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء.

    وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا نكون عند سفيان الثوري فكأنه قد أوقف للحساب فلا نجترئ أن نكلمه، فنعرض بذكر الحديث فيذهب ذلك الخشوع، فإذا هو حدثنا وحدثنا.

    1.   

    اتباع سفيان الثوري رحمه الله للسنة

    اتباعه رحمه الله للسنة:

    عن شعيب بن حرب قال: قلت لـسفيان الثوري: حدثني بحديث في السنة ينفعني الله به، فإذا وقفت بين يديه وسألني عنه قلت: يا رب حدثني بهذا سفيان، فأنجو أنا وتؤخذ، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.

    القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال غير هذا فهو كافر، والإيمان قول وعمل ونية، ويزيد وينقص، وتقدمة الشيخين -أبي بكر وعمر- .. إلى أن قال: يا شعيب لن ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين -ومسألة المسح على الخفين في الحضر والسفر مسألة فقهية، ولكن لما نفاها الروافض نص أهل السنة في عقائدهم على أن هذه من عقيدة أهل السنة لمخالفة أهل البدعة- قال وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر بها -يقصد: في الصلاة، وهذا أيضاً من الفقه بالسنة، ولكن لمخالفة أهل البدع في ذلك- وحتى تؤمن بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل.

    فقلت: يا أبا عبد الله! الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين صل خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير لا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة، فإذا وقفت بين يدي الله وسألك عن هذا فقل: يا رب! حدثني بهذا سفيان بن سعيد، ثم خل بيني وبين ربي عز وجل.

    قال الذهبي : هذا ثابت عن سفيان .

    والذهبي يحقق القصص والروايات، فيقول: هذه الرواية ضعيفة، وهذه الرواية مسندة صحيحة.

    1.   

    محنة سفيان الثوري رحمه الله وصدعه بالحق

    محنته رحمه الله وصدعه بالحق:

    عن داود عن أبيه قال: كنت مع سفيان الثوري فمررنا بشرطي نائم وقد حان وقت الصلاة، فذهبت أحركه فصاح سفيان فقال: مه! فقلت: يا أبا عبد الله يصلي، فقال: دعه لا صلى الله عليه، فما استراح الناس حتى نام هذا.

    وعن عطاء بن مسلم قال: لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان ، فلما دخل خلع خاتمه فرمى به إليه، فقال: يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟! قال عبيد قلت لـعطاء: يا أبا مخلد! قال له: يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، قال: فغضب من ذلك وهم به، فقال له كاتبه: أليس قد أمّنته يا أمير المؤمنين؟! قال: بلى، قال: فلما خرج حف به أصحابه فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمر أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، قال: فاستصغر عقولهم ثم خرج هارباً إلى البصرة.

    وروى ابن سعد في الطبقات قال: وطُلب سفيان فخرج إلى مكة، فكتب المهدي أمير المؤمنين إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة يطلبه، فبعث محمد إلى سفيان فأعلمه بذلك، وقال: إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم، وإن كنت لا تريد ذلك فتوار، قال: فتوارى سفيان ، وطُلب من محمد بن إبراهيم وأمر منادياً فنادى بمكة: من جاء بـسفيان فله كذا وكذا، فلم يزل متوارياً بمكة لا يظهر إلا لأهل العلم ومن لا يخافه، قالوا: فلما خاف سفيان بمكة من الطلب خرج إلى البصرة فقدمها، فنزل قرب منزل يحيى بن سعيد القطان فقال لبعض أهل الدار: أما قُربكم أحداً من أهل الحديث؟ قالوا: بلى يحيى بن سعيد قال: جئني به، فأتاه به، فقال: أنا هنا منذ ستة أيام أو سبعة، فحوّله يحيى إلى جواره بينه وبينه بابٌ، وكان يأتي بمحدثي أهل البصرة يسلمون عليه ويسمعون منه الحديث، فكان فيمن أتاه جرير بن حازم والمبارك بن فضالة وحماد بن سلمة ومرحوم العطار وحماد بن زيد وغيرهم، وأتاه عبد الرحمن بن مهدي ولزمه، فكان يحيى وعبد الرحمن يكتبان عنه تلك الأيام، وكلّم أبا عوانة أن يأتيه فأبى، وقال: رجل لا يعرفني كيف آتيه. وذلك أن أبا عوانة سلّم عليه بمكة فلم يرد عليه سفيان السلام -ولعله شك فيه أو كأنه لا يعرفه- وكُلم في ذلك فقال: لا أعرفه، ولما تخوّف سفيان أن يشهر بمقامه بالبصرة قرب يحيى بن سعيد قال له: حوّلني من هذا الموضع، فحوّله إلى منزل الهيثم بن منصور الأعرجي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، فلم يزل فيهم فكلمه حماد بن زيد في تنحيه عن السلطان وقال: هذا فعل أهل البدع، وما نخاف منهم؟ فأجمع سفيان وحماد أن يقدما بغداد.

    وسيأتي أنه توفي قبل أن يذهب.

    1.   

    شيوخ سفيان الثوري وتلامذته

    1.   

    درر من أقوال سفيان الثوري رحمه الله

    درر من أقواله:

    عن عبد الله بن سابق قال: قال سفيان الثوري : النظر إلى وجه الظالم خطيئة.

    والأفضل أن نقول: يقسي القلب؛ لأن قولنا: خطيئة، يحتاج إلى دليل.

    وعن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان الثوري : من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله.

    وعن يحيى بن يمان قال: حدثنا سفيان قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والتمسوا رضوانه بالتباعد منهم، قالوا: فمن نجالس؟ قال: من تذكركم بالله رؤيته، ويرغّبكم في الآخرة عمله، ويزيد في علمكم منطقه.

    وعن محمد بن أبي منصور أو غيره قال: عاتب سفيان رجلاً من إخوانه كان هم أن يتلبس بشيء من أمر هؤلاء - أي: الأمراء - فقال له: يا أبا عبد الله! إن عليّ عيالاً، قال: لئن تجعل في عنقك مخلاة فتسأل على الأبواب خير من أن تدخل في شيء من أمر هؤلاء.

    وعن حذيفة المرعشي قال: قال سفيان : لئن أخلّف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس.

    وعن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان يقول: من أحب أفخاذ النساء لم يفلح.

    وعن عبد الله بن بشر قال: سمعت الثوري يقول: إن الحديث عز، من أراد به الدنيا فدنيا، ومن أراد به الآخرة فآخرة.

    وعن أبي أسامة قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إنما العلم عندنا الرخص عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه.

    فليس الفقه بالتشدد، ولكن الفقه أن تأتيك الرخصة من عالم، فالفقيه ليس هو الذي يقول: هذا حرام وهذا حرام ويضيّق على الناس، ولكن الفقيه هو الذي يجد للناس مخرجاً بحيث لا يخالف الشرع.

    وعن الفريابي قال: سمعت سفيان يقول: يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفياً - أي: عنده الرزق الذي يكفيه - فإن الآفات إليه أسرع وألسنة الناس إليه أسرع.

    وعن زيد بن أبي الزرقاء قال: خرج سفيان ونحن على بابه نتدارس النسخ - أي: يعالجون بعض الأخطاء في النسخ - فقال: يا معشر الشباب! تعجّلوا بركة هذا العلم؛ فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه، ليفد بعضكم بعضاً.

    وعن أبي أحمد الزبيري قال: كتب رجلٌ من إخوان سفيان الثوري إلى سفيان الثوري : أن عظني فأوجز، فكتب إليه: عافانا الله وإياك من السوء كله، يا أخي! إن الدنيا غمها لا يفنى، وفرحها لا يدوم، وفكرها لا ينقضي، فاعمل لنفسك حتى تنجو، ولا تتوانى فتعطب، والسلام.

    1.   

    ما تمثل به سفيان الثوري رحمه الله من الشعر

    ما تمثل به من الشعر رحمه الله:

    عن عبد الله بن زياد عن محمد بن بشر قال: سمعت سفيان الثوري يقول:

    إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

    ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

    وعن محمد بن عبيد الطنافسي قال: سمعت سفيان يقول:

    يسر الفتى ما كان قدم من تقى إذا عرف الداء الذي هو قاتله

    وعن مزاحم بن زفر قال: سمعت سفيان الثوري ينشد هذه الأبيات من قول ابن حطان :

    أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوّع

    أراها وإن كانت قليلاً كأنها سحابة صيف عن قليل تقشّع

    وعن زكريا بن عدي قال: كان الثوري يتمثل:

    أرى الرجال بدون الدين قد قنعوا وليس في عيشهم يرضون بالدون

    فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

    أي: أنه كما استغنى أهل الدنيا بالدنيا وتركوا الدين، فاستغن أنت بالدين.

    قال: وليس في عيشهم يرضون بالدون، أي: في الدنيا لا يرضون بالدون.

    1.   

    وفاة سفيان الثوري رحمه الله وبعض ما قيل في رثائه

    وفاته رحمه الله:

    قال ابن سعد رحمه الله: كتب سفيان إلى المهدي أو إلى يعقوب بن داود فبدأ بنفسه فقيل له: إنهم يغضبون من هذا، أي: أنه عندما يكتب: من فلان إلى فلان -وهذه سنة في الرسائل- قالوا له: إن الأمراء يغضبون من ذلك، ولا بد أن يبدأ بهم، فبدأ بهم، فأتاه جواب كتابه بما يحب من التقريب والكرامة والسمع منه والطاعة، فأراد الخروج إليهم، فحُم ومرض مرضاً شديداً وحضره الموت فجزع، فقال له مرحوم بن عبد العزيز : يا أبا عبد الله! ما هذا الجزع؟ إنك تقدم على الرب الذي كنت تعبده، فسكن وهدأ وقال: انظروا من هاهنا من أصحابنا الكوفيين، فأرسلوا إلى عبدان فقدم عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر والحسن بن عياش أخو أبو بكر بن عياش فأوصى إلى عبد الرحمن بن عبد الملك وأوصاه أن يصلي عليه، فأقام عنده حتى مات، فأُخرج بجنازته على أهل البصرة فجأة وسمعوا بموته، وشهده الخلق، وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك، وكان رجلاً صالحاً رضيه سفيان لنفسه، ونزل في حفرته ونزل معه خالد بن الحارث وغيرهما، ودفنوه، ثم انصرف عبد الرحمن بن عبد الملك والحسن بن عياش إلى الكوفة فأخبرا أهلها بموت سفيان رحمه الله.

    وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: لما مات سفيان أخرجناه من الليل من أجل السلطان، فحملناه بالليل، فما أنكرنا الليل من النهار -لعل هذا من كثرة الناس- قال: وسمعته يقول في علّته وكان به البطن: ذهب التستر.. ذهب التستر.. أي: أنه لما أوشك على الموت وكان به البطن كان يقول: ذهب التستر ذهب التستر.

    وقال يحيى القطان : مات في أول سنة 161هـ، وولد سنة 97 هـ.

    قال الذهبي : الصحيح موته في شعبان سنة 161 هـ، وكذلك أرّخه الواقدي ووهم خليفة فقال: مات سنة 162 هـ.

    وعن ضمرة قال: نظر حماد بن زيد إلى سفيان الثوري مسجى بثوب على السرير فقال: يا سفيان! لست أغبطك اليوم بكثرة الحديث، وإنما أغبطك بعمل صالح قدمت.

    وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: جاءني جرير بن حازم وحماد بن زيد الغد يوم دفنا سفيان فقالا: أخرج بنا، فخرجت معهما فبينما نحن نمشي قال جرير بن حازم :

    من كان يبكي على حي لمنزله بكى الغداة على الثوري سفيانا

    قال: ثم سكت، فظننت أنه كان قد هيأ أبياتاً يقولها فسكت فقال عبد الله بن الصبّاح :

    أبكي عليه وقد ولى وسؤدده وفضله ناضر كالغصن ريانا

    فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأدخلنا وإياه جنة عالية قطوفها دانية.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755797507