إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية عام الحزنللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يختلف نمط الدعوات الإلهية عن البشرية في أن الأولى لا تعتمد في ديمومتها على فرد أو أفراد بحياتهم تحيا وبموتهم تتلاشى، فمع ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من أذى زاد بموت عمه وزوجه، إلا أن ذلك لم يثنه عن دعوته، بل ذهب إلى الطائف يدعوهم عشرة أيام، فرفضوا دعوته وسلطوا عليه العبيد والصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموه، ثم عاد إلى مكة هائماً على وجهه ليقابل ملك الجبال في قرن الثعالب، ثم يؤمن به الجن في وادي نخلة، ويواصل دعوته للحجيج، يبحث عمن يقبل الإسلام وينصر الدين.

    1.   

    موت أبي طالب وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد.

    فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في فترة مكة.

    تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي عصفت بمكة عندما تجمع بنو عبد مناف لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عن الحصار الاقتصادي البشع الذي قام به الكفار، وعن فك هذا الحصار، وخروج بني عبد مناف من الشعب في محرم من السنة العاشرة من البعثة النبوية.

    بدأت السنة العاشرة بمرض أبي طالب الذي بلغ الثمانين من عمره، كما أن حصار الشعب لثلاث سنوات أكل فيها من ورق الشجر والجلود، بالإضافة إلى القلق، كل هذا أضعف من قوته ولم يتحمل، ولشدة مرضه كانوا يتوقعون له الموت في أي لحظة، وكان زعماء الكفر يخافون من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعد موت أبي طالب فتعيرهم العرب بأنهم استغلوا موته لإيذاء ابن أخيه. أي: أنه كانت توجد بقايا حياء عند أهل الجاهلية؛ لذا ذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه في صراحة أن ينظر لهم أي حل مع محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وجمعوا لذلك وفداً مهيباً من (25) رجلاً، كان منهم أبو جهل وأبو سفيان وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف .. وغيرهم كثير، قالوا له: يا أبا طالب ! إنك منا حيث قد علمت -أي أن لك مكانة كبيرة عندنا- وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك من الموت، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، وهذا تنازل جديد، وهو في الحقيقة عرض مغر من زعماء مكة، فقبل هذا كانوا يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم ليترك فكرة الإسلام، وفي هذا الوقت يطلبون منه أن يظل هو وأصحابه مسلمين، ونحن سنظل على ديننا، وليس لأحد دخل بالآخر، فهؤلاء وهؤلاء سيعيشون متجاورين ولا يؤذي بعضهم بعضاً، لكن في المقابل ألا يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتقدات قريش، وألا ينكر عليهم منكراً، وألا يأمرهم بمعروف، وألا ينصح أحداً بتطبيق أحكام الله عز وجل على عباد الله، أي: متى ما أرادوا الصلاة فليس هناك مانع، ومتى ما أرادوا الطواف بالكعبة ليس هناك مانع، لكن ليس لهم دخل في شئون مكة الدنيوية، بل يفصلون دينهم عن دنيا مكة.

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم للتو خارجاً من الحصار الرهيب الذي امتد ثلاث سنين، والمسلمون وبنو عبد مناف منهكون، وأبو طالب سوف يموت، ونصف المسلمين مهاجر إلى الحبشة، أي: أن الوضع في مجمله ضعيف، والذي يرى هذا الوضع يعتقد أن هذه فرصة كبيرة للمسلمين.

    أرسل أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له في حضور المشركين: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فالرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه وقال: (يا عم! أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال أبو طالب : وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم). القرشيون ما كانوا يحلمون أبداً بوحدة العرب، وفوق هذا أيضاً العجم! هذا فوق حدود التخيل، أين هم من فارس والروم؟ كل هذا بكلمة؟

    أبو جهل كان يظن نفسه ملكاً، والعرب كلها ستسمع كلامه، وأيضاً كسرى وقيصر، فوجد نفسه يقول: ما هي هذه الكلمة؟ اندفع في تهور كالعادة وقال: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه)، فـأبو جهل والذين معه أُصيبوا بالذعر، أما زلت مُصراً على ما أنت عليه؟ أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب!

    فهؤلاء الكفار عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، لها يتعبون ويسهرون ويحزنون ويتألمون، وبعد هذا ما هي النتيجة؟ النتيجة لكل هذا التعب والسهر والكد والعرق، يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]هذه هي العيشة التي يعيشونها، اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات، فهم في حذر وترقب ورعب وهلع، لا يستطيعوا أن يطمئنوا ولا أن يناموا ولا حتى أن يستمتعوا بحياتهم فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] ومع هذا أيضاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]نسأل الله العافية.

    أما الصحابة فقد قالوا هذه الكلمة، واستطاعوا فعلاً تجميع العرب تحت راية واحدة، وبعد أن انتهوا من العرب انتقلوا إلى غيرهم، فقد سقطت عروش كسرى وقيصر .. وغيرهما من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، فُتحت بقاع مهولة بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً بلا إله إلا الله، كل هذا حصل بلا إله إلا الله، كل هذا حصل بمنهج الإسلام، والذي لم يجعل لا إله إلا الله منهجه كان مصيره كمصير من كانوا في غزوة بدر، ذلة في الدنيا وذلة في الآخرة.

    إذاً: المفاوضات فشلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموقف ظل كما هو عليه لفترة في مكة، ثم دخل المسلمون في ابتلاء جديد، وحلقات متتابعة من الابتلاء والتمحيص، حياة كلها ابتلاء الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].

    كان أبو طالب أكثر من يساعد المسلمين، ولكيلا يظن أحد أن الدعوة معتمدة على إنسان معين مهما كان، لا بد أن هذا الإنسان يموت، وننظر ما الذي سوف يحصل للدعوة؟ سنجد أن الدعوة ستظل كما هي؛ لأنها دعوة ربنا سبحانه وتعالى، ليست مرتبطة بموت إنسان ولا بحياته مهما كان هذا الإنسان.

    مات أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، وكان موته مأساوياً إلى أبعد درجة، ليس لأنه مات، وأنه كان ينصر الدعوة، ويحمي الرسول صلى الله عليه وسلم، لا؛ ولكن لأنه مات مشركاً كافراً، مات على غير الحق الذي طالما دافع عنه.

    في لحظة موته ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد أبا جهل عنده، قد سبق إليه ليتأكد أنه سيموت من غير أن يغير دينه القديم، ومن غير أن يترك هبل!

    دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي طالب يريد أن يدركه قبل أن يموت، فمنذ عشر سنين وهو يدعوه إلى الإسلام وهو يرفض، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أنه لو مات كافراً فإن مصيره جهنم.

    أبعد كل هذا الدفاع والكفاح والتعب والنصب يخلد في النار؟

    قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أي عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه سوف يقف يدافع عنه ويشفع له.

    وكان أبو جهل في قلق لموت أبي طالب ، ولو آمن فقد تؤمن قبيلة بني هاشم، ولو حصل هذا فمن الممكن أن تؤمن مكة، فأراد أن يستخدم كل إمكانياته وطاقاته ليعيش لقضيته تماماً.

    قال أبو جهل: يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟

    كان أبو جهل يكره كل بني هاشم، وعاش عمره ينافسهم ويحاربهم، لكنه يلمس في أبي طالب التقاليد.

    أما أبو طالب فقد كان حيران بين أعظم الخلق وأبلغ البشر صلى الله عليه وسلم، وبين فرعون هذه الأمة وإمام الكفر أبي جهل لعنه الله، وفي الأخير كانت النتيجة بعد التفكير، وكان القرار قبل أن يموت أنه قال: هو على ملة عبد المطلب . عبادة هبل واللات والعزى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    تخيل مدى الألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب عمه، ويرى بعينيه مدى الجهد الذي كان يقوم به، ومقدار خدمته للإسلام.

    فقال صلى الله عليه وسلم في حزن شديد: (لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك)، كان يشعر أن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يقول له: لا تستغفر له، ونزل قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

    بعد كل هذا العناء الذي لقيه أبو طالب ، وبعد الحصار في الشعب، وليل نهار مع الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع منه، لكنه من أصحاب الجحيم؛ لأنه لم يقل كلمة واحدة وهي أثقل من كل أعمال بني آدم: لا إله إلا لله.

    في الحقيقة أن هذا الموقف مؤثر جداً، يجب أن نحمد الله سبحانه وتعالى على أننا بفضله أصبحنا مسلمين، هناك الكثير من الناس الذين لا يقدرون قيمة هذه الكلمة التي يحملونها، كلمة: لا إله إلا الله.

    بعد موت أبي طالب تغير الموقف تماماً في مكة، فـأبو طالب كانت له مكانة كبيرة في مكة، أيضاً وكان على دينهم، فقريش على كل الكراهية والعداء التي كانت تحمله للرسول صلى الله عليه وسلم لم تستطع فعل كل ما تريده، فقد كانت تهاب أبا طالب ، لكن الآن مات أبو طالب ، فتجرءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب) مع كل الذي وقع قبل هذا إلا أنه يعتبره لا شيء قياساً لما وقع له بعد موت أبي طالب .

    يقول عبد الله بن مسعود : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان؟ -يعني: أمعاء الناقة ذبحت الآن- فيضعه على ظهر محمد صلى الله عليه وسلم إذا سجد، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، يقول عبد الله بن مسعود : وأنا أنظر لا أُغني شيئاً) لاحظ الحسرة الشديدة في كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود ليس له منعة في مكة، لن يبكي عليه أحد، ولو قام يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم سيُقتل، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فجعلوا -أي: الكفار- يضحكون ويحيل بعضهم على بعض) يعني: يميل بعضهم على بعض من شدة فرحهم بالإنجاز الكبير الذي فعلوه (ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية صغيرة -كان عمرها عشر سنوات تقريباً- فطرحته عن ظهره، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش) ثلاث مرات، تفاجأت قريش، فهذه أول مرة يدعو النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وهم يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، وأن الدعاء بمكة مقبول، ثم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يسمي أشخاصاً يقول: (اللهم عليك بـأبي جهل وعليك بـعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، يقول عبد الله بن مسعود : وعد السابع فلم أحفظه)، وفي رواية أخرى أن السابع عمارة بن الوليد ، قال عبد الله بن مسعود : (فوالذي نفسي بيده! لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في قليب بدر) كل هؤلاء قُتلوا في بدر.

    تطور الموقف في مكة، ففي كل يوم مشكلة، الألم بدأ يزداد برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحزن في قلبه لا يفارقه؛ ليس لأن أبا طالب مات مشركاً، بل أيضاً لأن الكفار لم يتركوه.

    1.   

    موت خديجة وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم

    في هذا الجو من الأحزان والهموم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصيبة جديدة وهم جديد (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الابتلاءات التي من الممكن أن تحصل لإنسان من فقر وجوع، وضرب وتعذيب، وسخرية، وحروب وجهاد، ومن فقد للأم وللأب وللجد والعم، وفقد للأولاد وللأصحاب، وترك للديار.. كل الابتلاءات، وفي هذا الوقت مع كل الهموم التي يعيشها سيدخل في ابتلاء فقد الزوجة، السند العاطفي الجميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ماتت السيدة العظيمة الجليلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

    كانت خديجة نعمة من نعم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير متاع الدنيا له، كانت الصدر الحنون، والرأي الحكيم، قضت عشرة طويلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دامت (25) سنة، في كل هذه السنين لم تختلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تطلب منه شيئاً لنفسها، وعاشت تساعده بكل طاقتها، كانت كل سعادتها أن تراه سعيداً، فقد كان يتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول في حب عميق: (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها) بعد كل هذا الارتباط الوثيق أذن الله عز وجل بالرحيل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ماتت خديجة رضي الله عنه وأرضاها.

    موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، فالرجل مسكين بغير زوجته، وكلما طالت العشرة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالك لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض.

    هذه من أشد المصائب التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)، يعني: أنها لم تقارن بنساء قريش أو حتى بنساء زمنها، بل بنساء العالمين، فهذه واحدة من أعظم أربع نساء في الخلق، درجة عالية من السمو.

    هذه السيدة بهذا القدر وبهذه القيمة والمكانة فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركته بعد وفاة أبي طالب بأيام، وفي روايات قبل وفاة أبي طالب بأيام، أي: أن المصيبتين كانتا في وقت قريب، وخلفتا في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً كبيراً، وكان يحتاج إلى من يسمع منه مشاكله وهمومه ويتحدث معه، كان يقول لها: قريش عملت كذا وكذا! فتقول له: لا بأس فالله معك، وربنا سوف ينصرك، أو يجد ابتسامة تخفف من أحزانه.

    كل هذه الأحداث تحصل وعمره خمسون سنة، وقد وهن العظم منه، وكثرت الهموم، وتشعّبت المشاكل، فليست القضية قضية موت أبي طالب ولا السيدة خديجة ، ولا الإيذاء الذي يتعرض له من قريش.

    إذا كان يحصل معه هكذا من قريش فأكيد أن المسلمين الآخرين سيحصل معهم هذا.

    كما أنه كان يحمل هم المستضعفين ويشعر بهم ويخاف عليهم، ويحمل هم مشاكل المسلمين الذين كانوا في الحبشة أكثر من مائة معهم أولادهم، ولا يعلم شيئاً عن وضعهم.

    هذه جميعها مشاكل وهموم جعلت ذلك العام يُطلق عليه بحق: عام الحزن.

    1.   

    خروج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحزن إلى الطائف

    كان الهم الكبير الحقيقي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، وكان أكثر شيء يزعجه هو بعد الناس عن الإسلام، وأن الموقف تجمد في مكة وأُغلقت جميع أبواب الدعوة فيها، كان هذا أشد ما أثر فيه؛ لأن الدعوة كانت في دمه، ولا يستطيع أن يتوقف عنها، وها هي مكة قد أغلقت كل أبوابها، فهل من المعقول أن يأتي وقت تقف فيه الدعوة؟ مستحيل، الدعوة بالنسبة له كالماء والهواء.

    إذاً: كيف سيتصرف في هذا الموقف الصعب؟

    كان الله سبحانه وتعالى يشفق عليه من كثرة حزنه على الناس، فقال له: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يتحمل وقوف الدعوة؛ لذا فكّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرة الأولى منذ البعثة أن يخرج بدعوته خارج مكة، وقبل هذا لم يكن هناك خروج من مكة أبداً؛ لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها، ولو بمشقة، لكن في هذا الوقت بعد أن وقفت الدعوة في مكة أصبح هناك مبرر للخروج، وهذا درس مهم، فإن الداعية لا يترك مكانه ويخرج إلى مكان آخر إلا إذا كان المكان الذي يعيش فيه لا يستطيع أن ينشر فيه دعوته؛ لأن مسئوليته الأساسية هي الناس الذين يعيش معهم.

    إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم سيخرج، ولكن إلى أين، فمدن الجزيرة كثيرة، والقبائل فيها متعددة؟ فبمن يبدأ؟

    سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الطائف للدعوة

    فكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالطائف، ولم يكن هذا الاختيار عشوائياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم سياسي بارع، وقائد محنك يدرس كل خطوة بدقة شديدة، كانت الطائف تتميز عن غيرها من مدن الجزيرة بأشياء مهمة جداً:

    أولاً: تُعتبر الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة، فهي مركز حيوي وهام من ناحية الكثافة السكانية والتجارة، ولها مكانة كبيرة في قلوب العرب، فقد كان يقول المشركون: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]القريتان: هما مكة والطائف، فكانت مكانتها عالية، والناس الذين فيها كثر.

    ثانياً: في الطائف قبيلة ثقيف، وهي من أقوى القبائل العربية، وواضح أن قريشاً بعد هذا سوف تحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن قبيلة قوية تستطيع أن تقف أمام قريش، وهذا ليس من السهل، وقبيلة ثقيف كانت في منتهى القوة لدرجة أنها هي القبيلة الوحيدة التي استعصت على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، وظل يحاصرها شهراً كاملاً ولم تُفتح، وإنما أتوا بأنفسهم وأسلموا، فهي فعلاً قبيلة قوية، وضخمة.

    ثالثاً: كانت المنافسة الدينية بين مكة والطائف كبيرة، فإذا كانت مكة فيها البيت الحرام وهُبل، فالطائف فيها اللات أشهر أصنام العرب، وكثير من العرب كانوا يحلفون باللات، حتى ممن بداخل مكة، ولعل الطائف ترغب في سحب البساط من تحت أقدام مكة وتتبنى هذه الدعوة الجديدة؛ لكي تتفوق على مكة في ناحية الدين.

    رابعاً: أن الطائف قريبة نسبياً من مكة، والمسافة بينهما حوالي (100) كيلو، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يبتعد كثيراً عن مكة، ليسهل التنسيق بين مكة والطائف.

    خامساً: كانت الطائف مهمة بالنسبة لأهل مكة، فأغنياء قريش بصفة عامة كانت لديهم أملاك في الطائف، من بني هاشم وبني عبد شمس وبني مخزوم، ولو دخلت الطائف في الإسلام فستكون ضربة اقتصادية موجعة لقريش.

    ومن أجل هذا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ بالطائف، فذهب إليها في شوال من السنة العاشرة من البعثة، في نفس الشهر الذي مات فيه أبو طالب أو بعد على حسب اختلاف الروايات، وهذا يبين إلغاء مصطلح الراحة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    كانت المسافة بين الطائف وبين مكة (100) كيلو، والطريق كله صحراء، والجو حار، وكان هذا في مايو أو يونيو سنة (619م)، ومع ذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع هذه المسافة مشياً على الأقدام، ولم يكن من الصعب عليه أن يوفر جملاً أو حصاناً، لكنه أراد ألا يلفت النظر إليه، فلو رآه المشركون سيعلمون أنه مسافر، وتتعطل الدعوة، ولهذا السبب أيضاً أخذ معه زيد بن حارثة ، ولم يأخذ معه غيره من الصحابة من فرسان المسلمين كـحمزة أو عمر أو سعد أو الزبير ممن يحميه هناك في الطائف؛ لأن أي واحد من هؤلاء لو خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم خارج مكة سوف يلفت النظر، لكن لو أخذ معه زيد بن حارثة ، وكان في ذلك الوقت متبنيه، ومعروف بـزيد بن محمد ، فلن يلفت نظر أحد، فهو رجل يمشي مع ابنه.

    موقف أهل الطائف من الرسول صلى الله عليه وسلم حين أتاهم ودعاهم إلى الإسلام

    وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وظل يفكر لمن أذهب؟ وأبتدئ بمن؟ لأن الأمر الآن ليس مجرد دعوة فقط، بل هي دعوة وطلب للنصرة ضد قريش، لذا ذهب لسادة الطائف، فالضعفاء لن يجيروه من قريش، وليس هذا تقليلاً من شأن الضعفاء، ولكن هذه مهمة سياسية، ولا يمكن أن يقاس هذا الموقف بموقف (عبس وتولى)، لا بد من الحديث مع من يستطيع أن يتحمل المسئولية، كما أنه في الطائف ليس له أي إجارة، وبدون دخول المدينة من بابها الرئيسي فلن يتمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوة كبير ولا صغير، ولهذا فكّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب لقيادة الطائف مباشرة.

    وفي هذا رد على من يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، فهذه هي السياسة، إلا إذا كان قصدهم أن السياسة لا تنفع إلا بالكذب والنفاق والمظاهر والتجمل الزائف، فأقول له: الإسلام يدعو إلى السياسة النظيفة، والسياسة الشرعية جزء لا يتجزأ من التشريع الإسلامي، وها نحن نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل بها.

    اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة من أبناء عمرو بن عمير من كبار سادات الطائف، وعرفهم بنفسه ودعاهم للإسلام ودعاهم للنصرة له وللمسلمين ضد قريش، وهؤلاء الثلاثة هم: عبد ياليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير ، فكان ردهم في منتهى السفاهة والتخلف وانعدام الأدب، قال عبد ياليل بن عمرو : إنه سيمرط -يعني: سوف يقطع- ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وليس هذا استخفافاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا، وإنما بالله عز وجل، أي: سوف يقطع ثياب الكعبة اعتراضاً على إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقال مسعود : أما وجد الله أحداً غيرك؟

    أما الثالث حبيب فحاول أنه يستظرف أو يمثل دور الذكي، إلا أنه كان في منتهى الغباء، قال: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً؛ لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي أن أكلمك.

    مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطدم صدمة جديدة إلا أنه قال لهم: (إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني) أي: إن لم تؤمنوا فاجعلوا هذا الأمر بيني وبينكم، فهو لا يريد أن يصل الخبر إلى قريش، فلو وصل الخبر إليهم سوف يتهم صراحة بتهمة التخابر مع قبيلة أجنبية، ومحاولة زعزعة نظام الحكم في مكة، وإثارة الفتنة .. إلى آخر الأشياء التي تعرفوها، لكن للأسف كان زعماء الطائف مع أنهم أغبياء ومنعدمو الأخلاق، كانوا أيضاً فاقدي المروءة، فهم لم يكشفوا أمره فقط، بل أغروا به سفهاءهم وغلمانهم.

    لم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم مما حدث، وظل في الطائف عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا وكلمه، ولكن كلهم رفضوا، وفي اليوم العاشر قالوا له: اخرج من بلادنا، وصفوا العبيد والسفهاء صفين خارج الطائف، وجعلوه يمر بين الصفين، وبدءوا يرمونه بالحجارة وهو بين الصفين، وبدأ الدم يخرج من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يستطيع التصرف، وزيد بن حارثة يحاول بكل طاقته أن يبعد الحجارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يستطيع، فالحجارة تأتيه من كل مكان، وشج رأسه رضي الله عنه وأرضاه، ومع كل هذا شتائم وسباب ولعنات، والرسول صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه يبذلون قدر استطاعتهم للخروج من بين الصفين في اتجاه مكة، لكن العبيد لم يتركوهم، وأسرعوا خلفهم بالحجارة مسافة خمسة كيلو متر كاملة، ثم رأى الرسول صلى الله عليه وسلم حديقة فدخل فيها، لعله يجد من يدافع عنه، وعندما دخلها خاف العبيد من اللحوق به، وعادوا إلى الطائف.

    أبعد كل هذا العناء والكد والتعب والمشقة هناك من المسلمين ممن يفرطون بالإسلام؟!

    الناس لا تدري عن الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعها زيد بن حارثة وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وخديجة .. وغيرهم، إن الدين لم يأتنا بسهولة، فكل لحظة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها معاناة شديدة، كل هذا ليبلغنا ويوصل لنا الدين.

    ثم إني لا أشك في أن حزن الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقي في هذا الموقف كان على أهل الطائف وليس منهم، وكان لسان حاله يقول: يا ليت قومي يعلمون، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً عليهم كما أنه خائف علينا، أكثر شيء يحزنه أن يأتي من يرفض الإيمان وليس أن يؤذيه أو يضربه، فقد قال الله سبحانه وتعالى له: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [النحل:127] وليس ولا تحزن منهم، فإنه كان خائفاً عليهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان رحمة حقيقية للأرض صلى الله عليه وسلم.

    دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الحديقة واستظل تحت شجرة فيها، ووضع ظهره عليها، وكان يسيل الدم عليه، وثيابه مقطعة والتراب يغطيه، فحاول أن يتماسك أمام زيد بن حارثة لكن لم يستطع! وبدأت الدموع تنزل من عينيه صلى الله عليه وسلم، كان بداخله بركان من الألم غير الجراح والدماء.

    فما الذي سوف يعمله في هذا الوقت؟ وكيف يرجع إلى مكة؟ فمن المؤكد أن الأخبار قد وصلت إليهم، وأصبحت مكة مقفولة عليه، فمن أين سيدخلها؟

    بكى صلى الله عليه وسلم بحرقة، ثم رفع يديه إلى السماء، وبدأ يدعو بدعاء حزين جداً، ما دعا به قبل ذلك، ولم يدع به بعد ذلك، دعاء يعبر عن مدى الألم الشديد الذي يعتصر قلبه صلى الله عليه وسلم، قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالى، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)، ألم شديد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إيمان عداس بالنبي صلى الله عليه وسلم

    لما لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديقة خرج أصحابها وهما: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة من كفار مكة، وعتبة بن ربيعة كان يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا، بل دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (اللهم عليك بـعتبة بن ربيعة ، وعليك بـشيبة بن ربيعة) وكان عتبة وشيبة من أغنياء مكة الذين لهم أملاك في الطائف، لكن مع كل العداء المستحكم بين عتبة وشيبة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحالة التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم جعلتهما يعطفان عليه وبعثا له بعنقود عنب مع أحد العبيد، واسمه عداس وكان نصرانياً، وضع الطبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يده إلى الطبق وأخذ عنبة، وقال: (بسم الله) ثم أكلها، تعجب عدّاس من هذه الكلمة؛ لأنه لم يسمع بمثل هذا في الطائف، فقال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يشرح له معنى بسم الله الرحمن الرحيم، بدأ يتعرف على عداس، أول شيء في الدعوة التعارف؛ لأن التعارف له هدف واضح، فهو يتكلم معه بأمر الدين، وسأله أسئلة ذات مغزى حتى في هذه الظروف شديدة القسوة لم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، فأشراف الطائف رفضوا دعوته وضربوه، وهو يبحث عمن يسمع دعوته حتى ولو كان غلاماً صغيراً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال الغلام: أنا نصراني من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي) هذا الغلام الصغير أدرك في لحظة ما لم يدركه حكماء ثقيف، آمن في لحظة واحدة، وأكب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يديه وعلى رجليه يقبلها، كما لو كان الله سبحانه وتعالى أراد أن يريح قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمان عبد، ولكن هذا العبد بإيمانه أثقل من أهل ثقيف جميعاً.

    كان عتبة وشيبة يراقبان هذا الموقف من بعيد، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فدعاه وقال له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال له: ويحك يا عدّاس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه، وكذبوا والله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

    كان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من هذا المكان، فهو غير آمن، فعنقود العنب ليس كافياً لإثبات حسن النوايا، فهذان هما عتبة وشيبة لعنهما الله.

    خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ووصوله إلى قرن الثعالب ولقاؤه ملك الجبال

    بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي في اتجاه مكة، وبدأ يفكّر كيف سيدخلها، فالأفكار في عقله تتصارع، وجعلته يمشي وكأنه في حلم، أو مغمى عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فانطلقت وأنا أهيم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وهو على بعد (35) كيلو متر من الطائف، مشى الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المسافة وهو لا يدري من شدة الهم والتفكير، وفي قرن الثعالب حدث أمر عجيب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت) وانظروا إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه ملك الجبال ليسمع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين) أي: لو كنت تريد أن أُسقط عليهم الجبال فعلت. فقط عليك أن تأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يفكر، بل قال في منتهى الهدوء: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يُشرك به شيئاً).

    انظروا إلى رقي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كل الألم والحزن والاضطهاد والقهر لا يزال الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عليهم، ويأخذ قراره بدون انفعال، ومع كل المصائب التي رآها صلى الله عليه وسلم لم يتغير؛ لذا نقول: يستحيل علينا أن نوفي الرسول صلى الله عليه وسلم حقه، ألا يستحق أن يصفه الله عز وجل بأنه على خلق عظيم، ويقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] هذا هو رسولنا!

    يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الفرق الضخم والمهول بين السياسي الداعية، والسياسي من أهل الدنيا، سياسي الدنيا لا ينظر إلا إلى المصلحة المادية، لكن السياسي الداعية له هدف أصيل، وهو أن يسلم الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، السياسي الداعية لا يحب أن يحصل له التمكين على جثث ملايين الكافرين، وليس هناك مانع من أن يتأخر التمكين قليلاً إلى أن يؤمن الكفار.

    إذاً: رسالتك في الأرض أن تعلم الناس وليس أن تجلدهم، الناس سوف تضايقك وتؤذيك، لكن هذا لا يغير طريقك؛ لأنك لا تقبض من الناس أنت تأخذ أجرك من الله سبحانه وتعالى، والله لن يضيع مجهودك!

    وبعد مرور السنين الطوال أخرج الله عز وجل من أصلابهم من لا يكتفي فقط بقول: لا إله إلا الله، ولكن يحمل لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض، فمن صلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد ، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص ، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة ، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل .

    وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت كل جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والطائف والمدينة المنورة، ولو دعا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان أهلكها الله سبحانه وتعالى، فهاتان المدينتان ثبتتا على الإسلام في زمن الردة، وحملتا الدعوة حتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا علينا أن نفهم ديننا ونفهم دورنا، فدورنا أن نعلِّم من غير أن نمل ولا نكل، ونربي من غير أن نجلد، وندعو جميع العالمين إلى الإسلام من غير أن نأخذ شيئاً منهم، هذا هو دورنا الذي علمناه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطوات حياته.

    مرور النبي صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة ولقاؤه الجن وإيمانهم به أثناء رجوعه من الطائف

    بعد موقف ملك الجبال أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم طريقه إلى مكة، فلما وصل إلى وادي نخلة على بعد (43) كيلو متر من مكة، وقف يستريح قليلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يستريح لا يستريح بالنوم وإنما بالصلاة، فوقف يصلي ويقرأ القرآن، فهو يتزود ليكمل الطريق.

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أنه وحيد في هذا الوادي، وهذا صحيح بالنسبة للإنس، لكن لم يكن صحيحاً بالنسبة للجن، فكان هناك جن في وادي نخلة، جلسوا يستمعون القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله يصف ذلك الحدث: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:29-32].

    إن كان البشر في الطائف ومكة قد رفضوا الدعوة، فهناك مجموعة لا بأس بها من الجن آمنت، وفي الحقيقة أن هذا لا يخوّف، بل يسعد أن تأتي يوم القيامة وتجد في ميزان حسناتك ألف أو مليون جني، فمثلاً: كنت في يوم من الأيام تدعو إلى الله، أو تقرأ القرآن، أو تذكر الله سبحانه وتعالى فسمعك جني وآمن، فهذا خير عظيم.

    فوائد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف

    قد يظن ظان أن دعوة الطائف لم يكن فيها فوائد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تعذب من غير ثمن، لكن الحمد لله فقد آمن عدّاس ، وهذا أمر لا يستهان به، فهذا غلام أو رجل أُنقذ من النار وسيدخل الجنة إن شاء الله.

    وهناك أمة ضخمة جداً من الخلق من الجن قد آمنت بهذه الكلمات التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهناك التثبيت من الله عز وجل عندما بعث للرسول صلى الله عليه وسلم ملك الجبال.

    كيفية دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد عودته من الطائف

    اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة عند رجوعه من الطائف، فاستوقفه زيد بن حارثة على مشارف مكة، وقال له: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه بيقين وقال له: (يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه)، كأنه لم تكن هناك أي مشكلة وقعت لا في الطائف ولا مكة، بل كأنه سيبتدئ الدعوة من بدايتها.

    وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبواب مكة، وبدأ في التفكير في كيفية الدخول إليها، فقرر أن يستفيد من قانون الإجارة في مكة، وهو قانون محترم فيها، بما أن الذي يطبقه هم المشركون، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد من هذه القوانين طالما أنها لا تتعارض مع شرع الله عز وجل، وليس هذا فحسب، فقد قرر أن يدخل في إجارة مشرك ليس من بني هاشم، وليس بمؤمن؛ لأنه لو دخل في إجارة مؤمن لكان ذلك بمثابة إعلان الحرب بمكة، وسيتميز أهل مكة إلى فريقين: مؤمن، وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، كما أنه لا يجد في بني هاشم على عظمها من يجيره، فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب أشد الأعداء لهذه الرسالة، ولن يقبل ولن يترك أحداً من بني هاشم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأخنس بن شريك فلم تكن عنده نخوة، وتعلل بأنه حليف، وأنه ليس رجلاً أصيلاً في مكة، فالحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو وهو من عظماء مكة، وكان من المفروض أن يوافق، لكنه قال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، وسهيل بن عمرو من بني عامر، والرسول صلى الله عليه وسلم من بني كعب، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ويفهم القوانين، ويعرف أنها ليست حتمية، وأنه من الممكن أن يجير الحليف، وأن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلا لم يكن ليبعث لهم، كانت هذه اعتذارات مؤدبة من قادة مكة.

    ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدي أحد زعماء مكة الكبار، وسيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وهو أحد الذين شاركوا في نقض الصحيفة بعد ثلاث سنين.

    وافق المطعم بن عدي على إجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لبنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاطت به الحمايات، وسارت به حتى وصلت به إلى البيت الحرام، فصلى ركعتين وقام المطعم بن عدي فخطب في الناس، فقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم، ثم أوصلوه إلى بيته ووقفوا على بابه يحمونه!

    تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة، وكان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم، لكن نذالة أبي لهب وقفت أمام هذا الأمر، لكن هذا الموقف من بني هاشم ومن أبي لهب لم يغلق كل الأبواب، فلا تزال هناك أبواب مفتوحة، نعم هي أبواب كافرة، لكن ما المانع من استغلالها؟ ما المانع من استخدام أحد المعارف من الكافرين للحماية ما دام ليس هناك تنازل ولا تفريط؟

    دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرفوع الرأس، وحوله الأسلحة من كل مكان، لم يدخلها متسللاً أو منهزماً، ومع أن الحماية جميعها آتية من بني نوفل من المطعم بن عدي أحد المشركين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً كل الحرص أن يفهم جميع أهل مكة، والمطعم بن عدي أنه لن يتنازل عن الإسلام والدعوة، ولهذا كان أول شيء فعله صلى الله عليه وسلم أن ذهب إلى البيت الحرام يصلي فيه ركعتين على طريقة المسلمين، وأمام جميع الناس؛ ليعلن لأهل مكة ولبني نوفل وللمطعم بن عدي أنه ما زال على نفس الطريق، وسوف يأتي الحجاج لمكة، وسيخرج لهم أيضاً ليدعوهم للإسلام، تماماً كما كان يفعل في أيام أبي طالب . هذا فقه الواقع، المهم لا يكون هناك تنازل.

    عند ذلك يكون الوضع قد استقر نسبياً في مكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم محمي بسيوف بني نوفل، وبكلام المطعم بن عدي الذي قاله وسط جميع الناس، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجل بعيد النظر، حنكته التجارب، يعرف أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فقريش مهما كانت لن تترك المطعم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة طويلة أبداً، ومع هذا فـالمطعم أيضاً كافر وله طاقة والموقف صعب، ومن الممكن أنه لا يستطيع أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، كل هذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن بديل للمطعم بن عدي .

    1.   

    دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الحج

    بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يزور الوفود التي تأتي لتحج في مكة، وبدأ يعرض عليهم الإسلام كعادته في ذلك، لكن بدأ يطلب منهم فوق هذا النصرة، وأن يساعدوه ويدافعوا عنه، فهو يريد بديلاً للمطعم بن عدي ، وفي نفس الوقت لم يقل صراحة أنه سوف يحارب قريشاً، أو أنه سيقف أمامها؛ لأن المرحلة في ذلك الوقت كانت صعبة والوضع غير مستقر، وكل هذا يتم في ذي القعدة وذي الحجة من السنة العاشرة من البعثة.

    أي: بعد كل الأحداث المؤلمة والمحزنة التي حدثت في الشهرين الماضيين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرك بمنتهى النشاط مع كل الظروف العادية التي تحصل لأي إنسان عنده بيت وأولاد، ولديه مسئوليات.

    ومن هذا الموقف تصلنا رسالة هامة من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي لا عذر لأحد، فكلمة الظروف لم تكن موجودة في قاموس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس تعتذر بسبب الظروف: أنت لم تعرف ظروفي، ظروفي غير مناسبة، ليس من يديه في الماء كمن هي في النار!

    يا أخي الحبيب! أنا أريد منك أن تنظر بأمانة لظروف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتستطيع أن تحكم فعلاً إذا كانت ظروفك صعبة أم لا، فقد كان من الممكن أن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة، ويفتح قلوب العرب لكلامه من أول يوم في الدعوة، ويوفر عليه الجهد والتعب، ويريح قلبه بدلاً من خروجه من حزن ودخوله في آخر، لكن ربنا يعلمنا طبيعة الطريق، فمن الطبيعي أن يكون عندك مشاكل في طريق الدعوة، لكن ليس من المفترض أن توقفك، من الطبيعي أن تحاربك الناس وتؤذيك وتسخر منك، لكن ليس من المفترض أن يوقفك مثل هذا، الناس مريضة بمرض البعد عن ربنا سبحانه وتعالى، وأنت طبيبهم تعالجهم ولا تضربهم، وتحبهم ولا تكرههم. هذه هي الرسالة التي أخذناها من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي أخذناها من مكة والطائف، والتي سوف نأخذها بعد هذا من المدينة المنورة، الرسالة واضحة، طريق الدعوة صعب، لكن لا بد أن نمشي فيه وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]دعوة وبعدها تكذيب وإيذاء ثم صبر من الدعاة، وفي الأخير حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34]فليس هناك طريق آخر، فهذا طريق الرسل، وطريق كل مسلم يحب دينه، ويريد أن يتحرك وسط الناس.

    بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم الوفود التي أتت لتزور مكة، ذهب لبني كلب، ولبني كندة، ولبني حنيفة، وذهب لغيرهم، ومع ذلك ما قبل أحد منهم الإسلام، كل هذا وعمه أبو لهب يمشي خلفه في كل زيارة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على كل قبيلة، ويقول لهم: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتسمعوني وتصدقوا بي، حتى أُبين عن الله ما بعثني به، يريد منهم أن يسلموا ويدافعوا عنه، وأبو لهب هو أيضاً يبذل مجهوداً، فبعد أن ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه يقف ويقول لهم: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعماقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، يدعي أن هذا ما هو إلا البدعة والضلالة، وأيضاً يقول: فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فالناس يسألون ويقولون: من هذا؟ فيقال: عمه، فيقول: من المؤكد أنه يعرفه أكثر منا، فلا يؤمنوا، فيذهب أبو لهب فرحاً بنفسه، ويرى أنه قد أدى واجبه، ولا يعرف أنه يحفر لنفسه قبراً في جهنم، فهذا اسم على مسمى أبو لهب ، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3] أي: أنه باسم النار التي سوف يدخلها.

    أحد أصحاب القومية العربية كان يجعل هذا الاسم كنيته، وقال: لأن أبا لهب كان عربياً، وهو يعتز بالعروبة وبأي عربي.

    كل القبائل رفضت الدعوة، ولم يكن هناك أحد يفكر، إلا قبيلة واحدة فقط التي أخذت الموضوع بجد وفكّرت في الإسلام، ولكن كانت هناك نقطة معينة اشترطوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلموا ويدافعوا عنه.

    ما هي هذه القبيلة؟ وما الذي اشترطوه على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وما هو رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    هذه القبيلة هي قبيلة بني عامر، وهي من أعز قبائل العرب، وهي إحدى خمس قبائل لم تعرف في تاريخها كله سبياً لنسائها، ولا دفعاً لإثارة غيرهم، والمباحثات معها في غاية الحساسية، عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام وطلب منهم النصرة كبقية القبائل، وكان زعيمهم بيحرة بن فراس واهتم بالموضوع ووقف يقول لأصحابه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، وفي هذا يوضح لنا أن هذا الرجل بعيد النظر، فهو يعرف أن هذه الرسالة سيكون لها مستقبل، ومن يتبناها سوف يسيطر على جميع العرب، لكن في نفس الوقت من الواضح أنه انتهازي ونفعي، فهو لا يريد الإسلام لأنه يحبه، وإنما لأنه يحب الزعامة والسيطرة والرئاسة؛ لأنه بعد ذلك عرض على الرسول عليه الصلاة والسلام عرضاً في منتهى الإغراء، واسمع لهذا العرض، وضع في ذهنك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي مكة الدعوة مقفلة، والناس تحاربه، ولا توجد قبيلة ترضى بالإسلام أو بالمدافعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في إجارة المطعم بن عدي الكافر، ونصف المسلمين في الحبشة، وبقيتهم يعذبون في مكة. هذا واقع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان عرض بيحرة ؟

    قال: أرأيت إن نحن بايعناك على هذا الأمر ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟

    فهنا بيحرة يعرض أن يدخل في الإسلام هو وقبيلته، وأن يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد كل من يخالفه، وأن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الوضع الحرج الذي يعيشه، وأن يترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حال حياته يدعو إلى الله ويعلم ويربي ويأمر ويقود، لكن الشرط الوحيد هو: بعد أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى الأمر لقبيلة بيحرة ، والزعامة لـبيحرة في حال حياته أو لقبيلته من بعده.

    أعتقد أن هذا العرض في نظر أي سياسي من سياسيين الدنيا لا يُرفض فـبيحرة يقول له: أنا أساعدك إلى أن تصبح رئيساً وزعيماً، وستظل كذلك إلى أن تموت، وبعد أن تموت تنتقل الزعامة لنا، أي زعيم من زعماء الدنيا لا يهمه الدنيا جميعاً وما يحصل فيها بعد موته، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من زعماء الدنيا، فهو يخاف على الناس وعلى أمته وليس فقط في زمانه، فهو أيضاً يخاف على جميع الخلق الذين سوف يأتون من بعده وإلى يوم القيامة.

    تأمل رد الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبات على عرض بيحرة ، قال: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) فلو أنك تستحق، فالإسلام هو الذي سيعطيك الولاية، ولو أن غيرك هو الذي يستحق فهو من يُعطى الولاية، فالأمر في الإسلام لا يوهب لغير أهله مطلقاً.

    وهنا درس مهم وهو أن الحريص على الولاية في الإسلام لا يأخذها، فمن الخطر أن تكون ممن يريد الزعامة، وانظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو حرص عليه).

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الناس أي شيء مقابل أن يسلموا، فقد يعطيهم المال والأغنام والذهب والفضة، لكنه لا يعطيهم الزعامة إلا إذا كانوا يستحقونها أو لا يريدونها؛ لأن فتنة الزعيم وضلال الزعيم لا يرجع عليه فقط، وإنما يعود على الأمة بكاملها، والزعيم الذي يريد الزعامة سوف يرتكب كل الموبقات والجرائم والتزوير ليحافظ على زعامته، والزعيم الذي يعيش لدنياه سوف يهمل دنيا الناس ودينهم، ولو أخذ قراراً في ظلم سيظلم به شعباً كاملاً، ولو مشى في طريق خطأ فسوف يمشي الشعب بأجمعه خلفه؛ ولهذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بيحرة .

    رفض عرض الرجل الذي يريد زعامة وإن كانت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، رفض هذا العرض وهو في أمس الحاجة إليه ليضع قواعد واضحة عن خلقه وليس هناك خطوة واحدة في حياته إلا وفيها ألف كنز.

    أولاً: عندما قال هذا الكلام رفض بيحرة الإسلام، وبمقاييس أهل الدنيا فإنه من الجنون أن يوافق بيحرة ، كل واحد من أهل الدنيا يقول: وأنا أين نصيبي؟ لكن الذي يحمل هم الإسلام هو الذي ينسى نفسه تماماً ليخدم الناس.

    قال بيحرة : أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإن أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، وبهذا فشلت المفاوضات مع بني عامر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في إرساء قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية، واحفظوها: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو حرص عليه).

    وبهذا ينتهي العام العاشر من البعثة، وانتهى عام الحزن الذي حمل مشاكل ومصائب من كل نوع، لكن مع كل هذه المشاكل والمصائب والهموم إلا أنه انتهى والرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال رأسه مرفوعاً، ويعمل صلى الله عليه وسلم بمنتهى الحماسة في دعوته، وإن لم يكن هناك الكثير من الناس آمنت في هذه السنة إلا أن الدروس التربوية والقواعد البنائية للأمة لا تُحصى ولا تُعد، هناك كم هائل من الدروس والعظات والعبر، من أهم الدروس:

    الأول: أنه مهما كانت ظروفك فلابد أن تعمل لله.

    الثاني: ليس من المهم أن يؤمنوا بدعوتك ويصدقوا كلامك، المهم أن توصل إسلامك؛ لأن مهمتنا التبليغ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20].

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، ونسأله أن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755924126