إسلام ويب

شرح العقيدة التدمرية [27]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مفهوم التوحيد عند طوائف الصوفية هو أمر معنوي يتعلق بربط القلب بالقوى وبالأمور الغيبية، وأصحاب هذه النزعة الفلسفية يرون أنهم بهذه الطريقة يمارسون أسلوباً يؤدي بهم إلى السعادة النفسية والراحة القلبية، وانصهار الإنسان بربه، ويعتبرون ذلك مما يستغنون به عن الشرع، وهذا ظاهر البطلان، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً.
    قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة، إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد ].

    قوله: (والمنتسبين) أي: الذين يدّعون أنهم موحدون، وليس الأمر كذلك؛ لأن فهمهم للتوحيد مختل، وهذا غالب على الفلاسفة الإلهيين إن صح التعبير، يعني: الذين يتكلمون عن الله عز وجل، ويعترفون بوجود الله، والمتكلمون بدرجاتهم -سواء المتكلمين الغلاة، مثل: الجهمية أو من دونهم كالمعتزلة، أو من دونهم كمتكلمة الأشاعرة والماتريدية .. أو غيرهم من أصحاب النزعات الكلامية- كلهم يقصدون بالتوحيد: توحيد الربوبية، ويزعمون أنهم بذلك يحققون التوحيد، ويقولون: نحن أهل التوحيد، مع أنهم لا يفهمون من التوحيد إلا هذا، ولا يعني ذلك أنهم لا يعملون بمقتضى توحيد العبادة، فليس ذلك بالضرورة، فقد يكون عند كثير منهم تعبّد، لكن من حيث تقرير العقيدة تجد عنده انحرافاً، فيقصرون التوحيد على وجود الرب عز وجل ووحدانيته، بمعنى: إفراده بالربوبية والخلق والأفعال، ثم لا يعرّجون على التوحيد المطلوب من العباد، وهذا نجده حتى عند كبارهم الذين يُنسبون إلى العبادة والصلاح، فتجدهم لا يعرّجون على توحيد العبادة، وكأنه ليس مطلوباً من العباد، وهذا الذهول له أسباب كثيرة تأتي لها مناسبة في درس قادم، كما تجد كبارهم الذين ألّفوا كتباً خاصة بالتوحيد، يقررون فيها التوحيد على منهجهم، ومن ذلك: كتاب التوحيد للماتريدي، إذ إنه عمدة في تقرير منهج المتكلمين في هذا الجانب، وهو أسبق من الأشاعرة، مع أن الماتريدي معاصر للأشعري ، لكنهما لم يلتقيا، والأشعري كان يعظّم توحيد الإلهية، ولم يكن منهجه موغلاً في هذا الجانب، وإن كانت عنده نزعة خفيفة، لكنه نهَج نهْج السلف في تقريره للدين، والاهتمام بتوحيد الإلهية والعبادة، أما الماتريدي فمن حيث العبادة فقد كان يؤدي العبادات، وهذا الذي أُثر عنه، وقد كان صاحب تقى وصلاح وعبادة وزهد وورع، لكنه من حيث العقيدة والتقرير النظري للدين فنجد ذلك في كتابه (التوحيد)، فقد كان لا يعوّل على توحيد الإلهية -مع أنه أسمى كتابه بـ (التوحيد) وهو مطبوع الآن- إلا إشارات تأتي عرضاً لا على سبيل الاستقلال، أما أصوله ومنهجه وطرائقه في الاستدلال فهي مركزة على توحيد الربوبية، ولذلك يقال: إن ادعاءهم بأنهم موحدون مجرد دعوى فقط تحتاج إلى دليل وبرهان.

    ثم إنه ليس هناك فرق كبير بين الماتريدية والأشاعرة، إلا أن الأشاعرة أكثر معايشة لأهل السنة، ولذلك من جوانب كثيرة هم أقرب لأهل السنة، بينما أغلب أتباع أبي منصور الماتريدي من بلاد العجم، من تركيا، وجمهوريات القوقاز وبخارى وأجزاء من الهند، وأغلبهم أحناف، والأحناف أغلبهم في بلاد العجم، ولذلك قل احتكاكهم بأهل السنة الموجودين في جزيرة العرب والشام والعراق ومصر والمغرب، وأكثرية أهل السنة في هذه المناطق، وذلك بحكم القرب وبحكم اللغة العربية؛ لأن فهم اللغة العربية أقرب إلى فهم السنة وفقهها، فنجد أن الأشاعرة أقرب إلى أهل السنة في جوانب كثيرة من حيث التطبيق، أما من حيث التنظير فلا أجد بينهم فرقاً، وخاصة في الآونة الأخيرة، وفي بداية المذهبين كانت الماتريدية في القرن الرابع والخامس أكثر إيغالاً في الكلاميات، وكان الأشاعرة في القرن الرابع والخامس أكثر تورعاً، بينما في القرن السادس وما بعده اختلطت الفرقتان، ولم نستطع أن نميز بينهما إلا تمييزاً علمياً فنياً لا عقدياً، وذلك في أمور أشبه بالشكليات.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها ].

    تعتبر هذه نزعة فلسفية وقع فيها كثير من المتعبدة الذين عندهم نزعة كلامية، وهي نزعة ماتريدية موجودة في كثير من الديانات -هم أناس من العباد- سواء من الديانات التي حُرّفت، كعُبّاد اليهود، وعُبّاد النصارى وهم الأكثر، أو عُبّاد الديانات الأخرى، كالمجوسية والصابئة والهندوسية .. وغيرها، فهؤلاء عُبّادهم كثير منهم ينزعون إلى العبادة الفلسفية، والعبادة الفلسفية عندهم أمر معنوي يتعلق بربط القلب بالقوى الغيبية، وبأمور غيبية، وبعضهم يسمي من يربط قلبه به فيقول: نربط القلب بالله عز وجل، وأحياناً من خلال التعبد تحس به، ومعنى تعبّد: أن يكون قلبه متعلقاً بالغيب، وأحياناً يعبّرون بالغيب عن الله عز وجل، وأحياناً من طريق التفكّر فقط دون تعبُّد، وأحياناً يجمعون بينهما وهو الغالب، فالذي عنده تعبّد يتفكّر، وأصحاب هذه النزعة الفلسفية يرون أنهم بهذه الطريقة يمارسون أسلوباً يؤدي بهم إلى السعادة النفسية والراحة القلبية، وأنه أيضاً يؤدي بهم إلى المراد من عبادة الله، وهو انصهار الإنسان بربه، وهذا الانصهار عندهم له صور متعددة وكثيرة جداً، فيتخيل أحدهم أنه اختلطت أحاسيسه ومشاعره وروحه وعقله بهذه القوة الغيبية التي يعبّرون بها عن الله عز وجل، ويعتبرون ذلك مما يستغنون به عن الشرع؛ لأنهم يرون أن الشرع جاء لربط العباد بالله عز وجل، وليس كل العباد، فأصحاب التميز وأصحاب الفكر الراقي عندهم يرون أنهم لا يحتاجون إلى الشرع؛ لأنهم يتعبّدون بطرقهم الفكرية الفلسفية، وأن الشرع إنما جاء من أجل العامة الذين ليس عندهم قدرة عقلية، أو قدرة في ممارسة العبادة، ويسمونها: (رياضة العبادة) ومعنى ليس عندهم قدرة. أي: أن عقولهم ومداركهم قاصرة عن أن تسلك المسلك الذي يربط قلوبهم بالله عز وجل، بدون واسطة وبدون بيئة وبدون شرائع وبدون دين وبدون تعبّدات تُفرض عليهم، فيرون أن العامة بحاجة إلى دين الأنبياء، وهم ليسوا بحاجة لذلك، ولذلك يسمون الديانات (ديانات العامة)، ويسمون الأنبياء وأتباعهم: (العوام)، ويسمّون أنفسهم وأشكالهم: (الخواص)، ويرون أن الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو دين العوام، وأن دين الخواص هو هذه الفلسفات، وأن دين النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقى إلى هذا المستوى، وليس هذا مبالغة، بل هذا واقعهم، ولذلك نجد أن الذين عندهم نزعة فلسفية يقعون في مثل هذا ولو جزئياً، فتجده يستكبر عن البدهات، وتجده يغتر بعقليته وذكائه، وتجده أيضاً يتطاول على الدين، ويقرر الدين، ويخطَّئ ويصوِّب، ويرد من النصوص ما يشاء، كما حصل الآن في الفتنة الأخيرة، أعني: فتنة الغوغائية، وفتنة الإنترنت، وفتنة الفضائيات، وفتنة الرويبضة، فقد وجد الكثير ممن كانوا ساكتين لا نعرف عنهم شيئاً من بعض المفكرين والأدباء .. وغيرهم تكلموا بما هو محادة للدين؛ لأنهم يرون أن هذا هو فكره، والإنسان حر في أن يقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء، ولذلك يسخرون من الإسلام، ويسخرون من الدين والمتدينين، بدعوى أن هذا هو الفكر النيّر الحر، وأن هذا هو مقتضى حرية الرأي، واحترام الرأي الآخر .. إلى آخر ذلك من الخزعبلات والترهات.

    قال رحمه الله تعالى: [ ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله أو من سادات الأولياء ].

    لا يكون مسلماً إلا بخضوعه للدين، وخضوعه لشرع الله عز وجل، وليس مجرد أن يتعبد، أو أن يقر بالربوبية، أو أن يقر بالأسماء والصفات، أو يقر بوجود الله عز وجل، ثم يقف عند هذا القدر، أي: لا يطبّق ولا يعمل، فإن هذا هو منهج خصوم الأنبياء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088783144

    عدد مرات الحفظ

    779003513