إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [2]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد كانت مراحل القرون الثلاثة الأولى في جملتها مراحل غلبة لهدي السلف في الاعتقاد، مع حصول النزاع في القرن الثالث، ثم هيمنت أقاويل أهل الكلام بعد ذلك وانحسر منهج السلف إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فانبرى لإبراز منهج السلف بالنقل والعقل، وخط بذلك معلماً بارزاً وشيد مدرسة علمية كان من آثارها تلامذته النجباء كابن القيم رحمه الله تعالى وغيره.

    مرحلة تنزل القرآن إلى نهاية القرن الأول

    قال: [ امتداد مدرسة ابن تيمية :

    لقد جمع الإمام ابن تيمية رحمه الله منهج أهل السنة والجماعة في العلم والاعتقاد والفهم والعمل والسلوك، وأحياه وحرره تحريراً بديعاً اتسم بسعة العلم وقوة الأمانة وحسن العرض ودقة الضبط، ولكن ابن تيمية سبق ولحق في هذا الميدان بجهاد علمي صادق ومتصل].

    أحب أن أشير إلى مسألة أرى أنها مهمة فيما يتعلق بجهود شيخ الإسلام ابن تيمية في خدمة عقيدة السلف، وأقدم لهذا بالتنبيه على المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة، بمعنى: تقريرها على شكل مؤلفات ومصنفات وتبيينها للناس.

    المرحلة الأولى: هي مرحلة تنزل القرآن وإلى نهاية القرن الأول، فهذه الأساس فيها ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يستمدون كل شيء في الدين من القرآن والسنة، ويرجعون فيما لم يدركوه إلى أهل العلم، حتى الصحابة كانوا يأخذون الدين مباشرة عن القرآن والسنة، هذا في الجملة، لكن عامتهم كانوا لا يستطيعون استنباط كل شيء في الدين، فكانوا يرجعون إلى أهل الاختصاص من الصحابة، لذلك برز من الصحابة من برز في اختصاصات شرعية تتعلق ببيان الدين للناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كبروز علي في القضاء وزيد في الفرائض، وبروز غيرهما من الصحابة في بعض الجوانب، وهناك من كانوا مرجعاً علمياً شاملاً كـابن عباس وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وغيرهم من أئمة الصحابة، فكانوا أئمة في الدين يرجع إليهم، وكان منهجهم في تقرير العقيدة لا يعدو إظهار النص والاستنباط من القرآن والسنة ثم التعليق على النص لإيضاحه دون بسط في الشرح أو تصنيف أو مؤلفات؛ لأن الناس كانوا أقرب إلى الفطرة وأفهم للغة وأبعد عن البدع والخرافات، ولم تتشعب بهم السبل ولم تظهر الفرق، فكان الناس على هدي واحد، العقيدة عقيدة الجميع والمنهج منهج الجميع والسنة عليها الجميع، ومن شذ برز شذوذه عند العامة والخاصة، هذا في القرن الأول، فلذلك لم توجد مؤلفات، وما كان الناس بحاجة إلى مؤلفات، إنما كانوا بحاجة إلى تعليم، وقام الصحابة بذلك حق القيام، وبرزت في عهدهم بعض الطوائف، وكان شذوذها ظاهراً كالخوارج والشيعة كما هو معلوم، وسبب بروزها هو أنها تركت تلقي الدين عن العلماء، هذا هو السبب الرئيس الأول، ولا ننسى جهود ابن سبأ ، لكن ابن سبأ دخل على هذه الطائفة من الناس لأنهم لم يتلقوا دينهم عن الصحابة، والذين تلقوا دينهم عن الصحابة عصمهم الله.

    المهم أنه في القرن الأول كانت العقيدة هي السائدة، وما كانت تحتاج إلى مؤلفات ولا تحتاج إلى مصنفات ولا تحتاج إلى شيء من تقرير الأصول والمناهج الزائدة على ما في النصوص.

    مرحلة القرن الثاني

    المرحلة الثانية: مرحلة ما ظهر في القرن الثاني، وقد استجد فيها على أئمة المسلمين أمر، وهو الرد على أهل البدع، وصاحب هذا الرد ضرورة وضع الموازين والأصول الأولى في مهمات العقيدة، كالإيمان تعريفه ومسماه وزيادته ونقصانه، والقدر ومفهومه، والرؤية، وكلام الله وأسمائه وصفاته، فهذه الأمور كانت في القرن الأول تفهم جملة، وما كان الناس يتحدثون عن جزئياتها؛ لأنهم يفقهونها في الجملة.

    وأما في القرن الثاني فظهرت المرحلة الثانية، وهي ضرورة الدفاع عن هذه الأصول وإبرازها كأصول مستقلة لها حدود تعرف بها وتفهم عند الناس، ووضعت لها ضوابط معينة، وظهرت مسألة الاستدلال الشامل على هذه المسائل، بمعنى أنه اضطر أئمة الدين إلى أن يأخذوا الأدلة من الكتاب والسنة، ويبرزوها مستقلة إما على شكل كتب أو مصنفات، وإما على شكل مناظرات أو مجالس علمية في موضوع ما، كما في الرؤية، حيث استقيت نصوص الرؤية وظهرت في هذا الوقت جلية؛ لأنه ظهر من أنكر الرؤية وتكلم بذلك، وكذلك كلام الله، والقرآن، ومسألة أسماء الله وصفاته، فأبرزت النصوص المستقلة في هذا الأمر، وكذلك الوعد والوعيد، فاضطر السلف إلى أن يأخذوا نصوص الوعد ويبرزوها، ثم نصوص الوعيد ويبرزوها، وأخذوا منهجاً وسطاً -وهو منهج الحق- بين الوعد والوعيد، وهكذا بين منكري القدر والجبرية وغيرهم.

    وفي المرحلة الثانية أيضاً ظهرت المصنفات الصغيرة في جزئيات العقيدة، في الرد على فرق بعينها، وفي كتابة المسائل المحدودة المعينة، لكنها مصنفات قليلة.

    مرحلة القرن الثالث

    المرحلة الثالثة: القرن الثالث، وقد ظهر فيه اتجاه أشمل من الاتجاهات السابقة، وهو ضرورة، فحينما ظهرت البدع وظهرت لها أصول في الاعتقاد، وظهرت لها مصنفات وكتب شاملة؛ اضطر السلف إلى الكتابة في العقيدة في كتب الشاملة تجمع بين الأصول وبين النصوص المستدل بها، وبين الآثار المنقولة عن أئمة الدين الذين سبقوا في القرن الثاني والأول، وهذه المصنفات هي المصنفات الشاملة في أصول الدين في العقيدة، وهي المسماة بكتب السنن، أي: الآثار، وأغلبها في العقيدة، لا أقصد كتب الحديث، وإن كانت كتب الحديث اهتمت فعلاً بالعقيدة وبوبت لها، وهذا اتجاه جديد لم يكن يوجد في القرن الأول والثاني، والتبويب للعقائد في كتب الحديث هو -أيضاً- من سمات هذه المرحلة الثالثة، لكن من أبرز سماتها وجود المصنفات الشاملة التي تجمع بين النصوص والقواعد والمناهج والمفاهيم والتعريفات بمسائل أصول الدين والرد والمناقشة في وقت واحد، فكتب السنة الكبيرة بدأت في هذه المرحلة، مثل السنة للإمام أحمد ، والسنة لـعبد الله بن الإمام أحمد ، وكذلك مؤلفات ابن سلام وابن أبي شيبة والدارمي وغيرهم من الأئمة الذين عاشوا في ذلك العصر.

    مرحلة القرن الرابع وما بعده

    وبعد القرن الثالث جاءت المرحلة الرابعة، وهي مرحلة هيمنة كتب الكلام والمسائل الكلامية على الاتجاه العلمي في أغلب بلاد المسلمين، وهذا لا يعني أن عقيدة السلف اندثرت، بل كانت موجودة ولها رجالها ولها مصنفاتها ولها كتبها، لكن الذي ساد بين الناس في القرن الرابع وما بعده إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية هو الاتجاهات الكلامية، اتجاهات الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، حتى اتجاهات فرق الرافضة والباطنية ظهرت في تلك الفترة، وهيمنت جميعها على كثير من بلاد المسلمين، وسبب ظهور هذه الاتجاهات يرجع إلى أمور: منها ظهور دويلات الطوائف العقيدية، كدويلات العبيديين الفاطميين، ودويلات القرامطة والبويهية، ودويلات الخوارج كالرستمية، وما جاء بعدها فهذه الطوائف هيمنت على كثير من بلاد المسلمين، إذا لم نقل: إنه في هذه الفترة من القرن الرابع وما بعده كادت أن تهيمن على كل بلاد المسلمين، وهذه الهيمنة السياسية هي التي مكنت لهيمنة المذاهب الكلامية على المدارس والاتجاهات والصبغة العلمية العامة، حتى صار مذهب السلف لا يوجد إلا في رجاله، بمعنى أنه لا يتبنى سياسياً، وإلا فهو موجود في مدارسه واتجاهاته، وأهله ينافحون عنه وهم ظاهرون، بل هم المعتبرون عند الأمة في العموم، لكن مع ذلك هيمنت على أكثر المؤلفات والاتجاه العلمي المذاهب الكلامية إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088796409

    عدد مرات الحفظ

    779098015