إسلام ويب

المواعظللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الموعظة طريق لهداية الضالين، وسبيل لنجاة العاصين، والموعظة في المحيط الأسري مسئولية يشترك فيها الأب والأم، حتى إذا صلحت النواة الأولى للمجتمع -التي هي الأسرة- صلح المجتمع بأسره. ولكن الموعظة لا تؤتي ثمارها اليانعة الطيبة، إلا إذا كان الواعظ عاملاً بما قال، ملتزماً بما وعظ.

    1.   

    دور الموعظة في حياة القلوب واستقامتها

    الحمد لله الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    أيها الأحبة في الله! إن للمواعظ أمراً عظيماً في القلوب، كم نبهت من غافلين، وكم أرشدت من حائرين، كم هدت ودلت إلى صراط الله المستبين، المواعظ زاد القلوب وطمأنينتها، وسلوة الصدور وانشراحها، أحبها الله وحببها للصالحين، فجعلها قرة عيون عباده المؤمنين المحسنين، يا لله.. كم من قلوب خشعت، وكم من عيون من خشية الله بكت، وكم من نفوس اهتدت، وكم من أرواح على طاعة الله ثبتت، يا لله.. كم من كلمات طيبات مباركات خشعت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات، وفُتِّحت لها أبواب السماوات! وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

    الموعظة هي الكلمة الجامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، الموعظة وصية الله للأولين ووصيته للآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، شرف الله المواعظ حينما وعظ عباده المؤمنين، فذكرهم بحقوق الدين، أخذ بمجامع قلوبهم إليه فذكرهم بما يجب عليهم، ونهاهم عما حرمه عليهم.

    المواعظ شرفها الله جل وعلا يوم جعلها رسالة الأنبياء والمرسلين، فصدعوا بالحق وبما أمر به رب العالمين، المواعظ زاد القلوب وسلوة الأرواح، وسبب ثباتها على طاعة الله جل وعلا، فكم من مجلس ذكر حضره عاق فعاد تائباً! وكم من مجلس موعظة حضره شقي طريدٌ بعيدٌ فقام منه سعيداً! وكم من مذنب خطّاء كثير الذنوب عظيم العيوب آوى إلى الله في مجلس يذكِّر بالله فقام وقد بدِّلت سيئاته حسنات! يا لله.. كم من كلمات طيبات مباركات صلحت بها أحوال المؤمنين والمؤمنات!

    ما أحوجنا إلى كل كلمة تقربنا إلى الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تذرف بها العيون من خشية الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تُخشع قلوبنا لذكر الله، ما أحوجنا إلى المواعظ إذا خرجت من قلوب صادقة وألسنة موقنة محقة.

    1.   

    موعظة الأبناء مسئولية الوالدين

    الأسرة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى الموعظة والنصيحة الجامعة، الأسرة المسلمة اليوم من الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوان والأخوات وآل كلٌ والقرابات هي أحوج ما تكون إلى الموعظة، تحتاج إلى الموعظة في زمان عظمت غربته، وجلت محنته، حتى أصبح المصلي بين أهله غريباً، والذاكر لله بين أهله كأنه يقول شيئاً عجيباً غريباً.. في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته؛ حتى أصبح فلذات الأكباد ربما يجهلون توحيد رب العباد.. في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته، حتى كثرت فيه الشهوات، وعظم فيه سلطان الملهيات والمغريات، فوقف المؤمن متعطشاً متلهفاً لكل كلمة تدله على ربه، وتأخذ بمجامع قلبه لكي تهديه إلى الصواب؛ فيكون من أهل طاعة رب الأرباب.

    أيها الأحبة في الله! الواعظ في الأسرة يكون والداً شعر بالأمانة والمسئولية، وتكون أماً حنوناً مشفقة تخاف على فلذات كبدها من النار.. تخاف أن يفرّق بينها وبين أولادها في يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

    الموعظة كلمات طيبات يقوم بها الأبناء وتقوم بها البنات، كلمات طيبات هي أكبر من كل أحد إلا الله وحده، فكلنا يحتاج إلى الموعظة، فقد تكون من الوالد، وقد تكون من الولد، يوجه الوالد ولده آمراً له بطاعة الله، ناهياً له عن حدود الله ومحارمه، وكأنه يأخذ بحجزه عن نار الله وغضبه، والوالدة تأخذ بحجز أبنائها وبناتها بوصية جامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، والابن يرى أباه قد ضل عن السبيل، وجار فيما يكون منه من فعل وخيم، فتأخذه حميّة الدين والخوف من رب العالمين، فيذكِّر أباه وينصحه ويأخذ بحجزه عن نار الله كما فعل أنبياء الله، والبنت الصالحة ترى أمها قد جارت وحادت عن سبيل ربها، فتقف لها ناصحة مشفقة مبينة حتى تقودها إلى الله وتنتهي بها إلى رحمته، والأخ الصادق يرى أخاه قد تهاوى إلى الرذائل، وقد عميت بصيرته عن الفضائل، فيأخذ بحجزه عن نار الله وقد تفطر قلبه شفقة وحناناً عليه، يريد أن يرحمه برحمة الله. فتخرج الكلمات الطيبات المباركات من الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، بعظات بالغات بينات، تخشع لهن قلوب المؤمنين والمؤمنات.

    وعظ الأبناء بحق الله وتوحيده

    أحب الكلام إلى الله ما ذكّر بالله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]، تبتدئ الأسرة المسلمة موعظتها بأعظم الحقوق وأجلها على الإطلاق؛ وهو حق الله جل جلاله، حقه في توحيده وإفراده بالعبادة، والإخلاص لوجهه.

    فالناصح والواعظ من الوالد والولد والوالدة يذكِّر من ينصحه بعظيم حق الله عليه، وجميل منته لديه يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] قالها لقمان لفلذة كبده يذكره بالعقيدة والإيمان وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أخذ بمجامع قلبه إلى الله، وذكره بأعظم الحقوق وهو حق الله. يا بني! يا فلذة الكبد! يا من هو كلحمي ودمي! لا تشرك بالله، نهاه عن أعظم نهي نهى الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) يذكِّره أن الله رضي له التوحيد والإيمان وكره له عبودية الأوثان، يذكره بالسماء ومن بناها، وبالأرض ومن طحاها، وبالجبال ومن أرساها، يذكره بشواهد التوحيد، ودلائل وحدانية العظيم المجيد.

    كم من أبٍ ذكر ابنه في ظلمة ليل بمن جعل الظلام في ليله، فما أمسى الابن إلا وتذكر الله! وكم من أم صالحة ذكّرت بنتها بربها وأخذت بمجامع قلبها إلى خالقها، فوحدت وأسلمت واستسلمت! وكل ذلك في ميزان حسناتها.

    يحتاج الابن أن تذكره بالله في كل لحظة وطرفة عين، تذكره بجبار السماوات والأرض تذكره بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؛ حتى يخوض الحياة مؤمناً ويعيش موحداً، حتى تقبض روحه مع السعداء والأولياء الحنفاء.

    ينتظر ابنك -في كل لحظة وفي كل طرفة عين- أن تذكره بحق الله، حتى ولو بالكلمة العابرة، ومما تذكره بالله أن تذكره بحقوقه العظيمة، فتأمره بتقواه، وتحثه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتستجيب لأمر نبيك صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) الأب الصالح يذكر ابنه بالصلاة، ويعظه حتى يحبب إلى قلبه الوقوف بين يدي الله جل وعلا، والعبد الصالح يأخذ أبناءه إلى بيوت الله بالليل والنهار، والعشي والإبكار.

    والله إنك ما علّمت ابنك الوضوء فصب الماء على يده أو جسده إلا كتب الله لك أجره، ووالله إنك ما علّمته الصلاة وكيف يقرأ فاتحتها، وكيف يحسن ركوعها وسجودها، وكيف ينتصب بين يدي الله فيها إلا كان لك مثل أجره كلما وقف بين يدي الله مصلياً، ولو علّم غيره كتب الله لك الحسنات، ورفعك إلى عظيم الدرجات، فالصالحات الباقيات، فمن أمر أبناءه بالصلاة وتفقدهم بالعشي والإبكار والصبح والمساء، أعظم الله أجره، وثقل ميزانه، وأورث في قلوب أبنائه حبه، فكم من آباء ربوا أبناءهم في الصغر على هذه الطاعة المرضية، فما كبروا إلا على حبهم وتقديرهم وإجلالهم لآبائهم، قال بعض العلماء: حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الأولاد بالصلاة، ومن عوّد نفسه أن يأمر أولاده بالصلاة، اعتاد أولاده من الصغر على السمع والطاعة، وقل أن تجد أباً كان يتفقد أبناءه في الصغر -حتى شبوا على حب الصلاة- إلا وجدته يحيا الحياة السعيدة.. يعيش بين أبنائه حميداً وليموتن قريراً سعيداً، وليدركن صلاح أبنائه إذا ضمته اللحود، وهجمت عليه الكروب، فرفع ابنه كفه إلى الله شافعاً، يسأل ربه أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، فمن وفى لله وفى الله له، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، لا يعرفنا الله بأحسابنا ولا بأنسابنا ولا بأموالنا، بل يعرفنا بديننا وإخلاصنا وتوحيدنا وقيامنا بحقوق ربنا، هذا الذي بيننا وبين الله.

    ولما كانت الأمة راكعةً ساجدة، أبناؤها وبناتها كبارها وصغارها لا يضيعون حقوق الله؛ عزّت وسادت وكانت في رحمة من ربها، ولما تناسى الناس حقوق رب الجنة والناس، وأصبح الأمر بالصلاة تعقيداً وتضييقاً ونفر الناس منه؛ ضاعت كرامتهم، وعظمت بليتهم، فأصبح الوالد مجهولاً -والعياذ بالله- حتى عند فلذة كبده.

    وعظ الأبناء باتباع أوامر الشرع

    أعظم الحقوق حق الله جل وعلا، ومن حقوقه سبحانه: أنه أحل الحلال وحرم الحرام، تنشئ ابنك من الصغر على أن يحل حلال الله وأن يحرم حرام الله، وأن يتبع شرع الله، وأن يقول كلما سمع أوامر الله: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]. تنشئ ابنك على محبة الدين، والاستسلام لرب العالمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فتعود أبناءك على محبة هذا الدين، وذلك عن طريق ربطهم بالعلماء وإتيان حِلق الذكر، وتعودهم أن يسألوا عن الصغير والكبير، والجليل والحقير، والخردلة والقطمير من أمر هذا الدين، فإذا عظمت وشيجتهم بالدين من خلال العلماء العاملين والأئمة المهديين؛ ألفوا الطاعات والباقيات الصالحات، وسمت أرواحهم إلى الخيرات، وزكت بفعل ما يرضي الله جل وعلا في الحياة وما يوجب حسن الختام عند الممات.

    وعظ الأبناء بالمحافظة على الصلاة

    من الحقوق التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يعظوا أبناءهم بها: حق الله -كما ذكرنا- في الصلاة والزكاة، لأن الله يقول حاكياً عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] أمره بالصلاة، وأثنى على نبيه إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55-56]، من هذا الأب الموفق الذي يريد أن يكون عند ربه مرضياً؟ من أراد ذلك فليعظ أبناءه كلما أذن أذان للصلاة، فاعلم أنك تكون عند الله مرضياً إذا تفقدت أبناءك وبناتك -صغاراً وكباراً- في الصلاة، فأخذت كبيرهم إلى المسجد وتابعته فيما تعظه وتأمره به.

    وعظ الأبناء بتعظيم شعائر الله وخشيته

    من حقوق الله جل وعلا، تعظيم شعائر الله في قلوب الأبناء والبنات، وغرس معاني الدين في نفوسهم، ومن ذلك: أن يحرص الأب على إبعاد أبنائه وبناته عن المحرمات والمفسدات والملهيات والمغريات، التي توجب سخط الله في الحياة والممات، تنشئ ابنك على الخوف من الله، والخشية منه في السر والعلانية، تعوِّده أن يخاف من الله جل وعلا ويخشاه ويتقيه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أنس بن مالك رضي الله عنه إلى حاجة -وكان أنس صغير السن خادماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فانطلق أنس ، فرأى صبياناً يلعبون، فجلس يلعب معهم، فخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمسكه، وقال: يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك). انظر كيف يُعلم الابن، ويعلم الصغير الخوف من الله، وعندها حين قال النبي هذه الكلمات -ماذا تتوقعون من أنس أن يحس في قرارة قلبه من هيبة الله جل وعلا عندما يعلم أن محبة الله وخشيته قد حالت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضربه؟!

    عوّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمة صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً وأطفالاً على تعظيم الله جل وعلا، والحذر من حدوده ومحارمه، ولذلك قال الله بعد ما نهى عن المحرمات: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17] وعظنا الله، فحرم علينا محرمات ينبغي تعليمها للأبناء والبنات، ليس بعيب أن تجلس مع أولادك مع أبنائك وبناتك وتبين لهم ما الذي حرم الله عليهم، من: قول الزور، وغيبة المسلمين، والنميمة، والسب والشتم، وأذية المسلمين باللسان أياً كانت هذه الأذية، ليس بعيب أن تجلس مع أبنائك وبناتك فتذكرهم بحرمات الله التي نهى عنها في السمع والبصر، فتذكرهم أن الله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، فتجعلهم على خوف من الله جل وعلا.

    فلا إله إلا الله! كم من عيون غضت للأبناء والبنات بالنصائح الطيبة من الآباء والأمهات، وكم من ابن وقف على حرمة من حُرَم الله ونظر إلى شهوة مغرية فتذكر وعظ أبيه فخاف من الله، ولربما كان أبوه ميتاً فصارت رحمة عليه بعد موته، كل ذلك بالموعظة الصالحة والكلمة والوصية النافعة.

    1.   

    الموعظة سبب سعادة العبد في الدنيا والآخرة

    إنها المواعظ التي هي طريق إلى سعادة العبد، لا يستطيع الأب ولا تستطيع الأم أن تقوم بالموعظة إلا إذا كان هناك سلاح يتسلح به كل واحد منهما، ألا وهو العلم والبصيرة، والنور الذي يهدي الله عز وجل به من اتبعه سبل السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16].

    ما أحوج الآباء والأمهات إلى معرفة جملة من الأحكام والأمور التي تتعلق بتعليم الأبناء والبنات، وتوجيههم وتربيتهم، ما أحوجهم إلى أن يسمعوا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وإلى سيرته العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة، كيف كان يأمر بالتوحيد؟ وكيف كان يغرس العقيدة في قلوب الصغار؟ (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) الله أكبر! ما أعظمها من كلمات وقعت في قلب حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه! حتى أصبح إماماً من أئمة الدين، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمات التي هي من أسباب السعادة للعبد في الدنيا والآخرة. (يا غلام! احفظ الله يحفظك) وهذا يجمع جميع أوامر الله ونواهيه، احفظ الله بفعل أوامره، واحفظ الله بترك نواهيه.

    ثم يقول له عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) فالمخلوق بين أمرين.. بين رحمة وعذاب، وبين نعمة ونقمة، فإذا كان في نعمة اعتقد الفضل كله لله، وسأل ربه أن يبارك له فيها، وإن كان في نقمة علم علم اليقين أنه لا ينجيه منها إلا الله وحده لا شريك له، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء سبحانه وتعالى، وعندها تهون عليه مصائب الدنيا كلها.

    إنها المواعظ التي تذكِّر العباد بالله وتهديهم إلى صراطه جل وعلا، إنها المواعظ التي ابتدأها خير الواعظين سبحانه إله الأولين والآخرين، فوعظنا وذكّرنا في كتابه المبين، وسار على هذا النهج المبارك صفوته من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    1.   

    افتقار المواعظ إلى القدوة الصالحة

    أيها الأحبة في الله! المواعظ تفتقر إلى أمر عظيم، إذا وجدت في الأب والأم، فإن الله ينفع بها وتقع في القلوب كوقع الغيث على الأرض الطيبة، إنها تحتاج إلى قدوة صالحة، الأب الذي ينصح أبناءه وبناته لابد وأن يكون قد أقام نصيحته لأنه لهم قدوة، ولابد أن يكون إماماً هادياً مهدياً، حتى ينفع الله بنصيحته، وتكون كلماته مؤثرة في النفس عميقة الأثر في القلب؛ لأن الله جبل الأولاد على محبة الوالدين والتأثر بنصيحتهما، وأنهم يشعرون شعوراً عميقاً أن الأب لا يغش أولاده، وأن الأم لا تغش أولادها، فهم يتقبلون النصائح منهما، فيحتاجون إلى القدوة التي تدلهم مع القول بالفعل، فابنك إذا رآك إذا أذن المؤذن تخرج إلى المسجد مبكراً؛ سبقك إلى المسجد، وإذا رآك عند ذكر الله تفيض عيناك من خشية الله فاضت عيناه من خشية الله، وإذا رآك ابنك وقافاً عند حدود الله، لا تغتاب المسلمين، ولا تسب المؤمنين كان ابنك عفيف اللسان عن عباد الله المسلمين.

    والبنت إذا رأت أمها قوّامة، صوّامة، ذاكرةً لربها، منيبة إلى خالقها، أحبت الله من كل قلبها، الله أعلم كم من ذريات صلحت بالقدوة الصالحة!

    الأبناء والبنات ينتظرون الفعل قبل القول، ولذلك قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فالإمامة في الدين والموعظة التي تذكّر برب العالمين تحتاج إلى الفعل قبل القول، قال بعض السلف: عظوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف نعظ ونحن صامتين؟ قال: عظوا الناس بأفعالكم وأخلاقكم قبل أن تعظوهم بأفواهكم.

    1.   

    الرفق واجتناب الكلمات الجارحة في الموعظة

    كذلك تحتاج الموعظة إلى كلمة صالحة صادقة مؤثرة، كالقول البليغ الذي يحكم الوالد اختياره؛ المهذب الذي لا يجرح القلوب ولا يؤثر في النفوس ولا ينفر في الدعوة، هذا الذي ينتظره ابنك وتنتظره ابنتك، فإذا رأيت الابن أو البنت مخطئاً، فعليك -رحمك الله- بالقول الكريم والموعظة الحسنة والكلمة المؤثرة استجابة لقوله تعالى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، فالقول البليغ والموعظة البليغة مؤثرة في النفوس؛ ولذلك كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق بياناً وأحسنهم كلاماً؛ فإذا وعظ الموعظة أثر في القلوب، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا)، فكانت مواعظه عليه الصلاة والسلام منتقاة، فعلى الوالد والوالدة أن يحرصا على عدم جرح المشاعر، فلا ينبغي تنفير الأبناء والبنات من الطاعة والدين، ولا ينبغي إذا أردنا أن ننصح أو نعظ أن ننفر أبناءنا وبناتنا من الخير والبِر، بل علينا -إذا رأيناهم أخطئوا- أن نقول الكلمة التي تقع في النفوس موقعاً بليغاً.

    والدٌ يقول لولده أخطأ: يا بني! والله إنك أعز في قلبي من أن تقول هذه الكلمة التي لا ينبغي لمثلك أن يقولها، تصور يبكى الابن مباشرة، ويقول: يا أبتي! سامحني.

    ووالد يقول لولده-أعاذنا الله وإياكم-: أيها السخيف! يا من لا تستحي! فنفر الابن وصد عن موعظته، فالله الله أن تكون حجر عثرة بين أبنائك وبين رحمة الله وتذكر وأنت تعظ، وتذكري -أيتها الأم الصالحة- وأنت تعظي أبناءك، وبناتك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) تذكروا -يا معاشر الآباء والأمهات- أن الدين رحمة وأن الإسلام رحمة، وأنه نور وهدى، تهدى به القلوب في الكلمات، وتهدى به القلوب في العبارات، لا تجرحوا به المشاعر، فقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الموعظة؛ لا ينفر من موعظته، ولا ينفر من قوله وهديه وسمته، فما أحوجنا إلى أن نتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.

    كم من أبناء وبنات قرت عيونهم بالصلاح والاستقامة والفلاح بالمواعظ التي اشتملت على الكلمات الرقيقة المهذبة، والعكس بالعكس، فكم من قلوب نفرت، وكم من أبناء وبنات وذريّات صدّت بسبب الكلمات الجارحة، فليتق الله الآباء والأمهات في هذه المواعظ وفيما يختار لها.

    1.   

    وعظ الأبناء بتعظيم حقوق العباد

    مما ينبغي على الآباء والأمهات من النصيحة والموعظة للأبناء والبنات، التذكير بالحقوق العظيمة وهي حقوق العباد، فبعد أن يذكر الآباء والأمهات الأبناء والبنات بحقوق الله جل وعلا يذكرونهم بحقوق المسلمين والمسلمات.

    المسلم له حق عظيم على أخيه المسلم، ما كانت تنشأ البنت في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرفت ما الذي لها وما الذي عليها تجاه أخواتها المسلمات، وما كان الابن ينشأ في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرف ما الذي له وما الذي عليه تجاه إخوانه المسلمين.

    كانت الأمة تربي أبناءها وبناتها وفلذات أكبادها على تعظيم حقوق المسلمين، كان أبناء المسلمين وبناتهم ينظرون إلى أخوة الإسلام نظرة التقديس والإكرام، حتى إن المسلم ليقدر أخاه في الإسلام أكثر من تقديره لأخيه في النسب، وذلك حين كان الإسلام أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية رغبتهم وسؤلهم، فكانوا يعرفون حقوق المسلمين وعظمها، وكان الآباء والأمهات ينشئون الأبناء والبنات على معرفة ورعاية حقوق العباد، ومن أعظمها: حقوق الوالدين، فكان الوالد يأخذ ولده معه إلى زيارة جده، فيجلس ذلك الوالد بين يدي أبيه -الذي هو الجد- على مرأى ومسمعٍ من ابنه، مجلاً مكرماً لأبيه، لا يتكلم بحضور أبيه، ولا يمكن أن يرد لأبيه طلباً، ولا يعيي أباه في المسألة، خادمٌ له في حاجته، قائم له في سعيه، وإذا بالابن ينظر إلى أبيه وقد صار صغيراً، وقد رآه من قبل كبيراً، وذلك لأنه أمام أبيه، فيتعلم كيف يبره في الغد، فانظروا إلى الشمائل العطرة والأخلاق الجميلة الجليلة النضرة التي كانت تتربى عليها بيوت المسلمين، وهكذا الأم كانت تأخذ بناتها الصغار إلى الجدة فتجلس بين يديها بكل إكرام وإجلال وإعظام، لتعلم بناتها كيف البر.

    كان الأب يأخذ أبناءه إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وآل كل والقرابات، ما كان يوجد بيت من بيوت المسلمين تمر عليه أيام فيها سعة أو إجازة إلا وخرجت جموعهم في السفر للسياحات والنزهات، لا والله. بل يخرجون لصلة الأعمام والعمات وآل كل والقرابات؛ فكتبت الخطوات، ورفعت الدرجات، وتأذن الله برحمة المؤمنين والمؤمنات، يوم كانت الأمة في فقر وشدة وضعف، ولكن بارك الله لها في أرزاقها وأقواتها وأوقاتها، فقل أن تجد رجلاً مبتلى بمرضٍ في نفسيته أو في عقله أو نفسه؛ بسبب الصلة والرحمة التي رحم الله عز وجل بها الأمة.

    كانت الأمة كالجسد الواحد تنشئ أبناءها وبناتها على معرفة الحقوق والواجبات، والقيام بالأمانة والمسئوليات، وكذلك ينشئون الأبناء على تعظيم حقوق أخوة الإسلام، ويبتدئ هذا بالمواقف، فأول ما يبدأ الأب والأم بالجار، فينشأ الابن والبنت على تعظيم حقوق الجيران، فمن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه عمراً طويلاً ما سمعه يوماً يسب جاره أو آذى جاره، أو اغتابه أو ذكره بسوء، ومن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه دهراً طويلاً، لم يحتج جاره يوماً إلى أحد -بعد الله- غير أبيه، فكان الجار ينزل حاجته بأبيه على مسمع ومرأى من الابن؛ فنشأ الابن على إكرام الجيران، وأصبحت شمائل الإسلام وأخلاق الكرام مغروسة في قلوب المسلمين بالأفعال قبل الأقوال، وذلك يوم كانت معتزة بدينها متمسكة بالإسلام، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن التأسي بهم، وما زال الخير -والحمد لله- موجوداً في الأمة، ولا زالت بقية باقية تشفق على أبنائها وبناتها وفلذات أكبادها، فتسعى لتنشئهم على طاعة الله عز وجل.

    1.   

    الموعظة إذا كانت لله عظم نفعها

    إن هذه المواعظ صلاح للأسر، وسعادة لها في الدنيا والآخرة، هذه المواعظ لا تكون نافعة ولا مؤثرة إلا بشرط واحد، وأساس واحد، أقام الله عليه هذا الدين كله، أقام عليه السموات والأرض، ومن أجله سيكون السؤال والحساب والعرض، وهو الإخلاص لله تبارك وتعالى.

    اعلم رحمك الله تعالى أنك بين موقفين إما أن ترى ابنك أخطأ فتأخذك حمية الدين أو تأخذك حمية الجاهلية، فإياك أن تضيع على نفسك الأجر، لا تقل: فضحتنا وشهّرت بنا، ولكن قل: يا بني! إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] ذكره بالله، ولتخرج الكلمة من قلبك صادقة لوجه الله جل وعلا، فكل موعظة خرجت من قلب صاحبها والله يعلم أنه يريد وجه الله نفع الله بها، وكانت مباركة وبقيت مع من سمعها وعمل بها، فالكلام إذا أُريد به وجه الله طاب، وفُتِّحت له أبواب السموات إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] فالله الله في مواعظك أن تفتح لها أبواب السموات حينما تخلص لوجه الله.

    إذا رأيت ابنك قد أخطأ، فلتأخذك حمية الدين ولتخف عليه من رب العالمين، وتقول: يا بني! والله لو عصيت ربك فإني لا أغني لك من الله شيئاً، واذكر وأنت تقول هذه الكلمات الطيبات المباركات، اذكر رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقفٌ أمام قريش أمام قرابته وبني عمه وبناته، يقول لهم: (يا فاطمة بنت محمد ! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنكِ من الله شيئاً) كانت الموعظة والنصيحة لله، فالذي يعظ أبناءه لله، وتخرج كلماته خالصة من قلبه، ليس خوفاً أن يعيّبه الناس أو من الفضيحة، ولكن خوفاً من فضيحة الأشهاد، خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم يُفرّق فيه بين الوالد وولده، والأب وابنه يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] يرى ابنه على معصية فيقول: إني أخاف من هذه المعصية اليسيرة أن تفرق بيني وبين ابني يوم القيامة، فيا بني! اتق الله، فإذا خرجت الكلمة من قلب صادق بارك الله فيها، فأبناؤك ينتظرون منك الإخلاص، وبناتك -أيتها الأم الصالحة- ينتظرن منك الإخلاص، ولذلك إذا وعظ الواعظ مخلصاً لله بارك الله في موعظته.

    انظر إلى ذلك المثل الذي ضربه رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أصعب المواقف وأعظمها وأشدها، جعله عبرة لعباده المؤمنين: (امرأة فقيرة محتاجة جاءت إلى ابن عمها وهو مغرم بها، يساومها على الحرام وعلى نفسها وعرضها والعياذ بالله، فلما رأى حاجتها قال لها: لا أعطيكِ حتى تمكنيني من نفسكِ -وهي ضعيفة محتاجة وفي فاقة شديدة ولكنها عفيفة مؤمنة- فلما رأت أنها مضطرة وأعيتها الحيلة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -في هذا الحديث الصحيح- عن هذا الرجل: اللهم إنك كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها، وكنت أراودها عن نفسها فأبت حتى احتاجت يوماً من الأيام، فقلت لها: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فلما جلست منها، وفي رواية: فلما قعدت منها مقعد الرجل من المرأة، قالت: اتق الله، ولا تفضن الخاتم إلا بحقه)، الله أكبر! موقف تنهزم فيه المرأة مهما أوتيت من قوة، ولكنها خافت ربها واتقته، وطهُرت واستسلمت لخالقها، فقالت النصيحة من كل قلبها، قالت له: (اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه) فرعدت فرائصه من خشية الله، وترك المال لها وقام.

    الله أكبر! ما أطيب الكلام إذا خرج لوجه الله وحده لا شريك له! ما كان لله عظُم نفعه وجلّت بركته في الدنيا والآخرة.

    وإذا وقف العبد بين يدي الله جل وعلا -وكان ناصحاً واعظاً- لأهله وولده- فإنه يرى أمام عينيه تلك الكلمات التي خطها ملائكة حافظون، لا يغشون ولا يكذبون، يراها كاملة أمام عينيه في يوم ينفع الصادقين صدقهم، نعم، تجد الصادقين هم المخلصون، فإذا نصحت أبناءك وبناتك، فانصحهم بقلبٍ يريد وجه الله، بقلب ليس فيه إلا الله، ليس فيه أحد سواه، وكم من آباء نصحوا أبناءهم وبناتهم المرات والكرات دون فائدة؛ لأنهم نصحوهم خوفاً من الفضيحة، ونصحوا لعادةٍ أو تقليد، ما نصحوا لله ولا في الله، ولا ابتغاء الأجر عند الله، فالله الله في هذه الأساس.

    1.   

    الصبر وارتباطه بالموعظة

    عليك أن تعلم أن الموعظة أحب الكلام إلى الله جل وعلا، فالله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] فإذا أردت أن تعظ أسرتك المسلمة، فاعلم -أنك إذا كنت واعظاً- أن الكلام الذي تقوله هو أحب الكلام إلى الله جل وعلا، فإذا علمت أنه أحب الكلام إلى الله سبحانه وتعالى عظُم صبرك وتحمُّلك، فإذا سمعت كلمةً نابية أو رأيت صدوداً أو إعراضاً فلا تيأسن.

    فمهما رأينا من الفتن التي أحاطت بأبنائنا وبناتنا، ومهما سمعنا من الحوادث والملهيات والمغريات، فإنا صابرون وعلى ربنا متوكلون وإنا على الصبر مرابطون، فتوكلوا على الله، وعليك أن تكرر النصيحة والموعظة، فالله يكتب أجرها ويحب سماعها، ولن يضيع عند الله ثوابها إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] فاصبر رحمك الله ولا تيأس ولا تعجز.

    واعلم أن قلب ابنك موقوف على رحمة من الله يهدي بها قلبه، فاجتهد في الدعاء في سجودك وتهجدك، وفي ليلك ونهارك، وصبحك ومسائك أن يهدي الله ذريتك، أَكثر من الدعاء لأبنائك وبناتك، فمهما رأينا أو سمعنا من أبنائنا وبناتنا، فلنستعن بالله ربنا، ولنعلم علم اليقين أن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولنعلم علم اليقين أن الكلمة أو الموعظة الصادقة كمثل شجرة: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25]، فاجتهدوا -رحمكم الله- واصبروا وصابروا واعلموا أن الله سبحانه وتعالى معين لمن استعان به، ومؤيد لمن استنصر به، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمدنا بعونه وبتوفيقه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك، وهو رب العالمين.

    1.   

    آثار المواعظ وثمارها

    رضا الله والنجاة من عذابه

    أول آثار المواعظ: رضوان الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً، يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، فلربما دخلت على ابنك أو ابنتك فسمعت من أحدهما كلمة نابية، فقلت له: يا بني! اتق الله، وأنت لا تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضاه إلى يوم أن تلقاه، فتذكر هذا واعلمه علم اليقين، وما أطيبه من أثر! طابت به أحوال المؤمنين والمؤمنات!

    ومن آثار المواعظ: أن الله يكتب لك أجرها وثوابها، ويحسن لك ذخرها في الدنيا والآخرة، ولذلك قل أن تجد والداً كثير النصح لأولاده، وقل أن تجد والدة كثيرة النصح لأولادها إلا وجدت بركة النصح في بيتهما وأهلهما وولدهما. البيوت التي تقوم على المواعظ تغشاها السكينة وتتنزل عليها الرحمة، وتجدها أصلح حالاً من كثيرٍ من البيوت.

    من ثمرات المواعظ: أنك إذا أدمنت النصيحة، ثم نزل -لا قدر الله- عذاب على الأمة، أنقذك الله بفضله ورحمته، ثم بدعوتك وموعظتك، لا ينجو من العذاب إلا من وعظ وأخلص، ولذلك لما قالت أمة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164] فأنجى الله الذي ينهون عن السوء في الأرض، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].

    فلو حلّت عقوبة أنقذك الله منها، ولذلك البيوت التي تنتشر فيها المنكرات والمحرمات، إذا نزل العذاب على العاصي، تجده ينتشر على البيت كله والعياذ بالله، فتجد قلوباً مغلفة وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً، نسأل الله السلامة والعافية.

    صلاح المجتمع واستقامته

    ومن آثار الموعظة: أن البيوت إذا صلحت صلح المجتمع كله، والأسر إذا صلحت واستقامت؛ صلح المجتمع كله، وبارك الله في أمة تأمر بما أمر وتنهى وتزجر عما نهى عنه وزجر، يبارك الله في الأمة كلها، ولذلك لما كانت بيوت المسلمين تقوم على هذا الخير، كانت بيوت المسلمين لا تعرف الواجبات والمحرمات فقط، بل كانت تعرف المستحبات والفضائل، أما الواجبات والمحرمات فهذه البدهيات.

    كان الطفل الصغير ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف حتى لربما مر على الرجل وهو يبيع في تجارته بعد الأذان، فيقول له: اتق الله وصلِّ. كانوا يعظون أبناءهم، في الكمالات لصلاح الأسر؛ لأن الواجبات فصلت، والمحرمات تركت، ما هي الكمالات؟ كانت الأسر تعظ بإكرام الضيف، ونصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، والتضحية والإيثار، كانوا في مراتب الكمالات، ليس الواجبات أو المنهيات، كانت الأمة في هذا المكان العظيم والمنزلة الشريفة الكاملة، فعلينا أن نُصلح الأمة بصلاح الأسر، ولا تقل: من أنا؟ فلربما صلاح بيتك صلاح للأمة كلها، ولعل الله أن يوجد بيتاً في الحي، يقوم على الموعظة تتأثر به الأسر من حوله، فلربما جاءت امرأة زائرة لهذا البيت المسلم الذي قامت فيه الموعظة كما ينبغي أن تقام، فقالت: يا أم فلان: لِمَ لا تفعلين كذا وكذا؟ إن أبا فلان نهانا، وإن أبا فلان قال لنا كذا وكذا، فذكّرتها بالموعظة، فبكت وانطلقت إلى بيتها، فأخذت بحجزها عن نار الله وغضبه، فكم من خير انتشر، وكم من بر علا وظهر بفضل الله جل وعلا ثم بالموعظة لما نشرت.

    الموعظة خيرها عظيم وبركتها عظيمة؛ بركتها حتى في اللسان الذي يتكلم بالموعظة، ويذكر بالله عز وجل، يطيِّبك الله به حياً وميتاً، فلماذا زكى الله الأنبياء والعلماء والأخيار والأتقياء والصلحاء؟ بفضله سبحانه ثم بما قاموا به من ذكره وشكره والدعوة إليه سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ [فصلت:33] من هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، فثمرات الموعظة عظيمة وآثارها جليلة كريمة.

    الموعظة أجر مستمر

    ومن ثمرات المواعظ: أنك ما ذكرت موعظة فسمعتها أذن وعملت بها جارحة إلا كُتب لك أجر صاحبها، وأن هذه الموعظة إذا تعلمها أحد، فعلّمها غيرك كان لك مثل أجره وأجر من اهتدى بها إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من دعا إلى هدى، كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيء) الله أكبر! ما أعظم آثار هذه المواعظ، وما أعظم أجرها وخيرها وبركتها عند الله سبحانه!

    ولذلك شرف الله المواعظ حتى شرّف مجالسها، فمن خرج من بيته إلى مجلس موعظة وذِكر، وإذا خرج المؤمن من بيته إلى محاضرة ومجلس ذكر أو موعظة أو إلى خطبة يريد وجه الله، كُتبت له خطواته، ووضعت الملائكة أجنحتها له رضاً بما يصنع، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) فمن يذهب إلى المواعظ فهو طالب علم، لأنه يريد أن يعلم من هو الله، وكيف يطيع الله، ويريد أن يعلم أين سيبل الله، فكم من مذنب خطّاء كثير الخطأ جاء إلى المواعظ لكي يُدل على الله ويُهدى إليه، فبشّره الله عز وجل برحمته، فأصبح سعيداً من ذلك المجلس إلى يوم القيامة، وهذا فضلٌ من الله ومن بركات وفضائل مجالس المواعظ.

    ومن فضائل المواعظ: أن الله زكاها وشرفها، حتى إن العبد إذا حضر مجلس الذكر مرّ وجلس حتى ولو لم يقصد مجلس الذكر، إذا مر وجلس في مجلس الذكر؛ غفر الله له ذنوبه، وهذا فضلٌ عظيم، وخيرٌ كبير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم خذ بنواصينا لما يُرضيك عنا، واجمعنا مع الأنبياء والشهداء والصالحين، إنك ولي ذلك، وأنت أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    خطوات في دعوة الأسرة

    السؤال: فضيلة الشيخ! ما هو دور الابن تجاه إعراض الأسرة أو أحد أفرادها عن دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؟

    الجواب: إن الموعظة قد تكون من الابن لوالديه، وتكون منه لإخوانه وأخواته، والواجب عليه أن يترسّم النهج الذي ذكرناه، يبتدئ أولاً: بالإخلاص لله عز وجل.

    ثانياً: يتعلم العلم النافع، ويسأل العلماء ما الذي يأمرهم به، وما الذي يبدأ به، ويبين لهم بعض الأخطاء الموجودة، ولا يقول: أبي يفعل وأمي تفعل، حتى لا يغتاب أباه أو أمه، بل يقول: هناك شاب له أب يفعل كذا وكذا، وهناك والد يفعل كذا وكذا، فيكون ذكياً حتى في سؤاله، حافظاً لحرمة والديه، لا يكشف ستر الله على أهله وأسرته.

    ثالثاً: بعد تعلمه عن طريق العلماء وجلوسه في حلق الذكر وبعد علمه ما الذي ينبغي أن يبتدئ به؟ ينبغي أن يعلم أن الحق أكبر من كل أحد، وأن الله سبحانه وتعالى أمره إذا علم أن يُعلم غيره، فلا تأخذه هيبة الوالد والوالدة، فالحق أكبر وأعظم، وينبغي عليه أن يكون جريئاً على طاعة الله، ولكن مع الأدب، فإن إبراهيم يقول لأبيه: يا أبت ناداه بالأبوة، ما قال: يا فلان، وإنما ناداه بالأبوة اعترافاً بالفضل وبالجميل، والله يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] (إن جاهداك) أي: كانوا في جهاد من أجل إغوائك، ومع ذلك يقول: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] فينبغي على الابن أن يبدأ بنصيحته ولا يتهيب.

    رابعاً: ينظر أقرب الأسرة إلى الخير، فبعض الأحيان تكون الأسرة عاصية ولكن قد يكون الأب والأم أقربها قلباً، وقد تكون الأخت أو الأخ، فيبدأ بأقربهم إلى الخير، ولا ينصحه أمام الغير، وإنما ينصحه على خلوة وانفراد ويعظه ويذكره بالله عز وجل، سواءً كان تذكيراً مباشراً، أو تذكيراً بواسطة شريط مؤثر أو موعظة بليغة ونحو ذلك مما يعين الله عز وجل ويبارك فيه.

    وعليه -أيضاً- أن يحرص كل الحرص على عدم تنفير أهله وإخوانه؛ لأن الأقربين لهم حق عظيم، وأفضل ما تكون الموعظة موعظة الأقربين، وأعظم أجر وثواب للداعية إلى الله هو الداعي لأهله، ولذلك قال تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فالنصيحة والموعظة والدعوة إلى الله في الأقربين أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى من غيرهم، وواجب عليه أن يحتسب عند الله عز وجل الأجر، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل.

    خامساً: مسألة القدوة، الابن الذي يأتي ويجلس بين يدي أبيه فيشعره بأنه أب وهو أولى بالتقدير، ويكون أحسن الأبناء في البيت براً وإحساناً، ربما يغير البيت بفعله قبل أن يغيره بقوله، كم من أب رأى ابنه تغير في تصرفاته واحترامه وإجلاله وتقديره، فقال له في يوم من الأيام: يا بني! ما الذي غيرك بهذا الشكل؟ فيجيب: يا أبت! جلست في مجلس الشيخ فلان فأثّر فيَّ، فقال له: اذهب بي إلى فلان، فهدى الابن أباه بدون أن يتكلم وأخذ بحجزه عن النار دون أن يعظ، وهذا كله من توفيق الله عز وجل للابن الصالح الموفّق الذي يؤدي حق والديه كاملاً، وحقوق إخوانه وأخواته أيضاً، ويظهر لهم التزامه وطاعته وهدايته، فيبدأ بالبشاشة والمودة والمحبة والهدية وتأليف قلوبهم للخير، فهذا هو الذي ينفع الله بدعوته، وتأتي الموعظة في آخر شيء فتكسر الأقفال وتلك القيود المغلقة والآذان الصماء حتى يفتح الله عز وجل ويتأذن برحمته وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

    نشوز المرأة وعلاجه

    السؤال: كيف يكون وعظ المرأة الناشز على زوجها؟

    الجواب: المرأة لا يجوز لها أن تنشز على زوجها، والنشوز هو: الشيء المرتفع، العرب تقول: أرض ناشز، إذا كانت مرتفعة، كالهضبة ونحوها، فالمرأة في الأصل تحت الرجل، هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها؛ لأن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فشرفه بهذا الشرف ثم خلق منه حواء، وقال: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189] هذه حقيقة ينبغي للمرأة المؤمنة أن تُسلم بها تسليماً، وألا يغرها هذه الدعاوى المغرضة لأعداء الإسلام أن المرأة والرجل سواء، هذه حقيقة ينبغي أن تعيها وتكون على بينة؛ لأنها نصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضحة جلية.

    قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت) فالمرأة الصالحة تدرك هذا، والحمد لله أن نساء المؤمنين يدركن هذا، ولا ينطلي عليهن ما يروجه أعداء الإسلام من مثل هذا، فالنشوز يأتي بسبب الدعاوى المغرضة من أعداء الإسلام لإغراء المرأة أن تكون متمردة على زوجها، وهذا من أسوأ ما وقع في المجتمع الإسلامي، بل في المجتمعات كلها، ولذلك ما صلحت الأسرة المسلمة إلا بهذه الحقيقة، أن تكون المرأة مع زوجها معينة له على كل خير وبر، فقد قادت الأمة العالم من المحيط إلى المحيط لما كانت المرأة مع زوجها كأكمل ما تكون المرأة مع بعلها، تحسن له التبعل، وتحسن له السمع والطاعة، وتحسن له القيام على ولده، وتحفظه في غيبته، فكانت الأمة بخير حال.

    فلذلك النشوز شر وبلاء، ولخطر النشوز ذكره الله في كتابه: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، المرأة تنشز عن زوجها بصور؛ إما أن تنشز في القول أو في الفعل، النشوز بالقول: ترفع صوتها عليه أو تخاصمه، وبدل أن يأمرها تأمره، بدل أن ينهاها هي التي تنهاه، يقول لها مثلاً: اخرجي من هنا، فتقول: اخرج من هنا أنت، تنشز بالفعل، يقول لها: هذا ضعيه هنا فتضعه في مكان آخر، هذا كله من النشوز، وقد تحدث حركات تدل على التهكم والاستخفاف، فإن فعلت ذلك واسترجلت على بعلها وعصت ربها؛ لُعنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله المترجلات من النساء).

    فالمرأة الصالحة المؤمنة التقية النقية تراقب الله في حق بعلها، وأمور الأمة سائرة على هذا الأصل، ولا تظن المرأة أن هذا عيب أو نقص لا والله، بل كمال؛ لأن الله فضّل من فضّل، وجعل في المرأة ضعفاً وهو كمالٌ فيها، فهذا الضعف يحتاج إلى قوة، وهذه القوة هي التي تكون عليك، وهذه فطرة الله، لا تبديل لخلق الله، فإن نشزت المرأة خرجت على الفطرة وخالفتها وأصبحت هي التي تأمر وتنهى، والله يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34].

    ونشوز المرأة قد يكون داخل البيت وقد يكون خارجه، فيكون داخل البيت بتغيير أمور ما أذن الزوج بتغييرها، أمرها زوجها في داخل بيتها بأمور -كما ذكرنا- فتخالفه وتعصيه، ويكون خارج البيت بالخروج من دون إذنه، وأيما امرأة خرجت من بيتها من غير إذن زوجها فقد نشزت وعصت، فإذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم يبين حق الرجل في الإذن للمرأة بالخروج من بيته، فقد ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر : (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد، فلا يمنعها)، فإذا أرادت أن تخرج إلى الصلاة فلا تخرج إلا بإذن زوجها، فكيف بما سوى الصلاة؟ هذا يدل دلالة واضحة على أن المرأة تقر في البيت: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] فالأصل أن المرأة لا تنشز عن زوجها ولا تعصي بعلها.

    فإذا نشزت جعل الله عز وجل علاجاً لذلك: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] ثلاثة حلول:

    أولاً: الموعظة، تقول لها: يا فلانة! اتقي الله، واعلمي أنك قد عصيت ربك، يا أم فلان! إن الله عظم حقي عليك، يا أم فلان ما هكذا تكون الزوجة، فيعظها ويذكرها بالله عز وجل ويخوفها من عقوبة الله العاجلة والآجلة، فإذا ذكّرها ووعظها المرة والمرتين والثلاث، فإنه يعظها بالقول المؤثر؛ لأن الإسلام فيه ترغيب وترهيب، الموعظة بالترغيب يقول لها: أنت أكمل من أن تكوني بهذه الحالة، كنت جميلة بعيني وأنت مطيعة، فكيف تغير حالك اليوم، ولا يقول لها: لست جميلة أو يذمها، يقول: والله إني أرى فيك اختلافاً، فأنت قد أحسنت بالأمس وكنت على كمال وإكرام! ما أجملك -بالأمس- وأنت مطيعة! فالمرأة تغار، فيحرك فيها المحبة بأكثر من أسلوب، فيبدأ بالأسلوب الأخف فالأخف، لأن أئمة الإسلام قرروا قاعدة أنه لا يجوز استخدام العقوبة الأعلى مع وجود ما هو أخف منها، والله عز وجل دل على هذا: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34].

    بعض النساء يؤثر فيهن المدح، يقول لها: ما شاء الله.. كنتِ بالأمس من أحسن وأكمل النساء في نظري! -والمرأة من أحسن النساء في نظر زوجها؛ لأنه ما عنده غيرها- فتقول له: واليوم؟ فيقول: أنت أدرى. هذا جواب واضح، وعتاب وتوبيخ مضمّن، وهذا أسلوب من أكمل الأساليب، فالإنسان الحكيم العاقل، يحاول ألا يصل إلى الوعظ بالذبح، بل يكون وعظه مهذباً كاملاً، كما ذكرنا في صفات الواعظ، فبدأ الله بالموعظة، ثم ذكر بعد ذلك الهجر في المضجع، ثم إذا أعيت الحيلة يضربها ضرباً غير مبرح، ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يعنف تعنيفاً يؤذيها، وإنما يضربها الضرب الذي يؤثر في مثلها، ويردعها عن غيها وخطئها، والله تعالى أعلم.

    أخذ الناس بالظاهر والله يتولى السرائر

    السؤال: رجل يشك في زوجته أنها لا تصلي، ولكن عندما يسألها تحلف له أنها تصلي عندما يذهب إلى المسجد، فهل برئت بذلك أم لا؟

    الجواب: قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكل سرائرهم إلى الله) فإذا رأيت زوجتك تتوضأ وظهرت عليها آثار الصلاة ولم تر شيئاً يناقض هذا الأصل فلا يجوز الشك، وينبغي على المسلم أن يعلم أن هناك عدواً خفياً، وهو الشيطان الرجيم، الذي قعد للبيت المسلم ليفرق شمله، ويشكِّكُك في كل شيء حتى في أقرب الناس إليك، حتى في فلذة كبدك من أبنائك وبناتك: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] هذا من النزغ في القلوب، فاستعذ بالله عز وجل إذا جاءك الشيطان وشكَّكَك بأنها فعلت معصية أو تركت واجباً، فأنت تعظها وتقول لها: يا فلانة! هل صليت؟ تقول: نعم، ممكن أن تأخذ ببعض الأمارات والعلامات وتعمل بها، فإذا عملت بذلك فقد برئت ذمتك، أما إذا وضحت الدلائل، فالصلاة لها نور في الوجه، والمصلون لهم نور في وجوههم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة نور) ونورها لا يخفى، ولذلك كل إنسان مع زوجته يعرف حالها وهي في الحيض، وحالها إذا كانت تصلي، فوجهها في الصلاة غير وجهها في الحيض، وهذا معلوم ويدركه كل إنسان عنده فراسة، وعموماً إذا ظهرت واجتمعت القرائن على صلاتها لا يجوز الشك، فالشك لا خير فيه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) والله تعالى أعلم.

    دور الأمة عند فقد علمائها

    السؤال: إن ذهاب العلماء ثُلمة في هذا الدين، فما هو توجيهكم لطلاب العلم تجاه هذا الموقف حتى تسد ثغرات هذا الدين؟

    الجواب: إلى الله المشتكى، إي ورب الكعبة، ثُلمة في الدين ومصيبة في قلوب المؤمنين، لا يجبُر كسرَها إلا الله رب العالمين، العلماء أئمة الدين، الهداة المهتدون، جعل الله بقاءهم رحمة، وقبضهم إليه نقمة وعذاباً على العباد، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من علامات الساعة: (قبض العلماء)، يا لله كم من أمة أحبت ربها وأحبها ربها بسببهم، يا لله كم من أمة زكت وصلحت وأصلح الله بها بسببهم! يا لله كم من ضال -بإذن الله هدوه- وكم من تائه أرشدوه! وكم من غاوٍ دلوه! وكم من حائر أخذوا بحجزه إلى صراط الله!

    فقدت الأمة علماءها، وأصبحت في غربة في كثير من مسائل دينها، وكان من أعظم ما بلينا به ونشتكي إلى الله مصابه، فقد عالم الأمة وإمامها سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز ، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلف أهله في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه.

    يبكيه طالب علم كان علّمه وتائه عن سبيل الرشد أرشده

    نبكي عليه جميعاً إن مفقده لم يبق من مسلم إلا وأجهده

    سحت على ذلك العبد الرضا ديم من الرضا وأنار الله مرقده

    رحمه الله برحمته الواسعة، وأنار قبره بأنواره الساطعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء، وفقدت الأمة كذلك العالم الحجة والإمام الصالح: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة، وأنار قبره ونور مضجعه، وجزاه عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء، فكم بين للأمة حديث رسولها صلى الله عليه وآله وسلم، وكم سهرت عيناه وخطت يداه -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- كي يبين للأمة الهدى من الضلال، والحق من الباطل، أسأل الله العظيم أن يُعظم أجره وأن يجزل مثوبته، وأن يلحقنا به غير خزايا ولا مفتونين، ونسأل الله العظيم أن يبارك لنا فيما بقي من علمائنا، وأن يعظم نفعهم، وسلوتنا وجود العلماء الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وأن يبارك في جهودهم وفي طلابهم، وأن يُعظم الأجر لهم في الدنيا والآخرة.

    أيها الأحبة في الله! فقد العلماء ثلمة في الدين، ولذلك ينتشر الجهل والبلاء ويعم الفساد في الأمة إذا فقدت علماءها، والعالم الصالح الورع هو الذي ورث العلم عن أهله واتصل سنده إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، فنقصد مشكاة من مشكاة النبوة وعلماً من أعلام الدين، فالإنسان تنزل به النازلة في ظلمة الليل في أهله وزوجه لا يدري زوجته حلالٌ أم حرام، وتنزل به النازلة في متجره وسوقه لا يدري أكان المال حلالاً أم حراماً، وتنزل به النازلة وليس لها إلا الله ثم العلماء، ولا يعلم قدر ما يقدمه العلماء للأمة إلا الله وحده لا شريك له، فهو الذي يجزيهم ويتولى ثوابهم سبحانه، وهو الذي يعلم كم سهروا من أجل أن يحلوا المعضلات ويزيلوا اللبس والمشكلات، وهو الذي يعلم كم جاهدوا وجالدوا وصبروا واصطبروا؛ ولذلك قذف في قلوب العباد حبهم، وأورثهم المحبة التي ينفق الناس من أجلها الملايين من أجل أن يكتسبوها ولم يستطيعوا إليها سبيلاً، ولكن مقلب القلوب والأبصار أورث العلماء محبة الناس لعظيم حبه سبحانه لهم، فالله إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فأهل العلم هم أحباب الله وأولياؤه وصفوته من خلقه.

    وأما وصيتي: أولاً: أن نحفظ حق العلماء الذين قُبضوا وأن نكثر من الترحم عليهم، ونذكر حسناتهم، ونكف عن سيئاتهم وعوراتهم، لا نذكرهم إلا بالجميل، فمن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.

    ثانياً: الحرص على نشر علمهم وفتاويهم، وما بلغوه للأمة، فهذا من أعظم الوفاء وخاصة على طلاب العلم.

    ثالثاً: على طلاب العلم أن يجدّوا ويجتهدوا وأن يتداركوا من بقي من علماء الأمة، وأن يحرصوا على طلب العلم عليهم، وأن يصبروا في ذلك ويصابروا، ويحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجبر كسرنا وكسركم، وأن يعظم الأجر لنا ولكم وللمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    كيفية استغلال المرأة المسلمة أوقات الفراغ

    السؤال: كيف تقضي المرأة المسلمة وقت فراغها؟ وما هي الوسائل المعينة على قضاء الوقت فيما ينفع؟

    الجواب: أولاً النساء يختلفن، فالمرأة ذات الزوج ليست كالمرأة التي لا زوج لها، فالمرأة أول ما ينبغي عليها هو أن تصرف وقتها في الواجبات والفرائض والحقوق، فإذا صرفت وقتها في الحقوق والفرائض، بارك الله لها في وقتها، ثم بعد ذلك تتدرج إلى الفضائل والمستحبات، وأفضل ما تنفق فيه الأعمار ويمضي فيه الليل والنهار هو ذكر الله الواحد القهار، أفضل ما قُضيت فيه الساعات ومضت عليه اللحظات ذكر الله جل جلاله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42] فاذكري الله قائمة قاعدة بالليل والنهار، والصبح والعشي والإبكار، وتذكرينه بالقلب الحاضر. وأفضل الذكر تلاوة القرآن، ثم بعد ذلك قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي، لا إله إلا الله...).

    وكذلك كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، -أيضاً- تقضي المرأة المسلمة وقتها في فضائل الأعمال من الإحسان والبر مما يقرب إلى الله عز وجل، وأعظم ما يكون الإحسان: أن تبدأ بالإحسان إلى نفسها بتعلم العلم النافع، فتبدأ بحفظ القرآن، ومذاكرة القرآن ومذاكرته ومراجعته، وتحاول أن تجعل لها ساعات معينة تحفظ فيها شيئاً من كتاب الله عز وجل أو تقرأ شيئاً من أحكام دينها؛ في صلاتها وزكاتها وحجها وعمرتها وصيامها وغير ذلك من أمور عبادتها.

    كذلك عليها أن تبدأ بتعلم ما أوجب الله عز وجل عليها، فإن كانت متزوجة تعلّمت الحقوق الزوجية، وتعلمت كيف تربي أولادها، وسألت عن ذلك؛ لأن هذا ما يسميه العلماء العلم الفرض العيني، وهو العلم الذي يكون فرض عين على الإنسان، وهو أن الإنسان إذا تلبس بشيء وجب عليه أن يتعلم حكمه، فتتعلم المرأة المسلمة كل شيء فرض عليها، وتتعلم الحقوق والواجبات التي فرض الله عليها للأقربين، ثم بعد ذلك تحرص على أن تكون في أوقاتها بين أمرين:

    الأمر الأول: نفع دين.

    والأمر الثاني: نفع دنيا، فإذا لم تستنفد الوقت في هذه الفضائل، استنفدته في شيء يعود عليها بالنفع في دنياها، وبما يعود عليها بالرزق الحلال، فتتعلم صنعة طيبة تستفيد منها لها ولأبنائها فتعف به نفسها عن الحرام، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن نبي الله موسى آجر نفسه عشر حجج على عفة فرجه وطُعمة بطنه) صلوات الله وسلامه عليه، فالمرأة تعف نفسها بالطعمة الحلال، فتتعلم حتى كل شيء يختص بالنساء من حياكة وغزل، ونحو ذلك؛ لتكون صنعة في يدها، تنفع بها نفسها وأولادها، فالمهم نفع الدين والدنيا، فالوقت إما أن يقضى في نفع ديني أو نفع دنيوي، فهذا هو الذي ينبغي على المرأة المسلمة أن تحرص عليه.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمارنا وأقوالنا وأفعالنا، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756019631