إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صفة الصلاة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تنقسم صفة الصلاة إلى: صفة كمال، وصفة إجزاء، فالأولى هي أتم الصفتين، وهي المشتملة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صلاته، والثانية هي التي يجب على المسلم أن يأتي بها، فإن أخل بشيء منها نقص من صلاته بقدر ما أخل منها. ويذكر العلماء في صفة الصلاة المشي إلى المساجد وآدابه وسننه.

    1.   

    من آداب المشي إلى الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الصلاة].

    بعد أن تكلم المصنف رحمه الله على الأمور التي ينبغي على المكلف أن يحصلها قبل الصلاة شرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة.

    وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، فقوله رحمه الله: (باب صفة الصلاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل يستدل بها على هدي الصلاة.

    وصفة الصلاة تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يسمى صفة الكمال، وهذه الصفة هي أتم الصفتين وأكملها، وذلك أنها تشتمل على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صفة صلاته.

    والقسم الثاني من صفة الصلاة: صفة الإجزاء، وهي الصفة التي ينبغي على المسلم أن يأتي بها كاملةً، فإن أخلّ بشيءٍ منها فإنه يعتبر مخلاً إما بركنٍ أو بواجب، فإن ترك الركن فإن صلاته تبطل ما لم يكن نسياناً وكان نسيانه مقارباً للصلاة في مسجده، فلو ترك ركناً وهو في المسجد، ثم ذكر قبل الخروج وأمكنه التدارك أتم صلاته، وصفة الإجزاء تشتمل على الأركان والواجبات، وقد يقتصر بعض العلماء فيها على الأركان وحدها.

    ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يعتنون بذكر وصف العبادة حتى يحكم على صلاة المكلف بكونها معتبرة أو غير معتبرة، وبعض العلماء يقدِّم على هذا الباب باباً، وهو باب آداب المشي إلى الصلاة، كما اعتنى به الإمام ابن قدامة رحمه الله في كتابه العمدة، وهكذا غيره من العلماء، ومنهم من يقتصر على ذكر الصفة ولا يذكر آداب المشي، والأكمل الاعتناء بآداب المشي في الصلاة، وهي تنحصر في أمورٍ من أهمها ما يلي:

    استحضار النية

    أولاً: ينبغي للمكلف إذا أراد أن يذهب إلى المسجد للصلاة أن يستحضر النية، وهي قصد وجه الله عز وجل بخروجه إلى المسجد، وهذه النية معتبرة للحكم بكونه في قربة وعبادة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخرجه إلا الصلاة)؛ لأن الناس منهم من يذهب إلى المسجد للآخرة، ومنهم من يذهب للدنيا، ومنهم من يذهب جامعاً بين الدنيا والآخرة، فمن خرج وقصده الآخرة كأن يخرج وقصده العبادة والتقرب لله، وشغل الوقت في طاعة الله، وأداء ما افترض الله عليه فهو في قربة، ومثاب من خروجه إلى رجوعه إلى بيته، حتى ورد في الخبر أنه لو هلك فعلى الله أجره، بمعنى أنه لو أصابته مصيبة فمات في طريقه إلى المسجد، أو أصابته بلية فإن أجره على الله، ولذلك كانوا يعتبرون من حسن الخاتمة موت الإنسان في خروجه إلى الصلاة، أو خروجه إلى المسجد؛ لأنها طاعةٌ وقربة، فإذا خرج يستحضر النية.

    ذكر الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم

    ثانياً: أن يأخذ بآداب الخروج من الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة الله إلا بالله)، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فإذا قالها تنحى عنه الشيطان، وقال الملك: أمنت وكفيت ووقيت، فقال: ما لكم في رجلٍ كفي ووقي من حاجةٍ) أي أنه في رحمة الله وضمانه.

    وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من بيته إلى صلاة الفجر، فدعا بثمان كلمات -كما في صحيح مسلم وغيره- وقال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعطني نوراً)، فهذه ثمان كلمات من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الإنسان عند خروجه من بيته يريد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فليحرص على هذا الذكر، فما أكثر فلاحه، وما أنجحه حين يخرج وهو يسأل الله أن يجعل في قلبه نوراً، ومن جعل الله في قلبه نوراً فإنه في أمنٍ وعافيةٍ من الفتن، وقال: (اجعل في لساني نوراً)، فلا يقول إلا خيراً، ولا يتكلم إلا بخير، ويعصم في كلامه، وإذا عُصِم الإنسان في كلامه ومنطقه كان على سدادٍ ورشاد، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [الأحزاب:70-71] فيحرص على هذه الأدعية النبوية، وهذا من آداب الخروج.

    المشي راجلاً دون أن يركب

    ثالثاً: أن يمشي ولا يركب؛ لأن مشيه أعظم أجراً وثواباً له في الطاعة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، (وكان رجلٌ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تخطئه صلاة، وكان يمشي على رجله، فقالوا له: لو أنك أخذت دابة تقيك حر الرمضاء والهوام، فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقٌ طنبه بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أحتسب عند الله أن يكتب أجري في ذهابي ورجعتي، فأخبر صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك بين ذلك)، فإذا كان خروجك ماشياً بقصد أن يكتب الله لك أجر المشي، وكانت نيتك أن يجمع الله لك بين أجر الذهاب والرجعة كتب لك الأجران، فهذا من فضل السعي إلى المسجد.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، كثرة الخطا إلى المساجد)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (إذا رفع العبد قدمه وهو ماضٍ إلى الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)، فهذا خيرٌ كثير.

    وكان العلماء رحمهم الله يستحبون للإنسان إذا خرج إلى الصلاة أن لا يسرع، وأن يقارب الخطا حتى يكثر أجره بناءً على هذا الحديث، وأذكر من العلماء رحمهم الله من كان يمشي كأنه معقول الرجلين، يخفف من المشي حتى تكون خطاه أكثر وأجره عند الله أعظم؛ لظاهر هذا الحديث الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    المشي إلى المسجد بالسكينة والوقار

    رابعاً: والسنة لمن خرج إلى المسجد أن لا يشبك بين أصابعه، وأن لا يشتد سعيه.

    أما عدم التشبيك بين الأصابع فلأنه في صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبيك الأصابع في الصلاة؛ لأن اليهود إذا صلوا شبّكوا، فنهي المسلمون عن التشبيك حتى لا يتشبهوا باليهود، فإذا خرج إلى الصلاة يمتنع من تشبيك الأصابع، وقد جاء في حديث أبي داود تأكيد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأما أن لا يشتد في سعيه فمعناه: لا يجري ولا يهرول، ولا يسعى حثيثاً حتى ولو سمع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقيمت فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى إلى الصلاة أن لا يسعى، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليأتها بسكينة ووقار)، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما خرج إلى الصلاة -أعني صلاة الاستسقاء- خرج متخشعاً متذللاً متبذلاً) صلوات الله وسلامه عليه.

    فلا بد من العناية بهذه الآداب.

    وقد يقال: هل الأفضل أن يركب الإنسان حتى يحصل الصف الأول في المسجد، أو الأفضل أن يمشي فيحصل فضل السعي إلى المسجد؟

    فإن الإنسان لو مشى قد يكون بعيداً عن المسجد، بحيث لو مشى على قدميه ربما فاته الصف الأول، وإذا ركب سيارته أو دابته أدرك الصف الأول، فهل الأفضل مشيه إلى الصلاة تحصيلاً لهذه الفضائل، أو تبكيره بالركوب وفوات فضل المشي عليه بإدراك الصف الأول؟

    في هذه المسألة وجهان للعلماء: أقواهما أنه يركب، فيكون فضل الصف الأول مقدّماً على فضل المشي، ووجه هذا الترجيح أن القاعدة: (إذا تعارضت الفضائل قدمت الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة)، فإن المشي إلى الصلاة فضيلة منفصلة عن الصلاة، والصف الأول فضيلة متصلة بالصلاة، ولذلك تقدم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة، فالأفضل له أن يركب، ولكن كما قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: يستحب له أن يجعل في نيته أنه لولا ضيق الوقت لمشى على قدميه، حتى يكتب له الفضلان.

    ذكر الدعاء المأثور عند دخول المسجد

    خامساً: إذا دخل المسجد قال الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، والسنة أن يقدم يمناه ويؤخر يسراه، والسنة إذا دخل إلى المسجد أن يكفّ أذاه عن الناس بعدم تخطي الرقاب ورفع الصوت تشويشاً على المصلين، حتى ولو كان ذاكراً، إذا أمكنه ذلك، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في الجمعة، فجاء رجلٌ يتخطى الرقاب، فقال عليه الصلاة والسلام: اجلس فقد آذيت وآنيت)، ومعنى قوله: (فقد آذيت) أي بتخطيك لرقاب الناس، ومعنى (آنيت): أي تأخرت، فالذي يريد الصفوف الأول، والذي يريد الفضائل التي تكون في الصفوف الأول فليبكر، أما أن يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإن هذا لا يجوز له لما فيه من الضرر، والقاعدة في الشريعة: (إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم درأ المفسدة على جلب المصلحة)، وهذا من حيث الإطلاق، فكيف إذا كانت المصلحة عامة والمفسدة خاصة؟! لأن تخطي الرقاب يؤذي العامة، أي: عامة الناس، وكونه يدرك الصف الأول فضيلة خاصة، فلذلك تقدم درأ المفسدة هنا على جلب المصلحة، فلا يجوز له أن يتخطى رقاب الناس، ولا أن يؤذيهم بالهيشات ورفع الصوت؛ لأن ذلك مما لا ينبغي في بيوت الله عز وجل؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى منبهاً عباده المؤمنين على حرمة المساجد، وما ينبغي أن تكون عليه من إجلال وإكبار: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، ورفع الشيء: إجلاله وتعظيمه، وذلك يكون بالسكينة والوقار في بيوت الله عز وجل.

    وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلين اختصما في المسجد ورفعا أصواتهما، فلما جاء إليهما قال: ممن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، أي: لمكان حرمة المسجد وأذية الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

    فلا بد للإنسان أن يراعي هذه الآداب، ولذلك نبّه العلماء رحمهم الله على أنه كلما كان الإنسان متعاطياً للسنة حريصاً عليها كلما كان موفقاً للقبول في صلاته، وينبغي نصح الناس وتوجيههم إلى عدم الإخلال بهذه السنن، وبيان ما ينبغي من التزامه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصةً فيما يتعلق بكفّ الأذى.

    صلاة تحية المسجد

    سادساً: فإذا دخل المصلي في وقتٍ لا صلاة فيه كأن يدخل بين الأذان والإقامة فإنه يفتتح الصلاة بتحية المسجد، فيحي المسجد بالصلاة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فدل هذا على لزومها، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يجلس في المسجد حتى يصليهما، ثم إذا صلاهما فإنه في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) أي: ما دام جالساً في مصلاه فريضةً كانت أم نافلة فإنه تصلي عليه الملائكة، فتدعو له بالمغفرة والرحمة، وهذا خيرٌ كثير، ولذلك ما دخل إنسان مسجداً وصلى مع الجماعة وخرج إلا خرج طيب النفس ومجبور الخاطر، ولو كانت عليه هموم الدنيا، فإنه إذا دخل وخاصةً إذا بكّر إلى المسجد وصلى فيه فإنه يجد هذا الخير الكثير من صلاة الملائكة عليه، ودعائها له، واستغفارها له.

    فإذا حضرت الصلاة فحينئذٍ يبتدئ بمراعاة ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) ، فإذا أقيمت الصلاة فإنه يمتنع من التنفل، ويمتنع من إحداث صلاة النافلة بعد إقامة الصلاة.

    1.   

    صفة القيام إلى الصلاة

    سنية القيام عند (قدْ) من إقامتها

    قال المصنف رحمه الله: [يُسن القيام عند (قدْ) من إقامتها].

    إذا كان المكلف جالساً في المسجد وأقيمت الصلاة، فقد قال بعض السلف: يبتدئ قيامه عند قول المؤذن: (الله أكبر) من الإقامة. وهذا القول مأثور عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمة الله عليه، وكان يقول به بعض السلف، أي: أنه إذا قال المؤذن: (الله أكبر) للإقامة فإن الناس يقومون.

    والمحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان الستار على بابه، فكان بلال رضي الله عنه إذا شعر بحركة الستار أقام الصلاة، فكان الناس إذا ابتدأ بلال للإقامة قاموا، فإذا رأوا الستر تحرك قاموا، وأخذوا مصافهم، وهيأوا أنفسهم للصلاة، فلا يصل عليه الصلاة والسلام إلى موضع محرابه أو مكان مصلاّه إلا والناس قد أخذوا مصافهم، فسواهم وأمرهم بالاستواء، ثم كبر وصلى بهم.

    وثبت في الحديث الصحيح أن بلالاً رأى حركة الستر، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج فأقام الصلاة، فانتظر الناس وهم قيام حتى طال عليهم القيام، ثم دخل عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم-: (إذا رأيتموني فقوموا)، رفقاً بالصحابة رضوان الله عليهم وبالمصلين، وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه من السنة أن يقام عند رؤية الإمام، وللعلماء في هذا الحديث وجهان:

    منهم من يقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموني فقوموا) لم يقصد به حالة مخصوصة، كأنه يقول: إذا رأيتم الإمام في المسجد فقوموا. حتى يكون ذلك أبلغ في استواء الناس قبل دخول الإمام إلى المحراب أو موضع الإمامة.

    وقال بعض العلماء: بل هذا خاص؛ لأنه وُجِدت المشقة بقيام الصحابة، فقال لهم: (إذا رأيتموني فقوموا) .

    والذي يظهر أن أقلّ ما فيها أنها سنةٌ تقريرية، فإن الصحابة كانوا يقومون عند دخوله، فالأفضل والأكمل عند رؤية الإمام أن يقوم الناس، وأن يأخذوا مصافّهم، ويحاولوا تهيئة أنفسهم، بحيث لا يبلغ موضع إمامته إلا والناس قد أخذت مصافّها، كما جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأما الإمام مالك رحمه الله فإنه لم يجد حداً معيناً لقيام الناس عند الإقامة، ورأى أن الأمر واسع، فخفف رحمه الله وقال: الناس فيهم الصغير وفيهم القوي وفيهم الجلد، أن الناس يختلفون في أحوالهم، فلم يحدّ في القيام للصلاة حداً معيناً، وهذا لا شك أنه من ناحية الإلزام صحيح، فلا نستطيع أن نلزم الناس بالقيام لا عند ابتداء الإقامة، ولا عند (قدْ)، ولكننا نقول: الأفضل والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عند رؤية الأئمة، فإذا رؤي الإمام داخلاً إلى المسجد، أو رؤي عامداً إلى مصلاّه فإن الناس يقومون، وهذا هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة على فعلهم، ولأنه يعين على تحقيق مقصود الشرع، فإن الناس إذا ابتدروا بالقيام وسووا صفوفهم، ثم أمرهم الإمام كان ذلك أبلغ في تسوية الصفوف، وخاصةً في هذا الزمان فإنه يعجل الإمام بالتكبير، والفاصل قد يكون قليلاً، وقد يكون الإنسان يرغب في إدراك تكبيرة الإحرام وفضلها، فقد يضطر إلى الاشتغال بتسوية الصفوف، لكن المبادرة للقيام عند رؤية الإمام أبلغ في استواء الصفوف واعتدال الناس، ولا نحفظ في ذلك أمراً يدل على اللزوم بالقيام عند (قد)، ولكن نقول: الأفضل والسنة القيام عند رؤية الأئمة، وأُثِرَ عن علي رضي الله عنه القيام عند قدَّ، ولا يصح هذا عنه ويُروى في حديث مرفوع ضعيف.

    والصحيح أن الأمر واسع، ولكن السنة والأفضل أن يُقام عند رؤية الأئمة كما ذكرنا.

    وقوله رحمه الله: [عند (قدْ) من إقامتها] الإقامة -كما هو معلوم فيها-: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فتقال مرتين، فحينئذٍ هل يكون القيام على قول المصنف عند (قدْ) الأولى أو الثانية؟

    والجواب: يكون عند (قد) الأولى، وليس الثانية؛ لأنه أطلق، والمطلق ينصرف إلى أول مذكور، ولو أراد الثانية لقال: عند قوله (قد) الثانية من إقامتها، أو: بعد قوله (قدْ) من إقامتها.

    تسوية الصفوف وإقامتها

    قال رحمه الله تعالى: [وتسوية الصف].

    يسنّ للناس أن يعتنوا بتسوية الصفوف، والمراد بهذه السنة أنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسوية الصفوف وإقامتها من إقامة الصلاة، وقول الجماهير على أنه يجب على الناس أن يسووا صفوفهم، وأن من لم يسو الصف فهو آثم، وذلك لدليلين:

    أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (استووا)، وقال: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) ، وقال: (عباد الله لَتُسَوُّونَّ صفوفكم)، فجاء بصيغة التأكيد الدالة على اللزوم.

    الدليل الثاني الذي يدل على وجوب تسوية الصفوف ولزومها: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد على الإخلال بهذا، -فقد ثبت عنه في الصحيح-: (أنه كان يأمر الناس بتسوية الصفوف -قال الصحابي رضي الله عنه-: حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه خرج ذات يومٍ فرأى رجلاً بادياً صدره في الصف، فقال عليه الصلاة والسلام: عباد الله لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية-: وقلوبكم)، فهذا وعيد، والقاعدة في الأصول أنه إذا ترتب على ترك الأمر وعيد كان هذا دليلاً على أنه من الواجبات، وأن الإخلال به من المنهيات، ولذلك يعتبر الإخلال بتسوية الصفوف من المحرمات، والأمر به واجب، فالناس مطالبون بإقامة الصفوف وتسويتها، وثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، فالذين يسوون صفوفهم ويعتنون بتسويتها هم مقيمون للصلاة، والله أثنى على المقيمين للصلاة وزكاهم في كتابه، فمن إقامة الصلاة تسوية الصفوف.

    وثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم تسوية الصفوف سببٌ لمخالفة القلوب، أو مخالفة الأوجه فيه خطر شديد، حتى قال بعض العلماء: المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم أو قلوبكم) أن يلبسهم شيعاً وأحزاباً والعياذ بالله، أي: يجعل الناس مفترقين لا يتفقون، فتحصل بينهم النزاعات والخلافات والشجارات بسبب عدم العناية بهذا الأمر وهو تسوية الصفوف، وهو أمرٌ عظيم، وكان عمر رضي الله عنه لا يكبر حتى يأتيه أناسٌ وكّلهم بالصفوف فيعلمونه أن الصفوف قد استوت -رضي الله عنه وأرضاه- حرصاً منه على هذه السنة، وعنايةً منه بها، فيسوّي الصفوف.

    وإذا كان الذي وراء الإمام يعقل تسوية الصفوف كطلاب علم، فللعلماء وجهان:

    فبعضهم يقول: السنة أن تطلق، فدائماً تقول: استووا. وظاهر الحديث: (حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه) يدل على أنه إذا كان الناس عندهم علم بتسوية الصفوف، وكان الذين معه من طلاب العلم، أو من العلماء، فلا حاجة أن تقول: استووا. وهذا مذهب طائفة من العلماء.

    وقال بعضهم: لا، بل إنها سنة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وكان إذا قام أمر بالاستواء.

    ولكلا الوجهين وجهه، خاصةً في هذا الزمان الذي كثر فيه العوام وكثر فيه الإخلال، حتى إن من يعلم ربما نسي وربما ذهل، ولربما قام الإنسان في الصف وهو من العلماء أو من طلاب العلم فغفل عن تسوية نفسه، والإنسان بشر، ولذلك الأمر والتنبيه بها فيه أجر للإمام، وفيه تنبيهٌ أيضاً للناس، فلا حرج في المداومة عليها والأمر بها.

    تكبيرة الإحرام

    قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (الله أكبر)، رافعاً يديه].

    أي: يقول المصلي إذا أراد الدخول في الصلاة (الله أكبر)، وهذا التكبير يسمّى عند العلماء رحمهم الله بتكبيرة الإحرام، وسبب تسميته بذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي داود والحاكم بسندٍ صحيح: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير)، فوصف التكبير بكونه موجباً للدخول في حرمات الصلاة، فسمّى العلماء هذا التكبير بتكبيرة الإحرام؛ لأن المصلّي إذا كبر دخل في حرمات الصلاة، وهذا التكبير للعلماء فيه ثلاثة أقوال:

    القول الأول: لا يصح لك أن تدخل الصلاة نافلةً أو فريضة إلا إذا قلت: (الله أكبر) وحدها، فلا يجزي غير هذا اللفظ، لا المشتق منه ولا من غيره، ولو اشتمل على تعظيم الله، فلو قال: الله العظيم، أو قال: الله الكبير، أو: الله الأكبر لم تنعقد تحريمته، وكذلك لو اختار لفظاً فيه تعظيم من غير المشتق، كقوله: الله القدوس، الله السلام، الله المهيمن، فإنه لا ينعقد تحريمه، وهذا مسلك الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم، وهكذا لو قدّم: (أكبر) على لفظ الجلالة، فقال: أكبر الله، فإنه لا يصح ولا ينعقد تحريمه، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وكبر معناها: قل: الله أكبر. وهو المعهود في أذكار الشرع في الدخول إلى الصلاة، بدليل ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من تكبيره في الدخول إلى الصلاة، فهذا أمرٌ.

    الأمر الثاني: أنه لم يثبت حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدول عن هذا اللفظ المخصوص، والصلاة عبادةٌ مخصوصة، وأذكارها مخصوصة، فلا يصح أن يجتهد المكلف بإدخال ألفاظٍ قريبة من اللفظ المشهور.

    الأمر الثالث: أنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص لم يشرع إحداث غيره أو قريبٍ منه كالتشهد، أي: كما أن التشهد لا يجزي إلا باللفظ الوارد، كذلك تكبيرة الإحرام لا تجزي إلا باللفظ الوارد.

    فهذه الأوجه كلها تدل على لزوم التكبير.

    وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يجوز للمصلي أن يدخل بأي لفظٍ دال على تعظيم الله عز وجل وذكره، واستدل بقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فقال رحمه الله: إن الله عز وجل قال: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى:15]، فمن ذكر اسم ربه عند بداية صلاته أجزأه ذلك وصحت صلاته، فلو قال: الله العظيم أجزأه وانعقد إحرامه وانعقدت تحريمته.

    وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى موافقة الإمام أحمد ومالك ، ولكن قال: يجوز إذا كان من لفظ (أكبر)، فقوله مثلاً: الله الأكبر تنعقد به التحريمة، فالمشتق كالكبير والأكبر قالوا: ينعقد به إحرامه، وأما بغير ما اشتق منه فلا ينعقد إحرامه.

    والصحيح أنه لا بد من ذلك اللفظ المخصوص، وهو لفظ التكبير، والجواب عن دليلهم أنه مطلق مقيد.

    كما أن الآية التي استدل بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15] الصحيح أن المراد بقوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)، أي: زكاة الفطر ليلة العيد، (وذكر اسم ربه) أي: أكثر من التكبير ليلة العيد فصلّى صلاة العيد، والمراد بذلك أنه على فلاح بانتهائه من فريضة الله عز وجل وهي الصيام.

    فالمقصود أن هذه الآية يجاب عنها من وجهين:

    إما أن يقال: إنها خارجة عن موضع النزاع، والمراد بها صلاة العيدين.

    وإما أن يقال: إنها مطلقةٌ مقيدة، والقاعدة أن المطلق يُحمل على المقيد، ولا تعارض بين مطلقٍ ومقيد.

    وقوله رحمه الله: [يقول: الله أكبر] أي: يقول بلسانه: الله أكبر.

    رفع اليدين مضمومتي الأصابع وممدودة عند التكبير

    قال رحمه الله تعالى: [رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودة حذو منكبيه كالسجود].

    [رافعاً يديه] هذه هي السنة في تكبيرة الإحرام، وأجمع العلماء على أن تكبيرة الإحرام برفع اليدين، وقد جاء عن أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صفة صلاته أنه رفع يديه في تكبيرة الإحرام، ولذلك قالوا: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام متواتر، كما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله:

    ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمعٌ حظرا

    كذِبهم عُرفاً كمسح الخف رفع اليدين عادمٌ للخُلفِ

    وقد روى حديثه من كتبا أكثرُ من ستين ممن صَحِبا

    فرفع اليدين بالدخول في الصلاة في تكبيرة الإحرام متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه جمع، وقال بعض العلماء: فيه أكثر من خمسين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها في رفع اليدين، حتى إن العلماء لما اختلفوا في رفع اليدين في الصلاة اتفقوا على أنه في تكبيرة الإحرام يرفع يديه.

    ثم هنا في رفع اليدين السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفعها حذو منكبيه، وقال به جمعٌ من العلماء رحمة الله عليهم، كما اختاره الشافعي وأحمد ، وقال بعض العلماء: حذو الأذنين، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته أنه كان يرفع حذو منكبيه، وأما ما ورد إلى حذو أذنيه فهذا يُحمل على وجهين:

    الوجه الأول: إما أن يحمل على أنه كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة ولا حرج، ويصير خلاف تنوع لا حرج فيه.

    والقاعدة تقول: إن خلاف التضاد لا يحكم فيه بالخلاف، فتقول: هذا نوع من الرفع، وهذا نوع من الرفع، والأكمل حذو منكبيه، والجائز والسنة التي لا حرج فيها أن يرفع إلى حيال أُذنيه.

    الوجه الثاني: وجه الجمع، قالوا: إنه رفع، فمن أراد الغاية التي بلغتها أصابعه فهما المنكبان، ومن أراد غاية ما وصل إليه في رفعه حتى يقابل أقلّ أصابعه بهما فهما الأذنان، فيكون هذا من باب الجمع، فيكون هذا عبر بالغاية وهذا عبر بالبداية، فبداية ما يكون من أصابعه حيال أذنيه، فكأنه اعتبر غاية اليد ولم يعتبر أولها، وهذا يكون من باب الجمع بين الروايتين.

    وأما بالنسبة لقوله: (كالسجود) فللعلماء فيه وجهان:

    منهم من يقول: يجعل اليدين كالرجل الذي يريد أن يمسك طرفا رأسه، فتكون بطون اليدين مقابلة لصفحتي الوجه.

    والوجه الثاني: أن يجعل بطون اليدين أو الراحتين إلى جهة القبلة، ولذلك عبر بقوله: (كالسجود) أي: كحال الإنسان في سجوده؛ لأنه لما قال لك: (رافعاً) التبس الأمر: هل يرفع وقد جعل البطون إلى القبلة، أو يرفع وقد جعل البطون إلى وجهه؟

    فلذلك قال: (كالسجود).

    وأما بالنسبة للتفريج والضم للأصابع، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يفرج ولم يضم، فالسنة الاعتدال، واختار المصنف الضم، والسنة الاعتدال في هذا، ولا يتكلف في الأمر.

    وهناك ثلاثة أوجه في الابتداء بالرفع أو التكبير: الأول: أن تبتدئ التكبير وتقول: الله أكبر ثم ترفع يديك، وتخفض بعد إنزالهما، أو: تقدم الرفع على التكبير فترفع يديك ثم تقول: الله أكبر بعد أن تتم الرفع وتنزلهما، أو: تجمع بين الرفع والتكبير، وذلك لكون الإنسان يرفع يديه فيبتدئ التكبير عند رفعه، ثم لا ينتهي إلا وقد انتهى من تكبيره، فهذه كلها أوجه، وقد جاءت بها الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم. ففي حديث ابن عمر : (أنه رفع ثم كبر).

    وثم تقتضي الترتيب، قالوا: فيكون التكبير بعد الرفع.

    والوجه الثاني الذي هو وجه الجمع بينهما أو وجه المتابعة جاء في حديث وائل وغيره في رواية السنن، والأول صحيح من حديث ابن عمر.

    وأما كونه يكبر ثم يرفع فقد قال الحافظ ابن حجر: لا قائل به، أي: لا يعلم قائلاً يقول بالتكبير قبل الرفع.

    قال العلماء: الأفضل للإمام أنه ينتبه لأحوال الناس، فإن من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص، ومنهم من يرى الشخص ولا يسمع الصوت، فالشخص الذي هو في أقصى الصف -خاصةً في المواضع التي لا يكون فيها مكبر الصوت موجوداً- يرى شخص الإمام ولا يسمع صوته، فإذا رفع الإمام يديه ظن المأموم أنه دخل في حرمة الصلاة وكبر، فربما سبق المأموم الإمام بالتكبير في هذه الحالة، كما لو كان في آخر الصفوف ويرى شخص الإمام، كما هو الحال في الأرض المنحدرة حيث يرى شخص الإمام، أو يكون الإمام مرتفعاً قليلاً فيراه يرفع يديه، فيرفع المأموم يديه ويقول: الله أكبر، فيسبق تكبيره تكبير الإمام، خاصةً إذا لم يسمع الصوت، وقالوا: أيضاً من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص ككفيف البصر، أو من هو بمنأىً لا يستطيع أن يرى الإمام، فإنه يعتبر الصوت ويسمع صوته، كما في الصف الرابع والخامس في الصحراء ونحوها، فربما خفي عليه صوت الإمام، ولذلك الأفضل والأولى للإمام حتى لا يعرض صلاة الناس للبطلان بتقدم التكبير على الرفع أن يجمع بينهما، حتى لا يكون سبقٌ، ما دام أن السنة قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما.

    لزوم إسماع الإمام من خلفه من المؤتمين

    قال رحمه الله تعالى: [ويسمع الإمام من خلفه كقراءته في أولتي غير الظهرين].

    قوله: [ويسمع الإمام من خلفه] أي: تكبيرة الإحرام، وذلك لأن تكبيرة الإحرام تنعقد الصلاة بها، وقال العلماء: إنه لو سبق المأموم الإمام في تكبيرة الإحرام، أو سبقه بالسلام بطلت صلاته خاصة على مذهب من يرى اتصال صلاة المأموم والإمام، كما درج عليه الحنابلة ومن وافقهم أنه لو سبق تكبير المأموم على الإمام بطلت صلاته ولم تنعقد له، ولذلك يقولون: إنه ينبغي عليه أن يتحرى، فإذا كان المأموم مطالباً بإيقاع تكبيره بعد تكبير الإمام فإنه ينبغي على الإمام أن يرفع صوته حتى ينبه الناس.

    وقد أجمعوا على أن المأموم لا يجوز له أن يسبق الإمام فيكبر قبل تكبير الإمام، واختلفوا: لو أن المأموم ساوى الإمام فكبّر مع تكبير الإمام، فهل هذا هو السنة، أم السنة أن ينتظر إلى أن يكبّر الإمام ويكبر بعده؟

    فذهب جمهور العلماء إلى أن السنة أن يكبّر المأموم عقب تكبير الإمام، وذلك لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا)؛ لأن قوله: (فإذا كبّر) أي: فرغ من التكبير، (فكبروا) أي: أوقعوا تكبيركم بعد تكبيره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني إني قد بدنت)، فدل على أن المأموم كما أنه في الفعل لا يوقعه إلا بعد الإمام، كذلك أيضاً في القول لا يوقعه إلا بعد الإمام، ولقوله في الرواية الثانية: (ولا تكبروا حتى يكبر) .

    فهذه الثلاثة الأحاديث اقتضت أن يقع تكبير المأموم بعد تكبير الإمام، ولذلك قال أصحاب هذا القول وهم الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-: تحرم مسابقة الإمام وتكره موافقته؛ لأنها حالة بين الحلال والحرام، فبين الحلال كونك توقع التكبير بعده، وبين الحرام كونك تسبقه، ولذلك عبروا بالكراهة، كما نبهنا غير مرة أن مسلك بعض الأصوليين أن المكروه مرتبة بين الحلّ والحرمة.

    أما بالنسبة لفقهاء الحنفية فقالوا: السنة أن يوقع المأموم تكبيره مع تكبير الإمام، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كبّر فكبروا) والفاء تقتضي العطف مع المقارنة، كما تقول: جاء محمد فعمر بمعنى أنهما كادا أن يكونا متصلين ببعضهما، قالوا: وهذا يدل على أن تكبير المأموم يكون مع تكبير الإمام، ولا شك أنه الحل المجازي؛ لأنهم قالوا: (إذا كبّر) بمعنى: شرع في التكبير، كما يقال: أنجد: إذا دخل نجداً، أي: بدايتها، وأتهم: إذا دخل تهامة وإن لم يكن قد بلغ آخرها، وهذا معروف في لغة العرب، قالوا: فقوله: (إذا كبّر) أي: ابتدأ التكبير، (فكبروا) أي: اصحبوه في تكبيره، فهذا وجه الحديث عندهم، ويلاحظ أن الكل يتمسك بالسنة.

    والحقيقة الذي يترجح ويقوى من جهة النصوص والنظر أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وعلى هذه المسألة تفرّع قولهم في السلام، ولذلك تجد بعض من يميل إلى هذا القول يسلم مع تسليم الإمام، ولا شك أن هذا له وجهٌ من السنة بناءً على أنهم يرون أن العطف في هذه اللغة وفي هذا الوجه يقتضي المقارنة، وإن كنا قد قلنا: إن الصحيح أن يأتي بالتكبير والفعل بعده، لكن ما دام أن الإنسان يتأول وجهاً من السنة فلا إنكار، ولكن الصحيح والأقوى أن يوقع فعله بعد فعل الإمام.

    والجهر بالتكبير على حالتين:

    الحالة الأولى: المبالغة في الجهر فهذه مكروهة، وهي أن يبالغ في رفع صوته إلى درجة أن يزعج من وراءه من المصلين، فإن الصلاة خشوع وخضوع وسكينة، وينبغي للأئمة دائماً أن يتعاطوا مراتب الكمال وأنسب الأحوال، حتى يكون ذلك أقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأشبه بالعبادة التي يتلبسون بها، ولذلك لا يبالغ بالتكبير بصوتٍ فيه مبالغة في الرفع؛ لما فيه من الأذية والإجحاف بالنفس، والسنة في الشرع في الذكر أن الإنسان لا يبالغ فيه برفع الصوت، كما قال تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء:110]، وقال تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فقالوا: تجتنب المبالغة في رفع الصوت، إلا ما ورد النص به كالتلبية، فترفع صوتك حتى تبالغ بها ولا حرج؛ لأن الصحابة كانوا إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم، وهذا لا شك أن ورود السنة به هو مقصود في العبادة، وقال عليه الصلاة والسلام: (الحج العج والثج) فهذا مخصوص، لكن بالنسبة للأذكار تبقى على الأصل من تحري السنة وعدم المبالغة في الرفع، فيرفع صوته على الحالة الثانية، وهي الرفع المعتبر الذي يسمع به من وراءه، وبناءً على ذلك فإذا حصل مقصود الشرع من الإعلام فإنه يقتصر عليه المكلف.

    ومن هنا كان من الخطأ ما يفعله بعض المصلين حينما يأتي والناس في المسجد، ويريد أن يصلي تحية المسجد، فتجده يكبر تكبيرة الإحرام بلفظ مزعج وملفتٍ للأنظار، ولربما يشوش على غيره، ويجعل الناس يلتفتون إليه من غرابة ما وقع منه، والصلاة -كما قلنا- فيها سكينة وخشوع، فينبغي للمصلي أن يبتعد عن أذية الناس بها.

    وقوله: [كقراءته في أولتي غير الظهرين].

    المراد بالظهرين: الظهر والعصر، وهذا من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، والمراد بهذا في قوله رحمه الله: [كقراءته] أن يجهر بالتكبير -أعني تكبيرة الإحرام- كما يجهر بقراءته في الأوليين من صلاة المغرب والعشاء، وكذلك الفجر، فالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في صلاتي الصبح والمغرب والعشاء، يجهر في الأوليين من العشاء وكذلك المغرب، وفي صلاة الفجر كلها، فالسنة أن يرفع صوته ويجهر.

    وهنا ينبه على أمرٍ ينساه كثير من الناس، أو يغفلون عن حكمه، وهو أن الإنسان ربما تفوته صلاة الفجر، أو تفوته ركعةٌ وراء الإمام فيقوم للقضاء، فلا تسمع من يرفع صوته بالقراءة، وهذا كثير بين الناس إلا من رحم الله، فبسبب الجهل تجدهم يقومون ولا تسمع أصوات القراءة، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فصلاة الفجر كلها جهر، ولذلك ليس من السنة الإسرار في الجهري، ولا من السنة الجهر الكلي في السري، أما كونك في السر ترفع صوتك بالآية والآيتين فلا حرج، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ملازمة الجهر في السري كله فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والعصر معاً.

    أن يسمع المنفرد نفسه بالقراءة والتكبير

    قال رحمه الله تعالى: [وغيرُه نفسه].

    أي: يسمع غيرُ الإمام نفسَه القراءة، فإذا صليت لوحدك تسمع نفسك القراءة، أي: تجهر جهراً بحيث تَسمَعُ قراءتك، فهذا هو الحد، كأنه أراد أن يضع لك ضابطاً للجهر إذا كنت لوحدك أو منفرداً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756198076