إسلام ويب

شرح زاد المستقنع فصل: صلاة المسافر [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • السفر غالباً تصحبه مشقة وعناء، ولذلك خفَّف الله عن المكلفين في السفر وشرع لهم قصر الصلاة فيه، لمسافة معلومة ومدة معلومة، وبشروط معينة، على أن يراعى وقت أداء الصلاة ووقت وجوبها، وكذلك حال الاقتداء بالمقيم، ومن التخفيف عن المسافر: مشروعية الجمع بين الصلاتين، مراعاة لحال المسافر وتيسيراً عليه، وقد يكون الجمع في غير حال السفر كالجمع في عرفة ومزدلفة.

    1.   

    تابع أحكام صلاة المسافر

    حكم القصر في السفر المحرم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].

    شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة المسافر، والله سبحانه وتعالى جعل الصلاة في السفر إذا كانت رباعية ركعتين، كما شهد بذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر).

    وقد بينا أن السفر يعتبر من الأمور التي توجب التخفيف عن العباد والمكلفين في الصلاة.

    قوله: [من سافر سفراً مباحاً] يفيد أنه يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة أن يكون سفراً مباحاً وليس بسفر معصية، فإن كان السفر سفر معصية فإنه لا يحل له أن يقصر الصلاة، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] ، فقد فسر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الاضطرار في حال البغي والعدوان فقال: (أن يسافر سفر بغي، أو سفر عدوان).

    فإذا كان مسافراً سفراً محرماً فإن الخطاب يتوجه عليه بالرجوع، فكأن السفر وجوده وعدمه على حد سواء، فلو قال قائل: إنه مسافر في الصورة! قلنا: إن الصورة يشترط فيها أن يعتد بها شرعاً، فلما كانت لاغية في حكم الشرع لم يترخص برخصه.

    المسافة التي يقصر فيها المسافر

    قوله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد].

    البرد: جمع بريد، والبريد كلمة أصلها فارسي وهو: (برده ذم)، قالوا: كان أصل البريد في اللغة الرسول، وكانوا يستخدمون البغال في إيصال الرسائل، فعلى كل مرحلة يجعلون محطة تكون فيها بغال مهيأة، فإذا أخذ الرسول الرسالة من محطة انطلق إلى المحطة الأخرى، فيجد رسولاً آخر ينتظره في المحطة فيعطيه الرسالة، فينطلق إلى المحطة التي تليها، فيكون أبلغ في وصول الرسالة في أقرب وقت، أو ينطلق نفس المسافر، فإذا وصل إلى المحطة الأولى وجد دابة فركب عليها إلى المحطة التي تليها، وهكذا حتى يبلغ المكان الذي يريده لرسالته، فسمي بريداً.

    فالبريد نفس المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم وهي المرحلة الكاملة، وهذه المسافة -التي هي أربعة برد- توقيت وتحديد ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، فالمسافر لا يكون مسافراً إلا إذا قصد هذه المسافة فما فوقها، فلو كانت المنطقة أو المدينة التي يريد بلوغها دون أربعة برد فإنه لا يوصف بكونه مسافراً، فكما أن من خرج من مدينة إلى ضواحيها لا يعتبر مسافراً في حكم الشرع، فكذلك من انتقل إلى مسافة دون هذه المسافة.

    أما الدليل الذي دل على اعتبار هذه الأربعة البرد فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة -وفي رواية: مسيرة يوم- إلا ومعها ذو حرمة) ، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، ولم يذكر مسافة توصف بكونها مسافة سفر دون اليوم والليلة، فدل على أن مسافة اليوم والليلة ومسيرة اليوم والليلة هي السفر.

    وقالوا: إن الأربعة البرد من إنسان يسير يوماً كاملاً تكون على هذا الوجه؛ لأنه إذا مشى من أول النهار إلى أوسطه فإنه يقطع بريداً، ثم من أوسطه إلى آخره يقطع بريداً، فيتم له في النهار بريدان، ثم في الليلة بريدان، فأصبح المجموع أربعة برد، فهي مسيرة اليوم والليلة، فإن قالوا: مسيرة يوم وليلة فإنها مسيرة أربعة برد.

    والبريد من الفراسخ أربعة، والفرسخ ثلاثة أميال، وبناء على ذلك لتكون المسافة ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، وتقدر بالكيلو مترات، فبعض المتأخرين -قبل ما يقرب من أربعين سنة- اختبر سير الإبل، فذكر أن الإبل في اليوم تسير ما يقارب أربعين كيلو متراً، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تسير دون الأربعين شيئاً قليلاً، وقد تصل إلى الأربعين، فإذا كان السير معتاداً في الزمان المعتاد الذي ليس بشديد الحر ولا بشديد البرد، فإنه يصل السير إلى ما يقارب الأربعين كيلو متراً، فإذا حسبت في النهار أربعين كيلو متراً وفي الليل أربعين كيلو متراً فهي إلى الثمانين، فهو يقول: إنها تصل إلى ما يقارب ثمانية وسبعين كيلو متراً. ومن العلماء من يقول: اثنان وسبعون كيلو متراً. ومنهم من يقول: ستة وسبعون كيلو متراً. ومنهم من يقول: ثمانون كيلو متراً. فهي ما بين اثنين وسبعين كيلو متراً إلى ثمانين كيلو متراً، فإن احتاط فإنه يوصلها إلى الثمانين، ولكن الأشبه -فيما ذكره غير واحد- أنه إلى اثنين وسبعين يرخص له برخص السفر.

    وقلنا: إن الدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة) ، فدل هذا النص الشرعي على أن من سار مسيرة اليوم والليلة فهو مسافر.

    فإن قال قائل: كيف أسقطت ما دون اليوم والليلة عن كونه سفراً؟ وما هو الدليل على أن من خرج دون اليوم والليلة لا يكون مسافراً؟ قلنا: السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مواضع دون هذه المسافة -أي: دون مسيرة اليوم والليلة-، ومكث فيها ولم يقصر الصلاة، فقد خرج إلى الخندق وهو يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقل أو تكثر، خاصة إذا خرج من طريق بطحان، ومع ذلك لم يقصر رباعية، وخرج إلى أحد ولم يقصر رباعية، وكذلك ثبت عنه في الأحاديث أنه خرج إلى بني النضير وحاصرهم خمس عشرة ليلة في شهر ربيع ومع ذلك لم يقصر الصلاة، وبنو النضير على أميال من المدينة، وكذلك خرج إلى بني قريظة ولا تقل المسافة بينه وبينهم عن ستة أميال كما ذكر غير واحد، وهذه كلها ضواحٍ من المدينة بينها وبين المدينة دون اليوم والليلة، فكونه يخرج إلى هذه المسافات التي هي دون اليوم والليلة قاصداً إياهم -حيث قصدهم بالحصار والقتال- ومع ذلك لم يقصر الصلاة يدل على أن ما كان دون اليوم والليلة لا يحكم بكونه سفراً.

    ولذلك قالوا: نرجع إلى أقل ما سماه الشرع سفراً، فنحكم بكون الإنسان مسافراً إذا قطعه، وأما ما دونه -كما لو خرج إلى قرية دون مسافة اليوم والليلة -فإنه في حكم من خرج إلى ضواحي المدينة وما قاربها. وأكدوا هذا بأن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان لا يجيز لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بعرفة، فقد سألوه رضي الله عنه وأرضاه: أنقصر الصلاة في عرفة؟ قال: لا. ولكن إلى جدة وعسفان، أو الطائف. وهذا السند صحيح عنه رضي الله عنه، ولم يختلف على ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بهذه المسألة، وقد كانت عسفان مسيرة يوم وليلة، وكانت جدة في ذلك الزمان مسيرة يوم وليلة، وكانت الطائف تربو على مسافة اليوم والليلة بشيء.

    قالوا: فهذا يدل على أن الخروج المطلق لا يوصف بكونه سفراً، وإنما يكون سفراً إذا كانت المنطقة التي يريدها تبعد بمقدار اليوم والليلة فأكثر.

    ثانياً: أنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قصر الصلاة حينما خرج إلى وادي ريم، ووادي ريم يبعد عن المدينة ما يقارب ستين إلى سبعين كيلو متراً يقل قليلاً أو يكثر على حسب الطريق، وقد يزيد على السبعين قليلاً إذا قصدت آخر الوادي، وعلى هذا فهو يقارب مسيرة اليوم والليلة، وجاء عنه أيضاً في الرواية الأخرى -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قصر في الأربعة البرد، وما ورد عنه من أنه كان يقصر في الثلاثة الأميال فهو ابتداء قصره، بمعنى أنه لو خرج مسيرة اليوم والليلة كان إذا سار ثلاثة أميال قصر، بل حتى لو خرج من العمران يقصر، فعلى هذا لا تعارض بين الروايات عن ابن عمر ، فإن الروايات القوية واردة عنه رضي الله عنه بالتأقيت في الأربعة برد ومسيرة اليوم والليلة، وإذا نظرنا إلى الأسانيد عن ابن عمر وجدنا أصحها وأقواها ما جاء عنه في القصر في الأربعة البرد، وهي عن أوثق أصحابه وأقربهم منه كـسالم ابنه، وكذلك نافع مولاه رحمة الله على الجميع، خاصة وأنه ورد عنه أنه أمر بالقصر في هذه المسافة، فيقوى مذهب من قال -أعني: الجمهور- : إنها أربعة برد، وما ورد عنه من القصر في الثلاثة الأميال فإنه محمول على أنه ابتدأ القصر، بمعنى أنه خرج من المدينة ثلاثة أميال فحضرته الصلاة فصلى وهو قاصد لمسيرة اليوم والليلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من المدينة، فإنه بمجرد أن وصل إلى ذي الحليفة قصر الصلاة، مع أن ذا الحليفة ليست على مسيرة مرحلة كاملة.

    فهذا حاصل ما ذكر بالنسبة لأدلة السنة، وكذلك الآثار الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو لم نقل بالتحديد فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاج الأحكام، فلو قلنا: إنه يرجع فيه إلى عرف الناس لاختلفت أعرافهم، فتجدنا نقول: عند هؤلاء يعتبر سفراً وعند غيرهم لا يعتبر سفراً. ولأن نوايا الناس تختلف، فقد أراه على سفر ولا يراه غيري على سفر مع أن المسافة قد تكون واحدة.

    وعلى هذا فإن نص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مسيرة يوم وليلة) يتضمن مسألتين:

    المسألة الأولى: أن يعتد بالزمان.

    المسألة الثانية: أن يعتد بالمكان.

    فعند اختلال إحداهما يرجع إلى الآخر، فإذا كانت المسافة الزمنية التي تقطع فيها المسيرة قاصرة عن اليوم والليلة رجعنا إلى مسافة المكان، وإن كانت مسافة المكان شاقة فيمشي الإنسان ويواصل بحيث يمضي يوماً وليلة وهو يمشي فإنه يرجع إلى التأقيت بالزمان.

    توضيح ذلك أن الإنسان لو قطع مسافة السفر في سيارة في نصف ساعة أو ساعة فإنه مسافر؛ لأنها مسيرة يوم وليلة، وبنص الحديث مسيرة اليوم والليلة سفر، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) يدل على أن المسافة معتد بها، وعلى هذا فلو سافر بالطائرة أو بالسيارة في برهة يسيرة أو زمان يسير فإننا نقول: هو مسافر التفاتاً إلى المكان الذي قطعه، أما لو كان المكان شاقاً كالأماكن الوعرة والجبال التي يصعب تسلقها والوصول إليها وشق عليه أن يقطع هذه المسافة فإننا نرجع إلى التأقيت بالزمان، ولذلك قالوا: إن الحديث تضمن التحديدين: تحديد الزمان إن تعذر المكان، وتحديد المكان إن تعذر الزمان، والاعتداد بهما إن تسايرا وتوافقا.

    فالحاصل أن البريد أرعبة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما قيل:

    إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ ثلاثة أميال ضعوا

    فمسافة القصر أربعة برد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعون ميلاً، وما دونها فليس بسفر، فإذا قلنا: إن المسافة -مثلاً- ثمانية وأربعون ميلاً فلو أن إنساناً سافر سبعة وأربعين ميلاً فليس بمسافر، إلا أننا نقول: هذا لا حرج فيه، فإن الرجل إذا خرج إلى العمرة وحاذى الميقات ثم خطا خطوة واحدة ولبى ولم يحرم فإنه يجب عليه الدم، وإذا رجع إليه وأحرم منه سقط عنه الدم، فالشرع إذا حدد المكان فإنه لا يختلف فيه القليل ولا الكثير، ما دام أن هذا تحديد الشرع وهذا نصه، وهذه مكة فإنك قد تقف على آخر حدها فلو أن إنساناً دخل هذا الحد ونوى فيه -نسأل الله العافية- الظلم والإثم فإنه متوعد بالوعيد، ولو خرج شبراً واحد لم يحصل له ذلك الوعيد؛ لأن هذا تأقيت من الشرع، فلو سافر دون ثمانية وأربعين ميلاً ولو باليسير فإننا لا نقول -على ظاهر هذا النص-: إنه لا يحكم بكونه مسافراً. هذا حاصل ما ذكره العلماء رحمه الله عليهم في مسافة السفر.

    حكم القصر في السفر ومن أين يبتدئ به

    [سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].

    [سن له] أي: لا يجب عليه القصر. وهذا مذهب الجماهير؛ لأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أتم الصلاة بالناس في حجه، ومع ذلك صلى وراءه الصحابة، فدل على أن الإتمام لا يعتبر موجباً لبطلان الصلاة، ولا يحكم فيه بإثم صاحبه، وعلى ذلك فإنه من السنة، ولكن ينبغي على الإنسان أن لا يجاوز هذا الهدي، فإنه إذا قال: أريد أن أتم الصلاة وأنا مسافر طلباً للفضل فإنه تخشى عليه الفتنة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لطلب الفضل، وإذا صلى زيادة على الركعتين فجعل الرباعية المقصورة أربعاً معتقداً أنه يكون له فضل الركعتين وأنه أفضل فإنه مبتدع في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.

    إنما الكلام فيما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إتمام عثمان ، وقد أجيب عنه بأجوبة:

    فقيل: إن عثمان رضي الله عنه تزوج من أهل مكة، كما ورد في مسند أحمد أنه قال: (إني تأهلت بمكة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلد فليتم فيه) ، فيعتبر كأنه مكي من هذا الوجه.

    وقيل: إنه سمع أعرابياً يقول: ما زلت أصليها ركعتين منذ أن فارقتك عام أول. قالوا: إن هذا يدل على أن عثمان رضي الله عنه خاف أن الجهال يعتقدون أن الرباعية ركعتان، ولذلك قالوا: إنه أتم لخوف هذه المفسدة، فزاد في الصلاة من هذا الوجه. فهذه من أقوى الأوجه التي اعتذر بها لأمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

    وقوله رحمه الله: [سن له قصر الرباعية] يدل على أن القصر يختص بالرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، أما صلاة الفجر والمغرب فإنها لا تقصر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.

    قوله: [إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].

    الإنسان له حالتان: فإما أن يكون في مدينة وقرية ونحو ذلك، وإما أن يكون في خيام وبر.

    فإن كان في مدينة قلنا: إنه إذا خرج من آخر بنائها فإنه يعتبر مسافراً، فلو أن البنيان اتصل بالبساتين والحوائط فلا يخلو من حالتين:

    الأولى: أن تكون الحوائط عامرة، فحينئذٍ بعد أن يخرج منها يقصر.

    الثانية: أن تكون الحوائط مهجورة والبيوت مهجورة فإن العبرة بالعمران، فبمجرد خروجه من المواضع التي فيها العمران يقصر الصلاة ويستبيح رخص السفر من الفطر ونحوه.

    وإذا كان في الخيام فإما أن تكون له خيمة منفردة، فحينئذٍ يبتدئ الرخص بمجرد ركوبه على دابته ومفارقته لخيمته، كأن يولي قفاه لها.

    وإما أن يكون مع خيام جماعته وقرابته أو قوم معه، فحينئذٍ إذا جاوز آخر خيمة من هذه الخيام فإنه يترخص برخص السفر، ويأخذ حكم المسافر بمجاوزتها.

    1.   

    حالات القصر والإتمام للمسافر

    الإحرام بالصلاة حضراً ثم الشروع في السفر

    [وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر عند إحرامها، أو شك في نيته، أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، أو ملاحاً، معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].

    قوله: [وإن أحرم حضراً ثم سافر] مثاله -كما ذكر العلماء- أن يكون في سفينة، وتكون هذه السفينة على شاطئ البحر، فحينئذٍ ما دامت السفينة واقفة فإنه لا يحكم بكونه مسافراً؛ لأنها لا تزال متصلة بالعمران، وأما إذا تحركت السفينة فإنه يستبيح الرخص بمجرد حركتها، فلو أنه أحرم وكبر تكبيرة الإحرام ولم تتحرك السفينة، ثم لما كبر وانتهى من التكبير وأراد أن يشرع في القراءة تحركت السفينة في السفر، فإنّا إن نظرنا إلى ابتدائه الصلاة وجدناه مقيماً، وإن نظرنا إلى حاله في الصلاة وجدناه مسافراً، فهل العبرة بالابتداء والشروع، أم العبرة بما ينتهي إليه أمره؟

    قال بعض العلماء: العبرة بإحرامه، فإن أحرم حال السفر ثم دخل إلى الحضر فإنه يتمها سفراً، وإن أحرم وهو حاضر ثم مضت السفينة فإنه يتمها حضراً كأنه حاضر. فهذا وجه لبعض العلماء رحمة الله عليهم، وهم الظاهرية ومن يوافقهم من أهل الحديث.

    الوجه الثاني -وهو للشافعية والحنابلة ومن وافقهم-: إذا أحرم وهو حاضر وتحركت السفينة فإنه يتمها أربع ركعات حضراً، لقاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، وهذه قاعدة شرعية حاصلها أنك إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فيه رخصة من الشرع فإن كنت تشك في كونك من أهل الرخصة رجعت إلى الأصل، فلو شككت في كونك من أهل الرخصة فتخفف الصلاة وتقصرها، أو لست من أهل الرخصة فتكون في حكم المقيم وتتمها، فالقاعدة أن تبني على أنك مقيم حتى تتحقق من كونك من أهل الرخص؛ لأن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.

    وربما يعترض معترض ويقول أيضاً: قد أحرم بصلاته وهو حاضر، فمعنى ذلك أنه قد وجب عليه أن يصلي صلاة الحاضر. وهذا هو أقوى الوجهين، فيتمها أربع ركعات، والسبب في هذا واضح، بل إن بعض العلماء يقول: إذا أذن المؤذن وأنت في داخل المدينة فإنك تعتد بالأذان، وهذا القول النفس إليه أميل؛ لأنه عندما أذن أذان الظهر قبل أن تخرج من المدينة فإنه قد توجه عليك الخطاب الشرعي أن تصلي أربع ركعات، ولم تسقط عنك الركعتان اللتان هما تمام الأربع، فلا تسقطان باحتمال وشك، وعلى هذا قالوا: إنه عندما أذن المؤذن وجبت عليه أربعاً، فيتم الصلاة ولو سافر بعد ذلك، فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأذان الصلاة، فإن أذن المؤذن وهو داخل المدينة صلى مقيماً، وإن أذن المؤذن بعد خروجه من المدينة صلى مسافراً.

    والوجه الثاني يقول: العبرة عندي بالصلاة. ويعتدُّ بالصلاة على حسب أحوالها، ومنهم من يعتد بتكبيرة الإحرام كما أشار إليه المصنف.

    لكن أعدل هذه الأقوال أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل، وهذه القاعدة هي التي ذكر فيها المصنف هذه المسائل التي منها: أن تكبر تكبيرة الإحرام وأنت في المدينة، ثم تتحرك بك الدابة أو السيارة، فتبقى بقية الصلاة وأنت متلبس بصفة السفر فإنك تتمها صلاة مقيم.

    الإحرام بالصلاة سفراً ثم دخول الحضر قبل تمامها

    قال: [أو سفراً ثم أقام].

    مثاله: لو كان في السفينة فكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يصل إلى الشاطئ والميناء، فلما كبر تكبيرة الإحرام، أو شرع في الفاتحة إذا بالسفينة قد رست، فإننا إن نظرنا إلى دخوله في الصلاة فإنه مسافر ويتم ركعة واحدة، وإن نظرنا إلى ما آل إليه أمره فإننا نقول: يتمها بثلاث ركعات، فقالوا: في هذه الحالة يجب عليه إتمامها صلاة حضر؛ لأننا شككنا في كونه يستبيح الرخصة، والأصل أنه واجب عليه أن يتم أربع ركعات، فيجب عليه أن يصلي أربع ركعات تامة، وهذا -كما ذكرت- وجهه أن من شك في الرخصة وجب عليه الرجوع إلى الأصل؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على صحة هذه القاعدة، ومن هذه الأدلة: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وهو إذا صلى في هذه الحالة ركعتين استراب؛ لأنه يشك هل الرخصة مطردة، أو ليست بمطردة. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر طمأنينة والإثم ريبة)، فوصف الشيء الذي فيه براءة الذمة وكمال الطاعة في البر بأنه لا ريبة فيه، وبناء على ذلك قالوا: يخرج من الريب، خاصة في الصلاة التي هي عماد الدين، ولها حظها في الإسلام، فينبغي له أن يخرج منها بما يوجب براءة ذمته على الوجه المعتبر.

    ذكر صلاة الحضر في السفر والعكس

    قال: [أو ذكر صلاة حضر في سفر].

    ذِكر صلاة الحضر في السفر، مثاله: أن يخرج من مكة بعد انتهاء وقت صلاة الظهر، ثم في الطريق تذكر أنه لم يصل الظهر، فيكون ذكر الحضرية؛ لأن وقت الظهر كان فيه مقيماً، فهو ذكر الحضرية -وهي الظهر- في السفر، فبعض العلماء يقول: إذا ذكر الحضرية في السفر فإنه يصليها كاملة؛ لأن الخطاب توجه عليه بإتمامها أربعاً، ولذلك يجب عليه أن يصليها صلاة حاضر، ولا عبرة بحاله أثناء الأداء، والعكس أيضاً لو ذكر سفرية في حضر، فلو أنه قدم المدينة وكان مسافراً ومضى عليه وقت العشاء ودخل الفجر فنسي أن يصلي العشاء، وصلى الفجر ثم وصل الصباح، ثم تذكر بعد أن وصل إلى بيته أنه لم يصل العشاء البارحة، فإنهم قالوا: إنه يصليها أربعاً؛ لأنه يشك في استباحة الرخصة، فيرجع إلى الأصل، على القاعدة التي قررناها وأشرنا إليها.

    الائتمام بالمقيم

    قال: [أو ائتم بمقيم].

    وفيه حديث ابن عباس : (من السنة إذا صلى المسافر وراء المقيم أن يتم)، والمسافر إذا صلى وراء المقيم له صور:

    الصورة الأولى: أن يدخل معه في الصلاة من أولها، فهذا يتم صلاته، وعليه يتنزل ما ورد عن ابن عباس، وهو قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم).

    الصورة الثانية: أن يدخل معه في الصلاة في أغلبها بحيث يتعذر عليه القصر، وصورة ذلك أن يدخل في الركعة الثانية من الظهر، فإنه في هذه الحالة يصعب عليه القصر، وكذلك أيضاً بالنسبة للركعة الثانية من العصر، أو الثانية من العشاء، فكل هذه يصعب عليه فيها أن يقصر، وإن كان هناك وجه ضعيف يقول: إذا دخل في الظهر يصلي وراءه، ثم يجلس بعد الركعة الثالثة للتشهد، وينتظر الإمام حتى يأتي بالرابعة ثم يتشهد مع الإمام ويسلم قياساً على صلاة الخوف، وهذا من أضعف الأقوال، وهو وجه شاذ عند أهل العلم رحمة الله عليهم.

    الصورة الثالثة: أن يدخل وراء المقيم موافقاً له في صفة صلاته، كأن يدخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الظهر، أو الركعتين الأخريين من العصر، أو الركعتين الأخريين من العشاء، فللعلماء فيه وجهان:

    فمنهم من قال: يتم. وهذا مذهب الجمهور.

    ومنهم من قال: إنه يقصر ويسلم؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، وهو مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وأحد الوجهين عند الشافعية، وهذا الوجه من القوة بمكان، فله أن يسلم مع الإمام؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، فإذا دخل ونوى القصر وسلم مع الإمام فلا حرج عليه.

    الصورة الرابعة: أن يدخل وراء الإمام مدركاً ركعة واحدة، فهنا يضيف إليها ركعة، وقد قال به جمع من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فقالوا: إذا أدرك ركعة فإنه يضيف إليها ركعة ثانية ويسلم.

    الصورة الأخيرة: أن لا يدرك شيئاً من الركعات، فيتمها صلاة سفرية، أي: يتمها ركعتين، وهذا إذا نوى وراء المقيم القصر، أما إذا لم ينو القصر فإنه بتمها صلاة حضرية وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.

    الائتمام بمن يشك في إقامته أو سفره

    قال: [أو بمن يشك فيه].

    هذا عند من يقول: إن المسافر وراء المقيم يتم، فإن المساجد في السفر لا تخلو من حالتين:

    الأولى: أن يكون لها غالب وظاهر حال.

    الثانية: غالب ولا ظاهر حال.

    فالجماعة أو المساجد التي لها غالب حال مثالها مساجد مكة، فإنه إذا دخل المسافر مكة فإن مساجد مكة ظاهر حال أهلها أنهم متمون، فحينئذٍ لا إشكال إذا دخل وراء إمامهم أنه ينوي الإتمام بدون أي شك، وليس هناك مجال للشك؛ لأن المسجد ظاهر حاله أنه مسجد إتمام، وكذلك الجماعة ظاهر حالها أنها متمة.

    وأما ما لا يعرف لها ظاهر حال، حيث تكون في موضع وتشك في كون المصلين من أهل الموضع فمثاله ما يحدث في القرى، فإنك تدخل فترى جماعة فتشك في هذه الجماعة في كونها جماعة سفر فتنوي القصر وراءهم وتسلم معهم، أو أنها جماعة مقيمة فتدخل وراءهم ناوياً الإتمام، فقالوا: في هذه الحالة ينوي الإتمام ويتم الصلاة.

    لكن هناك وجه عند بعض العلماء يخرج من الإشكال، وهو أنك إذا شككت تنوي وراءهم القصر، فإن كانوا مسافرين فلا إشكال، وإن كانوا غير مسافرين فإنه لا حرج في الإتمام بعد نية القصر، ولذلك يقولون: لا حرج فيه ويغتفر، وإنما يصعب أن ينتقل من الإتمام إلى القصر، أما أن ينتقل من القصر إلى الإتمام فإنه لا حرج فيه، والأمر واسع.

    فإذا قلنا: يجوز أن تدخل وراء الإمام في الركعتين الأخيرتين وتسلم معه، ففي هذه الحالة إذا دخلت في صلاة الظهر ولا تدري هل الإمام المقيم في الركعتين الأخريين، أم في الركعتين الأوليين، فإنك تنوي القصر، فإن ظهر أنه في الأخيرتين سلمت معه وصحت نيتك، وإن ظهر أنه في الأوليين فإنك حينئذٍ تتم معه، وتنتقل من الأدنى إلى الأعلى ولا حرج، وإنما يحظر عليك أن تنتقل من الأعلى إلى الأدنى، كأن تنتقل من نية الإتمام إلى نية القصر، قالوا: لأنك إذا نويت الإتمام وجبت عليك أربعاً، وإن نويت القصر وجبت عليك اثنتان، فلا مانع أن تزيد على ما شرعت فيه الزيادة.

    الإحرام بصلاة يلزمه إتمامها ثم بطلانها

    قال: [أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها].

    إذا كنت على سفر فدخلت وراء إمام يتم فإنه يلزمك إتمام الصلاة على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله، فإن دخلت وراءه وأصابك عذر يوجب انفصالك عنه أو خروجك من الصلاة وراءه فإنك تخرج، وحينئذٍ يرد السؤال: هل يجب عليك أن تقضيها أربعاً، بناء على أنك حينما دخلت وشرعت تعين عليك بالخطاب الشرعي أربع ركعات؛ لأنك نويت الإتمام، فأصبحت ذمتك مشغولة في الصلاة بأربع ركعات، أم أن العبرة بحالك عند الأداء، فإنه وجب عليك أن تتم لما كنت مع هذا الإمام، ولما فارقته أصبح حكمك سارياً على الأصل؟

    فمن العلماء من اختار الوجه الأول، وقال: إنه لما دخل وراء الإمام المقيم فقد ألزم ذمته بأربع ركعات، فإذا ألزم ذمته بأربع ركعات فإنه ليس عندنا دليل على إسقاطها، وهو وإن كان إنما يلزمه إتمامها مدة اتصاله بالإمام لكن الذمة انشغلت بالأربع الركعات. ولذلك قالوا: يلزمه أن يتم.

    ومن العلماء من اختار الوجه الثاني فقالوا: لزمه الإتمام حال متابعته لهذا الإمام، وقد بطلت فرجع إلى الأصل، وبناء على ذلك يكون الواجب عليه أن يصلي قصراً لا أن يتم. ولا شك أنه لو احتاط فهو أفضل.

    ترك نية القصر حال الصلاة والشك فيها

    قال: [أو لم ينو القصر عند إحرامها].

    إذا صلى مسافر وراء مسافر، ونوى القصر فلا إشكال، في أنه يقصر ويسلم معه وجهاً واحداً عند العلماء. وإن صلى وراءه ولم ينو القصر ونوى الإتمام كأن يكون نسي أنه في سفر فنوى أن يتم أو ظن أن إمامه يتم فنوى الإتمام وراءه لزمه أن يتمها أربعاً.

    قال: [أو شك في نيته].

    إذا شك هل نوى القصر فيبقى على الركعتين، أم نوى الإتمام، فقد قالوا: يتم. وإن كان الأقوى في هذه الحالة أن يبقى على الركعتين لأنهما هما الواجبتان في ذمته، وظاهر حاله أنه ينوي القصر فيرجع إلى تغليب الحال مع اعتضاده بالأصل، فتسقط عنه الركعتان، فإن احتاط بالإتمام فهو أفضل.

    نية الإقامة فوق أربعة أيام

    قال: [أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام].

    هذه مسألة مبنية على وصف السفر إن قلنا: إن للسفر حداً معيناً، وإنَّ المسافر ينتهي إلى أمد يحكم فيه بكونه مقيماً، فالناس ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: مسافر، وقد بينا حكمه.

    والثاني: المقيم، ولا إشكال في حكمه.

    والثالث: من هو في حكم المقيم، فهو مسافر في الأصل لكنه يأخذ حكم المقيم.

    وهذا التقسيم مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم، فالسفر قد ينتقل الإنسان به إلى حكم المقيم، فيكون الإنسان مقيماً ومسافراً ومسافراً في حكم المقيم، والذي في حكم المقيم للعلماء فيه خلاف مشهور، وفيه أكثر من خمسة عشر قولاً بين العلماء رحمة الله عليهم في ضابطه، والسبب في ذلك اختلاف الأدلة، فالجمهور يقولون -من حيث الجملة- العبرة بأربعة أيام، ولا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج.

    وتوضيح ذلك أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر وقصر الصلاة، والنصوص تدل على أن المقيم يجب عليه إتمام الصلاة، فأصبحت عندنا حالتان: حالة سفر، وحالة حضر.

    فمن كان حاضراً فإنه يتم، ومن كان مسافراً فإنه يقصر، فجئنا ننظر إلى تأقيت السفر فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينقل المسافر عن كونه مسافراً إلى كونه مقيماً بالزمان، وذلك في حديث المهاجرين حينما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام، فإنه لما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام دل على أنهم في اليوم الرابع ينتقلون إلى حكم المقيم، وتوضيح ذلك أنهم تركوا مكة لله، والعلماء يقولون: من هاجر من بلد لله -كأهل مكة حينما هاجروا من مكة إلى المدينة- لا يجوز له أن يرجع إليها ويقيم فيها؛ لأنه لما هاجر عنها تركها لله عز وجل، ولذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا بمكة، وقال: (لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ثم قال: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم خائبين).

    ووجه الدلالة أن المهاجرين لا يبقون في مكة، وإذا كانوا لا يبقون بمكة فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الثلاثة الأيام دل على أنهم لو بقوا اليوم الرابع انتقلوا إلى حكم المقيم بمكة، وأكدوا هذا بأنه عليه الصلاة والسلام حينما قدم في حجته قدم لصبح رابعة، ثم انطلق في اليوم الثامن يوم التروية إلى منى، فدل هذا على أن أقصى ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام هذه المدة.

    أما ما ورد عنه في تبوك فإنه كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم مدة إقامته، ونحن نتكلم على علم مدة الإقامة، أي: إذا علم المسافر مدة إقامته، فلما رخص للمهاجرين هذا القدر تحددت المدة.

    أما إذا لم تعلم المدة كإنسان قدم مدينة لا يدري كم يمكث فيها لحاجة أو لغرض، فحينئذٍ يقصر الصلاة مدة جلوسه ولو جلس سنة كاملة، فإن أنساً رضي الله عنه مكث ستة أشهر -حينما حاصرهم الثلج في الفتوحات- يقصر الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، وحملوا عليه حديث تبوك، فإن غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى بني الأصفر يريد قتالهم فأرسل العيون، ومعلوم أنه إذا أرسلت عيون الجيش فربما بعد لحظة يأتي العين ويقول: إنهم على ماء كذا، كما هو معلوم، وربما يأتي بعد يوم، وربما يأتي بعد يومين أو بعد ثلاثة، فالأمر محتمل، ولا يدرى كم القدر، فجماهير العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إنه محمول على من جهل المدة وهذا واضح من ظاهر السنة؛ لأنه لما قدم إلى تبوك جهل مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، وليس هناك نص واضح أنه نوى إقامة مدة معينة، ولذلك قالوا: أرسل العيون على حسب الحال، فإن وجد حالاً يقتضي القتال بإخبار العيون تقدم، وإن لم يجد رجع عليه الصلاة والسلام، فمكث هذه المدة جاهلاً بالأمد، فقسموا حالة المسافر إلى حالتين:

    الحالة الأولى: أن يعلم مدة إقامته.

    الحالة الثانية: أن لا يعلم مدة إقامته.

    فإن لم يعلم مدة إقامته فإنه يقصر أبداً، ولو جلس سنة كاملة.

    وإن علم مدة إقامته فحينئذٍ إما أن تكون دون أربعة أيام، وإما أن تكون أربعة أيام فأكثر، فإن كانت دون أربعة أيام قصر، وإن كانت فوق الأربعة الأيام فإنه يتم صلاته ويأخذ حكم المقيم.

    المسافر الذي لا ينوي الإقامة ببلد

    قال: [أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].

    الملاح: هو صاحب السفينة، أو قبطان السفينة، فالشخص الذي يعمل في نقل الناس بين المدن، ويدمن السفر والرحلة، والذي تمضي عليه أيام متنقلاً بين المدن سواءٌ في بر أم بحر أم جو إذا لم يكن له مكان يستقر فيه ومعه أهله فإنهم قالوا: إنه يتم في كل موضع. فهذا الملاح في كل مكان مقيم، وهذا مذهب طائفة من العلماء.

    ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الملاح ومن في حكمه يأخذ حكم السفر على ظاهر حاله، وهو أقوى من جهة النصوص.

    حكم سالك أبعد الطريقين ليقصر الصلاة، ومن تذكر صلاة سفرية في سفر

    قال رحمه الله: [وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر].

    قوله: [وإن كان له طريقان] مثاله: إنسان في قرية تبعد عن مكة ولها طريقان: طريق تبعد به مسافة القصر ثمانين كيلو متراً، وطريق تبعد به ستين كيلو متراً، فإننا إذا جئنا ننظر إلى الطريق الذي فيه ثمانون كيلو متراً نقول: من سلك هذا الطريق فهو مسافر، ومن سلك الطريق الذي هو ستون كيلو متراً فليس بمسافر. وبناء على ذلك يقولون: إنه يأخذ حكم المسافر بالمسيرة، فإن سلك الطريق الذي هو طريق سفر فمسافر؛ لأن ظاهر السنة يدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن نهي المرأة أن تسافر بغير محرم: (أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، وهذا سافر مسيرة اليوم والليلة، ولذلك تنطبق عليه السنة، ويترخص برخص المسافر.

    قوله: [أو ذكر صلاة سفر في آخر] أي: في سفر آخر، كأن تكون سافرت من المدينة إلى جدة أو إلى مكة، فلما رجعت تذكرت وأنت مسافر أنك البارحة لم تصل صلاة العشاء وهي سفرية، فإنه حينئذٍ تصليها صلاة سفر، سواءٌ أكان السفر اعتبارياً مع اتحاد الجهة، كأن تكون ذهبت إلى جدة ورجعت إلى المدينة، فالسفر واحد، فحينئذٍ لو نسيتها في ذهابك وتذكرتها في إيابك فهي في حكم السفر الواحد.

    أم كان السفران مختلفين، كأن تكون سافرت من جدة إلى المدينة وأنت من أهل المدينة، فلما سافرت من جدة إلى المدينة نسيت صلاة العشاء وقد وجبت عليك في السفر، فجلست في المدينة إلى الضحى، ثم تحركت من المدينة في الضحى إلى القصيم، وفي طريقك للقصيم -بعد أن خرجت من المدينة- تذكرت أنك لم تصل صلاة العشاء البارحة، فإنك تصليها صلاة سفر، أي: تصلي ركعتين؛ لأنه في هذه الحالة لا يختلف الحكم.

    قال رحمه الله تعالى: [وإن حبس ولم ينو الإقامة، أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة قصر أبداً].

    هذا ما ذكرناه، فالشخص الذي لا يدري كم يمكث في مكان إقامته فإنه يصلي قصراً ولو طالت مدة إقامته؛ لظاهر حديث تبوك، فقد جلس النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة بتبوك، ولا حرج عليه في هذه الحالة أن يقصر ولو طالت مدة جلوسه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم القصر لمن يسافر ويعود في نفس اليوم

    السؤال: إذا كانت المدة دون أربعة أيام، فهل يدخل تحتها لو سافر ورجع في غضون ساعات وكان سفره أكثر من مسافة قصر، كما هو الحال في من يعمل خارج منطقته ويرجع إليها في نفس اليوم؟

    الجواب: من كان عنده عمل، أو كانت عنده مزرعة تبعد عن موضعه مسافة القصر، فخرج إليها في سويعات، أو خرج إليها أثناء النهار وعاد في نفس اليوم فإنه يترخص في طريقه، وذلك على ظاهر السنة لما ذكرناه من النصوص، فلو حضرته صلاة الظهر وهو في طريقه بين المنطقتين فإنه يقصر، لكن لو أنه -مثلاً- كان في مكة ومزرعته بعسفان، فخرج من مكة إلى عسفان ففي الطريق يقصر، وإن حضرته الصلاة وهو في مزرعته فإنه يتم، فيعتبر مكياً إن كان في مكة، ويعتبر أيضاً من أهل عسفان إذا نزل في مزرعته ووصل إليها، فيترخص في الطريق، ولكن لا يترخص في موضعه الذي تأهل فيه، أو كانت له فيه تجارة، أو كان له ملك، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حينما كان له مال بوادي الفرع، وكذلك زرعه بخيبر وزرعه بوادي ريم كما ذكرنا. والله تعالى أعلم.

    حكم الانتقال من نية الفرض إلى النافلة والعكس

    السؤال: إذا كان يجوز أن ينتقل المسافر من نية القصر إلى نية الإتمام، فهل يجوز للمصلي أن ينتقل من صلاة الفرض إلى النفل والعكس؟

    الجواب: أما انتقاله من صلاة الفرض إلى النفل فلا حرج فيه، كأن يكون دخل وراء شخص يريد أن يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الظهر، فإنه يقلبها إلى نافلة ويجزيه ويصح منه ذلك.

    أما انتقاله من الأدنى إلى الأعلى فلا، كأن يحرم متنفلاً وراء إمام وهو يظن أنه قد صلى الظهر، ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه لا ينتقل من الأدنى -وهو النافلة- إلى الأعلى -وهو الفريضة- وحينئذٍ يبقى مع هذا الإمام بنية النافلة ويسلم، ثم بعد انتهائه يقيم ويصلي صلاة الظهر، فإن كان الوقت ضيقاً بحيث لو سلم مع الإمام خرج الوقت فإنه يلزمه أن يقطع صلاته وراء الإمام ولا يشتغل بالنفل، وعليه أداء الفرض إذا ضاق الوقت، وحينئذٍ يقطع صلاته، ثم يكبر وينوي وراءه نية الفرض. والله تعالى أعلم.

    حكم تسليم المسبوق المسافر مع الإمام

    السؤال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فكيف نوفق بين هذا، وقول من قالوا: إن المسافر إن أدرك الركعتين الأخريين مع الإمام اكتفى بهما إن نوى القصر؟

    الجواب: لا حرج في كونه يصلي ركعتين مع الإمام، فإنه إذا سلم مع الإمام فقد ائتم بالإمام، الإمام سلم وهو سلم، فيكون قد صلى وراء الإمام، فكبر وراءه، وقرأ الإمام فأنصت، وركع فركع، وسجد فسجد، ثم قرأ التحيات، وسلم الإمام فسلم معه، فوجبت عليه ركعتان فصلاهما وراء الإمام سواء بسواء، فأين المخالفة؟ ولذلك ليس في هذا النص معارضة بينة، بل هذا حجة على مشروعية أن يصلي وراء الإمام ركعتين.

    حكم القصر بين البلدين المتباعدين عند اتصال البنيان

    السؤال: إذا كان السفر مسافة قصر، وكان البنيان متصلاً طوال الطريق حتى يصل المسافر إلى المدينة الأخرى التي يريدها، فهل يقصر الصلاة. أم لا؟

    الجواب: إذا اتصل البنيان بين موضعين، أو كان البنيان كثيراً بحيث كانت المسافة دون مسافة القصر فحينئذٍ لا يكون ذلك سفراً، فلو أن الذي بين مكة وعسفان انتشر فيه البنيان من جهة عسفان، أو انتشر فيه البنيان من جهة مكة حتى تقاصرت المسافة، وأصبح ما بينهما قدر خمسين كيلو متراً فإنه لا يعتبر سفراً؛ لأنه لا يعتبر مسافراً ظاهراً إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من عسفان، كما أنه ليس بمسافر إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من مكة، والذي يقطعه بينهما ليس مسيرة اليوم والليلة، فليس بمسافر من هذا الوجه، ولذلك تعتبر جدة في هذه الحالة دون مسافة القصر، وإن كانت في القديم مسافة قصر، وذلك لسعة العمران وامتداده، حتى تقاصرت المسافة عن مسافة القصر، أما لو خرج أهل جدة للحج فإنهم قاصدون لعرفة، فإنهم مسافرون ويشرع لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأن التقاصر الذي حصل في المسافة قد ازداد ببلوغ عرفات، فإنه تزيد المسافة حتى تصل إلى قدر السفر، وحينئذٍ يترخصون. والله تعالى أعلم.

    حكم إجابة النداء للمسافر النازل

    السؤال: إذا كان سفري دون أربعة أيام، ولكنني أسمع النداء، فهل تلزمني صلاة الجماعة؟

    المسافر إذا سمع النداء وهو نازل في المدينة التي هي غير مدينته اختلف العلماء رحمهم الله فيه:

    فقال جمع من أهل العلم: يجوز له أن يترك الجماعة، وأن يصلي إذا وجدت جماعة ثانية كرفقته في السفر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين حينما تركا صلاة الفجر في خيف منى، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يترك الجماعة إذا كان مسافراً. وهذا هو أصح القولين وأولاهما بالصواب، فلا حرج على المسافر أن يترك الجماعة ولو سمع النداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة) ، ولم ينكر عليهما، بل أذن لهما أن يصليا في رحالهما. والله تعالى أعلم.

    كيفية صلاة المسافر إذا وصل قبل خروج الوقت

    السؤال: رجل كان على سفر، فلم يصل صلاة العشاء وهو مسافر، ودخل بلدته قبل خروج الوقت، فهل يصلي صلاة مسافر، أم يتم؟

    الجواب: إذا كان الإنسان مسافراً وترك الصلاة الرباعية ودخل بلده، أو وصل إلى بلده قبل انتهاء وقتها فإنه يلزمه الإتمام، وذلك أنه لما أخر الصلاة خوطب بالصلاة في آخر وقتها، ولزمه الإتمام في قول جماهير العلماء رحمهم الله. والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة المسافر خلف من يخالفه في النية

    السؤال: إذا دخل المسافر على جماعة مقيمين فيما بين الأذان والإقامة لصلاة العصر وهو لم يصل الظهر، فهل يصلي الظهر، أم ينتظر الجماعة ويصلي معهم بنية الظهر؟

    الجواب: يجوز للإنسان أن يصلي الظهر وراء من يصلي العصر، والعصر وراء من يصلي الظهر، فيصلي وراءهم في هذه الحالة لكي يدرك فضل الجماعة، ولو اختلفت نيته مع نيتهم؛ فإن حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه يدل على مشروعية صلاة الفرض وراء من يصلي الفرض مع اختلاف النية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، بشرط اتحاد صورة الصلاتين، فالظهر وراء العصر والعصر وراء الظهر قد اتحدت فيهما صورة الصلاتين، فلا حرج عليه في هذه الحالة أن يوقع الصلاة وراء الصلاة، لكن في مسألة الجمع منع العلماء رحمهم الله أن يصلي وراء هؤلاء جماعة ثم أقيم للثانية دخل معهم بنية العصر بعد أن صلى الظهر مع الجماعة الأولى، ويرون أن الجمع صورته مخصوصة بما ورد، وهذه الصورة تخالف ما ورد، فلا يصح جمعه على هذا الوجه. والله تعالى أعلم.

    حكم الصلاة إلى غير القبلة

    السؤال: إذا صلى الإنسان في مكان لا يعرف اتجاه القبلة فيه، وبدأ في الصلاة، ثم مر به شخص يعرف القبلة فأدارها إلى اتجاهها، فما حكم الركعات التي صلاها في غير اتجاه القبلة؟

    الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل:

    فإن كان الإنسان في موضع يمكنه أن يرجع إلى أهله، أو يعتمد دلائل البلد الذي هو فيه على القبلة وقصر في ذلك فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، فيلزمه أن يقطع صلاته وأن يستأنف الصلاة على الجهة الجديدة، بشرط أن تكون الجهة فرعيةً ينتقل بها من فرع إلى فرع، أما لو كان انحرافه قليلاً فإنه لا يؤثر إذا كانت الجهة هي الجهة.

    مثال ذلك: أن يصلي إلى الجنوب منحرفاً انحرافاً لا ينصرف به من الجنوب المحض إلى الجنوب الفرعي الذي هو الجنوب الغربي، فإذا لم ينصرف من الجنوب المحض إلى الجنوب الغربي فهذا الانحراف لا يؤثر.

    أما لو انحرف انحرافاً بيناً يخرجه من جهة إلى جهة فحينئذٍ إن قصر في السؤال والتحري فإن صلاته تعتبر باطلة، ويقطع الصلاة ويستأنف، وإن كان معذوراً حيث لم يجد من يدله، أو اجتهد بناء على عدم وجود من يدله فإنه حينئذٍ إذا حضر من هو أعلم، أو وجد من هو من أهل البلد أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى الأصل الذي هو العمل بقول هذا العالم، أو هذا الخبير، أو هذا الذي هو من أهل البلده ويتم بقية الصلاة ويعذر فيما مضى. والله تعالى أعلم.

    حكم دخول الجد لأم على الزوجة

    السؤال: هل الجد لأم يكون محرماً لزوجة حفيده مثل الجد لأب؟

    الجواب: الجد لأم يعتبر محرماً لزوجة حفيده، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، فإن ابن البنت ابن لأبيها، فابن البنت يعتبر ابناً للجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحسن : (إن ابني هذا سيد) ، فجعله ابنه، وقد قال الله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ [النساء:23] ، فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن بنته الذي هو الحسن ابناً دل على أنه لا فرق بين الجد المتمحض بالذكور والجد المتمحض بالإناث والجد الذي جمع بين الذكور والإناث، فإنه في هذه الحالة تثبت له محرمية المصاهرة، فتصبح زوجة ابن بنته أو ابن ابنه محرماً له. والله تعالى أعلم.

    حكم استخدام حبوب منع الحمل

    السؤال: هل يجوز أن تأخذ زوجتي ما يمنع الحمل، وذلك لأجل الراحة من الحمل مدة معينة، وتُمنع بعد ذلك؟

    الجواب: لقد ذهبت البركة في كل شيء، حتى النساء ذهبت منهن البركة، وقد كانت المرأة في القديم تضع أربعة عشر ولداً وخمسة عشر ولداً ويضع الله فيها البركة، ويكون من الخير ما الله به عليم، والمرأة الآن تجدها تحمل بمشقة وعناء، وتذهب تلتمس الرخص وتلتمس الأعذار، وتتكلف في ذلك حتى تحرم الأمة من الخير الذي يكون في النسل والذرية، فلولا الأبناء والأولاد لما خرجنا إلى هذه الدنيا، ولو كنا ولدنا في هذا العصر لكان كثير منا لم يوجد، بسبب تعاطي هذه الحبوب التي تمنع الحمل -نسأل الله السلامة والعافية-.

    فمن الأمور التي ينبغي تنبيه النساء عليها وتذكيرهن بالله عز وجل فيها أن الشرع يقصد تكثير النسل وتكثير سواد الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، وكأنه يقول: شرع لكم النكاح من أجل الولد، وتجد المرأة تتبع الرخص من هنا وهناك وتحتج بأنها تتعب، والله عز وجل شرّف الأم وأمر ببرها، وجعل لبرها ثلاثة أضعاف ما للأب، وقد قال تعالى عنها: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، فأخبر أن الحمل كره، وأخبر عن مريم ابنت عمران عليها السلام أنها لما جاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، فهكذا الحمل، فكونها تتألم من الحمل أو تجد المشقة ليس بعذر لها أن تقطعه، ولا يرخص فيه، وإنما يكون العذر إذا خيف عليها الهلاك، وهي حالات مخصوصة ومعينة يقررها الأطباء، أما أن المرأة تأتي فتمنع الزوج من نسله وذريته حتى يضع الله البركة في هذا النسل وهذه الذرية، وتحرمه من هذا الخير فإنه أمر من الصعوبة بمكان.

    وأصبح الرجال يسترسلون مع النساء، وأصبح النساء يتتبعن الرخص، وما يدري المرأة أن هذه الآلام وهذه المتاعب درجات لها في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.

    وليس من عيب على امرأة جاهلة أن تفعل هذا، ولكن العيب أن تجد المرأة طالبة علم، أو تجدها من الصالحات القانتات الفاضلات وتجدها تتعاطى حبوب منع الحمل، فأين الإيمان بالله عز وجل وحب النسل والذرية، والصبر على النسل والذرية؟!

    وقد كان النساء يرعين الغنم في البادية على فطرتهن، فلا طبيب ولا مغيث ولا مجير إلا الله سبحانه وتعالى، وتجدها وهي ترعى بهائمها تضع ولدها، وليس معها أحد، ولا يعلم بحالها إلا الله سبحانه وتعالى، فتضع الولد ثم تنتقل به إلى بيتها، وهذا حدث لأكثر من امرأة، وكان مشهوراً معروفاً، لكن لما ضعفت عقائد الناس، وأصبح الإنسان ضعيف الإيمان بالله عز وجل -نسأل الله السلامة- محقت البركة حتى من النساء، فأصبحت المرأة تشتكي من القليل والكثير، فإذا كانت تشتكي بسبب الدراسة والتدريس فليس هذا هو الأصل، فالأصل أنها أم، والأصل أنها مربية، والأصل أنها أم للأطفال والأولاد، وأنها هي التي تقوم على هذا الأمر الذي شرّفها الله وكرمها به.

    فلذلك لا ينبغي للنساء أن يبحثن عن هذه الرخص، ولا ينبغي للمرأة أن تقول: إنها تريد أن ترتاح من الحمل. وما يدريك لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الولد الذي تفرين منه هذا العام من الذرية الصالحة.

    وقد ذكروا عن امرأة أنها كانت تلد بنات، حتى ولدت تسع بنات متتابعات، فسئمت من البنات -وهذا الكلام قبل أكثر من مائة سنة، وهي قصة مشهورة عن أحد أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل-، وكانت بمكة، فأخذت دواء من العطار تتناوله في السَحَر -أي: في الصباح الباكر- قبل الأكل وقبل الشراب لأجل أن تسقط هذا الحمل العاشر؛ لأنها لا تريد البنات، وهي لا تحمل إلا بنات، فأرادت أن تسقط هذا الجنين، فلما أرادت أن تستعمل هذا الدواء سمعت صائحاً في الفجر يصيح ويقول: يا أرحم الراحمين. فاقشعر بدنها، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى ليضع الله لها الخير في هذا الولد، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يكون ذكراً، وأن يكون من حفاظ كتاب الله، والله لقد أدركته -وكان من أصدقاء الوالد- من أفضل الناس ديانة واستقامة وطاعة لله عز وجل، فلو أنها تعاطت هذا الدواء فكم كانت ستحرم من الخير؟ وكم كانت ستحرم من الدعوات الصالحات؟

    ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون قوية الإيمان بالله عز وجل، وأن تتوكل على الله، وأن يكون عندها حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث الصحيح: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) ، ورؤي سلمان الفارسي بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت أفضل بعد الإيمان من حسن الظن بالله عز وجل.

    والمرأة إذا أحسنت الظن بالله وقالت: أصبر وأتوكل على الله عز وجل. فتح الله لها أبواب رحمته، وفي الحديث الصحيح: (من يصبر يصبره الله) ، فتحس أن هذا الحمل كأنه يمر في ساعة، وكأنه طيف من الخيال والأحلام، ثم إذا بها يبارك لها الله عز وجل في هذه الذرية وهذا النسل، فلعله أن يذكرها بدعوة صالحة، وما يدريها لعل هذا النسل الذي تريد أن تمتنع منه يكون من أبر أولادها بها بعد مشيبها وكبرها، وما يدريها لعل الله أن يسخر لها بعد موتها بالدعوات الصالحات. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756382230