إسلام ويب

شرح زاد المستقنع أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأحكام المتعلقة برمضان: معرفة دخوله وخروجه، وهذا يتعلق برؤية الهلال، لكن تحقق ذلك والعمل به يرتبط بصفات من قال برؤيته، من عدالة ونحوها، ويتفرع على ذلك أحكام مختلفة. وقد وضح الشيخ هذه الأحكام في هذه المادة، ثم ذكر من يجب عليه الصوم، ومن يكون معذوراً يحق له الفطر، ومن لا يصح صومه من أهل الأعذار، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بأهل الأعذار.

    1.   

    صفة من يعتد برؤيته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]:

    أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.

    العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا

    فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل.

    وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث: : (إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟) .

    جماً: أي شيئاً كثيراً.

    وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب.

    فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك.

    فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب.

    ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية.

    فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] وقوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] فلا يرضى إلا العدل.

    وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس.

    أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين:

    الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة.

    الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة.

    فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب.

    والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية.

    فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته.

    والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة.

    مسألة قبول شهادة الفاسق عند انتشار الفسق

    هنا مسألة ذكرها شيخ الإسلام رحمة الله عليه وأشار إليها ابن فرحون في التبصرة والطرابلسي صاحب معين الأحكام الذي كتبه في مناهج القضاء وهذه المسألة تقول: لو حدث شيء في مكان لا تجد فيه العدل أو قد لا تجد العدل إلا بصعوبة، ثم جاء شهود من هذا المكان الذي أصحابه فساق، فهل نقبل شهادتهم أو لا؟

    قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا عم وانتشر فإنه يقبل أمثل الفساق، يعني: ممن يعرف بالصدق، أو يعرف بالانضباط.

    والحقيقة أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أصل قوي؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي التي يسمونها: مسائل عموم البلوى، وهي مفرعة على القاعدة المعروفة: أن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، فإذا كان الناس في سعة وكان العدول كثيرين فحينئذٍ نضيق على الناس في الشهادة، أما إذا كان الأمر على العكس، أي: كان العدول قليلين فحينئذٍ يتسع الأمر ونحكم بقبول شهادة من هو أمثل.

    شهادة العدل الواحد برؤية الهلال

    فلو جاءنا رجل واحد وشهد أنه رأى هلال رمضان فهل يصام أو لا؟ للعلماء وجهان:

    الجمهور على أن شهادة الواحد تقبل، وأن هذا ليس من باب الشهادة وإنما هو من باب الخبر، لأن الشهادة لابد فيها من التعدد، ولا تقبل فيها شهادة الواحد، والشرع دائماً يقبل العدد.

    وبناءً على ذلك قالوا: تقبل شهادة الواحد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى الهلال وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فصامه وأمر الناس بصيامه؛ فدل ذلك على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان، وفي حديث الأعرابي أنه شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال ! قم فأذن بالناس أن يصوموا غداً) ولكنه حديث ضعيف، وحديث ابن عمر أقوى منه وصححه غير واحد من العلماء منهم الحاكم وغيره، وهو يدل على أن شهادة الواحد يثبت بها شهر رمضان.

    وإذا قلنا: إن قبول شهادته إنما هو من باب الخبر لا من باب الشهادة فحينئذٍ يقال بقبول شهادة الأنثى، فلو أن امرأة شهدت برؤية الهلال قبلت شهادتهها لكن من باب الخبر لا من باب الشهادة، والفرق بينهما: أن الشهادة يشترط فيها العدد وأيضاً لابد أن يحكم القاضي بها، فيأتي إلى مجلس القضاء ويشهد، ويثبت الدخول بشهادته.

    وكذلك تكون الشهادة بلفظ: أشهد أني رأيت الهلال ويصف رؤيته على وجه تنتفي به التهمة.

    وكذلك يشترط في الشهادة الذكورية، فلا يقبل فيها أقل من شاهدين ويشترط فيها الذكورية، فلا تقبل شهادة الأنثى؛ لأن الأنثى شهادتها على نوعين: إن كانت في الأموال وما يتبع الأموال قبلت شهادتها، وإن كانت في غير الأموال فالإناث لا تقبل شهادتهن؛ لحكمة من الله سبحانه تعالى، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى في آية النور أمرنا باستشهاد أربعة على الزنا فلو كانت المرأة تشهد لقال: أو ثمان، لكن في الأموال في آية البقرة قال سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] فنـزل المرأتين منـزلة الرجل الواحد، وقال تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ [البقرة:282] في قراءة (فتذكر إحداهما الأخرى) أي: أن شهادتها معها بمثابة الرجل، تذكرها، بمعنى: تنزلها منزلة الذكر.

    والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى جبلهن على العاطفة، وفيهن من الضعف واللين ما جعله الله عز وجل بحكمته لصلاح هذا الكون، فلا يستقيم الكون باثنين بصفات واحدة متماثلة؛ لأن هذا يفضي إلى مفاسد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الله في المرأة العاطفة واللين حتى تقوم على الذرية، فهذا اللين والضعف في مكان كامل وفي مكان ناقص فإذا جاءت المرأة تشهد فإنها لا تستطيع لأن فيها العاطفة.

    ولذلك يقول العلماء: لو أن المرأة خاصمت الرجل فإنها تتكلم بكلمتين أو ثلاث ثم تبكي وتستولي عليها العاطفة، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، والسبب في هذا: أن الله جبلها على هذا حكمة منه سبحانه ورفقاً بالأولاد وبالذرية، فتجد من حنانها وعطفها على ولدها ما لا يستطيع الرجل أن ينزل منزلتها وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى.

    ولما كانت الشهادة تحتاج إلى ترو وتثبت، فالشاهد يرى الدماء ويرى الأشلاء ويرى القطع، فإذا كانت المرأة ضعيفة القلب فإنها لا تستطيع أن تتحمل هذا، ولذلك بمجرد أن ترى هذه الأشياء فإنها تصرخ، ولربما تصاب بشيء في رؤيتها مما يؤدي إلى التأثير في شهادتها، ومن هنا منعت من الشهادة في غير الأموال، وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وظاهر القرآن يدل عليه، فلو كانت شهادة المرأة في غير الأموال مقبولة لنص سبحانه وتعالى على البدلية.

    فالصحيح: أن شهادتهن قاصرة على الأموال وما في حكم الأموال.

    ما في حكم الأموال كالشهادة على الوصية التي تتضمن إثبات مال، فهذه يمكن أن يثبت بها إذا شهدنا بأن الميت أوصى لفلان بنصف ماله أو بربع ماله، أو بثلث ماله، ونحو ذلك، فهذه شهادة وإن لم تكن مالية محضة لكنها آيلة إلى المال، وهي التي يسمونها الشهادة في حكم المال.

    1.   

    حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة

    يقول المصنف رحمه الله: [وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا].

    لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأحكام المتعلقة برؤية الهلال، فبعد أن بين الأحكام المتعلقة بثبوت شهر رمضان ودخوله، شرع في بيان ما يتعلق بالخروج من شهر رمضان، والأصل أن الخروج من شهر رمضان يكون بتمام الشهر ثلاثين يوماً، وذلك أنهم إذا صاموا ثلاثين يوماً فقد تم الشهر، وحينئذٍ يكون ما بعده من شوال قطعاً.

    وأما العلامة الثانية: فهي أن يشهد العدلان لرؤية هلال شهر شوال، فإذا شهد العدلان أنهما رأيا هلال شهر شوال فإن الناس يفطرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شهد عدلان فصوموا، وإن شهد عدلان فأفطروا) فجعل رؤية العدلين موجبة لثبوت دخول شهر شوال وانتهاء شهر رمضان.

    لكن هنا مسألة، وهي: إذا شهد عدل واحد، ثم أكمل الناس العدة ثلاثين يوماً من رمضان ولم يروا الهلال، قال العلماء: هذه أمارة ودليل على خطأ الشاهد، ومن هنا فإنه يجب عليهم أن يتموا العدة لظهور خطأ الشهادة.

    وهكذا الحال في المسألة التي ذكرناها: لو كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شهر شعبان، ولم يتمكنوا من رؤية الهلال، فإن المذهب -على ما قرره المصنف- أن يصام ذلك اليوم، وإن كان الصحيح: أنه لا يصام، لكن على القول بصيامه لو صاموا ثم أتموا العدة ثلاثين، وتراءوا الهلال ليلة الواحد من شوال على تمام الشهر فلم يروه، قالوا: هذا يدل على أن الشهر -أعني: شهر شعبان- يعتبر كاملاً، وحينئذٍ عليهم أن يتموا عدة رمضان ثلاثين يوماً ولا يفطرون.

    وعلى هذا هناك حالتان ذكرهما المصنف:

    الأولى: أن يشهد عدل واحد، ثم نحكم بدخول شهر رمضان، ثم بعد تمام العدة ثلاثين يوماً نتراءى الهلال ليلة شوال فلا نراه، وعلى هذا تبين لنا خطأ الشاهد الواحد؛ لأن الخطأ في الشاهد الواحد أكثر منه من الخطأ في الشاهدين، وحينئذٍ يلزمون بتمام شهر رمضان ثلاثين يوماً، وهذا على سبيل الاحتياط، وهذه قاعدة: أن بعض العلماء يحتاط في الخروج من شهر رمضان أكثر من احتياطه في دخول شهر رمضان، ولذلك يرون أنهم في هذه الحالة يتمون العدة ثلاثين يوماً حتى يخرجوا من الصوم بيقين.

    الثانية في قوله: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا).

    هذا على المذهب المرجوح، وإن كان الصحيح: أنه إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شعبان أنه يجب إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً.

    1.   

    حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده

    وقوله: [ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوال، صام].

    هذه مسألة مفرعة على الشاهد الواحد، فلو أن إنساناً رأى هلال شهر رمضان -أو رأى هلال شهر شوال، فجاء يشهد فلم تقبل شهادته وردت، وهو متأكد أنه قد رأى الهلال- فقد وقع في يقين نفسه أن رمضان قد دخل، ولكن في حكم الشرع الظاهر أن رمضان لم يدخل، فهل نوجب عليه في خاصة نفسه أن يصوم هذا اليوم أو لا يصوم؟

    للعلماء مذاهب:

    منهم من يقول: نوجب عليه الصيام لأنه قد تحقق من دخول شهر رمضان؛ وهو متعبد لله عز وجل بما تحققه، وقد أوجب الله على من رأى الهلال أن يصوم، وهذا قد تحقق من رؤيته وأن هذه الليلة من رمضان، فلا وجه لإسقاط الصوم عنه، قالوا: فحينئذٍ يلزمه أن يصوم.

    القول الثاني: أن العبرة بجماعة المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: كما لو أنهم تراءوا الهلال فلم يروه -مع أنه رمضان حقيقة- قالوا: فقد تعبدهم الله عز وجل بالدخول، فحينئذٍ لا نوجب عليه هذا اليوم؛ لأنه ليس من رمضان حكماً.

    والقول الثالث يفصل فيقول: دخول رمضان يوجب عليه الصيام، وفي خروجه لا يفطر احتياطاً.

    وهذا المذهب من أقوى المذاهب -أي: التفريق بين الدخول وبين الخروج- والسبب في هذا: أن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد كما ذكرنا، وأنه من باب الخبر.

    ولذلك نقول: من رأى هلال رمضان وحده -كما لو كان مسافراً فرآه وحده- فبالإجماع أنه يصوم، مع أنه في هذه الحالة لم يثبت شهر رمضان عند الجميع، فنقول: إذا رآه في الدخول وجب عليه أن يصوم؛ لأن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد.

    أما الخروج فقد قال صلى الله عليه وسلم : (فطركم يوم تفطرون) فرد الأمر إلى جماعة المسلمين، ففي الخروج لا نقول له: إنه يفطر، وإنما يبقى مع جماعة المسلمين؛ لأن الفطر للجميع بخلاف دخول شهر رمضان، ولذلك نقول: إنه قد ثبت في ذمته صيام اليوم الأول من رمضان بيقين؛ لأنه قد استيقن برؤية الهلال بنفسه، وحينئذٍ نوجب عليه الصيام دخولاً، ولكننا لا نوجب عليه الفطر خروجاً؛ لأن الفطر مقيد بالجماعة، فيفطر إذا ثبتت رؤيته مع رؤية غيره وحكم بها، ولا يفطر إذا ردت شهادته أو كان شاهداً واحداً ولم تقبل شهادته.

    وهناك مذهب يقول: يفطر سراً، ولكن القول بالتفصيل اعتماداً على السنة أقوى وأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ابن عمر وحده في دخول شهر رمضان، فألزم الجماعة بشهادة ابن عمر ، فلئن نلزم الشاهد نفسه والرائي نفسه من باب أولى وأحرى، ولكن في الخروج ردنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة المسلمين فقال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لجماعة المسلمين كلهم، كما لو رأى هلال ذي الحجة -مثلاً- ليلة الخميس والناس لم يروه، ثم بعد ذلك أصبح وقوف الناس متأخراً عن وقوفه؛ فإننا نقول: لا يصح وقوفه لوحده؛ لأن الوقوف بجماعة المسلمين، وعلى هذا فإنه يصح أن يصوم وحده ولا يصح أن يفطر لوحده.

    وقد يشكل على هذا مسألة: كيف نحكم بالظاهر ونترك الباطن؟

    والجواب: أن الشرع يحكم بالظاهر، ويلغي الحقيقة والباطن.

    مثال ذلك: لو أن رجلاً -والعياذ بالله- رأى امرأة على الزنا، وقد رآها بعينه وشهد أنها زانية، أو شهد رجلان أو ثلاثة أنها زانية، فأتي بها إلى القاضي فلم تعترف وأنكرت، فإنه بالإجماع يجلد هؤلاء الثلاثة، ويعتبرون قذفه، والله تعالى يقول: فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13] فوصفهم بالكذب بالنسبة للظاهر؛ لكنهم في الحقيقة والباطن صادقون، ولذلك يعطي الحكم للظاهر، والباطن مرده إلى الله عز وجل.

    ومن أمثلته: قوله عليه الصلاة والسلام : (إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع) فدل على أن حكم الظاهر لا يبيح الباطن، كما أن الباطن لا يبيح حكم الظاهر، وعلى هذا فرقت الشريعة، فما كان الشرع معتبراً فيه بشهادة الواحد -وهو دخول شهر رمضان- فنعتبره ملزماً بالصيام برؤيته، كما لو رآه وحده في الصحراء فإنهم كلهم يقولون: عليه أن يصوم.

    أما بالنسبة لخروج رمضان فقد جاء النص باعتبار الشاهدين، ولم يأت استثناء كالدخول، فالدخول جاء فيه استثناء في حديث ابن عمر ، فقبلت فيه شهادة الواحد، وأما الخروج فلم يأت فيه استثناء، فبقينا على الأصل من كونه مطالباً بصيام هذا اليوم الذي هو يوم الثلاثين، والأصل أن الشهر كامل، وعلى هذا يقولون: إنه يقيد بجماعة المسلمين؛ لورود النص بتأكيد الجماعة.

    ففي الخروج ورد النص بتأكيد الجماعة، وفي الدخول ورد النص بالاعتداد بشهادة الواحد، فخفف في الدخول ولم يخفف في الخروج، وهذا هو الذي يسميه العلماء مذهب الاحتياط.

    والاحتياط ينقسم إلى قسمين:

    الأول: احتياط ينبني على دفع الشبهة والبعد عن الريبة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يربيك إلى ما لا يريبك).

    الثاني: احتياط يكون مستنداً إلى النصوص، فلما جاء النص بقبول شهادة الواحد دخولاً؛ احتطنا وقلنا: يجب عليه الصوم، فكان الاحتياط أن يصوم، بخلاف ما لو قلنا له: أفطر؛ لأنه لو أفطر ربما أفطر يوماً من رمضان، ولكن في الخروج نقول له: يبقى على صيامه، فأصبح الاحتياط هنا مستنداً إلى أصل الشرع، فكان اعتباره أولى وأحرى مع الأصل الذي دل على أنه ينبغي للمسلم أن يخرج من الريبة والشبهة.

    1.   

    وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر

    [ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر].

    يلزم: أي: يجب، وهو فريضة الله عز وجل على كل مسلم، فالكافر لا يلزمه صوم بالنسبة له، بمعنى أنه لا يخاطب ولا يصح منه صومه إلا بعد أن يحقق أصل الدين وهو التوحيد، فلو صام الدهر كله وهو لم يوحد الله فلا عبرة بصيامه، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] فالكافر لا يعتد بصومه ولا يعتد بطاعته حتى يسلم، فإن أسلم أثناء الشهر وجب عليه أن يصوم ما بقي، ولا يجب عليه قضاء ما مضى.

    وإن أسلم أثناء اليوم وجب عليه الإمساك بعد إسلامه وقضاء ذلك اليوم، وهذا مبني على حديث يوم عاشوراء الذي رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما كان يوم عاشوراء قال: إن الله فرض عليكم صيام هذا اليوم، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) قالوا: فيجب على الكافر أن يمسك بقية اليوم، ثم يقضي هذا اليوم؛ لأنه لما أسلم ولو قبل غروب الشمس بلحظة فقد وجب عليه قضاء هذا اليوم، ولذلك يقولون: إنه يطالب بالقضاء، وأما بالنسبة للأيام التي مضت فإنه لا يطالب بقضائها لوجود الانفصال، وفرق بين المتصل والمنفصل، فإن إفطاره في اليوم نفسه متصل، وإلزامه بقضاء ما مضى من رمضان منفصل؛ فوجبت عليه العبادة المتصلة دون العبادة المنفصلة.

    وقوله: (على كل مسلم مكلف) ويشترط بعد الإسلام أن يكون مكلفاً، والتكليف يكون بالعقل والبلوغ.

    فإذا قيل: مكلف، تضمن ذلك كونه عاقلاً وكونه بالغاً، فلا يجب الصوم على صبي، ولا يجب الصوم على مجنون.

    أما الصبي فالسنة إذا أطاق الصوم أن يعود عليه من الصغر، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا يروضونهم على الصيام، ويعطونهم اللعب يلعبون بها وهم صبيان)، ولكن ينبغي أن يكون مطيقاً لذلك.

    أما إذا كان صغير السن ويتضرر بالإمساك ولو بعض اليوم؛ فإنه لا يحمل فوق طاقته؛ لأن هذا يزعجه ولربما يجعله يكره هذه العبادة، فإنه إذا أطاقها ألفها وأحبها كما أمر الأولياء أن يأمروا صبيانهم بالصلاة لسبع؛ تعويداً لهم على هذه العبادة وترويضاً لهم عليها، فيعود الصبي الصيام من الصغر، كأن يكون ابن العاشرة أو الحادية عشرة، أو يكون دون ذلك إذا أحب هذه العبادة وألفها، وإذا صام فليشجعه وليه على ذلك ويعينه عليه؛ لما فيه من تحصيل مقصود الشرع من تحبيب العبادة لنفسه وتعويده عليها.

    وأما المجنون فلا نطالبه بالصوم، سواء بلغ مجنوناً أو طرأ عليه الجنون.

    وهكذا لو صار كبير السن فأصبح يضيع ويخلط، فإذا أصبح يضيع ويخلط أو كان مجنوناً وحصل له هذا التضييع والخلط أو الجنون أثناء الصوم، فإننا لا نلزمه بذلك اليوم، سواء كان جنونه مسترسلاً أو متقطعاً.

    وإذا كان جنونه متقطعاً بأن طرأ عليه الجنون في نصف رمضان، فالنصف الذي جن فيه ليس عليه قضاؤه، والنصف الذي كان فيه عاقلاً صحيحاً فإنه يطالب بصيامه.

    وإذا أفاق بعد ذلك فلا نطالبه بقضاء الشهر إن كان مجنوناً في الشهر كله؛ لأن المجنون حال جنونه غير مكلف.

    حكم صيام المغمى عليه

    وهل المغمى عليه في حكم المجنون أو في حكم النائم؟

    كما يقع الآن في موتى الدماغ فبعضهم ربما يستمر الشهر والشهرين وربما السنة بكاملها، وقد يستمر سنوات وهو تحت هذه الأجهزة وقد مات دماغه، فمثل هذا لا يطالب بصوم، بل لا يطالب أولياؤه لا بقضاء ولا بإطعام؛ لأنه لم يجب عليه الصوم أصلاً، إذا قرر الأطباء أنه قد فقد عقله، فإنه في هذه الحالة لا يطالب بقضاء، ولا يطالب أولياؤه أيضاً بالقضاء أو بالصيام عنه ولا بالإطعام؛ لأنه غير مكلف بالصوم أصلاً.

    وأما بالنسبة للجنون المتقطع فحكمه ما ذكرناه: في حال إفاقته يطالب بالصوم، ويطالب بالقضاء إن أفاق أثناء اليوم، وبالنسبة للأيام التي هو فيها عاقل فإنه يطالب فيها بالصوم.

    اشتراط القدرة في الصيام

    قوله: (قادر) أي: يشترط للصائم أن يكون قادراً على الصوم، فخرج بهذا المريض، فإن المريض لا يلزم بالصوم إذا كان لا يستطيع معه الصوم، سواء كان لا يستطيع بالكلية كأن يخشى على نفسه الموت، أو كان المرض يوجب الحرج والمشقة عليه إن صام.

    فهناك نوعان من المرض:

    النوع الأول: أن يقرر الأطباء أنه لو صام فإنه سيهلك، كما يقع في بعض الحالات التي يكون فيها فشل الكلى، بحيث يقرر الأطباء أنه في حالة خطرة بحيث لو انقطع عن الماء فإن مصيره إلى الموت والهلاك، وهكذا إذا كان فيه مرض قلب، أو كان حديث عهد بعمليات ويحتاج إلى الاستمرار على دوائها، فمثل هؤلاء يلزمهم ويجب عليهم أن يفطروا؛ لأن تعاطي الأسباب الموجبة للهلاك لا يؤمر به شرعاً، ولذلك قال العلماء: من ترك أكل الميتة وهو مضطر لها حتى مات، يحكم بكونه قاتلاً لنفسه والعياذ بالله؛ لأنه قد تحقق أو غلب على ظنه أنه سيموت فتعاطى أسباب الهلاك.

    وقد أشار شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- إلى هذا القول: أنه لا يجوز للمسلم إذا توقفت نجاته على أمر أن يتعاطى أسباب فوات النفس؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فليس في دين الله ولا في شريعته إلزام إنسانٍ بالصوم على وجه يوجب هلاكه، ولذلك أسقط الله الصوم في حال المرض لمكان المشقة الفادحة؛ فلأن يسقط في حال الخوف على النفس من باب أولى وأحرى.

    وعلى هذا: فإنه إذا كان المرض مخوفاً بحيث يخشى على صاحبه أن يهلك فإنه لا يصوم، وأما إذا كان يجد المشقة والحرج فإنه يخير بين الفطر وبين الصوم، والأفضل له أن يفطر؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على الرجل أن شق على نفسه بالصوم، وقال: (ليس من البر الصيام في السفر) أي: على من يشق عليه ويحرجه.

    أما لو كان في حال مرضه يطيق الصوم، والصوم عليه يسير بدون حرج، فالأصل فيه أنه مطالب بالصوم، ولا يرخص له.

    مثاله: لو أن إنساناً كسرت يده، لكن كسر اليد لا يتأثر بالصوم، فنقول: إنه يجب عليه أن يصوم إلا في حالة ما إذا كان عنده ألم شديد وتوقف على علاج يسكن له هذا الألم، فرخص بعض العلماء -رحمهم الله- في تسكينه من باب دفع الحرج، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

    إذاً: لابد أن يكون المكلف قادراً، فإذا كان قادراً فإنه يجب عليه، والدليل على اشتراط القدرة قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] وقوله عليه الصلاة والسلام (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) فأمرنا أن نتكلف من الأعمال والعبادات ما نطيقه، وقال: (إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع) فالشخص الذي يصوم وهو غير قادر سينتهي به الأمر إلى أن يهلك، أو أن يؤدي العبادة على مضض وسآمة وملل، ولربما يترتب على ذلك ضرر أعظم من تركه للصوم.

    1.   

    وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال

    وقوله: [وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].

    البينة: مأخوذة من البيان، يقال: بان الصبح إذا اتضح ضوؤه، والشيء البين هو الواضح، والبينة: هي الدليل الذي يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، فلو أن اثنين اختصما عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، كأن يقول: لي على فلان ألف ريال ديناً. فقال فلان: ليس له عندي شيء، وأنكر. فجاء المدعي بشاهدين عدلين، فنقول: هذه بينة أظهرت صدق الدعوى؛ لأنه لما قال: لي على فلان ألف ريال. احتمل أن يكون صادقاً واحتمل أن يكون كاذباً، والأصل أن المدعى عليه بريء حتى يثبت أنه مدان بهذا الحق، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى. والظهور الغلبة، كما قال تعالى: فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] أي: غالبين، فكأن صدق الدعوى وكذبها في منزلة واحدة عند الادعاء، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى وكشفت وجه الحق، لأنه لما قال: لي على فلان ألف. فقال فلان: ليس له علي ألف ريال، التبس وجه الحق، فلما قام الشاهدان انكشف أن الحق مع من قال: لي على فلان ألف ريال.

    فعلى هذا قالوا: إن البينة هي ما يظهر صدق الدعوى ويكشف الحق.

    والأصل في البينة أن تكون بشهادة العدلين على الشروط المعتبرة، لكن قد تكون البينة امرأة واحدة كالشهادة على الرضاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) فقد قبل شهادة المرأة الواحدة، فلو قالت امرأة: أرضعتك وفلانة، فإنه يثبت حينئذٍ أنها أخت لك، وهكذا لو أن امرأة قابلة -وهي التي تشرف على الولادة- شهدت بأن المولود استهل صارخاً، فإن المولود والجنين لا يرث إلا إذا تحققنا من حياته، ولا نتحقق من حياته إلا إذا عاش لحظة على الأقل بعد ولادته، فلو ولد ميتاً لم يكن له شيء، فنحتاج لكي نثبت الميراث له أن يستهل صارخاً، بمعنى: بأن يحدث منه الصوت أو الحركة التي تدل على الحياة حال ولادته على خلاف عند العلماء، فإذا شهدت امرأة واحدة أنه استهل صارخاً قبلت شهادتها في الاستهلال، لمكان الضرورة والحاجة، كما قبلنا شهادة المرضعة.

    وهذه من المسائل التي تكون فيها البينة قاصرة وناقصة، وعلى هذا فالبينة هي: شاهدان عدلان قاما بالشهادة على وجهها بأنهما قد رأيا الهلال ليلة البارحة، وإذا لم ير الناس الهلال فأصبحوا مفطرين في يوم الثلاثين من شعبان، فجاءت البينة وشهدت عند القاضي أنها رأت الهلال ليلة البارحة، وأن هذا اليوم هو الأول من رمضان، فيأمر القاضي بالنداء في الناس أن يمسكوا.

    والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صوم هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) فإن هؤلاء الذين أفطروا إنما أفطروا في أول الأمر وهم يظنون أن الصوم غير واجب، بل على يقين بأنهم يفطرون، وكان الصيام تخييراً لا إلزاماً، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، قالوا: فيعذر أهل البلدة إذا لم يروا الهلال أول اليوم؛ لمكان عدم العلم، فإذا علموا وتحققوا فقد تبين أن هذا اليوم يجب عليهم صيامه، فعذروا بالفطر بأوله ولا يعذرون بالفطر في باقيه، فيلزمهم الإمساك بقية اليوم على ظاهر حديث معاوية رضي الله عنه.

    ثم يلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بالظن الذي بان أنه خطأ، فهم قد بنوا على غلبة الظن بأن شعبان كامل، ثم تبين أن هذا الظن خاطئ، وقد تحقق أن هذا اليوم من رمضان، فنعذرهم لأن الشيء إذا جاء لعذر يقدر بقدره.

    فجاز لهم أن يفطروا أول اليوم لأنهم معذورون بعدم العلم، فلما زال السبب الذي من أجله عذروا رجعوا إلى الأصل من كونهم مخاطبين بإتمام العدة، وعلى هذا قالوا: يلزمهم الصوم بقية اليوم، ويلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الله أوجب عليهم صيام رمضان كاملاً وقال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فهؤلاء مطالبون بصيام رمضان كاملاً، وهذا اليوم من رمضان ولا وجه لإسقاطه.

    وقال بعض العلماء: لا يجب عليهم قضاؤه، بل يمسكون بقية اليوم ولا يقضون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بقضاء يوم عاشوراء.

    وهذا مذهب مرجوح، والجمهور على أنهم يقضون، ووجه كونه مرجوحاً: أولاً: يجاب عن حديث معاوية من وجهين:

    الوجه الأول: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء ويحتمل أنه لم يأمرهم، والسكوت عن النقل لا يدل على عدم الوجوب كما هو معلوم في الأصول، وعلى هذا قالوا: إنه قد يكون سكت للعلم به بداهة بأنهم مطالبون بالقضاء.

    الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين استئناف التشريع وبين ثبوته، فقالوا: إن التشريع استؤنف في أثناء اليوم بخلاف بقية الأمة، فإنهم مطالبون بصيام الشهر كاملاً لأن التشريع موجود، وإنما سقط عنهم القضاء لأن التشريع استؤنف؛ ففرق بين كون التشريع مستأنفاً وبين كونه ثابتاً.

    فعلى هذا قالوا: إنه يجب عليهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الأصل أنهم مطالبون بصيام ثلاثين يوماً بخلاف أهل يوم عاشوراء، فإنهم لم يطالبوا به في الأصل، وعلى هذا فرق بين الإلزام بصيام اليوم إذا قامت البينة، وبين عدم ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء في حديث يوم عاشوراء.

    1.   

    وجوب القضاء على من نوى الصيام متردداً

    وقوله: [والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].

    معنى ذلك: أنه لو أصبح إنسان صائماً يوم الشك، ثم تبين أن هذا اليوم من رمضان، قالوا: يلزمه أن يقضي؛ لأنه صام يوم الشك على نية مترددة، والنية المترددة لا تسقط الجزم؛ فإن الإنسان إذا قال: يحتمل أنه من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، فأنا أصومه إن كان من رمضان ففرض، وإن كان من شعبان فنفل، فأصبحت نيته ليست بمتمحضة للفرض، وقد نوى النفل أثناءها؛ لأنه قال: إن كان من شعبان فنفل. فقد أدخل نية النفل عليه، ولا تصح نية الفريضة إلا متمحضة؛ فيلزمه القضاء.

    وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بالنية في الصوم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) كما هو حديث ميمونة ، وهو حديث صحيح، فلما ألزمنا بتبييت النية فكانت النية للفريضة فريضة، ولا تكون مترددة، وهذا قد نوى على التردد فلم تقع نيته وفق النية المعتبرة شرعاً، فألزمه الجمهور بقضاء هذا اليوم، وهذا معنى قول العلماء: يلزم القضاء للجميع.

    لكن لو أن إنساناً رأى الهلال وحده فأصبح ناوياً صيام رمضان، وقدم عليهم وهم مفطرون أول اليوم فأمسك، ثم ثبت بالبينة أنه من رمضان فإن صومه يجزيه، ولا يلزمه القضاء.

    1.   

    صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار

    وقوله: [وكذا حائض ونفساء طهرتا].

    أي: وكذا المرأة الحائض والمرأة النفساء، فإنها إذا طهرت أثناء يوم رمضان فإنه يلزمها إمساك بقية اليوم وقضاؤه، وذلك أن المرأة الحائض سقط عنها الصوم أثناء تلبسها بالعذر، والقاعدة في الشرع: أن ما جاز لعذر بطل بزواله.

    فمثلاً: جاز للإنسان أن يسأل الناس إذا أصابته حاجة، فإذا تبرع له الناس حتى سدت هذه الحاجة حرم عليه أن يسأل، لقوله عليه الصلاة والسلام : (حتى يمسك قواماً من عيش) فلما أمسك القوام من العيش رجع إلى الأصل من كون السؤال حرام عليه.

    قالوا: كذلك ما جاز لحاجة وعذر، فإنه قد جاز للمرأة الحائض والنفساء أن تفطر لمكان العذر وهو الحيض والنفاس، فإذا زال العذر وطهرت رجعت إلى الأصل من كونها مطالبة بالإمساك، فيجب عليها أن تمسك بقية اليوم، ثم بعد ذلك تقضي هذا اليوم.

    وهكذا المسافر إذا قدم من سفره، فإن الله قد أباح الفطر للمسافرين إذا كانوا على سفر؛ فإذا قدموا وزال عنهم وصف السفر بقوا على الأصل من كونهم مطالبين بالإمساك بقية اليوم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك بقية يوم عاشوراء.

    ولذلك فحكم المسافر والمرأة الحائض والنفساء حكم صيام يوم عاشوراء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للتفريق بالتعليل والنظر، ولذلك يُبقى على الأصل الذي دل عليه حديث يوم عاشوراء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو أقوى المذاهب وأعدلها، إضافة إلى أنه يرجع إلى الأصل، ويكون أقوى الأقوال في الفقه هو ما يشهد الأصل باعتباره.

    فالأصل أنه مطالب بالإمساك، وهذا شهر إمساك وصوم، ولذلك لا يفرق بين أجزاء النهار كاملة أو ناقصة، فإذا جاز أن يفطر أو يأكل في حالة معينة على صفة معينه، ثم زالت هذه الحالة والصفة؛ وجب عليه أن يرجع إلى الإمساك الذي هو أصل الشهر، فالشهر إنما سمي بشهر الإمساك لكون الصائم يمسك فيه، فإذا جاز له أن يأكل بسفر أو مرض، أو جاز للمرأة أن تأكل لحيض أو نفاس، ثم زال الحيض والنفاس والسفر والمرض؛ رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك.

    وقوله: [ومسافر قدم مفطراً].

    أي: وهكذا لو سافر إنسان وقدم من سفره أثناء اليوم؛ فإنه يلزمه أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه جاز له الفطر أثناء السفر: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فجعل المريض والمسافر معذوراً أثناء السفر والمرض؛ فإذا زال السفر وزال المرض رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك في هذا اليوم.

    1.   

    حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه

    وقوله: [ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكيناً].

    هذا النوع الثاني ممن يرخص له أن يفطر في شهر رمضان، وهو المريض الذي لا يرجى برؤه من المرض، والكبير أي: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم.

    فبالنسبة للمريض الذي لا يرجى برؤه كمن به فشل في الكلى، أو معه مرض مزمن لا يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب، فهذا يلزمه أن يطعم؛ فيعدل من الصوم إلى الإطعام، لقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] وفي قراءة: (وعلى الذين يطَيّقونه) وفي قراءة: (وعلى الذين يَطوّقونه) والمراد بهذه القراءة أنهم يجدون المشقة والعناء، ويتكلفون ما في طاقتهم ووسعهم للصوم، فهؤلاء أوجب الله عليهم أنه يطعموا المسكين؛ فيعدلون من الصيام إلى الإطعام، ولا يكون الصوم واجباً عليهم لا أداءً ولا قضاءً، فيسقط عنهم الصوم بالكلية.

    والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنه إذا أفطر لا يستطيع أن ينتقل إلى بدل، فالمرض معه والعذر مستديم معه، وهكذا الشيخ الهرم، فإنه يفطر ولا يلزمه أن يقضي، وإنما يعدل هذان النوعان إلى الفطر بدون قضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم الإطعام ولم يوجب عليهم الصيام لظاهر آية البقرة التي ذكرناها.

    وقوله: (أطعم لكل يوم مسكيناً): إطعام المساكين له صور:

    إن شاء في كل يوم أن يرتب طعامه ويعطيه للمسكين، وإن شاء جمع في آخر رمضان ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، أو مر على الثلاثين وأطعمهم دفعة واحدة؛ لكن لو أنه من بداية رمضان أخذ طعام الثلاثين وفرقه على ثلاثين ناوياً به الشهر كاملاً لم يجزه؛ لأنه لا يجب عليه الإطعام إلا بالإخلال، وذلك بفطره في اليوم، فلا يطعم إلا بعد فطره، ولذلك قالوا: لو أراد أن يطعم عن كل يوم فإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يفطر بعد طلوع الفجر، وحينئذٍ يكون متوجهاً عليه الخطاب بالإطعام، أما قبل الفطر فإنه لا يطعم ولو كان قبل تبين الفجر الصادق.

    وإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يتعين عليه حينئذٍ الإطعام، أما لو أطعم قبل فإنه يكون إطعامه حينئذ نافلة ولا يكون فريضة؛ لأن الله لم يوجب عليه الإطعام بعد، كما لو صلى قبل دخول الوقت، وبناء على ذلك قالوا: العبرة بوقت الصوم، فإذا دخل عليه وقت صوم هذا اليوم أطعم عن هذا اليوم، فلو أراد أن يقدم لم يصح ذلك منه، ووقع الإطعام نافلة لا فريضة.

    وأما لو أخر وأطعم عن ثلاثين يوم دفعة واحدة فيأتي على وجهين:

    إما أن يجمع طعام ثلاثين يوماً ويعطيه لمسكين واحد.

    وإما أن يجمع طعام الثلاثين ويفرقه على الثلاثين.

    فإن فرق طعام الثلاثين على الثلاثين أجزأه، فأما إطعام مسكين طعام ثلاثين يوماً فلا يجزيه إلا عن يوم واحد؛ لأن كل يوم يخاطب فيه بحسبه، فعلى هذا يجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً إذا كان الشهر كاملاً، وتسعة وعشرين مسكيناً إذا كان الشهر ناقصاً، والأولى والأحرى والأفضل أن يطعم كل يوم مسكيناً في يومه، لكن لو أخر إلى آخر رمضان فإنه يجزيه الإطعام، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟

    قال بعض العلماء: يأثم بالتأخير، ويصح إطعامه. وقال بعض العلماء: يجوز له التأخير، لكن القول بإثمه من الوجاهة والقوة بمكان، وبناءً على ذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756036841