إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما من عبادة إلا ولها صفة شرعية، بينها الله عز وجل أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه العبادات: العمرة، والعمرة من أجل الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وهي تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل. ويستحب للمسلم أن يكثر من العمرة إلى بيت الله الحرام، وذلك لما فيها من الأجر والثواب، كما جاءت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    بيان صفة العمرة وأحكامها وفضائلها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل]

    لقد شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة العمرة، والعمرة من أجلّ الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وكتاب المناسك يعتني فيه فقهاء الإسلام رحمهم الله ببيان أحكام الحج والعمرة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان مناسك الحج وصفة الحج إلى بيت الله الحرام، شرع في بيان مناسك العمرة وصفتها، وهذا يعتبره أهل العلم رحمهم الله من باب التدرج من الأعلى للأدنى، فقد بيّن رحمه الله الحج الأكبر وبيّن صفاته وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ثم شرع في بيان الحج الأصغر وهو العمرة.

    قوله: (وصفة العمرة) صفة الشيء حليته وما يتميز به عن غيره، والعبادات توقيفية، حيث أن المكلف فيها يتوقف على نص الشرع من الكتاب والسنة في كيفية أدائها والقيام بها على وجهها.

    فهو رحمه الله سيبين ما ينبغي على المعتمر أن يقوم به إذا أراد أن يؤدي هذا النسك، والعمرة أصلها في لغة العرب: الزيارة، وتطلق أيضاً بمعنى: القصد، ومن إطلاقها بمعنى الزيارة، قول العرب: جاءنا معتمراً، أي: جاءنا زائراً، وكذلك يقولون: اعتمر بمعنى قصد، ومن هنا قال أهل العلم رحمهم الله: إن العمرة في اصطلاح الشرع: القصد إلى بيت الله الحرام على الوجه المخصوص، والمراد بهذا الوجه المخصوص: أن يؤدي مناسك العمرة بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.

    1.   

    وقوع العمرة على سبيل اللزوم والنفل وصور الوجوب

    وهذه العبادة -أعني العمرة- تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل، فتكون واجبة على المكلف وتكون نفلاً تطوعاً من المسلم غير واجبة عليه، فأما وجوبها فيأتي على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يلزمه بها الشرع، وهذا إن توفرت الشروط المعتبرة ووجدت عند المكلف، وهذا القول -أعني: القول بوجوب العمرة- إنما هو على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على رجحان هذا القول، وأن الله فرض على المسلم أن يعتمر إلى بيته الحرام، كما فرض عليه الحج إلى بيته الحرام، وذكرنا هذا الخلاف، وذكرنا أدلة القولين وحجج الطائفتين، وأن الأقوى والأرجح هو القول: بوجوب العمرة، ولذلك وصفت بكونها حجاً أصغر؛ لقوله سبحانه وتعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، فجعل الحج منقسماً إلى حج أكبر وحج أصغر، وهي واجبة على المكلف بإيجاب الشرع مرة في العمر، كوجوب الحج، لكن هذا الوجوب يتقيد بشرائط، وقد تكلمنا على هذه الشرائط في مقدمة مناسك الحج، وذكرنا ما الذي ينبغي توفره من الشروط للحكم بوجوب الحج والعمرة.

    الصورة الثانية: أن يقوم المكلف بإلزام نفسه بها، وذلك إذا نذر بالعمرة إلى بيت الله الحرام فقال: لله عليَّ أن أعتمر في رمضان، أو لله عليَّ أن أعتمر هذا الأسبوع، فإنها تكون واجبة ولازمة عليه، ولكن هذا الإيجاب والإلزام إنما هو من نفسه وليس من الشرع.

    أما وقوعها على سبيل النفل ففي كل وقت، في أشهر الحج وغيرها، وكونها نافلة فهي طاعة وقربة من أجل الطاعات والقرب وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لاشتمالها على توحيد الله سبحانه، ونية التقرب له سبحانه وتعالى والإهلال بالتوحيد والتلبية، ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، مع اشتمالها على ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره، ولذلك وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في استحباب العمرة وفضلها، حتى صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهما بشرط اجتناب الكبائر، ومعنى ذلك أنها لا تبقي صغائر الذنوب، وهذه نعمة ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإن الصغائر وإن كانت ذنوباً يسيرة إلا أنها إذا اجتمعت ربما أهلكت العبد والعياذ بالله! والله عز وجل يتدارك عبده بلطفه حينما جعلها مكفرة لذنبه، فإن هذا التكفير وإن كان من صغائر الذنوب رحمة من الله سبحانه، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، وصححه غير واحد من العلماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى المتابعة بين الحج والعمرة فقال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة) ، فبيّن هذا الحديث فضل الاعتمار إلى بيت الله الحرام، واستحب السلف رحمهم الله هذه الطاعة وفضلوها.

    1.   

    تحقيق العمرة وحصول أجرها وفضلها على وجهين

    يكون الإنسان معتمراً على وجهين:

    الوجه الأول: أن يعتمر اعتماراً حقيقياً فينال هذا الفضل.

    والوجه الثاني: أن يكون في حكم المعتمر من جهة الثواب وحصول الفضيلة، فيكون معتمراً فضلاً لا حقيقة، بمعنى: أن الله يعطيه ثواب العمرة، وذلك بطاعات ورد الشرع بفضلها والترغيب فيها، ومن ذلك التطهر في البيت وإتيان مسجد قباء والصلاة فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه كان له كأجر عمرة) ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم جلس في مجلسه -وفي رواية: في مقعده- يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة)، فهذا الفضل من جهة التنزيل، أي: أنه ينال فضل الاعتمار والحج إلى بيت الله الحرام.

    1.   

    مشروعية تكرار العمرة في عام واحد على الصحيح

    هنا مسألة فقهية اختلف العلماء رحمهم الله فيها وهي: إذا كانت النصوص قد دلت على فضيلة الاعتمار إلى بيت الله الحرام وزيارته، فهل الأفضل أن يكرر المسلم ذلك الاعتمار، أو لا يكرره؟

    فقال جمهور العلماء: يستحب للمسلم أن يكثر ويكرر من الاعتمار بالبيت، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر والحديث، فقالوا: يستحب للمسلم أن يكثر من العمرة، وأنه لا بأس أن يعتمر أكثر من عمرة في عام واحد.

    وذهب بعض السلف، وهو قول الإمام مالك رحمه الله: إلى أنه لا يكرر العمرة في السنة أكثر من مرة، أي: أنه لا يشرع تكرار العمرة.

    واحتج الجمهور على مشروعية تكرار العمرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث على أن ما بين العمرتين يغفر بشرط ترك الكبيرة، ويفهم من الحديث الترغيب والندب للإكثار منها، فدل على الاستحباب ولم يرد ما يقيد ذلك بعام ولا غيره.

    أما الدليل الثاني الذي دل على مشروعية تكرار العمرة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة) قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التكرار، فإن المتابعة بين الحج قد يكون الإنسان في حجه متمتعاً، وقد يكون في حجه قارناً، وعلى هذا يتابع بين عمرة حجه وعمرة مستقلة.

    وكذلك أيضاً من أنسب الأدلة وألطفها، والتي استدل بها على مشروعية تكرار العمرة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأتي قباءً كل سبت) ، فكونه عليه الصلاة والسلام كان يأتي مسجد قباء كل سبت، إنما هو لفضيلة العمرة، فلما تكرر ذلك منه دل على ندب واستحباب تكرار العمرة.

    وقد جاء عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كرروا العمرة في العام الواحد، أثر ذلك عن أبي بكر الصديق ، وكذلك أثر عن بنته الصديقة عائشة رضي الله عن الجميع، وأثر عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا يعتمرون أكثر من عمرة في العام الواحد، وهذا هو القول الصحيح والأولى، خاصة وأن الأصل يدل على مشروعية ذلك.

    وقوى بعض العلماء هذا القول: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حجت معه أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين، وكان حجها تمتعاً، فلما أصابها الحيض قبل أن تتحلل من العمرة أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنقلب قارنة، فانقلبت قارنة لقوله عليه الصلاة والسلام في ختام حجها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) فحكم عليه الصلاة والسلام بأنها قد جمعت بين الحج والعمرة وذلك بالقران، ومع كونها قد جاءت بحج وعمرة قراناً فإنها أصرت على أن تعتمر، فأذن لها أن تعتمر من الحل فاعتمرت من التنعيم رضي الله عنها وأرضاها، وهذا بلا إشكال تكرار للعمرة بعد العمرة، فدلت هذه النصوص على مشروعية التكرار، خاصة وأن الشرع لم يقيد ذلك بحد كما لا يخفى.

    1.   

    أقسام صفة العمرة وحكم كل قسم

    صفة العمرة تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: صفة الإجزاء: وهذه الصفة هي التي يبين فيها أركان العمرة وواجباتها، بمعنى: أنه يجب على المكلف أن يوقع عمرته على هذه الصفة، ولا تجزيه عمرته إلا إذا وقعت على هذا الوجه المخصوص، الذي دلت النصوص الشرعية على لزومها.

    القسم الثاني من صفات العمرة: صفة الكمال:وهي الصفة التي يعتنى فيها ببيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكامل، فتذكر فيها الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، فهذه الصفة الثانية فيها ما هو لازم على المكلف أن يأتي به: كالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، الذي هو التحلل، وابتداء النسك بالإحرام، ومنها ما ليس بلازم ولا واجب عليه، وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب: كالأذكار المستحبة، وكيفما كان فأهل العلم رحمهم الله برحمته الواسعة يعتنون في كتبهم ببيان الصفتين.

    1.   

    حكم الإحرام للعمرة الواجبة والمستحبة ومكان الإحرام

    قوله: (أن يحرم بها) أي: بالعمرة، فإن كانت واجبة عليه أحرم ناوياً إبراء ذمته من الفرض، وإن كانت نذراً نواها نذراً، وإن كانت نافلة نواها نافلة، وإن كانت عن غيره أحرم بها عن ذلك الشخص.

    قوله: (من الميقات) أي: ميقاته الذي أوجب الله عليه أن يحرم منه، وقد تقدم معنا في أول كتاب المناسك بيان المواقيت التي وردت في حديثي الصحابيين الجليلين عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع وأرضاهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حدود المواقيت، فهو بقوله: (أن يحرم بها من ميقاته) أي: أن العمرة كالحج، فكما أنه في الحج يلزم بالإحرام من الميقات، كذلك في العمرة يحرم من ميقاته، فإن كان دون الميقات فإنه يحرم بها من حيث أنشأ، حتى وإن كان قريباً من حدود الحرم وليس بينه وبين الحرم إلا اليسير، فإنه يحرم من موضعه، وهكذا لو دخل دون المواقيت ثم طرأت عليه العمرة، فإنه من حيث طرأت عليه وأنشأ العمرة يحرم وذلك ميقاته.

    أقسام الناس في المواقيت والإحرام

    قوله: (أو من أدنى الحل) الناس ينقسمون إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يكونوا خارجين عن المواقيت، فهؤلاء يتقيدون بالمواقيت إن دخلوا مارين بها ناوين العمرة، فيحرمون منها كما تقدم.

    القسم الثاني: أن يكونوا دون المواقيت، وهؤلاء ينقسمون أيضاً إلى قسمين:

    القسم الأول: منهم من هو دون الميقات خارج حدود الحرم، فهؤلاء يحرمون من مواضعهم كأهل عسفان وقديد، وهكذا أهل اليتمة فإنهم دون ميقات المدينة فيحرمون من اليتمة، وهكذا أهل المهد يحرمون من المهد؛ لأنهم دون ميقات المدينة ولا يؤخرون لمحاذاة ميقات الجحفة؛ لأن ميقات الجحفة للساحل، وهكذا بالنسبة لمن كان بعسفان وقديد يحرمون من عسفان وقديد؛ لأنهم دون ميقات المدينة، فإذا بلغوا إلى قديد، فإن من جاوز قديد يكون قد تداخل الميقاتان في حقه، فيصبح دون ميقات المدينة ودون ميقات الجحفة فيحرم من موضعه.

    القسم الثاني: هم أهل مكة ومن كان قد طرأت عليه العمرة وهو داخل حدود الحرم، فهؤلاء ميقاتهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن من أهل المواقيت حينما طرأت عليها العمرة؛ لأن العمرة -كما ورد النص- إنما طرأت عليها بمكة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟! فقال عليه الصلاة والسلام: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك، فأبت)، فحينئذٍ تأمل قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيرجع الناس بحج وعمرة) معناه: أنها تريد العمرة وخاطبته داخل حدود الحرم، فلما وقع خطابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم داخل حدود الحرم، فإنها حينئذٍ تكون في حكم أهل مكة، فلما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أدنى الحل، دل على أن المكي ينشئ العمرة من أدنى الحل، وهذا واضح وظاهر، وعلى هذا قالوا: إن المكي إذا أنشأ العمرة فإنه ينشئها من أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها لما أنشأت عمرتها داخل مكة أخذت حكم أهل مكة بالإجماع، فدل على أن ميقات المكي أن يحرم من أدنى الحل لكي يجمع بين الحل والحرم.

    قوله: [من مكي ونحوه لا من الحرم].

    هذا من باب التنويع، فقال: من ميقاته، أو من موضعه، أو من أدنى الحل، فجمع الأحوال الثلاثة للطوائف الثلاث: من كان آفاقياً، ومن كان بين المواقيت والحرم، ومن كان داخل الحرم وطرأت له عمرته داخل الحرم.

    إجزاء الإحرام لمن بمكة من التنعيم وغيره

    وليس الحكم متوقفاً على التنعيم، قالت أم المؤمنين : (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره) ، فلو أن إنساناً من أهل مكة أراد أن يحرم بالعمرة -أو آفاقياً جاء إلى مكة وأنشأ العمرة- فإنه يجزيه أن يصيب أدنى الحل، فلو خرج إلى عرفات أو أدنى الحل من جهة اليمن أو من جهة جدة التي هي الحديبية، فحينئذٍ لو خرج إلى أدنى الحل ولو خطوة واحدة وأحرم منه، وجمع بين الحل والحرم لصح وأجزأ، قال العلماء: لله الحكمة البالغة، فإن الناس إذا حجوا والمكي معهم، فإن المكي في حجه يجمع بين الحل والحرم، وذلك أنه يخرج إلى عرفات، ولا يصح حجه إلا بالخروج إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم، فهو في حجه يجمع بين الحل والحرم، ولكنه في عمرته لا يبقى داخل الحرم وإنما يؤمر بالخروج؛ لأن العمرة كالحج، ومن هنا قال تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، فهناك تداخل بين العبادتين، فقالوا: إنه يجمع بين الحل والحرم كما جمع في حجه بين الحل والحرم.

    فقد كانت قريش وأهل الشرك في الجاهلية يرون أن أهل مكة لا يخرجون عن حدود الحرم، فكان فعله عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع إلغاء لهذا الأمر، الذي أحدثته قريش وأحدثه الحمس، حينما كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، ولا يخرجون من حدود الحرم، وهو الذي عناه الله بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] ، وعلى هذا قالوا: إنه في العمرة يجمع بين الحل والحرم كما يجمع في حجه بين الحل والحرم.

    1.   

    الأعمال التي يأتيها المعتمر قبل التحلل

    [فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر: حل]

    أي: إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة عن عمرته، وحلق أو قصر فقد حل من عمرته. وهناك أمور لازمة بالنسبة للعمرة:

    الأمر الأول: يحرم للعمرة، ولذلك عده جمع من العلماء ركناً من أركان العمرة، وقال بعض العلماء: الإحرام من الواجبات وليس من الأركان، وقد تقدم معنا هذا الخلاف.

    الأمر الثاني: أن يطوف بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة زيارة البيت، ومن هنا كره بعض السلف لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأن الأفضل لهم بدل أن يخرجوا إلى الحل أن يطوفوا بالبيت، والزيارة إنما هي للآفاقي، ولمن هو خارج حدود مكة، بخلاف المكي فإنه يتمكن من الطواف، ومن هنا شدد ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه في هذا، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. وعليه فإن العمرة يلزم لها الطواف، وهذا الطواف يعتبر بقصد الزيارة إلى البيت وبه تتحقق زيارة البيت.

    الأمر الثالث: أن يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان العمرة كما سيأتي إن شاء الله.

    الأمر الرابع: أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل من عمرته. هذه الأمور كلها لازمة، ولم يفصل رحمه الله في صفة الطواف ولا في صفة السعي، ولم يبين ذلك؛ لأنه سبق وأن بيّن صفة الطواف الكاملة في الحج، وعلى هذا اكتفى في العمرة بالإجمال فقال: يطوف، ثم يسعى، ثم يحلق أو يقصر، وقد بسط ذلك وبينه وبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف، وفي السعي بين الصفا والمروة، وكذلك في بيان أحكام الحلق والتقصير.

    1.   

    جواز العمرة في كل وقت عدا أيام التشريق للحاج

    [وتباح كل وقت وتجزئ عن الفرض]

    وتباح العمرة كل وقت؛ وذلك لأن الأصل الشرعي أن ما ورد مطلقاً في الشرع يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، ولم يرد في الكتاب والسنة تقييد العمرة بزمان معين، لكن وردت النصوص بتفضيل بعض الأزمنة على بعض، فالعمرة في رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عمرة في رمضان كحجة معي)، فأفضل أوقات العمرة رمضان، قال بعض العلماء: ويلتحق برمضان عشر ذي الحجة، فإن الاعتمار بها فيه فضيلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك) قالوا: فهذا نص صحيح صريح يدل دلالة واضحة على فضيلة العمل الصالح، والعمرة من الأعمال الصالحة.

    وقال بعض العلماء: إن العمرة في أشهر الحج لها فضيلة، حتى لو لم يحج؛ والسبب في ذلك أن أكثر عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في أشهر الحج، وقد تكلم الإمام ابن القيم كعادته كلاماً نفيساً في الهدي النبوي، وذكر أن غالب عمره عليه الصلاة والسلام كانت في ذي القعدة وفي أشهر الحج، وأن ذلك من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فإيقاع العمرة في أشهر الحج له فضيلة أيضاً، ومن هنا قال بعض العلماء بتفضيل التمتع لوجود هذه العمرة فيه؛ لأن المتمتع يأتي بعمرة في أشهر الحج، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه إيقاع عمره في أشهر الحج في غالب أحواله.

    وكره بعض العلماء إيقاع العمرة في أيام التشريق، وهذا بالنسبة للحاج، وهو وجيه؛ والسبب في ذلك أنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا ينبغي عليه البقاء في نسك الحج حتى يتمه، فإذا أتم حجه فحينئذٍ يتفرغ لغيره من المناسك، أما أن يأتي بعمرة قبل أن يتم حجه في أيام التشريق، فهذا شدد فيه طائفة من العلماء، ونصوا على كراهيته؛ وذلك لمخالفته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإدخاله العبادة على العبادة، وهذا الوقت مما استثناه أهل العلم رحمهم الله من الأزمنة التي تؤدي فيها العمرة، وأما سائر أوقات العام فإنه يجوز إيقاع العمرة فيها، سواء وقعت بالليل أو وقعت بالنهار، وكانوا يستحبون إيقاع العمرة للنساء في الليل؛ لمكان الستر، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن تطوف بالبيت انتظرت إلى الليل، ثم أمرت القائمين على المسجد أن يخفضوا من أنوار المسجد وشموعه، ثم تطوف رضي الله عنها وأرضاها طلباً للستر، لذلك قال بعض العلماء: الاعتمار والطواف للنساء في الليل إذا كان أستر لهن فهو أفضل وأكمل؛ لما فيه من البعد عن فتنتهن، وكذلك افتتان غيرهن بالنظر إليهن.

    تأدية العمرة في أي وقت تجزئ عن الواجب

    قوله: (وتجزئ عن الفرض).

    أي: أنه لو أوقع عمرته في أي وقت من العام، فقد برئت ذمته إذا كان لم يعتمر، وتجزئ تلك العمرة عن عمرته الواجبة، وتسقط عنه فريضة العمرة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من اعتمر ولم ينو بعمرته الفريضة

    السؤال: ذكرتم حفظكم الله! في كلامكم: أن المريد للعمرة ينوي في عمرته فرضاً أو نفلاً، وقد اعتمرت كثيراً إلا أنني لا أذكر أنني نويت بعمرة الفريضة، فهل عليَّ أن أقوم بعمرة غيرها، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فمن نوى العمرة ولم يكن قد اعتمر من قبل فإنها تنقلب عمرته إلى الفريضة، هذا إذا توفرت فيه شروط الوجوب، وهكذا لو نوى عن غيره مع أنه لم يعتمر عن نفسه وتوفرت فيه شرائط الوجوب، انقلبت عمرته إلى نفسه، وهكذا لو كان عليه نذر ثم نوى النافلة فإنهم يقولون بانقلاب النافلة إلى النذر، على أحد قولي العلماء، وفيه نظر لا يخفى.

    فالمقصود: أنك حينما اعتمرت أول ما اعتمرت، فحينئذٍ تكون العمرة الأولى منصرفة إلى الفرض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، فأوقع الفعل من ذلك المكلف عن الفرض اللازم له في حق نفسه، وعلى هذا قالوا: إنه تنقلب عمرته إلى الفرض، ويصبح في هذه الحالة قد أدى فريضته بأول عمرة. والله تعالى أعلم.

    أقوال العلماء في المتابعة بين العمرة والعمرة

    السؤال: هل هناك وقت محدد يكون فيه المتابعة بين العمرة والعمرة، أم أنه لا تحديد لذلك؟

    الجواب: ليس هناك نص يحدد ما بين العمرة إلى العمرة، وقال بعض العلماء: الفصل بينهما نبات الشعر، فإذا كان الإنسان ينبت شعره في زمان يفصل به بين عمرته الأولى والثانية فإنه يأتي بالعمرة بعد، وكان بعض العلماء يقول: أن يكون له في كل شهر عمرة إذا تيسر له ذلك، وقد جاء ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لمن كان قريباً من البيت ولا يشق عليه إن فعل ذلك، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: أستحب له أن يعتمر في كل شهر مرة؛ لأن الشعر غالباً ينبت خلال الشهر. وأثر عن علي رضي الله عنه قريب من هذا، واعتمر الصحابة رضوان الله عليهم، وورد عن بعضهم أنهم كانوا يعتمرون في السنة مرتين كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك عبد الله بن عمر أثر عنه أنه كان يعتمر في السنة مرتين، وهذا الأمر ليس فيه تقييد معين، لكن ضبطه بنبات الشعر له وجهه، وهذا الضابط له علته التي لا تخفى لمكان التحلل.

    مشروعية طواف الوداع لمن حج من أهل مكة ثم أراد الخروج منها

    السؤال: المكي إذا أراد السفر بعد الحج مباشرة، هل يجب عليه أن يودع البيت، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟

    الجواب: قال جمع من العلماء: إن المكي إذا أراد أن يصدر وكانت له حاجة بعد الحج، فإنه لا ينفر حتى يطوف بالبيت؛ لأنه يكون في حكم الآفاقي، خاصة إذا كانت له تجارة أو كان له موضع ثانٍ، كأن تكون له تجارة بالمدينة أو تكون له مزرعة أو وظيفة في بلد غير مكة، فإنه يطوف عند صدوره بعد الحج مباشرة، فإذا صدر بعد الحج مباشرة أو بعد الحج بشهر أو شهرين أو ثلاثة، فعليه أن يطوف بالبيت لوداعه. والله تعالى أعلم.

    جواز التحلل من الحج أو العمرة بالحلق قبل ذبح الأضحية

    السؤال: إذا أخّر الإنسان الأضحية في اليوم الثالث عشر، فهل يحلق رأسه بعد رمي العقبة، أفيدونا أثابكم الله؟

    الجواب: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره) ، فدل هذا على أنه يمتنع من مس الشعر حتى يذبح أو ينحر أضحيته، لكنه إذا أراد أن يتحلل من حجه وحلق أو قصر فإنه مستثنىً من هذا الأصل، وكذلك لو اعتمر في داخل العشر، فاعتمر في اليوم الأول من العشر أو اعتمر في اليوم الثاني أو اعتمر في اليوم الثالث فهذا متعلق بالنسك، والتحلل من النسك من واجباته الحلق أو التقصير، فأنت إذا أتيت بالعمرة في خلال العشر أو أردت أن تتحلل من حجك في العشر أو في اليوم الحادي عشر ولم تضح فإن هذا يعتبر مستثنىً ولا تعارض بين الأمرين؛ لأنك هنا تؤدي نسكاً لموضع مخصوص بعبادة مخصوصة، فيجوز لك أن تقوم حينئذٍ بالتحلل من العمرة والتحلل من الحج؛ لأنه واجب عليك وفرض، وحينئذٍ لا يعتبر منهياً إذا تحلل في اليوم العاشر من حجه أو الحادي عشر وأخر أضحيته إلى الثالث عشر. والله تعالى أعلم.

    وجوب الفدية على من حلق بصابون فيه طيب وهو راضٍ

    السؤال: المحرم لا يمس الطيب، فإذا أراد أن يحلق شعره فكثير من الحلاقين يضع على الشعر صابوناً معطراً أو نحو ذلك، فما رأيكم، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا كان الحلاق يعلم بهذا ووضعه فإن على الحلاق الفدية، وإن سكت المحلوق ورضي فإنها تكون على المحلوق، وإن أمره أن ينزعها مباشرة، يعني: ينزع الصابون فإنه حينئذٍ لا فدية عليه، ولا يجوز له إذا أراد أن يحلق شعر رأسه أن يضع الصابون المطيب، وإنما يضع صابون الزيت أو نحوه، أو يضع الماء مجرداً من الصابون ثم يحلق، أما لو وجد في مادة الحلاقة بما يبل به الشعر ويندى به جلد الرأس أي طيب كان، فإنه متلبس بالنسك حتى يحلق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) ، قال الله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] ، فلا يكون الإنسان متحللاً من النسك إلا إذا كان قد حلق وفرغ، فعلى هذا لو وقع الطيب في رأسه قبل أن يحلق أو أثناء الحلاقة أو تمهيداً للحلاقة، فما دام أنه لم يقع منه التحلل المعتبر فإنه يلزمه الفدية.

    والعلماء رحمهم الله يقولون: إذا وضع المحظور من شخص على المحرم، والواضع يعلم أنه محرم فتكون الفدية والكفارة على من وضع، وأما إذا أذن المحرم فإنها تكون على المحرم؛ لأن الأصل وجوبها على المحرم، ولكنها صارت على غيره بالاعتداء، ولذلك قالوا: لو حلق إنسان لمحرم قبل التحلل دون أن يعلم المحرم، لزم الحلاق أن يفتدي فدية الحلق، وأما إذا أذن له المحرم فإنه حينئذٍ تكون الفدية على الآذن؛ لأن الإذن بالشيء فعل له، وعلى هذا فإن المحرم إذا علم بأن الصابون مطيب ومكنه من ذلك وأذن له أو سكت فعليه الفدية، وأما إذا لم يعلم إلا بعد الحلق، فحينئذٍ تكون الفدية على الحلاق ولا شيء على المحلوق. والله تعالى أعلم.

    جواز التوكيل بالرمي لمن عجز عنه

    السؤال: العاجز والشيخ الكبير هل الأفضل في حقه أن يؤجل الرمي، أو يجمع الرمي إلى اليوم الثالث عشر إلى أن يخف الزحام فيرمي بنفسه، أفيدونا أثابكم الله؟

    الجواب: من كان عاجزاً ويغلب على الظن أنه يهلك بدخوله للرمي، كمن كان مريضاً بالقلب، أو كبير سن من الحطمة، أو كانت به عملية جراحية في مواضع حساسة، في ظهره أو في قدمه أو في صدره، ويغلب على ظنه أنه لو دخل في الزحام سيتضرر، أو أنه يعاق، وربما يقتل بسبب ركوب الناس بعضهم لبعض، فهذه الأعذار وشبهها توجب له أن يترخص بتوكيل غيره ليرمي عنه، ويشترط في هذا الوكيل أن يكون من الحجاج، فلو وكل حلالاً لم يصح الرمي، وإنما يوكل حاجاً، وعلى هذا يرمي الوكيل عن نفسه أولاً، ثم إذا أتم الرمي رمى عن غيره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) ، فإذا وقع التوكيل على هذا الوجه فإنه يجزيه. والله تعالى أعلم.

    وجوب طواف الوداع لمن طاف للإفاضة بغير نية الوداع

    السؤال: إذا أخرت طواف الإفاضة ثم سعيت بعده، فهل يلزمني أن أودع البيت بعد ذلك، أم أكتفي بطواف الإفاضة، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا طفت طواف الإفاضة فلا تخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون قد نويت طواف الإفاضة مجرداً فيلزمك بعد السعي أن ترجع لطواف الوداع؛ لأنك لم تنو الوداع، والواجب لا يقع إبراءً للذمة إلا بنية، فيلزمك أن ترجع إذا لم تنو؛ لأنك قلت: إذا طفت للإفاضة ولم تقل: إذا طفت للإفاضة بنية الوداع.

    الحالة الثانية: أن تطوف للإفاضة بنية الوداع، فإن طفت للإفاضة بنية الوداع، فبعض العلماء يرى: أن السعي بعد الطواف مغتفر، ولذلك قال من قال بوجوب طوف الوداع في العمرة: إنه إذا طاف وسعى ومضى مباشرة لا يجب عليه طواف الوداع.

    والذي يظهر والله أعلم أنه يحتاط بإعادة الطواف؛ لأنه أسلم؛ ولأن النص نص على إيقاع الطواف في آخر العبادة، ولذلك لو طاف ثم رجع ورمى ثم صدر لزمه أن يرجع ثانية؛ لأن أصل مشروعية طواف الوداع أن يكون آخر العبادات، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) قال بعض العلماء: يصدرون من المناسك، أي: بعد أن يفرغوا من المناسك يمضون إلى ديارهم، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف، فهذا لا إشكال في أن المراد به أن يوقع طواف الوداع آخر العبادة، والذي تطمئن إليه النفس: أن من سعى بعد طواف الإفاضة الأحوط له والأكمل أن يرجع إلى البيت ويعيد طوافه، والله عز وجل معظم له الأجر، والحج جهاد ومشقة، وهذا من مشقة الحج وجهاده، والأصل اللزوم. والله تعالى أعلم.

    اختصاص الإطعام والهدي من الحاج بمساكين الحرم

    السؤال: قال المصنف رحمه الله: (وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم) فلو ذبح المتمتع هديه وتركه مكانه، فهل يجزيه؟

    الجواب: نعم، كل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم؛ وذلك لقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، فالهدي الواجب على المكلف كما في حال قتل الصيد، فإنه يجب ذبحه بمكة وإطعامه لمساكين الحرم، وأن يكون مثلياً، أي: يقدر مثل بهيمة الأنعام، ولا يكون إلا بمكة، وإذا ذبح بمكة كان لمساكين الحرم، فحينئذٍ يلزم في الهدي أمران:

    الأول: أن يكون الذبح بمكة.

    الثاني: أن يكون مختصاً بمساكين الحرم؛ لأن الله عز وجل فضل مكة وفضل أهلها بالأمن وكذلك الإطعام، فقال تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4] ، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57] فجعل الله لهذا البيت حرمة، ولأهله وسكانه مزية وفضلاً على غيرهم، ففيهم العاكف وفيهم العابد وفيهم من يرجو رحمة الله في هذا الجوار الطيب، فكأن ذلك من الإعانة له على الخير والطاعة والبر، حيث فرغ نفسه من أمور دنياه، فجعل الهدي والإطعام لمساكين الحرم طعمة خاصة.

    فلو ذبحه ومكن غيره ليوصله برئت ذمته، أما أن يذبح الهدي ويتركه حتى يضيع كما يفعل بعض الناس فيقوم ويذبح ولا يبالي بذبيحته ويتركها لكي تطأها الأقدام وتعفن وترمى، فهذا لا شك أنه ليس من شرع الله عز وجل في شيء، فإن الله لا يرضى بالإسراف ولا يرضى بإضاعة المال، وقد كره لعباده القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، فهذا من إضاعة المال، فإذا كنت تعلم أنك إذا نحرت أو ذبحت هذا الهدي أنه يفتقر إلى حمل وإلى توزيع للفقراء والضعفاء، فإنك تحمله وتوزعه للضعفاء والفقراء، أو تستعين بعد الله عز وجل بمن يعينك على إبراء الذمة على هذا الوجه المعتبر. والله تعالى أعلم.

    عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان

    السؤال: ما الحكم إذا ذهبت إلى مسجد قباء وصليت فيه ركعتين بعد الأذان ثم خرجت لأدرك الفرض في الحرم النبوي أيجوز ذلك، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟

    الجواب: إذا أذن المؤذن فإنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان، وإنما يحتاط الإنسان للخروج قبل الأذان، أما إذا أذن المؤذن فلا يجوز الخروج، ولو كان الإنسان يلتمس ما هو أفضل كمسجد مكة أو مسجد المدينة فإنه لا يجوز له أن يخرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه لما رأى الرجل يخرج بعد الأذان: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم). وإنما يجوز الخروج بعد الأذان في حالة واحدة، وهي أن يكون الإنسان معذوراً بانتقاض وضوئه، فإذا خرج بعد الأذان فإنه يضع كفه على أنفه كمن أصابه الرعاف حتى يدفع عن نفسه التهمة والشبهة، وقال العلماء رحمهم الله: إن هذا مقصود من الشرع وهو حصول جماعة المسلمين؛ لأن المساجد إذا أذن فيها فإنه يدعى الناس إلى إقامة فريضة الله وأداء هذه الصلاة، فإذا كان الإنسان على هذا الوجه قد أذن عليه المؤذن وخرج، فإنه يوقع نفسه في الشبهة، وليس كل الناس يعلم عذره.

    فالمسلم إذا أذن عليه المؤذن في مسجد قباء أو غيره من المساجد، وأراد أن يخرج بعد الأذان فإنه لا يجوز له هذا الخروج.

    وجماهير العلماء رحمهم الله قد نصوا على ذلك؛ لصحة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج بعد الأذان.

    وعلى هذا فإنه ينبغي للمسلم أن يحتاط، ولو كان الإنسان مرتبطاً بإمامة، فإنه إذا أذن عليه المؤذن لا يخرج من المسجد؛ لأن هذا يعتبر لازماً عليه وفرضاً عليه ولو ازدحم الفرضان، كونه يصلي بالناس وكونه مرتبطاً بالصلاة في هذا الموضع، فإن صلاته بالناس يقوم غيره مقامه، وأما هذا الموضع فقد تعين عليه أن يصلي مع جماعته ولا يقوم غيره مقامه، فلزمه أن يبقى لمقصود الشرع درءاً لفتنة الخروج من المسجد، وحتى لا يفتح باب التفرق عن الجماعة، وهو أصل قررته السنة في أكثر من مسألة من هذا الباب كنهيه عليه الصلاة والسلام من صلى فرضه أن يجلس في المسجد الثاني ولا يعيد الفرض إذا حضرت الفريضة مع الجماعة الثانية فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، وعلى هذا فإنه لا يجوز الخروج لا لمساجد أفضل ولا غيره، وإنما يجوز الخروج في حالة واحدة وهي وجود العذر لانتقاض الطهارة. والله تعالى أعلم.

    عدم سقوط طواف الوداع عن غير أهل مكة

    السؤال: على قول من يقول: إن حاضري المسجد الحرام هم من كانوا دون مسافة القصر، ولم يكونوا داخل حدود الحرم فهل يلزمهم طواف الوداع أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟

    الجواب: طواف الوداع لا يتقيد بحاضري المسجد الحرام، وإنما يسقط عن أهل مكة فقط، وهم الذين داخل حدود الحرم، وأما من كان خارج حدود الحرم فإنه يدخل في عموم قول أم المؤمنين عائشة : (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات -فهؤلاء يصدرون إلى أماكنهم التي هي خارج الحرم- فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وعليه فإنه يطوف بالبيت سواء كان دون مسافة القصر أو فوقها؛ لعموم الخبر في ذلك، والله تعالى أعلم.

    حكم استعمال حبوب منع الحمل خوف النفقة

    السؤال: ما حكم استعمال حبوب منع الحمل إذا تضرر الزوج من كثرة الإنفاق على الأولاد ونحوه، أفيدونا بارك الله فيكم؟

    الجواب: لا حول ولا قوه إلا بالله، سبحان الله! الله المستعان! إذا تضرر من كثرة الإنفاق، الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق عباده: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] ، والله سبحانه وتعالى أمرك أن تأخذ بالأسباب، وأن تحسن الظن بالله عز وجل، وما يدريك أن هذا الولد قد يكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، وقد يفتح الله لك به أبواب الرزق، فإن حليمة لما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى الله عليها من الخير ما الله به عليم، فإن الإنسان قد يرى المولود ولا يعبأ به ويجعله الله له خيراً في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لا يجوز للإنسان أن يسيء الظن بالله عز وجل في كثرة الولد، والله عز وجل أمرنا بأخذ الأسباب بأن ننفق على أولادنا وذرياتنا غاية ما نستطيع.

    أما أن نتعاطى الأسباب لمنع الحمل خوفاً من كثرة الولد، وضيعتهم، وخوفاً من كثرة الإنفاق، فهذا بإجماع العلماء مقصد محرم، ويعتبر الإنسان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، وهي عقيدة أهل الجاهلية لما قتلوا الولد: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31] ، فالله عز وجل عتب عليهم أنهم قتلوا أولادهم خشية الإملاق والفقر.

    فينبغي للمسلم أن يحسن الظن بالله، وأجمع أهل العلم رحمهم الله: على أنه لا يجوز له أن يعزل عن زوجته إذا جامعها خشية من كثرة الولد من جهة النفقة، فإن فعل ذلك فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.

    أما أن يقول: إن كثرة الولد ترهق الأم، فهذا فيه الخلاف المشهور، والصحيح: أنه لا يجوز تعاطي حبوب منع الحمل بسبب كثرة الولد خوفاً من الإنفاق عليهم، ولا كثرة الولد بسبب تعب رعايتهم؛ لأن الله عز وجل جعل الولد كرهاً على أمه؛ لكي يرفع من درجاتها، ويكفر من خطيئاتها، ويعظم لها الأجر، وسبحان الله العظيم! كانت المرأة وهي ترعى غنمها في البرية حاملة لولدها في بطنها لا تأخذ حبوب منع للحمل، وإنما تحمل السنة تلو السنة وهي في عافية ومعونة وتيسير من الله، لا تشتكي، وقد تأتي بالعشرة من الأولاد، وقد تأتي بالعشرين ويبارك الله فيها، ومع ذلك لا تجد إلا الخير؛ لأن عقيدتها بالله حسنة، ولكن ما أن تسيء المرأة ظنها بالله إلا أساءها الله بسوء ظنها: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] ، فحين تغيّر الناس عظم البلاء واشتد البأس؛ وذلك بسبب سوء الظن بالله جل جلاله.

    كان الناس إلى عهد قريب يحبون كثرة الولد ويفرحون بذلك، وهم في أشد ما يكونون من الفقر، وكان الرجل يصبح فيطعم الطعام ويمسي ولا يجد طعاماً، وكان يمسي ويطعم فيصبح على غير طعام، والله تكفل بالأرزاق وعاش الناس في شدة الفقر، وإذا سألت عن القرابة وعن الأهل فتجد الرجل منهم عنده ومن الذرية من الأولاد والبنات الكثير، وما ضاقت الأرض بأهلها ولا ساءت ظنونهم بربهم جل جلاله، ولكن ما إن تغيّرت القلوب، وضعف الاعتقاد بالله جل جلاله، إلا أخذ الله الناس بنياتهم وحاسبهم بمقاصدهم، فإن هذه المقاصد شك في عظمة الله جل جلاله، وشك في قدرته سبحانه وتعالى، ولا يجوز للمسلم أن يسيء ظنه بالله، فالله عند حسن ظن عبده به.

    يا هذا! إن الله هو الذي أطعمك، وهو الذي كساك، وهو الذي رزقك، ولئن كنت تعلم أنك بهذا الفعل ترحم ولدك، فالله أرحم بك من رحمتك لنفسك، وبولدك من رحمتك به، فالله أرحم الراحمين.

    فلا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأنها من سوء الظن بالله، وهي مساس بعقيدته وإيمانه بالله، فلا خير له لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسلامة إيمانه وصلاح معتقده، فهذه أمور عظيمة والله تعالى يقول: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] فهو خير من رزق، وخير من أعطى، وخير من كسا، وخير من أطعم وهو يُطعِم ولا يُطعَم، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم -اللهم اهدنا- يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم -اللهم أطعمنا- يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم -اللهم اكسنا-) نسأل الله من واسع فضله وواسع رحمته، والله تعالى بعزته وجلاله أصدق قيلاً وأصدق حديثاً، وما وعد سبحانه وأخلف، فقال لك وهو أصدق القائلين: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)، فإذا كان الله جل جلاله يقول ذلك وهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويعد سبحانه ولا يخلف، وهو أوفى من وفى بعهده سبحانه وتعالى يقول: (استطعموني أطعمكم) فمن أي شيء تخاف؟!! ومن أنت أيها الضعيف؟! فلو صُبَّت في حجرك الألوف والمئات والله لا تستطيع أن تطعم نفسك، فضلاً عن أن تطعم غيرك، إذا لم يطعمك الله.

    ولقد حدثني من أثق به من أهل العلم والفضل قال: دخلت على ثري من الأثرياء وعظيم من العظماء، والله أعظم من كل شيء، قال: دخلت عليه عشية ذات يوم في شفاعة، وما كان معي إلا رجل من أهل الفضل، فلما جلسنا على العشاء مد طعاماً يكفي عشرين رجلاً، وليس على المائدة إلا أنا وهو وهذا الرجل، قال: فلما وُضِعَ الطعام ورأيت هذا السماط وما عليه من الأطعمة عجبت، فما من نوع من الطعام إلا وهو موجود فيه، قال: فلما أراد أن يجلس معنا إذا به يؤتى له بكرسي فجلس على ذلك الكرسي، ويؤتى له بصحن صغير يحمله على كفه، قال: فنظرت فإذا به لا يطعم إلا من هذا النوع من الطعام، فقلت: لا إله إلا الله! غني ثري والله عز وجل أعطاه من المال إلا أنه لم يستطع أن يمد يده إلى هذا الطعام المختلف الأنواع والمختلف الأشكال؛ لأن الله لا يريد أن يطعمه.

    الله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم، فلماذا يخاف الإنسان على أهله وولده؟!! توكل على الله، وأحسن الظن بالله، وفوض الأمور إلى الله: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] ، فالله جل جلاله بصير بك وبصير بأهلك وولدك.

    فلا يجوز للرجل أن يعين امرأته على قطع الذرية أو منع الذرية أو تأخر الذرية؛ خوفاً من كثرة الإنفاق، أو يقول: إن راتبه لا يكفي، أو أن نفقته ستكون كبيرة، كل ذلك لا يجوز للمسلم، أحسن الظن بالله وتوكل على الله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] ، والله عز وجل عند حسن ظن عبده به.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا من حبه، وحسن الظن به، وصدق اللجوء إليه.

    اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً ويقيناً صادقاً.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001831