إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأصل في العين الطاهرة المباحة جواز بيعها، إلا ما استثناه الشرع فحرم بيعه، لنجاسته أو انتفاء المنفعة المقصودة منه، أو غير ذلك. وفي هذه المستثنيات أحكام وتفاصيل وتفريعات وخلافات ينبغي معرفتها لمن يريد أن يستبرئ لدينه ومعاملاته.

    1.   

    ما يحرم بيعه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، كالبغل والحمار ودود القزِّ وبزره، والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد]، ثم استثنى فقال: [إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة].

    فشرع المصنف رحمه الله في بيان ما يستثنى من المبيعات، وهذه المبيعات التي تستثنى حُكم بحرمة بيعها، وقد بيّن لنا ما فيه منافع مباحة، وذكر الأمثلة على ذلك، وقد ذكر أمثلتها من الحيوانات والحشرات، فلما فرغ من بيان المباح شرع في بيان غير المباح.

    وإذا حكم بعدم جواز البيع للعين، فذلك إمّا أن يكون السبب نجاسة العين، وإمّا أن يكون السبب استثناء من الشرع لهذه العين، فحكم بعدم جواز بيعها، وإمّا أن يكون استنباطاً فهمه الفقيه من خلال نصوص الشرع، أو كان فيه أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم باستثنائه.

    ولا بد أن نقعِّد قاعدة وهي: (أن الأصل في الأعيان الطاهرة أنه يجوز بيعها)، فلو سُئلت عن بيع القماش فالجواب: هذه عين طاهرة فالأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن بيع الخشب قلت: هذه عين طاهرة الأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن جواز بيع الحديد والنحاس والنيكل والألمنيوم وغيرها من سائر المبيعات والأعيان الطاهرة فقل: هذه أعيان طاهرة يجوز بيعها.

    فالمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا ما فيه منفعة مباحة شرع في الاستثناء، وإذا استثنيت الأعيان التي فيها منافع مباحة، فإنها:

    إمّا أن تستثني لورود نص من الشرع، فتقول: الشرع قال هذه العين لا تباع.

    وإما أن تستثني نظراً إلى المنفعة الموجودة في هذه العين لا يلتفت إليها الشرع، أي: لا يقيم لها وزناً لأنها غير مقصودة، فإذا لم يقم الشرع لهذه المنفعة قيمة، فمعنى ذلك أنه لا يجوز دفع المال في مقابلها؛ لأنك إذا دفعت المال لقاء الشيء الذي لا قيمة له فهو من السرف الذي نهى الشرع عنه، ومن السفه الذي لا يليق بالمسلم أن يتعاطاه ويفعله؛ لأنه من إضاعة المال.

    وإمّا أن تكون العين نجسة، فإذا كانت العين نجسة، وهي قسمان: النجاسة في الحيوانات، والنجاسة في غير الحيوانات، فلنأخذ هذه الأربعة الأقسام:

    - فأمّا ما استثني من الشرع، أي: ما كان أصله مباحاً ثم استثني، فإنه يشمل نوعين: الكلب والحشرات، فإن الأصل في الحيوانات جواز البيع؛ لأن الله سخرها لمنافع يُحصّلها الآدمي، وخلقها الله من أجل أن ينتفع بها الآدمي، فالأصل في منافعها الموجودة فيها أن الآدمي يرتفق بها، فلو دفع المال لقاءها فقد حصّل مقصود الشرع.

    فالإبل -مثلاً- جعل الله فيها منفعة الركوب، وجعل الله فيها منفعة الأكل من لحمها، وجعل الله فيها منفعة الصوف وما يكون عليها من الوبر، وجعل فيها منفعة حمل الأثقال، فإذا جئت تشتري الإبل لقاء هذه المنافع فأنت تدفع المال لقاء منفعة مقصودة معتبرةٍ شرعاً.

    إذاً: الحيوانات في الأصل سخرّها الله لمنافع للآدمي؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] ، سخرَّه كلَّه لابن آدم؛ تكريماً وتشريفاً لهذا الآدمي حتى يحمده سبحانه ويشكره على ما أسدى، وقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13].

    فالله عز وجل جعل لنا هذه الأعيان لننتفع بما فيها ونرتفق بتلك المنافع. فإذاً نضع قاعدة وهي:

    أن الحيوانات الأصل أنه يجوز بيعها لمنافعها، فتقول: استثني من الحيوانات الأحياء نوعان؛ لأن الحيوان: إمّا حيّ، وإمّا ميت، فاستثني الحيوان الذي ورد النص بتحريم بيعه وهو الكلب، كما جاء في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وفي غيرهما عن عقبة بن عامر البدري وعن جابر بن عبد الله ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، وكلها أحاديث صحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وحرم بيعه.

    إذاً نقول: الأصل في الحيوانات جواز بيعها؛ لكن يستثنى الكلب فلا يجوز بيعه. وفيه خلاف سنذكره، وهذا النوع الأول.

    والنوع الثاني: يُستثنى الحشرات؛ لأن الحشرات ليست فيها منفعة مقصودة، فهي لا تؤكل، ولا يُنتفع بها انتفاعاً مقصوداً، وهذا في الزمن القديم؛ لكن لو احتيج إلى نوع خاص، وهي الحشرات التي كانوا يستخدمونها عُلقاً للدم، أي: كان الأطباء يستخدمون نوعاً من الحشرات في الجروح الملوثة، يُدخلون فيها هذا النوع فيسحب الجراثيم الموجودة، ثم تُرفع هذه العلق الموجودة وعليها الجراثيم الموجودة فيتنظف الجرح، وهذا مما علمه الله عز وجل ابن آدم دفعاً لمفسدة الجرح وضرره على البدن.

    فهذا النوع من العلق لو بيع جاز بيعه؛ لأن درء مفسدة المرض مقصودة شرعاً.

    كذلك أيضاً: لو أنك اشتريت حشرات تريدها غذاءً للطيور فإنه يجوز؛ لأن حياة الطير مقصودة، ومنفعتك من بقاء الطير مقصودة. أو اشتريت حشرات طعاماً للأسماك فيجوز.

    المقصود: أن الحشرات من حيث النظرة الغالبة فيها أنه ليس فيها منفعة؛ لكن كونها في بعض الأحيان تستثنى فإنه يستثنى منها بقدر، فالعلماء يقولون: (والحشرات)، فجمعوا لنا بين صنفين: الكلب والحشرات. وهنا سؤال: لماذا قدّم المصنف الكلب وأخّر الحشرات؟

    الجواب: لأن النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم في الكلب أقوى منه في الحشرات، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحشرات؛ لكن العلة في تحريم بيع الحشرات أن تقول: أحرمها لأنه لا منفعة فيها، ودفع المال لقاءها سفه، وقد نهى الله عز وجل عن السفه وقال: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5] ، فجعل السفه صفةً موجبةً للحجر، وذلك يدلُّ على حرمة إضاعة المال.

    إذاً عندنا نوعان: النوع الأول: الكلاب.

    والنوع الثاني: الحشرات.

    بعد هذا عندنا شيء يستثنى لمعنى قريب من معنى الحشرات: وهو أن تكون المنفعة التي تقصد قد منع الشرع من بيعها مع أن المنفعة موجودة في العين، كالمصحف؛ فإنه لا يجوز للمسلم أن يبيع كلام الله على أنه يأخذ الثمن لقاء هذا، أي: كمكافأة على كتاب الله عز وجل وكلامه، حتى قالوا في العلم والتدريس ونحو ذلك: إذا قصد أن تكون قيمةً لكلامه، فلا يجوز.

    لكن من حيث الأصل؛ حينما تنظر إلى ورق الكتاب الذي فيه المصحف وفيه كلام الله تجد أنه مما يجوز بيعه، فالكتاب بذاته يجوز بيعه؛ لكن لما كان المقصود من الكتاب قراءة ما فيه من الآيات، وكأن أمرها مغلظاً وحرمتها عظيمة، وليست من الأعراض التي تباع، بحيث يجعلها الإنسان ممتهنة مبتذلةً للبيع، فلذلك تقول: أمنعها لهذا المعنى.

    وهذا المعنى يلتفت فيه إلى المنفعة؛ لأن المقصود من المصحف -الأوراق- كلام الله عز وجل، والمقصود من كلام الله الاهتداء، والاهتداء لا يؤخذ عليه أجر: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57].

    وقال الله عز وجل عن أنبيائه نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط عليهم السلام؛ كلهم قالوا كما في سورة الشعراء: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109].

    فنفى سبحانه أن تكون الرسالة لقاء مال أو لقاء عرضٍ من الدنيا، والقرآن هو رسالة الله عز وجل إلى خلقه، فهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه وأوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام لا يجوز لأحد أن يبيع نفس الكلام قاصداً بيع الكلام نفسه؛ لأن مثله أعظم وأجل من أن يباع.

    فإذا ثبت هذا فإننا إنما نظرنا إلى جهة المنفعة، وهذا من الناحية الفقهية ومن ناحية الاصطلاح الذي رتبناه وذكرناه.

    فذكر المصنف رحمه الله بيع المصاحف بعد الحشرات من جهة المنفعة، فإن الحشرات منفعتها غير مقصودة، والمصاحف المنفعة منها أن يهتدي الخلق بكلام الله عز وجل، وهذه الهداية لا تباع ولا تُشترى، وليست محلاً للبيع والشراء.

    بقي النوع الأخير وهو الميتة والنجاسات:

    فالميتة والنجاسات ورد فيها النص، ولها أصول معينة سنتكلم عليها، فاستثنى المصنف رحمه الله هذه التي نصّ عليها: (إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة).

    فقدم الكلب؛ لأن النصّ في تحريمه صحيح صريح، وهو حديث الصحيحين.

    ثم أتبع الكلب بجنسه وهي الحشرات لأنها لا منفعة فيها، ثم أتبع بالمصاحف؛ والسبب في هذا أن دليل تحريم المصاحف أضعف من دليل تحريم بيع الكلاب، وكذلك بيع الحشرات؛ لأنه إنما أُثر عن بعض الصحابة وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    وأتبع بالميتة؛ لأن لها تفصيلات في أنواع النجس والمتنجس، وسنذكرها إن شاء الله.

    1.   

    حكم بيع الكلب وذكر أنواعه

    شروط الكلب المعلم

    أولاً: الكلب، وينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: ما فيه منفعة مأذون بها شرعاً، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، فجعل الله الكلب للصيد رفقاً بالناس، ولا يكون الكلب كلب صيد إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط:

    الشرط الأول: أن يشليه فينشلي.

    الشرط الثاني: أن يدعوه فيجيب.

    الشرط الثالث: أن يزجره فينزجر.

    ومعنى (أن يشليه فينشلي) أي: يحرشه على الفريسة، فيكون بينه وبين الكلب صوت معين، فإذا صاح به انطلق الكلب على الفريسة، بحيث يكون الكلب جالساً، حتى لو مرت الفريسة من أمامه لا يتحرك من طاعته وتعلمه، ولا يمكن أن يرتسل إلى الفريسة إلاّ بإذن سيده، فإذا أشار سيده إلى الفريسة ذهب ليأتي بها، وإذا أشار له إلى قطعة قماش ذهب ليأتي بها.

    والإشلاء في لغة العرب يطلق بمعنى: التحريش، ويطلق بمعنى الدعوة، أي أنه من الأضداد؛ فمعناه: أن تدفع الشيء وأن تدعو الشيء، ومن هنا ورد استخدامه بمعنى التحريش، ومنه قول الشاعر:

    أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ

    فهذا رجل بخيل جاءه أصحابه للزيارة، فإذا به خاف من كلفة الضيافة، فأشلى عليهم الكلاب، فقال قائلهم:

    أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ

    (فأشلى) أي: حرّش الكلاب علينا.

    ويستعمل الإشلاء بمعنى الدعوة، ومنه قول الشاعر:

    أَشْلَيْتُ عَنْزِيْ وَمَسَحْتُ قعبي ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَشَرِبْتُ قَأْبِيْ

    (أشليت عنزي) أي: دعوتها، يناديها حتى تأتي، (ومسحت قعبي) القعب: هو القدر الذي يريد أن يحلب فيه الإناء؛ لأنه يريد أن يحلب.

    (ثم انثنيت) أي: بعد ما حلبتها، (وشربت قأبي)، يقال: (قبّه) إذا لم يُبْقِ فيه شيئاً، هذا معنى البيت.

    الشاهد: استخدام الإشلاء بمعنى الدعوة.

    إذاً الإشلاء إذا ذكره العلماء فيقصدون به التحريش، ويقصدون به الدعوة، وهذان شرطان لا بد وأن يوجدا في الكلب.

    لكن متى يكون الكلب كلب صيد حتى يجوز لك بيعه -إذا قيل: بجواز بيعه عند من يستثنيه - ويجوز لك أكل صيده؟

    يشترط أن تشليه ثلاث مرات ويطيعك، وتزجره ثلاث مرات ويطيعك، وتدعوه ثلاث مرات ويطيعك، فمثلاً: رميت شيئاً فحرشته عليه فذهب وجاء به، ثم رميت شيئاً آخر فذهب وجاء به، ثم رميت قطعة لحم مثلاً فذهب وجاء بها، فهذه ثلاث مرات، إذاً: تم الشرط الأول وهو الإشلاء أو التحريش.

    بعد ذلك تنتقل للشرط الثاني: وهو أن يكون في مكان ثم تدعوه فيأتيك، ثم تتركه ساعة أو نصف ساعة أو قدراً من الزمن ثم تدعوه بالصوت نفسه فيأتيك، ثم المرة الثالثة فيأتيك، فإذا جاءك ثلاث مرات انطبق الشرط الثاني: وهو أن تدعوه فيجيب.

    ثم بعد ذلك تنتقل للشرط الثالث وهو: أن تزجره فينزجر، كأن تضع أمامه قطعة لحم، فيأكل منها، فتصيح عليه صيحة معينة فيكف ويقف، فإذا فعلها المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة تحقق الشرط الثالث.

    فلو سنح لك ظبي فأرسلته وذكرت اسم الله، فصاده، وجاء به ميتاً من صيده حلَّ لك أكله؛ لأنه قد انطبقت الشروط الثلاثة بالتعليم ثلاث مرات.

    وبعض الأحيان قد لا يأخذ تعليم الكلب إلا نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، وهذا يختلف بحسب نوعية الكلب المعلّم، وطريقة التعليم، وطبيعته في استجابته للإنسان، وحبّه أن يكون تحت يده وتحت سلطانه.

    وكذلك في كلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الثلاثة أذن الشرع بها.

    القسم الثاني: الكلاب المطلقة.

    أقوال العلماء في بيع الكلاب وأدلتهم

    اختلف العلماء هل يجوز بيع الكلب، أو لا يجوز؟ وذلك على أقوال:

    القول الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا القول هو مذهب التحريم المطلق، وبهذا القول قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرويٌّ عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقال به بعض التابعين: كـالحسن البصري وحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قال به ربيعة الرأي والأوزاعي فقيه الشام، وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وأهل الحديث والظاهرية.

    وتستطيع أن تقول: مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، سواء كان كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ، أو كلباً مطلقاً، سواءً كان كلباً صغيراً، أو كلباً كبيراً، ولا يجوز دفع المال لقاء الكلب.

    القول الثاني: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً، أي: عكس القول الأول تماماً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً سواءً كان كلب صيدٍ، أو ماشية، أو حرثٍ، وسواء كان كلباً صغيراً، أو كبيراً، فيجوز أن تبيعه لما فيه من المنافع.

    القول الثالث: يجوز بيع الكلب إلاّ الكلب العقور، فيوافق القول الثاني؛ لكن يستثنى الكلب العقور، وهو الذي يهجم على الناس ويؤذيهم ويقطع عليهم طرقهم، فكلما أرادوا قضاء مصالحهم آذاهم وتحرّش بهم، وهذا النوع من الكلاب استثناه القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله.

    القول الرابع: لا يجوز بيع الكلب إلاّ كلب الصيد والماشية والزرع التي هي الكلاب المرخص بها، وهذا القول مأثور عن بعض الصحابة، قال به جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك قال به إبراهيم النخعي ، وزيد بن علي بن الحسين الفقيه المشهور.

    القول الخامس: وهو في مذهب الإمام مالك رحمه الله: يجوز بيع الكلب لمن يأكله؛ أي: لمن يريد أن يأكله، لأن هناك قولاً في مذهب الإمام مالك أنه يجوز أكل الكلب؛ لأنه طاهر.

    والمالكية يرون أن الكلب طاهر، ويستدلون على طهارته بجواز أكل صيده، قالوا: ولو كان غير طاهر لما حلَّ أكل صيده؛ لأنه ينهش بفمه، فلو كان نجساً لما حلَّ أكله.

    قالوا: وأمّا الأمر بغسل الإناء سبعاً منه فهذا أمرٌ تعبدي، ولو كان للنجاسة لكان ثلاثاً، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطهارة، وبيّنا أن الصحيح أن الكلب نجس العين.

    فالحاصل أنه على الرواية التي تقول إن الكلب يجوز أكله، يجوز بيعه لمن يأكله؛ لأنه إذا اشتراه من أجل الأكل فإنها منفعة مقصودة، وليس مراده أن يبقيه، وهذا عند أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وهي من مفردات مذهب المالكية، ولذلك يقول الزمخشري -عامله الله بما يستحق-:

    وإن مالكي قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ

    إذاً: عندنا خمسة أقوال: قولٌ بالتحريم، وقولٌ بالجواز، وقولٌ باستثناء الكلب العقور من الجواز، وقولٌ بالتحريم باستثناء كلب الصيد والحرث والماشية من التحريم، وقول بجواز البيع لمن يريد أن يأكله.

    فأما الذين قالوا بالتحريم المطلق فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    أولها: حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب سحت)، وهذا حديث متفق عليه، ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثمن الكلب سحتاً، والسحت حرام، فلا يجوز بيع الكلاب، وأثمانها محرمة.

    الدليل الثاني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث)، فهذا الحديث الصحيح نصَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ثمن الكلب خبيث، ومعنى ذلك أن ثمن الكلب محرم؛ لأن الله حرم على هذه الأمة الخبائث، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الثمن بكونه خبيثاً، إذاً فالبيع محرم، وهذا هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالخبث.

    الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم: أنه لما سُئل عن بيع الكلب والسِّنَور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) والسنور: هو القط، ويطلق على القط البرَّي والقط الأهلي المستأنس.

    فأمّا القط البرّي المتوحش فهذا يفسد الزرع، ويعدو على الدجاج وعلى الطيور، ويؤذي بني آدم، وإذا خلا بالإنسان فإنه يؤذيه، وقد يتغذى بالخبائث، ويؤذي الطريق كثيراً، فهذا النوع هو الذي قصده جابر عندما قيل له: (والسنور).

    أمّا القط الأهلي فقد نقل الإجماع على جواز بيعه، وجماهير العلماء على جواز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).

    الشاهد: أنه قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: الكلب، وهي صيغة من صيغ التحريم عند الأصوليين، والزجر عن الشيء الطرد والإبعاد عنه، فمعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن هذا الشيء، ولا يزجر إلاّ عن حرام.

    الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عباس في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما نهى عن ثمن الكلب: (فإن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً) أي: إذا جاء يريد أخذ قيمة الكلب فاملأ كفه تراباً، وهذا يدل على حرمة ثمن الكلب، وأنه لا قيمة له، وعلى هذا قال الجمهور: لا يجوز بيع الكلاب مطلقاً.

    وقالوا: هذه الأحاديث حينما تأملناها ونظرنا فيها وجدناها لم تفرق بين كلبٍ وآخر، ولم تفرق بين حالةٍ وأخرى، فهي عامة في الكلاب ومطلقة في الأحوال.

    عامة في الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكلب الصغير (الجرو) ولا الكبير، ولم يفرق أيضاً بين كلب الماشية والحرث والصيد وغيرها، وإنما عمم: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم)، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم)، (ثمن الكلب خبيث)، (ثمن الكلب سحت)، وهذا كله عام.

    وكذلك في الأحوال: لأنك إذا قلت: أريده لحالة معينة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في حالة دون أخرى.

    أدلة القول الثاني: الذين قالوا بجواز البيع مطلقاً وهم الحنفية فقد استدلوا:

    بأن الكلب مال، والقاعدة عندهم: أنه يجوز بيع المال، والأصل جواز بيع الأموال. والمال عندهم كل شيء فيه منفعة، فيقولون: الكلب كسائر الأموال، ففيه منفعة الصيد، ومنفعة حراسة الحرث والماشية، فلما كانت هذه المنفعة موجودة فيه وهي مقصودة شرعاً، فإنه يجوز أن تبيعه وتأخذ القيمة لقاء هذا الشيء الذي هو فيه من المنافع، وهذا دليل عقلي.

    القول الثالث: الذين يوافقون القول الثاني لكنهم يستثنون الكلب العقور؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله كما في الصحيحين: (خمسٌ يقتلنَّ في الحلَّ والحرم، وذكر منها: الكلب العقور).

    القول الرابع: الذي استثنى كلب الصيد والماشية والزرع، وهو قول جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وزيد بن علي رحم الله الجميع. يقولون: دليلنا ما جاء في حديث أبي داود والنسائي والترمذي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب إلاّ الضَّارِيَ سحتٌ) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلاّ كلب الصيد) قالوا: هذا الحديث يدلُّ على استثناء الكلب الضَّارِيَ وكلب الصيد، وإنما خرجا لمنفعة مخصوصة أُذن بها وهي منفعة الصيد، فنقيس عليها منفعة حراسة الحرث وحراسة الماشية.

    القول الخامس والأخير: وهو مذهب الذين قالوا بجواز البيع لمن يأكله، وهم يقولون: إنه طاهر العين مباح المنافع، فيجوز بيعه لهذه المنفعة المباحة وهي أكله.

    قيل لهم: الشرع نهى عن اتخاذ الكلاب، قالوا: هذا لا يتخذه؛ لأنه يريد أن يأكله، فحينئذٍ يأخذه ويذبحه مباشرة، فليس هناك اتخاذ محرم.

    القول الراجح في حكم بيع الكلاب

    والذي يترجح في نظري من هذه الأقوال: القول بالتحريم مطلقاً، لعدة أسباب:

    أولاً: لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم، ودلالتها واضحة وصريحة، ولم تفرق بين نوع وآخر.

    ثانياً: أمّا قول الحنفية بأن الكلب مال، فنجيب عنه من وجهين:

    الوجه الأول: لا نسلم صحة هذا الدليل العقلي؛ لأن الكلب ليس بمالٍ من كل وجه، وإنما هو مال في أشياء معينة مخصوصة جاءت على سبيل الرخصة، فلا يجوز التوسع فيها، لأنك إذا قلت: إنه جاز للصيد وجاز للحرث والماشية، وقلت: يجوز بيعه لأن فيه هذه المنافع؛ فمعنى ذلك أنه جاز للصيد والحرث والماشية والبيع، فتزيد على استثناء الشرع، والشرع إنما استثنى ثلاثة أحوال: أن تجعله لحراسة حرث، أو ماشية، أو تصيد به.

    فإذا جاء يبيعه فمعنى ذلك أنه أصبح هناك منفعة رابعة وهي منفعة البيع، فهذا دليل عقلي يعارض الأصل الشرعي، فنقول: إن قولكم: إن فيه منفعة، لا نسلم لكم أن فيه منفعة من كل وجه، ففيه منفعة مخصوصة مرخص فيها ينبغي التقيد بها؛ لأن ما جاء على خلاف الأصل ينبغي أن يتقيد به بالنص الوارد: فالأصل عدم جواز اتخاذ الكلب، وتقيد بهذه الثلاثة الأحوال، فيجوز لمن يريد اتخاذه أن يتخذه على هذه الثلاثة الأحوال المعينة.

    أمّا الوجه الثاني فنقول: سلمنا جدلاً أن هذا الدليل العقلي صحيح، وهو أن الكلب مال وفيه منفعة؛ لكننا نقول: هذا اجتهاد مع النصّ، والقاعدة: (لا اجتهاد مع النص). أي: هذا وجه من القياس نسلم به ونقول: هو من ناحية الشكل صحيح لكنه معارضٌ للنص، والقاعدة: أن القياس يقدح فيه من أربعة عشر وجهاً يسمونها قوادح القياس.

    وقد ذكرها العلماء رحمهم الله في مبحث العلة في الأصول، وبينوا أوجه نقض القياس، ومنها: فساد الاعتبار، وهو أن يأتي المجتهد ويقيس شيئاً على شيء، فيحكم بالجواز في شيء ورد النص بتحريمه، فتقول:

    الكلب مال يجوز بيعه كسائر الأموال بجامع وجود المنفعة في كلٍ، وهذا قياس صحيح من ناحية الشكل وأركانه موجودة؛ ولكنه قياس مصادم للنص، والقاعدة: أنه لا اجتهاد مع النص، وهذا القادح يسمونه (قادح فساد الاعتبار)، أي: فسد اعتبار هذا القياس، وليس له قيمة ما دام أنه صادم النص من الكتاب والسنة.

    أمّا القول الثالث: الذي استثنى كلب الصيد، فاستثنوا للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في استثناء الكلب الضاري.

    وهذا الحديث نجيب عنه من وجهين:

    الوجه الأول: من جهة السند.

    الوجه الثاني: من جهة المتن.

    أمّا من جهة السند فهو حديث ضعيف، قال النسائي : إنه منكر، وكذلك ضعفه الإمام أحمد والإمام الترمذي رحمهم الله وهم أئمة الشأن، فقالوا: إنه حديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي ، وهو ضعيف الرواية، بل جزم النسائي رحمه الله بأنه منكر الرواية.

    ولو سلمنا صحة هذا الحديث من ناحية كونه حسناً لغيره بالطرق، أو أن السند قابل للتحسين فإننا نقول: عارضه ما هو أصح فيقدم؛ لأن الحسن لا يحتج به إذا عارض ما هو صحيح، ولذلك يقولون في الحسن:

    وَهوَ فِي الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهِ إِنْ صِيْرَ للتَّرْجِيْح

    أي: لا يمكن أن تصادم حديثاً صحيحاً بحديث حسن، وفائدة تقسيم العلماء الحديث إلى صحيح وحسن هو: أنها إذا تعارضت قدم الصحيح على الحسن.

    ثم إن الصحيح قسموه إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره؛ لكي يقدم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره، وكذلك الحسن لذاته على الحسن لغيره .. إلى آخر مما هو مقرر في علم مصطلح الحديث.

    وأما الجواب على المتن: فلو سلمنا فرضاً أن الحديث صحيح من جهة السند؛ لكن من جهة المتن نقول: قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضَّارِيَ) (إلاّ) هنا بمعنى العطف (الواو)، وهذه لغة من لغات العرب وهو أنهم يستعملون حرف الاستثناء (إلاّ) بمعنى العطف، وحملوا عليها قوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] فقوله: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: ولا ما قد سلف، ويكون المعنى: أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.

    ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى، وهو وجه ذكره ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92] أي: (ولا خطأ) بمعنى: أنه لا يتعاطى أسباب التفريط، فمثلاً: لو جاء إلى موضع يريد أن يصيد فيه، وهو يعلم أنه هذا الموضع فيه أناسٌ يرعون، أو فيه خيام لأناس نازلين بهذا المكان، وبمجرد أن يرى فريسة يرميها، فلا يجوز، بل ينبغي أن يتحفظ؛ لأن القتل الخطأ هو أن يقتل بدون أن يقصد القتل كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً، فالله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92] أي: (ولا خطأً)، بمعنى: ألا يتساهل، حتى ولو كان الخطأ معفواً عنه، فلا ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الخطأ، ومنه قول الشاعر:

    وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاّ الْفَرْقَدَاْنِ

    أي: والفرقدان.

    وعلى هذا يكون قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الكلاب، ولو كانت كلاب صيد) تأكيداً في التحريم، ويكون هذا من باب قلب الدليل؛ لأنه إذا كان في الدليل معنيان: معنىً يعارض، ومعنىً يوافق، فينبغي صرف الحديث إلى المعنى الذي يوافق الأحاديث الأخرى، وحينئذٍ نقول: إن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول بعدم جواز بيع الكلب مطلقاً.

    1.   

    بيع الحشرات

    وقوله: [إلا الكلب والحشرات].

    (الحشرات) جمع حشرة، وهي الدويبات المعروفة على اختلاف أنواعها، وغالباً ما تكون صغيرة الحجم، سواءً كانت مما يرى أو كانت مما لا يُرى، فهذا النوع لا يجوز بيعه؛ والسبب في هذا -كما قلنا- أنه ليس في الحشرات منفعة مقصودة.

    وعليه: فإنه لو جمع حشرات وأراد أن يبيعها فإن البيع غير صحيح؛ لأنه من باب إضاعة المال، ولا قيمة للحشرات.

    لكن كيف تقرر التحريم بالدليل؟

    تقول: الأصل أنه لا يجوز أكل المال بالباطل؛ لقوله سبحانه: لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].

    ومعنى أكل المال بالباطل أن تأخذ المال بدون وجه حق، أي: بدون استحقاق، فإذا كانت الحشرات لا قيمة لها، وليس فيها منفعة مقصودة، ودفع لشرائها ألف ريال أو مائة ريال أو عشرة ريالات، فإنها أعطيت لغير شيء، وأعطيت لشيء لا قيمة له، فحينئذٍ تكون من أكل المال بالباطل.

    لكن إن وجدت فيها منفعة مقصودة كالطعم ونحو ذلك، فحينئذٍ يكون دفع المال لقاء منفعة مقصودة، وأُخذ المال لقاء شيء له قيمة.

    إذاً: وجه تحريم بيع الحشرات: أنها إذا كانت خلواً من المنافع وليس فيها منافع مقصودة، فقد خلت وعريت عن القيمة، فدفع المال لقاءها إنما هو من أكل المال بالباطل.

    1.   

    حكم بيع المصحف

    قال: [والمصحف].

    المصحف اختلف في بيعه، فمذهب الحنابلة على التحريم، وهذا من مفردات مذهب الحنابلة، والجمهور على جوازه، وإن كان الشافعية يكرهون بيعه؛ لذلك يعتبرون هذه المسألة من الفوارق بين الحديث القدسي والقرآن، فبعضهم أوصلها إلى عشرة، ويدخلون فيها منع البيع، وأشار إلى ذلك صاحب الطلعة في قوله:

    وَمَنْعُ بَيْعِهِ لَدَى ابن حنبل وَكُرْهُهُ لَدَى ابن شافع جَلِيْ

    (ومنع بيعه) أي: المصحف، (لدى ابن حنبل ) أي: عند الإمام أحمد رحمه الله.

    (وكرهه) أي: كره البيع، فيصحّ البيع لكن مع الكراهة، (لدى ابن شافع جلي) أي: عند الإمام الشافعي رحمه الله؛ لأنه ابن شافع من بني المطلب بن عبد مناف، فيجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.

    فالتحريم يعتبر من مفردات المذهب الحنبلي؛ لأن الجمهور في هذا النوع الثالث من المستثنيات على جوازه.

    واستدل الجمهور بالأصل والأدلة الدالة على جواز البيع، وأمّا ما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف)، فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان شديد الورع، ولذلك كان يشدد في المسائل، حتى قال أبو جعفر المنصور مما يُحكى في موطأ مالك أنه قال له: (اجتنب رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر ).

    فكان ابن عمر رضي الله عنه يشدد على نفسه وكذلك في فتواه؛ لأنه كان يأخذ بالعزائم، وهذا من ورعه وصلاحه وتقواه، وهناك مسائل معينة انفرد بها، ومنها هذه المسألة، وهي مسألة تحريم بيع المصحف.

    لكن الجمهور خرّجوا ذلك فقالوا: يحتمل أن ابن عمر قصد من هذا من يقصد بيع الآيات، ولا يكون قصده انتشار المصحف لنفع المسلمين، ولا قصده بيعه لرواجه، وأخذ الأجر في الآخرة، إنما مطمعه أو مراده أو مقصوده هو المال، ولا شك أن في هذا خوفاً على الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة. وفي حكم المصحف بقية كتب العلم والأشرطة إذا باعها الإنسان وكان قصده تجارة الدنيا فقط، ولا يرضى أن يبذلها إلاّ للدنيا.

    ويظهر ذلك حينما يأتيه الإنسان المحتاج أو طالب العلم المحتاج يريد أن يشتري الكتاب -مثلاً- بعشرة والكتاب بعشرين أو بخمسة عشر، ويعلم أنه ضعيف اليد، وليس عنده طَوْل، فيصر على أنه لا يبيعه إلا بهذه القيمة مع أنه يجد أرباحاً ويجد عوضاً بالثمن المبذول، فكأنه -والعياذ بالله- يحبس الانتفاع من العلم والانتفاع بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لقاء هذا المال، وهذا شيء خطير. فينبغي لمن يبيع كتب العلم أو يبيع الأشرطة أن يجعل في حسبانه أن يكون همه الآخرة، وأن يجعل نية الدنيا تبعاً، ولا يجعلها أساساً، وإذا أراد وجه الله عز وجل والدار الآخرة وجعل الدنيا تبعاً فإن الله يأجره ويبارك له في صفقة يمينه، فيحوز خيري الدنيا والآخرة.

    فالمقصود: لعل ابن عمر رضي الله عنهما قصد: من يفعل ذلك لا للآخرة وإنما للدنيا.

    1.   

    الميتة وأنواعها وحكم بيعها

    قال رحمه الله: [والميتة].

    الميتة: هي كل حيوان مات حتف أنفه، أي: بغير ذكاة شرعية.

    والميتة تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: أن تكون ميتة الآدمي.

    القسم الثاني: أن تكون ميتة غير الآدمي.

    ميتة الآدمي

    أمّا ميتة الآدمي فإنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيَّاً ولا ميتاً، وهذا بالنسبة لبيعه بدون ملك اليمين؛ لأنه قد استثناه الشرع؛ لكن أن يباع الحر، فهذا مما ورد فيه الوعيد الشديد؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أُعطي بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً ثم أكل ثمنه ... الحديث)، فهذا يدل على الوعيد الشديد في بيع الآدمي الحر.

    فالأصل أنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيّاً ولا ميتاً إلاّ ما استثناه الشرع من بيع الرقيق، والرق سببه الكفر، وله ضوابط سنذكرها إن شاء الله في الأبواب الآتية في المعاملات.

    إذا ثبت أنه لا يجوز بيع الآدمي فكذلك لا يجوز بيع أعضائه، فلا يجوز بيع اليد، ولا بيع الكلية، ولا بيع القرنية، ولا بيع الأجزاء ولو قصد نقلها إلى شخص آخر؛ لأن البيع مفرع على الملكية، والآدمي لا يملك نفسه؛ لأننا إذا قلنا: إن البيع شرعي فمعناه أن تكون مالكاً لما تبيع، والآدمي لا يملك نفسه، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: أجمع العلماء على أن الآدمي لا يملك نفسه.

    وإنما هي ملكٌ لله عز وجل، أذن الله للمرء أن يحفظ هذه النفس، وأن يسعى في صلاحها، فيفلح من زكاها، ويخيب من دسَّاها.

    فإذا كتب الله للإنسان هذه النفس وكتب له الحياة فعليه أن يحافظ عليها، وينتفع بما جعل الله فيها من المصالح، فلا يتصرف فيها بشيء إلا بما أذن له الشرع، حتى لو أتلف جزءاً من نفسه لمصلحة البدن كله، فإنه على خطأ إلا فيما يستثنى، ومن ذلك حديث الطفيل بن عمرو لما هاجر ابن عمه معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى الغزو، فجرح فاستعجل الموت، وضاقت عليه نفسه فقطع براجمه، فنزف ومات، فلما توفي رآه الطفيل فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: وما في يدك؟ وإذا به كأن على يده شيئاً، قال: قال الله لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، قال: فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - والحديث في مسلم - فقصصت له ما كان منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر)، الشاهد: أن الله قال له: (لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك)، فإنه قطع براجمه من أجل أن يرفق بنفسه، فكيف بمن يقطعها رفقاً بالغير.

    إذاً: لا يملك الآدمي التصرف في نفسه، فهذا الجسد وضعه الله أمانة عند الإنسان، لا يجوز أن يقدم على شيء إلا في أحوال مخصوصة كأن تأتيه (غرغرينة)، أو يأتيه تسممُّ في يدٍ ويقطعها، فهذا مستثنى؛ لأنه استصلاح للجسد كله، وليس استعجالاً للموت كما جاء في حديث الطفيل؛ وإنما هو قطع لإبقاء، كما يكسر من السفينة لوح لنجاة كل السفينة.

    فهذا أصل: وهو إتلاف البعض لاستبقاء الكل، وقد قرره العلماء في المذاهب كلها: المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة، وذكروا: أنه يجوز قطع الجزء لاستبقاء الكل، وذكروا هذا في أموال اليتامى وغيرها، فحينئذٍ إذا أراد أن يقطع جزءاً منه لخوف التسمم أو نحو ذلك فلا بأس، لكن لو أتى مثلاً يخرج (اللوز) خوفاً أن تلتهب فليس من حقه؛ لأن الله لم يخلق هذه (اللوز) في الجسد عبثاً؛ لكن لو أنها تسممت وخيف على البدن جاز إخراجها، أمّا أن يكون إجراءً احتياطياً ونقول: نخشى أن يقع أو يحدث فلا يجوز؛ لأن الأصل عدم جواز التصرف في بدن الإنسان، فتتفرع جميع المسائل في الهبات والتبرعات ونحوها على هذا الأصل.

    إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا يجوز بيع الآدمي حيّاً ولا ميتاً، ولا يجوز بيع أعضائه سواءً كان حيّاً أو ميتاً.

    ميتة غير الآدمي

    يبقى النظر في ميتة غير الآدمي، فنقول:

    ميتة غير الآدمي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: ما كان برّياً.

    القسم الثاني: ما كان بحرياً.

    القسم الثالث: ما كان برمائياً أي: برّياً بحرياً.

    ميتة البر

    فأما ما كان برياً: فكشاة ماتت بدون ذكاة، فهذه ميتة بر، ويستوي في ميتة البر ما يكون من الزواحف أو يكون من الطيور كالعصفور الذي يموت حتف أنفه، فإن هذا كله من ميتة البر، فلا يجوز بيع ميتة البر بالإجماع.

    والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الغد من فتح مكة -هي خطبته في اليوم الثاني من فتح مكة- وقال: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام).

    فذكر أربعة أعيان محرمة، ومنها: (الميتة) فدل على عدم جواز بيع الميتة، لكن يستثنى منها نوع خاص، وهذا النوع هو الطاهر من ميتة البر التي هي الجراد، فإن الجراد طاهر يجوز أكله، ويجوز بيعه؛ لأن أصل تحريم الميتة -وهذا في قول جماهير العلماء- مركب على النجاسة، ومن هنا قالوا: يجوز أن يبيع الجراد؛ لأن الجراد يجوز صيده ويجوز قتله وتؤكل ميتته، قال صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: أمّا الميتتان فالحوت والجراد) فذكر الجراد من الميتة، فلما قال: (أحلت لنا ميتتان) جعلها من حلال الميتة المحرمة؛ لأن الأصل في الميتة أنها محرمة، فيكون قوله: (حرم بيع الميتة) أي: الميتة التي هي في الأصل محرمة، وبقي ما أحلَّ من الميتة كميتة الجراد فيجوز بيعه.

    فلو أخذ كيساً من الجراد وعرضه للبيع فقال قائل: لا يجوز لأنه ميتة، نقول: نعم، هذه ميتة لكنها حلال، ويجوز بيعها.

    وفي حكمها الحشرات التي لا نفس لها سائلة، أي: التي ليس لها دم، مثل السوس الذي يوجد في الدقيق والتمر، فهذا النوع من الحشرات لا نفس له سائلة، ولو أكلته فهو طاهر كالجراد، وليس فيه بأس.

    والجراد مما لا نفس له سائلة، وأجمع العلماء على أن الجراد طاهر، بناءً على نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وسنفصل هذا في كتاب الأطعمة إن شاء الله، وسيكون التفصيل أوسع؛ لكن الشاهد: أنه لو جمع الدود أو السوس الطاهر وعرض للبيع صحَّ ولا بأس في ذلك.

    ميتة البحر

    أما ميتة البحر، فتشمل السمك والحوت وسائر حيوانات البحر التي لا تعيش إلا فيه، فإذا كانت من النوع الذي لا يعيش إلا في البحر، ومنه ما يُسمى (بالجمبري) الموجود الآن، فجمهور العلماء على جواز أكله، وأنه لا بأس في أكل ميتة البحر، وأنها طاهرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته) وهو حديث أبي هريرة في السنن.

    فوصف ميتته بأنها حلال، فيجوز أن يبيع السمك، والحوت، أو ما يُسمى (الجمبري)، أو غيره، وأنواع الأسماك كلها.

    ثم ميتة البحر إمّا أن تخرجها من البحر فتكون ميتة؛ لأنك لم تذكها، فمثلاً: الشاة تذكى، وكذلك الدجاجة، والطير؛ لكن بالنسبة للسمك والحوت لا يذكى؛ لأنه ليس له موضع ذكاة، فإذا أخرجت من البحر خرجت بغير ذكاة فتكون ميتة، فحينئذٍ يجوز لك أن تأكلها؛ لكن لو أنها ماتت حتف أنفها في البحر فهل نقول: إنها تؤكل بغير ذكاة كالذي صيد، أم نقول: إنها ماتت حتف أنفها فلا يجوز أكلها؟

    للعلماء وجهان: جمهور العلماء على أن السمك إذا مات وطفا على البحر يجوز أكله وبيعه ولا بأس في ذلك، ويسمونه السمك الطافي، وكذلك ما جزر عنه البحر؛ لأن البحر له مدُّ وجزر، فإذا مدَّ قذف بعض السمك خاصة الصغار منه، فإذا جزر يكون على أطراف الشواطئ، وهذا النوع من السمك سواء كان طافياً أو كان مما جزر عنه البحر، فالصحيح جواز أكله، وهو مذهب الجمهور، وفيه حديث أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه في سريتهم بسيف البحر، حينما أصابتهم المجاعة وجزر البحر عن الحوت، فأكلوه، وأتوا ببعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه، فدلَّ على جواز أكل الطافي، وأكل ما مات حتف نفسه؛ لكن إذا كان هذا النوع فيه ضرر أو خمج أو أنتن بحيث لو أكله الإنسان تضرر فلا يجوز بيعه ولا يجوز أخذ المال لقاءه؛ لأنه من الميتة المتنجسة في هذه الحالة.

    ميتة البرمائيات

    النوع الثالث: وهو البرمائي، وقد اختلف فيه العلماء:

    فبعض العلماء يقول: الحيوان الذي يعيش في البر والماء ينظر فيه، فإن كان أكثر عيشه في الماء فميتته حلال، وإن كان أكثر عيشه في البر فميتته حرام؛ لأن الشيء يأخذ حكم غالبه.

    ومنهم من يقول: بل ننظر أين يكون توالده وتكاثره وإيواؤه، فإن كان أكثر توالدها وتكاثرها بداخل الماء، فحكمها حكم حيوان الماء، وإن كان غالب تكاثرها وعيشها وجريانها في البر، فتأخذ حكم ميتة البر، مثل السلحفاة، وهذا القول قوي، والنفس تطمئن إليه.

    [والميتة].

    الميتة إذا بيعت بذاتها لا يجوز بيعها، ويشمل هذا ما كان محنطاً ولم يذك، إلا إذا كان من جنس ما يستثنى كالحوت والجراد، فهذا يجوز بيعه محنطاً.

    فلو أن شاة دهست ثم ماتت قبل أن تذكى وعرضت، وجاء شخص يريد أن يشتريها نقول: لا يجوز هذا البيع ولا يجوز شراؤها، ولو أُخذ ثعبان وحنّط قلنا: لا يجوز بيعه ولا شراؤه، وماله غير جائز، كذلك لو أُخذ ثعلب وحنط ثم عرض للبيع فله نفس الحكم؛ لأن الثعلب ليس من جنس ما يذكى، ولا تعمل فيه الذكاة.

    ما قطع من حي

    وما قطع من الحيوان في حال حياته أخذ حكم ميتته، مثلاً: لو أن الشاة قطعت منها رجلها أو قطعت إليتها، ثم جاء يريد أن يبيعها نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍّ فهو ميتته) وفي رواية: (فهو كميتته) ، فالشاة لو ماتت لا يجوز بيعها، إذاً هذا الجزء المقطوع من الشاة حال حياتها يأخذ حكم الجزء المقطوع حال موتها، فتكون الإلية نجسة، ولا يجوز بيعها، وحكمها حكم الميتة بأجزائها التي تقبل الحياة، لكن هناك أجزاء لا تحلها الحياة. فالحيوانات تنقسم أجزاؤها إلى قسمين:

    القسم الأول: ما فيه حياة الروح.

    القسم الثاني: ما فيه حياة النمو.

    حتى الآدمي فيه أجزاء حياتها حياة روح، وأجزاء حياتها حياة نمو، فمثلاً: اليد لو أنها لُسعت بنار تأذى الإنسان؛ لأن الحياة الموجودة فيها حياة روح وإحساس؛ لكن لو أنك أحرق طرف الشعر لم يحسُّ الإنسان؛ لأن الحياة التي في الشعر حياة نمو. فعندنا أعضاء تقبل حياة الحسِّ، وأعضاء تقبل حياة النمو.

    فما كان من الأعضاء يقبل حياة الروح فيعتبر نجساً إذا قطع في الحياة، كيدها ورجلها وإليتها وأذنها، وما كان لا يقبلها فلا، فمثلاً لو قُصَّ الشعر فإن الشعر من جنس ما لا تحله الحياة، فلو أنه قام على الناقة وجزَّ ما عليها من شعر وباع الوبر فإنه يجوز، قال تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ [النحل:80].

    والشاة يحلق ما عليها من الشعر، وكذلك الناقة يحلق ما عليها ويباع ويتخذ في الثياب ويغزل منه، هذا الذي أخذ من الصوف والوبر والشعر يجوز بيعه، مع أنه قطع في حال الحياة؛ لكن هذا الذي قطع ليس من جنس ما تحله حياة الروح، وإنما هو من جنس ما تحله حياة النمو.

    أما جلد الميتة إذا دبغ ثم بيع، فإنه يجوز.

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وإذا كان طاهراً فإنه مستثنىً من الحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان)، فجعل من الميتة ما يَحلّ، فهذا الجلد إذا دبغ خرج عنه وصف الميتة بالنجاسة.

    1.   

    الأسئلة

    علم القواعد الفقهية

    السؤال: هل يمكننا أن نقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    الأفضل أن الإنسان لا يتدخل في القواعد ويتركها للعلماء الأجلاء الذين ألموا بنصوص الشرع في الكتاب والسنة وألموا بضوابط القواعد، فقد تأتي وتقعّد القاعدة لأنك تراها صحيحة، لكنها تصادم أصولاً أخرى.

    فمثلاً هذه القاعدة تقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، أولاً: البيع ينصب على الذات والمنفعة، فأنت عندما تبيع البيت تبيع ذاتها ومنفعتها، ولو بعت عمارة فقام المشتري بهدم العمارة، فليس لك أن تمنعه لأنه سيقول: بعتني الدار ذاتها ومنفعتها التي هي السكنى، فالبيع يقع على الذات والمنفعة، فقاعدة: كل ما جازت منفعته جاز بيعه، تختص بالمنافع، والبيع يقوم على الذات وعلى المنفعة.

    ثانياً: إذا كانت المنفعة جائزة لكن الذات محرمة، فقد تقدم الخلاف في الحكم، إذاً: فالتقعيد من الصعوبة بمكان.

    وهناك كتب متخصصة في القواعد، منها: الأشباه والنظائر للسيوطي ، والأشباه والنظائر لـابن نجيم ، وقد جعلوا قواعدهم في حدود مذهب معين، وما استطاعوا أن يجعلوا قواعد عامة، فتجد -مثلاً- الأشباه والنظائر في قواعد الشافعية، والأشباه والنظائر في قواعد الحنفية، وتجد أيضاً الفوائد لـابن مفلح الحنبلي رحمه الله، كذلك أيضاً القواعد لـابن رجب في مذهب الحنابلة، وتجد إيصال السالك إلى قواعد مذهب مالك للونشريسي المالكي، فتجدهم قعدوا من خلال مذهب معين؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن تضع قاعدة عامة متفق عليها.

    فمسألة التقعيد أولاً: تحتاج إلى سبر الأدلة الواردة في الباب؛ لأنه لا أحد يتكلم في القواعد الشرعية إلا من خلال النصوص، والفقيه مَنْ فقه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يضع قاعدة عامة تتفرع عليها مسائل كثيرة حتى يجمع النصوص الواردة في هذا الباب.

    ثانياً: بعد جمع النصوص ينظر هل هي قاعدة ثابتة، أو لها مستثنيات؟ حتى يأتي بالمستثنى منها، فيضع القاعدة وما يستثنى منها، فلا ينقض المستثنى القاعدة ولا يعترض به عليها، فينظر هل هي قاعدة مسلمة أو قاعدة فيها استثناءات ومحترزات.

    ثالثاً: ما هو اللفظ الذي تختاره للقاعدة، فهناك علم ألفاظ القواعد، ولذلك ليس كل فقيه يستطيع أن يقعّد، وليس كل محصّل للأدلة يستطيع أن يقعد؛ لأن التقعيد مخاطبة، والمخاطبة بالقاعدة يحتاج إلى ضابط ويحتاج إلى أسلوب فقهي معين، وقد يجلس العالم فترة طويلة حتى يقعد هذه القاعدة، أي: ما كان العلماء بمجرد أنه يقرأ أحدهم الباب يضع القاعدة.

    فاختيار الألفاظ في التقعيد لابد منه، وهذا ما يسمونه (ملكة التقعيد)، ولذلك عندما تبحث في كتب القواعد تجدها معدودة، والسبب في هذا ثقل هذا الباب وصعوبته.

    ولذلك نقول: ليس من السهولة أن نضع قاعدة عامة، إنما نقول: اقرأ الباب وانظر إلى نصوص الكتاب والسُّنة، فإذا وعيت رحمك الله ما ورد في الكتاب والسُّنة فخير وبركة، وإذا أردت أن تدرس علم القواعد فقد كفاك العلماء المئونة، فاذهب إلى كتب القواعد واقرأ فيها واضبطها وحصلها.

    وهناك قضية مهمة جداً كفائدة لطلاب العلم وهي: ما هي الحاجة إلى القاعدة؟

    القاعدة لا توضع إلا إذا جاءت لها أدلة قوية متكاثرة في الكتاب والسُّنة، وقد يكون لها إجماع؛ لأن القاعدة قضية كلية تتفرع عليها المسائل الجزئية، فمعنى ذلك أنك لا تقعد قاعدة في مسألة معينة، وإنما تقعد قاعدة لكي تجمع مسائل، وبعض الأحيان القاعدة الواحدة تفرع عليها ثمانمائة مسألة والعلماء يسمونها (أمهات القواعد)، وقد تكون قاعدة تتفرع عليها قواعد، وكل قاعدة تحتها مسائل. فمثلاً: قاعدة (الأمور بمقاصدها) تتفرع عليها قواعد في إعمال الأصل، واستصحاب الأصل، وكذلك البراءة الأصلية وكذلك قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) تفرع عليها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) وغيرها. الشاهد: لماذا وضع العلماء القاعدة؟

    وضعوها لأن الطالب بعد أن يقرأ الفقه بكامله، تكثر عليك المسائل، فتحتاج إلى ضوابط وقواعد.

    وهناك شيء يسمى قاعدة وهناك شيء يسمى ضابط، فالقاعدة لا تختص بباب، فمثلاً قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ممكن أن تجري في العبادات وفي المعاملات، ففي العبادات تستخدمها -مثلاً- في الطهارة " فيجوز لمن لم يجد الماء أن يتيمم، أو شقّ عليه الماء جاز له أن يتيمم، ويجوز لمن كان عليه جروح على ظاهر بدنه أن يعدل إلى التيمم، ويجوز لمن خاف على نفسه إذا طلب الماء أن يعدل إلى التيمم.

    وتستخدمها في الصلاة فتقول: من شق عليه أن يصلي قائماً صلى قاعداً، ومن شق عليه أن يصلي قائماً وقاعداً صلى على جنبه، ومن شق عليه أن يقرأ الفاتحة وكان حديث عهد بإسلام فلا يستطيع أن يتعلمها ولا يستطيع أن ينطق بها فيمكث قدر الفاتحة أو يمكث قدر الوقوف، على تفصيل عند العلماء فيمن تعذرت عليه الفاتحة.

    وتستخدمها بعد ذلك في الزكاة وفي الحج في الطواف وفي السعي ولما أذن للضعفة في الحج التوكيل في الرمي، فكلها تفرعها على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، فوَسِعَت مسائل عديدة ولم تختص بباب ولم تختص بباب معين.

    إذاً: تستطيع أن تأتي بالقاعدة فتنثر من تحتها المسائل المتعددة؛ لكن الضابط يكون في باب واحد أو كتاب واحد، تقول مثلاً: في باب الكفارات كفارة الجماع في نهار رمضان، الضابط عند الحنابلة: أنه لا تجب الكفارة إلا بجماع في نهار رمضان، فأنت ألممت بمسائل لكن في مذهب الحنابلة، بحيث لو جاءك سائل وقال لك: لو أن رجلاً قضى يوماً من رمضان في شوال، فجامع أهله في هذا اليوم فهل تجب عليه الكفارة في قول الإمام أحمد ؟ تقول: لا؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يوجب الكفارة في الجماع إلا في نهار رمضان، ولا يُنزِّل القضاء منزلة الأداء، فهذا يسمى ضابط؛ لأنه متعلق بمسألة أو باب معين.

    فيفرقون بين الضابط والقاعدة من هذا الوجه، فتارة يقولون: ضابط، وتارة يقولون: قاعدة.

    المقصود أن العلماء احتاجوا إلى وضع علم القواعد؛ لأنك عندما تقرأ الفقه تتناثر عندك الأدلة وتكثر عليك المسائل، فوضعوا قواعد معينة تجمع كثيراً من المسائل، بحيث يمكن أن يفتى في أكثر من مسألة وأكثر من باب، وإذا جاءتك المسألة تستطيع أن تعرف ضابطها أو تعرف قاعدتها؛ فوضعوها تيسيراً للفتوى وتيسيراً للقضاء وتيسيراً للتعليم.

    فهذا أصل مسألة التقعيد، ولا يقدم عليه إلا من كان عنده إلمام بالأدلة من الكتاب والسُّنة، وعنده إلمام بأسلوب القواعد؛ لأن بعض الأحيان توضع القاعدة فيعترض عليها في اللفظ وفي العبارة التي تخُتار، وتجد بعض العلماء يقول: هذه عبارة مكررة، فحينما قالوا: قاعدة: (أن الشريعة قامت على جلب المصلحة ودرء المفسدة) قال بعض العلماء: هذه القاعدة فيها تكرار، قيل: لماذا؟ قال: لأن جلب المصلحة يتضمن درء المفاسد؛ لأن كل مفسدة تدرؤها تُحَصَّل بها مصلحة.

    وهذا فن وضع القواعد، فيحتاج إلى الألفاظ.. إلى العبارات.. إلى الجمل؛ لأنه لا بد أن يكون عارفاً بالمصطلحات، والمصطلحات هي كلمات وعبارات معينة يستخدمها العلماء للدلالة على أشياء مخصوصة في فن الفقه. فمثلاً: قوله: كل ما كانت له منفعة مباحة جاز بيعه، فحينئذٍ انصب الكلام على المنفعة وأهمل العين التي تولدت منها المنفعة، فهذه قاعدة قاصرة؛ لأنه ليس في الشريعة أن يبني جواز بيع الأعيان بناءً على المنافع، فهذا لا يطرد، فقد يكون الشيء مما تجوز منافعه ولا يجوز بيعه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756442430