إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الحجر [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من حجر عليه لأجل مصلحة نفسه، فإنه لا يفك الحجر عنه إلا إذا تحقق أنه يستطيع أن يرعى مصلحة نفسه، ولهذا جعلت الشريعة علامات وأمارات تدل على أن المحجور عليه قد صار أهلاً لتحمل المسئولية، وبثبوت تحقق هذه العلامات يفك الحجر عنه وإلا فلا.

    1.   

    العلامات الموجبة لرفع الحجر عن الصغير والمجنون والسفيه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة]

    ذكرنا غير مرة أن الفقهاء يرتبون المسائل والأحكام، ويراعون الترتيب أو التسلسل المنطقي.

    فأنت إذا حكمت بالحجر على السفيه والصبي والمجنون وبيّنت الأثر المترتب على الحجر يرد السؤال: متى يفك الحجر عنهم؟

    فشرع في هذه الجملة في بيان متى يفك الحجر؟

    وهذا كمنهج القرآن في آية النساء فإن الله عز وجل قال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، وهذه الآية تشمل الصبي بنوعيه: اليتيم وغير اليتيم، وتشمل كذلك المجنون والسفيه ثم قال: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] فذكر فك الحجر عنهم.

    فعندنا ثلاثة جوانب ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها:

    - إثبات الحجر.

    - والأثر المترتب على الحجر.

    - وفك الحجر.

    فهذه هي الثلاث المراحل في باب الحجر:

    المرحلة الأولى: من الذي يحجر عليه، وما هي الأمور الموجبة للحجر؟

    المرحلة الثانية: إذا حكمنا بالحجر لسبب السفه والصبا والجنون، فما الذي يترتب عليه؟ ذكرنا أن الذي يتعامل معهم إما أن يعلم وإما ألا يعلم، فإن علم فوجود العقد وعدمه على حد سواء فيجب رد عين المبيع، وإذا حصل فيه نقص فإنه يرد بحاله ولا يضمنه، وأما إذا كان لا يعلم فإنه يضمن على الأصل الشرعي.

    المرحلة الثالثة: متى يُفك عنهم الحجر؟

    فقال رحمه الله: (وإن تم لصغير)

    هناك أمران لا بد من توفرهما في الصغير: البلوغ والرشد.

    فلا بد أن يبلغ وأن يكون رشيداً، فهاتان علامتان متى ما وجدتا حُكم بفك الحجر عن الصبي واليتيم، والأصل في ذلك قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] فذكر علامتين:

    - العلامة الأولى: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] أي: وصلوا سن النكاح، وهو قريب من طور الحلم.

    - وأما العلامة الثانية: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] فعلق الحكم فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ [النساء:6] وجاء مرتباً على شرطين: البلوغ والرشد.

    فقد يبلغ الصبي وهو سفيه أو وهو مجنون، فلابد من بلوغه ووجود الرشد فيه.

    وبعض الأطفال وبعض الصغار من نعم الله عز وجل عليه أنه ربما أعطي من الذكاء والفطنة وحسن النظر ما يسبق بلوغه، فإذا أعطي المال وحصلت عنده خبرة ودربة على التعامل خاصة أبناء التجار، كما في القديم حيث كان أبناء التجار هم الذين يتولون بأنفسهم المعاملات، وكان آباؤهم يعودونهم على ذلك، فهذا التعوّد ربما يكسب الصبي من الفطنة ما يقارب البلوغ ويكون في حكم الفطين البالغ، فالله عز وجل اشترط شرطين قال: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6] فلو أنه كان رشيداً قبل البلوغ لم ينفعه.

    ولو أنه بلغ غير رشيد لم ينفعه، فلا بد من وجود العلامتين: البلوغ والرشد.

    علامات البلوغ

    فأما البلوغ فللعلماء فيه وجهان:

    بعضهم يقول: ينبغي أن يختبر قبل البلوغ، أي: عند بلوغه ومقاربته له.

    وبعضهم يقول: يختبر بعد البلوغ.

    فيرد السؤال: ما هو البلوغ؟ وما هي علامات البلوغ؟

    هناك علامات تتعلق بالرجال، وهناك علامات تتعلق بالنساء، وهناك علامات تتعلق بالجميع، ولذلك العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن علامات البلوغ منها الخاص ومنها المشترك.

    فأما بالنسبة للخاص فهو أقوى ما يكون في النساء، فهناك الحيض والحمل بالنسبة للمرأة، فإذا حاضت المرأة أو حملت حُكم ببلوغها وبلوغ زوجها، إن كان الحمل من زوج هي تحت عصمته؛ لأن الله يقول: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:7].

    وعلى القول بأنه يخرج الطفل من بين صلب المرأة وتريبتها فإننا نستدل بآية: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان:2]، حيث جعل الخلق في آية الإنسان من الخليط بين ماء الرجل وماء المرأة؛ فأثبت أن الخلق منهما معاً، فدل على أنه كما يحكم بالبلوغ للرجل يحكم بالبلوغ للمرأة.

    فإذا حملت المرأة حُكم ببلوغها، وكذلك إذا حاضت حُكم ببلوغها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) فقوله: (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: مكلفة بلغت سن المحيض وحاضت، وليس المراد (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: أنها تكون حائضاً أثناء الصلاة؛ لأن الحائض لا تصلي.

    فمراده بوصفها بكونها حائضاً أي: بالغة، وهذا كما درج عليه الأئمة، وفسروا به هذا الحديث.

    فدل على أن الحيض والحمل -وهذا بإجماع العلماء- يعتبر من علامات البلوغ عند المرأة.

    وأما العلامات الخاصة بالرجال فليس هناك إلا إنبات الشعر في اللحية والوجه على القول بأن الإنبات عام وليس بخاص بالعانة، وهذا فيه نظر.

    أقوال العلماء في السن المعتبرة للبلوغ

    قال المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة]

    علامات البلوغ منها علامة السن، واختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين:

    جمهور العلماء على أن السن علامة من علامات البلوغ، وأن للبلوغ سناً إذا وصل إليه الصبي حكم بكونه بالغاً إذا لم ير علامة البلوغ قبله، أما لو رؤيت علامة البلوغ قبل خمس عشرة سنة فلا إشكال، كصبي أنزل المني وعمره أربع عشرة سنة أو عمره ثلاث عشرة سنة، أو امرأة حاضت وعمرها عشر سنوات فإنها بالغة.

    فإذا قلنا: إن خمس عشرة سنة هي علامة البلوغ لمن لم تظهر منه علامة البلوغ قبل هذا السن، فجمهور العلماء على أن هناك سناً معيناً إذا وصل إليه الصبي أو وصلت إليها الصبية حكم ببلوغ كل منهما، وإن لم تظهر علامات البلوغ قبل ذلك، وخالف الظاهرية في ذلك.

    واستدل الجمهور، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السِنّ علامة للبلوغ كما ثبت عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني -يعني للقتال- وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) هذه هي الرواية التي في صحيح مسلم : (عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) لكن في رواية البيهقي يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، ولم يرني قد بلغت، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني ورأى أني بلغت) .

    فدل هذا على أن الخمس عشرة سنة فاصل بين البالغ وغير البالغ.

    وعلى هذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السن علامة للبلوغ.

    وقال الظاهرية: ليس السن بعلامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: (الصبي حتى يحتلم) فقالوا: ليس عندنا علامة إلا الاحتلام فقط، وهو إنزال المني كما سيأتي.

    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أن السن علامة يُستدل بها على البلوغ.

    والسؤال: ما هي السن المعتبرة للبلوغ؟

    فذهب الحنفية إلى التفريق بين الرجل وبين المرأة، فعند الحنفية أن المرأة إذا بلغت سبع عشرة سنة حكم ببلوغها، والرجل إذا بلغ ثماني عشرة سنة، ولا يحكم بالبلوغ قبل ذلك إذا لم تظهر العلامات؛ قالوا: لأن المرأة فيها من شدة الشهوة والطبيعة والغريزة ما يجعل بلوغها أبكر من الرجل، وهذا معلوم: أن النساء في البلوغ أعجل من الرجال.

    فقالوا: نفرق بينهم بسنة وحول كامل، ووافقهم المالكية، فقالوا: ثماني عشرة سنة هي البلوغ، ودليلهم الإجماع؛ لأن أقصى سن اعتد به: ثماني عشرة سنة، إلا طائفة من الظاهرية يقولون: إحدى وعشرين سنة؛ لأنه يصير فيها جداً على مسألة الشافعي رحمه الله حيث يقول: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت ابنة إحدى وعشرين سنة وهي جدة.

    تكون تزوجت وعمرها تسع سنوات، وأنجبت في العاشرة، ثم هذه التي أنجبتها مرت عليها تسع سنوات أخرى، فيصبح عمر الأم تسع عشرة سنة والبنت تسع سنوات، فزوجت كأمها وهي بنت تسع، فحملت وأنجبت على العشرين، فتدخل في الواحد والعشرين وهي جدة.

    فقال: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت جدة ابنة إحدى وعشرين سنة.

    فالإمام ابن حزم رحمه الله يقول: هذا أقصى شيء، فأنا آخذ باليقين، فيكون هو السن الذي يعتبر للبلوغ، لكن بالنسبة لجماهير العلماء يكاد يكون شبه إجماع على أنه ثماني عشرة سنة، والمالكية والحنفية يقولون: أقصى سن ثماني عشرة سنة وما وراءها متفق على أنه بلوغ، والخلاف فيما قبله، واليقين أنه صبي فنبقى على اليقين.

    هذا بالنسبة لدليل من يقول: إنها ثماني عشرة سنة، ولذلك المالكية يقولون:

    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

    أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر

    هذا بالنسبة للمالكية حيث لا يفرقون بين الرجال والنساء.

    والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي وطائفة من أهل الحديث -رحمة الله على الجميع- من أن خمس عشرة سنة هي السن التي يفرق فيها ويحكم فيها بالبلوغ، وأنه إذا بلغ الصبي أو الصبية خمس عشرة سنة ولم ير علامة البلوغ قبل ذلك؛ فإنه يُحكم ببلوغهم بخمس عشرة سنة للحديث الذي ذكرناه، فإنه نص في موضع النزاع.

    ولذلك لما بلغت هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله برحمته الواسعة- كتب إلى الآفاق: انظروا فمن وجدتموه قد بلغ خمس عشرة سنة؛ فاضربوا عليه الجزية. فعده بالغاً.

    وعلى هذا نقول: سن البلوغ خمس عشرة سنة، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، فالجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة ولم تحض ولم تحمل ولم تُنبت ولم تُنزل نحكم بكونها بالغة.

    اختلاف العلماء في اعتبار الإنبات من علامات البلوغ

    قال رحمه الله: [أو نبت حول قبله شعر خشن]

    العلامة الثانية: الإنبات، والإنبات المراد به نبات الشعر، فيعرف بلوغ الرجل وبلوغ المرأة إذا نبت الشعر حول العانة، ويكون حول القبل، والشعر ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: الشعر الضعيف الذي يكون عند أول الخلق، وهذا الذي تسميه العرب بالزغب، فمثله لا يحكم فيه بالبلوغ، حتى أجاز العلماء رحمهم الله حلقه وجزه إن كان في الوجه؛ لأنه ليس بشعر لحية ولا يعد من اللحية.

    وأما القسم الثاني من الشعر: فهو الشعر الشديد الخشن، ولذلك يعبر بعض العلماء فيقول: أن ينبت الشعر الخشن. التفاتاً وتنبيهاً على المؤثر، فإذا نبت الشعر الخشن حول القبل وحول العانة -وهي أسفل السُرة فيما بينها وبين القبل- حكم ببلوغه وبلوغها.

    وهذه العلامة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فالجمهور على أن الإنبات علامة، ودليلهم حديث محمد بن كعب القرظي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حَكَّم سعداً رضي الله عنه في بني قريظة حكم سعد فقال: (أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم).

    فلما حكم فيهم بهذا الحكم قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سموات) فأصاب رضي الله عنه الحق والصواب.

    فحكم أن تقتل مقاتلتهم، والمقاتل هو البالغ، وقوله: (وأن تسبى ذراريهم)، أي: الذين هم صغار ودون البلوغ، ويشمل ذلك أيضاً النساء، فلما حكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم؛ قال محمد بن كعب : (فكانوا من وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم ينبت تركوه، فوجدوني لم أنبت، فجعلوني في الذرية) .

    وحديث محمد بن كعب القرظي حديث صحيح، وفيه دليل على قتل المقاتل البالغ، ففرقوا بين البالغ وغير البالغ بالإنبات.

    فدل على أن إنبات الشعر في هذا الموضع يعد علامة على البلوغ، وأن من نبت شعره في هذا الموضع يؤاخذ وتسري عليه أحكام البالغ.

    وهذا هو الصحيح، وخالف بعض العلماء فقال: إن الإنبات ليس بدليل، وهذا ضعيف، ولكن السنة قوية في دلالتها على أن الإنبات علامة من علامات البلوغ.

    ثم اختلفوا: هل يختص بشعر العانة أو يشمل أيضاً شعر الإبطين وشعر اللحية والوجه، فقال بعضهم بالتعميم، وقال بعضهم بالتخصيص، لكن الأقوى أن يخصص ذلك بشعر القبل، فإذا نبت هذا النوع من الشعر حكم ببلوغه.

    إنزال المني علامة من علامات بلوغ الصغير

    قال رحمه الله: [أو أنزل]

    وهذا النوع من العلامات مجمع عليه، والإنزال علامة مشتركة إضافة إلى علامتي السن والإنبات، فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغها، ولو بلغ الصبي خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغه، فلا يختص ذلك بالرجال دون النساء ولا العكس.

    كذلك أيضاً الإنبات يشمل الرجال والنساء، وكذلك أيضاً الاحتلام وهو خروج المني سواءً في اليقظة أو المنام، فإن خرج حكمنا ببلوغ الشخص، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) وهذا العلامة مُجمع عليها.

    هذا بالنسبة للصبي، فإذا ظهرت أحد هذه العلامات حكمنا ببلوغه، ويضاف إليها ظهور الرشد متى ما بلغ الصبي.

    الرشد والعقل من علامات فك الحجر عن المجنون

    قال رحمه الله: [أو عقل مجنون ورشد].

    هنا تنتبهون إلى دقة المصنف، فالمصنف رحمه الله ذكر علامة البلوغ، ثم أضاف إليها العقل للمجنون، وكأنه ينبه إلى أن البلوغ وحده لا يكفي بل لا بد أن يبلغ عاقلاً؛ لأنه ربما بلغ اليتيم مجنوناً -نسأل الله العافية والسلامة- أو يبلغ ما عنده عقل، فحينئذٍ لا يؤثر البلوغ، فقرن البلوغ بالعقل، ثم قرن كلاً منهما بالرشد، وهذا من دقته رحمة الله عليه، فلابد عندنا بالنسبة للصبي من أن يبلغ ويكون عنده عقل ورشد.

    وبعض العلماء يقول: يبلغ ويرشد؛ لأن الرشد يستلزم العقل فيكتفي بالعلامتين، لكن المصنف أدخلهما في بعضهما حتى لا يكرر.

    فالسؤال: متى نفك الحجر عن الصبي؟ ومتى نفك الحجر عن المجنون؟ ومتى نفك الحجر عن السفيه؟ هذه هي الجمل الآن.

    بينّا أن الصبي لا بد أن يبلغ، وذكرنا علامات البلوغ ويكون عند بلوغه عاقلاً راشداً.

    ومعلوم أن الرشد يستعمل في الدلالة على معانٍ، فتارة يقصد منه رشد الدين وتارة يقصد منه رشد الدنيا.

    فيقال: فلان رشيد، إذا كان على صلاح وخير، ومنه قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] فالرشد وسبيل الرشد سبيل الحق والصواب والهدى، فهذا استعمال الرشد بمعنى الخير والسداد.

    ويستعمل الرشد بمعنى: حسن النظر في أمور الدنيا، وقد أشار الله إليه بقوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] فالرشد المراد به هنا أن يكون رشيداً يحسن التصرف في ماله.

    وبناءً على ذلك: إذا بلغ الصبي فيجب على الولي أن يختبره لكي يكتشف العلامة الثانية وهي الرشد.

    والرشد في الصبيان يختلف على حسب اختلاف المحجور عليهم من الصبيان، فهناك رشد يتعلق بالنساء، وهناك رشد يتعلق بالرجال، فولي اليتيم يعطي اليتيم مالاً معيناً عند البلوغ أو مقاربة البلوغ يختبره به في تصرفه.

    فمثلاً: إذا كان هناك عيد أو كانت هناك مناسبة واحتاج الصبي أن يشتري ثوباً أو حذاءً أو نحو ذلك فإنه يعطيه مالاً، ويقول له: اذهب واشتر لنفسك؛ ولا يحدد له ما الذي يشتري، ويعطيه مالاً معيناً يكون بمثابة الاختبار.

    مثلاً: يمكن أن يشتري الحذاء بعشرة، فيعطيه خمسة عشر ريالاً حتى ينظر كيف يتصرف؛ لأنه لو لم يعطه إلا عشرة فسيشتري الذي قيمته عشرة، فيعطيه بطريقة ليس فيها ضرر من كل وجه على ماله؛ لأن هذا محتاج إليه.

    فيعطيه مثلاً -اثني عشر ريالاً- أو ثلاثة عشر ريالاً بحيث يكون هناك سلعة بهذه القيمة وأقل، فينظر كيف يشتري؟

    وقال بعض العلماء: بل يعطيه نفس القيمة، والسبب في هذا: أنه إذا أعطي نفس القيمة فسينظر هل يستطيع أن يكاسر البائع ويرغم البائع ويدفع إغراء البائع به، فإذا اشتراها بعشرة علمنا بأنه رشيد، وإن ألح عليه البائع لكي يختله ويضر به، فجاء يشتكي ويقول: ما وجدت أحداً يبيعني بعشرة، أو لا أشتري بأكثر من عشرة، علم رشده، وإن جاء يقول: لا، سأشتريها بخمسة عشر، علم سفهه.

    والصحيح والأقوى: الأول، أنه يعطيه ويستفضل قليلاً؛ لكي ينظر كيف يحافظ على ماله، هذا بالنسبة للرجل، فيُختبر في شراء الأشياء التي تتعلق بالرجال كالملابس ونحو ذلك، أما المرأة فقد كانوا في القديم يختبرون النساء بما يصلح شأنهن، أو بما يكون خاصاً بهن من أمور الغزل وشراء الملبوسات ونحو ذلك، فإذا جاءت مناسبة أعطاها مالاً، ثم وكل إليها أن تشتري بهذا المال، فإذا ذهبت تشتري ثيابها واشترت بسفه؛ استمر الحجر عليها، وإن اشترت برشد؛ رفع يده عنها.

    ويكرر هذا مرتين أو ثلاثاً، وأقل شيء يضمن به أنه مصيب: ثلاث مرات، فقد يعطي مرة ويشاء الله أن تلك المرة يظهر له فيها أنها راشدة وربما تكون رمية من غير رامٍ، فيكرر مرتين وثلاثاً حتى يتأكد.

    وقال بعض العلماء: أحب أن ينوِّع، فتارة يعطيه ليشتري حذاءً، وتارة يعطيه ليشتري طعاماً، وتارة يعطيه ليشتري كتاباً أو قلماً، أو نحو ذلك، فيختبره بأنواع متعددة حتى يستمرئ التعامل مع الناس ويُكشف على حقيقته.

    وهذا لا شك أنه أبلغ في الاحتياط، وظاهر القرآن يدل عليه؛ لأن الله يقول: وَابْتَلُوا [النساء:6] والابتلاء: الاختبار كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7] أي: يختبركم.

    وعلى هذا: لا بد وأن يختبر ويكرر عليه الاختبار حتى يثبت رشده في الشراء والبيع.

    أيضاً مما يشمله الاختبار: أن تختبر الصبية والصبي بالبيع، فكما يختبر بالشراء يختبر بالبيع، فيعطى الصبي شيئاً يبيعه إذا كان أهلاً للبيع، فيقال له: خذ هذه السلعة وبعها في السوق، ويترك له الأمر ولا يحدد له قيمة، وإنما يقال له: بعها بالسوق، فيذهب، فإن أحسن بيعها وأحسن التصرف فيها فالحمد لله، ويكرر له مرتين أو ثلاثاً حتى يثبت أنه محسن للبذل؛ لأن الذي يأخذ المال لا يحكم بكونه رشيداً فيه إلا من جانبين:

    الجانب الأول: جانب الأخذ.

    والجانب الثاني: جانب الإعطاء.

    فقد يكون رشيداً في الأخذ سفيهاً في الإعطاء، وقد يكون سفيهاً في الإعطاء رشيداً في الأخذ، فبعض الناس إذا اشترى لا يمكن أن يغبن، لكن إذا باع يغبن، والعكس، فمن الناس من يغبن إذا اشترى ولا يغبن إذا باع، فإذاً لا بد وأن يكون رشيداً في بيعه وشرائه، وفي أخذه وإعطائه.

    فإذا تم له ذلك وأعطيناه السلعة فباعها بقيمتها أو قريباً من قيمتها دون غبن ظاهر فيها؛ فإنه يحكم برشده ويعطى المال إليه؛ لأنه ثبت كونه مصلحاً للمال أخذاً وإعطاءً، بيعاً وشراء.

    الرشد علامة لفك الحجر عن السفيه

    قال رحمه الله: [أو رشد سفيه]

    سبق وأن ذكرنا أن السفيه هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فإذا حجرنا عليه ثم صار رشيداً في بيعه وشرائه وأخذه وعطائه نفك الحجر عنه؛ لأن ما شرع لعلة يزول بزوالها، فالأصل أنه يملك ماله، فالله يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] فإذا زال وصف السفه وجب رد ماله إليه؛ لأنه مالك لماله، ولا يجوز أن يمنع من التصرف في مال يملكه.

    حكم رفع الحجر من دون الحاجة إلى حكم القاضي

    قال رحمه الله: [زال حجرهم بلا قضاء]

    مسألة فك الحجر عن المحجور عليهم فيها نوعان:

    - نوع منهم لا يفك الحجر إلا بحكم القاضي.

    - ونوع منهم يفك الحجر عنهم بدون حكم القاضي.

    فمثلاً: عندنا السفيه، مذهب طائفة من العلماء أنه لا يفك عنه الحجر إلا بحكم القاضي؛ للاختلاف في السفه والخروج من السفه واختلاف الأعراف في ذلك، فقالوا: يحتاط، فلا يحكم بفك الحجر عنه إلا بحكم القاضي، وقال بعض العلماء: هؤلاء الثلاثة: الصبي والمجنون والسفيه إذا رشدوا وزال عنهم وصف السفه والجنون والصبا حكمنا بأهليتهم للتصرف بدون حكم القاضي ويرفع الحجر عنهم.

    ما فائدة الخلاف؟

    فائدة الخلاف: لو أن صبياً حكمنا بالحجر عليه، وبلغ اليوم، وكان قد اختبره وليه عند البلوغ وإذا به رشيد، فلما بلغ اليوم اشترى عمارة بنصف مليون، ثم سئل فقيل: هل هذا رجل محجور عليه فلا نصحح البيع؟ فنقول: إن الحجر عليه زال بمجرد بلوغه إيناس الرشد منه.

    فإن الله تعالى لم يشترط حكم القاضي وقال: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] هذا في الصبي.

    كذلك لو أن مجنوناً حجرنا عليه وأفاق من جنونه، فقال له رجل: بعني مزرعتك بخمسمائة ألف؛ فباعها بخمسمائة ألف، وقيمتها تساوي خمسمائة ألف، فإننا نقول: إن هذا المجنون متى ما زال عنه السبب الموجب للحجر عليه رجع حراً في ماله يتصرف فيه كما يتصرف العاقل.

    وهكذا بالنسبة للسفيه فإنه يُحكم بفك الحجر عنه بدون حاجة إلى حكم القاضي، أما لو اشترطنا حكم القاضي، وتصرف الصبي أو السفيه أو المجنون فباع أحدهم شيئاً اليوم وقد زال المانع من الحجر عليه فإنه ينتظر إلى فك الحجر، ويبقى البيع معلقاً ومردوداً إلى نظر الولي، فإن أجازه صح وإن لم يجزه لم يصح.

    مسألة ثانية من فوائد الخلاف: لو أن الصبي بلغ رشيداً وتصدق في هذا اليوم بألف، وليس فيه غبن على ماله، فإن قيل بأن الحجر يزول بمجرد وجود علامة البلوغ والرشد، فحينئذٍ صدقته نافذة، وعطيته صحيحة، والعكس بالعكس.

    ومثال آخر: لو أن هذا الصبي بلغ اليوم وتصدق أو تبرع بألف لأخيه، ثم توفي في حادث، ولم يكن مريضاً مرض الموت، فهذه الألف عطية، وإن قلنا: إن الحجر عليه لا يفك إلا بحكم القاضي فهي لاغية؛ لأن عطية المحجور عليه قبل فك الحجر عنه لا تصح، فترد الألف وتبطل العطية.

    وإن قلنا: يفك عنه بمجرد بلوغه ورشده، فعطيته نافذة وتُملك بمجرد القبض.

    إذاً: هذه المسألة -هل نفك الحجر عنه بمجرد وجود علامة الفك أم أنه لا بد من حكم القاضي؟- لها فوائد ولها آثار: والصحيح: أنه لا يشترط حكم القاضي على ظاهر النص في التنزيل.

    ما تخص به المرأة من علامات البلوغ

    قال رحمه الله: [وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض].

    وتزيد الجارية الأنثى بعلامة في بلوغها وهي: الحيض؛ لأنه يكون بالنساء، فإذا حاضت المرأة حكم ببلوغها.

    قال رحمه الله: [وإن حملت حكم ببلوغها]

    لأن الحمل يكون عن حيض.

    حكم رفع الحجر قبل تحقق الشروط

    قال رحمه الله: [ولا ينفك قبل شروطه]

    ولا ينفك الحجر قبل شروطه، يعني: قبل وجود الشروط المعتبرة لفك الحجر، وهي:

    - البلوغ للصبي مع الرشد.

    - والرشد في السفيه.

    - والعقل في المجنون مع الرشد.

    نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراشدين في الدين والدنيا.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992647