إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوكالة [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد يطرأ على الوكيل شيء من الغفلة أو التساهل فيشتري لموكله شيئاً معيباً سواء كان يعلمه أو يجهله، وربما يتساهل في دفع الثمن فيتلف، فهذا له حقوق وعليه حقوق في شرعنا الحنيف حسبما فصله أهل العلم، وأحياناً قد يطغى حب الموكل لوكيله فيفوضه في شراء كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء وبأي ثمن شاء، فهذا منعه الشارع تجنباً للضرر الحاصل من وراء ذلك، وحفظاً على علاقة المحبة والمودة.

    1.   

    التفصيل في مسألة إذا اشترى الوكيل سلعة معيبة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد تقدم أن الوكيل ينبغي عليه أن يتقيد في تصرفاته بما أذن له وكيله، ولا يجوز له أن يفعل شيئاً لم يأمره به وكيله، ولم يجر العرف به إذا أطلق له الوكيل، وبينا أن هذا هو الأصل الذي تقتضيه النصيحة للمسلم، وأنه إذا وُكّل الإنسان في الشيء فعليه أن ينظر إلى العرف وما يقتضيه من المصالح فيسعى في تحصيلها، وما يقتضيه من درء المفاسد فيسعى باجتنابها وتركها.

    السؤال هنا: إذا وكل شخصاً أن يشتري له أو يبيع عنه، فإنك إذا أمرت شخصاً أن يشتري لك أو يبيع عنك فإنك تقصد أن يبيع بيعاً صحيحاً، وأن يشتري بالوجه الصحيح المعتبر شرعاً، وكذلك أيضاً حينما وكلته بالشراء فإنك إنما عنيت أن يشتري شيئاً سليماً خالياً من العيوب، فلو أن رجلاً قال لرجل: اشتر لي أرضاً بالمدينة، وأعطاه أوصافها من طولها وعرضها .. إلخ، فالواجب على المشتري والوكيل أن يتحرى في هذه الأرض، وأن يتقي العيب المؤثر، كذلك لو قال له: اشتر لي عمارةً، فإن الأصل يقتضي أن يشتري عمارةً سالمةً من العيوب، وأن لا يتساهل في عقده بحيث يقبل كل مبيع دون أن يتحرى سلامته من العيوب.

    وبناءً على ذلك: لو قلت للوكيل اشتر لي أرضاً أو سيارةً أو مزرعةً.. إلى آخر ما يشترى، فإنه لا يخلو من أحوال:

    الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً سالماً من العيوب

    الحالة الأولى: أن يشتري شيئاً سالماً من العيوب متفقاً مع الشروط التي اشترطتها، فالبيع لازم والشراء لازم، وحينئذٍ يلزمك أن تتم الصفقة، ولا وجه لأن تمتنع منها، مثال ذلك: لو قلت له: اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فذهب واشترى السيارة بهذه الصفات سالمةً من العيوب، فإنك تلزم بها.

    الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً لا يعلم بعيبه

    الحالة الثانية: أن يشتري السيارة التي أمرته بها ويكون فيها عيب، فالعيب إما أن يكون مؤثراً، وإما أن يكون غير مؤثر، وبينا فيما تقدم من مسائل البيوع العيب المؤثر والعيب غير المؤثر، لكن محل الكلام هنا أن يشتري شيئاً معيباً عيباً مؤثراً، يعني: عيباً يوجب الرد، فلو قلت له: اشتر لي سيارةً، فاشترى سيارةً فيها عيبٌ في محركها مثلاً، وهذا العيب مؤثر، فحينئذٍ إذا اشترى على هذا الوجه فله صورتان:

    الصورة الأولى: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو لا يعلم بالعيب الموجود فيها.

    الصورة الثانية: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو يعلم بوجود العيب فيها.

    إذاً: في الحالة الثانية إذا وكلته أن يشتري شيئاً واشتراه وبه عيب فلا يخلو هذا الوكيل من صورتين:

    إما أن يشتري هذا الشيء المعيب وليس عنده علمٌ بالعيب، حيث خدعه البائع وباعه سلعةً معيبة، وإما أن يكون العكس، فيعلم بوجود العيب، ويشتري لك السلعة وبها العيب، ثم يأتي ويقول: هذه السيارة التي طلبت مني شراءها، ثم يتبين أن بها عيباً، ما الحكم في الصورة الأولى والصورة الثانية؟

    إذا اشترى لك سيارة لا يعلم بعيبها فإن الأصل الشرعي يقتضي أن المشتري إذا اشترى شيئاً معيباً فله حق الرد، وقد ذكرنا دليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وبيع المعيب من أكل المال بالباطل، فإنه إذا دفع عشرة آلاف في شيء يستحق ثمانية آلاف فقد أُكلت الألفان بدون وجه حق وبالباطل، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصرّوا الإبل ولا الغنم، فمن اشتراها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، وذكرنا الإجماع على هذين النصين من حيث المعنى والجملة، لكن إذا ثبت أن العيب يوجب الرد فاشترى لك أرضاً وتبين أن هذه الأرض بها عيب تستحق به الرد قضاءً، ولم يعلم وكيلك بهذا العيب فحينئذٍ تطالب الوكيل أن يرد هذه الأرض، ويجري في المسألة ما سبق بيانه في باب البيوع في المبيعات.

    الصورة الثانية: وهي التي تهمنا هنا: أن يشتري لك سلعةً وهو يعلم بعيبها، فالوكيل خان الأمانة وتجاوز الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها، فلو أنه علم أن السيارة بها عيب، أو أن الكتاب معيب، أو أن المسجل معيب، أو أن أي شيء طلبت منه أن يشتري به عيب، واشترى مع علمه بالعيب، وقد قال له البائع: يا فلان! إن هذه السيارة بها عيب كذا وكذا، قال: قبلت، فالسؤال الآن إذا قبل وكيلك بالشراء واشترى المعيب، أولاً: هل البيع صحيح؟

    ثانياً: إذا صححنا البيع هل يكون البيع لازماً لك أم لازماً للوكيل؟

    فمن حيث الأصل أن الوكيل حينما اشترى السيارة بعشرة آلاف وهو يعلم أن بها هذا العيب، فقد وقع الإيجاب والقبول مع بائع ومشترٍ والثمن والمثمن، كلٌ منهما مباح من حيث الأصل الشرعي، فأركان البيع وشروط صحته متوفرة، فالبيع صحيح، فالبائع الذي باع السيارة باعها لشخص يعلم بعيبها، وباعها لشخص مستوفٍ لشروط صحة البيع، فالبيع من حيث الأصل صحيح، والقاعدة الشرعية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، لكنه صحيح للوكيل وليس لمن وكله؛ لأن الوكيل حينما اشترى هذا الشيء اشتراه معيباً، وإن قال في نفسه: هذا لموكله، فموكله لم يوكله بشراء هذا الشيء، فيكون اشتراه لنفسه؛ لأنه رضي بالبيع وقبل البيع فيصبح على ملكه ومسئوليته.

    وبناءً على ذلك تأتي عندنا القاعدة: أن من اشترى المعيبات وقد وكّل بالشراء دون أن يأذن له موكله بشراء المعيب فإنه يصح البيع على ذمته لا على ذمة من وكله، لكن يصح البيع على ذمته دون ذمة الموكل إذا لم يرض الموكل.

    تبقى مسألة ثانية وهي: أنه في نيته وعقيدته اشترى لموكله، وقد يصرح بذلك في عقده، فحينئذٍ من حيث الأصل لما وكله موكله أن يشتري أرضاً بمائة ألف أو بنصف مليون أذن له أن يشتري فاشتراها معيبة، فمعنى ذلك أن العقد تام، نقول للموكل: انظر في هذه الأرض وانظر في هذه السيارة وهذا الكتاب، فإن أعجبك ورضيته مع وجود العيب كان البيع صحيحاً على ذمتك؛ لأنه يكون من باب بيع الفضول، وقد ذكرنا أن أصح أقوال العلماء رحمهم الله في بيع الفضول: أنه يصح إذا أذن المالك الحقيقي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه.

    الخلاصة:

    إذا وكل الموكل وكيله أن يشتري السلعة واشتراها دون أن يوجد بها عيب فالبيع صحيح والوكالة تامة ولا إشكال.

    وإذا وكله فاشترى شيئاً معيباً فإما أن يكون الوكيل عالماً بالعيب أو غير عالم، فإن كان غير عالم بالعيب استحق أن يرد السلعة واستحق أن يأخذ أرش العيب وحينئذٍ لا إشكال، وإن كان عالماً بالعيب فحينئذٍ نقول للموكل: هل ترضى هذا الشيء؟ فإن قال: لا أرضى، نصحح البيع على ذمة الوكيل ونوجب رد المال إلى الموكل أو شراء أرض أخرى أو سيارةٍ أخرى، وتصحيح الوكالة يكون على الوجه المعتبر شرعاً.

    الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً يعلم بعيبه

    قال رحمه الله: [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله فإن جهل ردّه].

    إذاً: عندنا الصورة الأخيرة هي التي ذكرها المصنف: (من اشترى ما يعلم عيبه)، لكن ينبغي أن نعلم أن الحكم لا يختص بالشراء، ولا يختص بالبيع؛ فإنه يشمل الإجارات ويشمل بقية المعاملات التي ذكرنا فيها الوكالة، فمن وكّل وكيلاً لكي يقوم بمهمة أو عقدٍ فينبغي على الوكيل أن يلتزم بالعرف، وهذا مراد المصنف من هذا المثال أن يقول لك: إن العقود إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى الصحيح، ولا تنصرف إلى الفاسد، وتنصرف إلى السليم ولا تنصرف إلى المعيب، مثال ذلك:

    لو قلت لوكيلٍ: استأجر لي شقةً بمكة، وتكون هذه الشقة بجوار الحرم أو على شارع كذا، وحددت له الوكالة، استأجر لي شقة بمكة، استأجرها لي مدة العشر الأواخر، استأجرها لي شهراً، استأجرها لي سنةً، فذهب واستأجر لك شقةً، ولكن في سقفها عيب يخر منه الماء، أو أن الماء الموجود فيها ملوث، فهذه عيوب كلها تؤثر في الإجارة، وتعيق المنفعة التي من أجلها استأجرت، أو استأجر لك في موضعٍ لا يمكن أن ترتاح فيه، كجوار شيء مزعجٍ أو نحو ذلك مما لا تستطيع أن تنام فيه، وأنت أخذت هذه الشقة للراحة أو نحو ذلك، المهم وجد العيب، فنقول: إذا استأجرها عالماً بالعيب لزمه أن يدفع المال لك ويبقى وجهه لمن أجره، ولا تلزم بالوكالة بدفع الأجرة، وإن استأجر وهو لا يعلم بالعيب فإنك ترد هذه الإجارة وتفسخها وتأخذ حقك كاملاً.

    إذاً: الأمر لا يتوقف على البيع ولا على الشراء، بل يشمل العقود التي تتعلق بالمعاملات مما هو محلٌ للوكالة.

    (فإن جهل ردّه).

    أي: الوكيل، فإن جهل رد المبيع، وذلك للقاعدة والأصل الذي ذكرنا: أن العيب يوجب الرد.

    تذكرون في آخر الفصل الماضي أنه ذكر المصنف مسائل قال فيها: (ومن وكله أن يبيع حالاً فباع مؤجلاً، أو وكله أن يبيع مؤجلاً فباع حالاً، أو يبيع بنقد البلد، فباع بغيره)، ذكرنا هذه المسائل، وهذه المسائل كلها تدور حول مخالفة الوكيل للوكالة، ومخالفة الوكيل للوكالة: إما أن يخالف لفظ موكله، وإما أن يخالف عرفاً جرى بالوكالة، ومن هنا تأخذ هذا المثال في قوله رحمه الله: (ومن اشترى معيباً) وتخرج منه قاعدة وهي: (أن إطلاقات الوكالة في العقود مصروفةٌ إلى الصحيح، وأن إطلاق الوكالة في المحل مصروف إلى السليم).

    (إطلاقات الوكالة في العقود) يعني: إذا وكلته ليشتري فينبغي أن يشتري شراءً صحيحاً خالياً من موجبات الفساد، فإطلاقات الوكالة في المحل والثمن والمثمن والصيغة في العقد ينبغي أن يكون سليماً.

    فممكن أن يأتي شخص ويقول: قال لي شخصٍ خذ هذه العشرة واشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فذهب واشترى نسخةً معيبة وجاء بها لصاحبه، فقال له الوكيل: لا أريد هذه النسخة، فإن الوكيل سيقول له: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت لك -لاحظ: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت- ما قلت سليمة أو غير سليمة، فتقول: هذا الإطلاق وإن كان باللفظ، لكنه مقيدٌ بالعرف أي: أن يكون سليما؛ لأن العرف أن هذا لا يكون إلا بشراء السليم السالم من العيوب، والصحيح الذي لا عيب فيه، وعلى هذا تعتبر هذه المسألة مفرعة على القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً)، وبعض الفقهاء يقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وبناءً على ذلك: (المعروف عرفاً) حينما أقول له: اشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فإن هذا الإطلاق يقتضي أن يكون سليماً، والعرف ينصرف إلى بيع السليم لا بيع الفاسد، وعلى هذا: فإنه لا وجه له أن يستدل بمطلق الوكالة على شراء المعيبات ونحوها.

    1.   

    الإذن للوكيل بالبيع لا يلزم منه الإذن بقبض الثمن

    قال رحمه الله: [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة].

    هنا مسألة من مسائل التصرفات: إذا وكلت شخصاً أن يبيع أو وكلت شخصاً أن يشتري، فعندنا في البيع سبق التنبيه على أن هناك مراحل:

    المرحلة الأولى: صفقة البيع، وهي التي تثمر الإيجاب والقبول، وما يسميه العلماء بالعقد، وإتمام الصفقة بصيغتها.

    المرحلة الثانية: تسليم المبيع ثمناً ومثمناً، فمثلاً: اشتريت أرضاً بنصف مليون فعندنا أول شيء أن يقول لك: بعتك هذه الأرض بنصف مليون، تقول: قبلت شراءها، فإذا وقع الإيجاب والقبول وقع الأصل الأول وهو: عقد البيع بعد الإيجاب والقبول، ثم هناك مرحلة التسليم والاستلام، فلأجل أن تتم صفقة البيع وهي الإيجاب والقبول يفرغ لك الأرض، وتعطيه الثمن بعد ذلك، فالصفقة -وهي الإيجاب والقبول والرضا بالعقد وإتمام العقد- مرحلة وقد تقع بغير مجلس القضاء، وقد تقع قبل الإفراغ، ثم بعد ذلك تنتقل إلى مرحلة التسليم والاستلام.

    فعندنا في البيع تسليم، وعندنا استلام فتسلمه الأرض بمعنى: أن تفرغها له، وتمكنه منها، وتوقفه عليها وتقول له: هذه الأرض وهذا الجار الشرقي وهذا الغربي، فيقع الاستلام على وجه خالٍ من الشبهة لا إشكال فيه، فاستلم الأرض، هذه المرحلة الثانية وهي: مرحلة التسليم.

    فالسؤال الآن: لو أن شخصاً قال لآخر: بع أرضي التي بمكة في حي كذا أو مخطط كذا بمائتي ألف، فهل إذا أذن له بالبيع يقبض الثمن؟

    فإن البيع إذن بالعقد، لكن مسألة استلام الثمن هذه مسألة أخرى، فقد تأذن لشخصٍ أن يتم صفقة البيع ولا تأمنه على مالك، وتوكل شخصاً آخر أن يستلم المال فهل الوكالة أو التوكيل بالبيع توكيلٌ بقبض الثمن؟

    هذا بالنسبة للبائع، وهل التوكيل بالشراء توكيل بالاستلام؟

    مثلاً: شخص قلت له: هناك أرض بجدة سافر أبرم صفقتها مع زيد من الناس الذي يملكها، فهل معنى ذلك أن هذا التوكيل يبيح للوكيل أن يستلم الأرض، أو يكون إفراغ الأرض أو تسليمها لشخصٍ آخر؟

    هذه هي المسألة، فبعد أن فرغ رحمه الله من الأصل الذي ذكرناه في إطلاقات الوكالات وتقييدها شرع رحمه الله في بيان تصرفات الوكيل، فإذا كان هناك وكالة فما هي الحدود التي ينبغي أن يتصرف فيها الوكيل ولا يجاوزها؟ وإذا وكّل بالبيع هل هو توكيل بتسليم المبيع، وإذا وكل بالشراء هل هو توكيل باستلام المبيع؟ ونحو ذلك من المسائل.

    فقال رحمه الله: (ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة).

    فلو أن رجلاً قال لآخر: بع لي أرضي بمكة، فانطلق الوكيل وباع الأرض بمائة ألف كما طلب موكله، وأفرغها، فإذا حصل البيع والإفراغ وهو التسليم بقي استلام الثمن، هل من حقه أن يطالب بالثمن؟ وبعبارة أخرى: هل الذي اشترى منه الأرض يدفع المال لهذا الوكيل أو يدفع المال للأصيل؟

    هذه هي المسألة، فقال رحمه الله: الوكيل بالبيع يتم الصفقة، وهذا بالإجماع، ويسلم المبيع، وهذا قول الجماهير، لكن الثمن لا يستلمه، فهذه ثلاثة أشياء: يتم الصفقة، يعني: القاضي يقبله إذا جلس في مجلس القضاء، ويتم صفقة البيع بالإيجاب والقبول، وأيضاً: يمكن شرعاً من تسليم الأرض للمشتري، فأصبحت المرحلة الأولى وهي العقد من حقه؛ لأنه قال: وكلتك أن تبيع، والتوكيل بالبيع يقتضي التوكيل بصيغة البيع، لكن السؤال: كيف دخلت مسألة التسليم والإفراغ؟ دخلت؛ لأن البيع يتوقف على التسليم، وتمام البيع ولزومه يتوقف على التسليم، وبناءً على ذلك فتسليم المثمن يتم صفقة البيع، فكأنه حينما أذن له بالبيع أذن له بأن يسلم المبيع، وهذا يتفرع على القاعدة الشرعية التي تقول: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه)، فالإذن بالوكالة لعقد ما هو في الحقيقة إذن لكل شيء يصحح هذا العقد ويتمه ويجعله نافذا، فلما كان تسليم المبيع يمضي صفقة البيع التي من أجلها كانت الوكالة كان التسليم معتبراً من هذا الوجه، وهذه قاعدة عمل بها جماهير أهل العلم رحمهم الله: (أن الإذن بالشيء إذن بلازمه) فليس من حق المشتري أن يمتنع، وليس من حق القاضي أن يقول: لا أقبله أن يسلم المبيع، وإنما يقول له: أتم الصفقة وسلم له المثمن، ولو امتنع الوكيل من التسليم كان من حق القاضي أن يجبره؛ لأن العقد قد تم، فإذا قلت: إن الوكيل يتم الصفقة ويسلم؛ فإن من حق القاضي أن يجبر الوكيل؛ لأنه أمر بالإفراغ وتسليم المثمَن، فوجب عليه أن يتم الصفقة والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والوفاء بالعقد يفتقر إلى هذا الأمر فوجب عليه أن يتم.

    1.   

    مسألة: إذا أخر الوكيل تسليم الثمن ثم تلف عليه

    قال رحمه الله: [ويسلم وكيل المشتري الثمن فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه].

    مثال المسألة: أردت أن تشتري بنصف مليون أرضاً في جدة أو المدينة فقلت: يا فلان! اذهب إلى فلانٍ واشتر أرضه بنصف مليون، وهذا نصف المبلغ أعطه إياه، فإنه إذا وكلته بالشراء ففيه إذنٌ أيضاً بدفع الثمن سواءٌ صرحت أو لم تصرح؛ ولذلك الفعل منك منزلٌ منزلة القول، فإعطاء الثمن دالٌ على أنك راغبٌ في إتمام الصفقة، فإذا انطلق وأتم الصفقة يبقى السؤال: إذا قال له أعطه نصف المليون هل يعطيه بمجرد العقد أم بمجرد الاستلام أو بعد الاستلام؟

    هذا كله محتمل، عندما يوكلك شخص أن تبرم صفقة شراء بسيارة أو كتاب أو أرض أو عمارة أو مزرعة، وأخذت المال وانطلقت من أجل أن تتم الصفقة فأولاً: يجب عليك أن تحتاط لحق موكلك، فلا تعطه المال إلا بعد إتمام الصفقة حتى تضمن حق الموكل، فلو أن الوكيل ذهب وأعطاه المال قبل أن تتم الصفقة ودون أن يشهد فإنه يتحمل مسئولية التفريغ، فإذاً: ينبغي للوكيل أن يدفع المال على الوجه الذي لا غرر فيه، ولا غبن ولا ضرر.

    فإذا انطلق وقال له: هذه الأرض بكم تبيعها؟ قال: بنصف مليون، قال: أنا أشتريها منك على أن نذهب عند القاضي ونفرغ، فإذا أفرغت لي أعطيتك المال، فقوله: إذا أفرغت لي أعطيتك المال، لا شك أن هذا بالغ في الحيطة لحق موكله، وفي بعض الأحيان يكون الأحوط أن تعطيه المال قبل الإفراغ، وذلك من أجل تأكيد صفقة البيع حتى لا يتلاعب، فتشهد الشهود، وتبرم عقداً مبدئياً بينك وبينه حتى تفرغ عند القاضي، فإذا رأيت المصلحة في هذا فعلت، وإذا رأيت المصلحة في ذاك فعلت، فتنتظر حتى تدفع له عند القاضي، فإذا انتظرت حتى تدفع له عند القاضي وجاء اليوم وحضر عند القاضي ودفعت له المال فحينئذٍ لا إشكال في أنه قد تمت الوكالة على الوجه المعتبر، حيث أفرغ الأرض لموكله، فدفعت الحق له وأخذت الحق منه، لكن المشكلة إذا قال له: خذ هذا النصف مليون واذهب به إلى فلانٍ واشترِ منه الأرض، فإذا أفرغ لك الأرض فأعطه حقه، قال: موافق، فخرج من عندك وذهب وأتم الصفقة وأفرغ الأرض باسمك، ثم ماطل صاحب الحق، وأخر دفع المال إلى أسبوع، وسرق المال خلال الأسبوع، من الذي يضمن؟

    يضمن هذا الوكيل؛ وفي الأصل هو لا يضمن حينما وكلته، مثلاً: لو أنك وكلته على أنه يفرغ الأرض، فإذا أفرغ الأرض باسمك فإنه يعطي البائع ماله مباشرة، فذهب مع من ذهب ومعه المال، ثم سُرق المال منه بدون تفريغ، وكان النصف مليون موضوع في خزانة وفي مكانٍ أمين، وجاء السارق بقوة وغلبه وأخذه قبل الإفراغ فإنه لا يضمن؛ لأن يده يد أمانة، ويد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرّط، وهكذا لو قلت لأخيك: خذ هذه العشرة واشتر لي كتاباً من المكتبة الفلانية، فذهب ودخل المكتبة، واشترى الكتاب وأخر الدفع، وقال لصاحب المكتبة: سأعطيك مالك غداً، وخرج والعشرة في جيبه فسُرقت، فإنه يضمن العشرة ويلزم بدفعها؛ لأنه ماطل وفرّط، وكان ينبغي أن يحتاط لحقه وحق المشتري والبائع فيعطيه حقه بعد تمام الصفقة.

    فقال رحمه الله: (ويسلم وكيل المشتري الثمن فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه).

    يبقى السؤال: إذا أخره بعذر، هل يضمن؟

    الجواب: لا. إلا إذا فرّط، مثلاً: إذا قلت له: خذ هذه المائة ريال واشتر لي كتاب كذا وكذا من المكتبة، فذهب إلى المكتبة ووجد الكتاب وسأل عن قيمته، قالوا: قيمته مائة ريال، فكان المنبغي أن يدفع المائة مباشرة ويستلم الكتاب، فترك الشراء وانتظر إلى الغد أو بعد الغد فسرقت المائة خلال هذه الفترة، قلنا: يضمن؛ لأنه فرط وتأخر بإتمام الصفقة حتى حصل الضرر فيضمن، كذلك لو قلت له: خذ هذه الأطعمة وبعها واقبض ثمنها، وذهب وتأخر في بيعها فإنه يضمن أيضاً، فكما يضمن في البيع يضمن في الشراء، وكما يضمن في الشراء يضمن في البيع بالتفريط والتأخير، لكن لو أنه أخذ المال ولم يفرط مثلاً: قلت له: إذا أفرغ لك الأرض بعد الصفقة فأعطه ماله، فماطل البائع في إفراغ الأرض؛ صار هذا عذراً له أن يؤخر الثمن، فتأخر في دفع الثمن له شهراً، وخلال الشهر سُرِق المال أو احترق بيته بدون تعدٍ، واحترقت معه النقود، فحينئذٍ يعتبر خالي المسئولية ويده يد أمانة؛ لأنه أخر لعذر، حيث كان التأخير لإفراغ الأرض، وخشي من البائع أن يكون مماطلاً أو متلاعباً فاحتاط لحقك فهذا تأخير لعذر.

    1.   

    مسائل تتعلق بالوكالة

    قال رحمه الله: [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً، أو وكله في كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح].

    إذا وكل الوكيل في بيع فاسد فباع بيعاً صحيحاً

    فقوله: (وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً).

    إن وكله في بيع فاسد كبيع نسيئةٍ في ما لا يصح بيعه نسيئة، وبيع الربا ونحو ذلك من البيوع المحرمة، فباع بيعاً صحيحاً، فإذا باع بيعاً صحيحاً، فالسؤال: هل يصحح البيع أم لا؟

    الجواب: لا يصحح البيع؛ لأنه حينما وكّله أن يبيع بيعاً محرماً كانت الوكالة باطلةً من أصلها، فأصبح المال أجنبياً، فإذا تصرف فيه -ولو تصرف تصرفاً صحيحاً- فهو غير لازم وغير صحيح، لكن يكون من بيع الفضول.

    مثال ذلك: لو قال له: بع هذا الطعام بطعام من نوعه متفاضلاً، أو قال له: بع هذه المائة الكيلو من التمر بمائتين، هذا ربا فضل، فذهب وباع التمر، مائةً بمائة، هذا بيع صحيح، حيث تم يداً بيد مثل بمثل، كما هو الأصل الذي دلّ عليه حديث عبادة رضي الله عنه، وقد تقدم معنا في باب الربا، فباع بيعاً صحيحاً، والذي وكله وكّله في بيع مائة بمائتين، فلما قال له: بع هذا التمر مائةً بمائتين كان بيعاً محرماً، والله تعالى يقول: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] والوكالةُ إذا كانت على محرم وباطلٍ فهي باطلة، فإذا كانت الوكالة باطلة فكأن الوكيل يتصرف في مال أجنبي عنه غير مأذون له بالتصرف فيه، وقد ذكرنا أن تصرف الإنسان فيما لا يملكه وفيما لا حق له للتصرف فيه أن هذا التصرف يعتبر من التصرف الفضولي، فإذا امتنع صاحبه فإنه لا يصح، وقد بينا هذه المسألة في مسألة بيع الفضول.

    الخلاصة: أن من وكّل وكيله أن يبيع بيعاً فاسداً، فباع بيعاً صحيحاً فالوكالة في الأصل تبطل، وإذا بطلت الوكالة صار المال أجنبياً، وصار التصرف فيه في غير محل فلا يصح.

    إذا فوض للوكيل بالوكالة في كل قليل وكثير

    قال رحمه الله: [أو وكله في كل قليل وكثير].

    فقال له: أنت وكيلي في جميع أموري، لم يصح، وقد بينا هذا وتعرضنا لمسألة التوكيل بالوكالة المطلقة، والسبب في هذا: أن الوكالة المطلقة بأن يفوض له جميع الأمور أو يفوض له بأمرٍ خطير يعظم الغرر بالتفويض فيه وكالةٌ فاسدة؛ لأنها من الغرر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن الغرر)، وخاصةً في هذا الزمان، فلهذا تكلم بعض الفقهاء في صحة التوكيل المطلق، ولكن الصحيح والأشبه عدم صحتة لحديث ابن عمر في النهي عن الغرر؛ ولأن هذا يدخل على الإنسان غرراً عظيماً وضرراً كبيراً، فيقول له: أنت وكيلي في كل شيء، حتى إن بعضهم يقول له: أنت وكيلي حتى في تطليق نسائه، فهذا لا شك أنه يدخل الغرر والضرر على الموكل، والشريعة جاءت بدفع الضرر، فلو قال قائل: إنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، نقول: إن الرضا إذا لم يكن في موضعه كان وجوده وعدمه على حدٍ سواء، وخاصةً في هذا الزمان؛ ولذلك نجد بعض الناس قد يأمن البعض ويوكله وكالةً، ثم لا يشعر إلا وقد أدخل عليه من البلاء ما الله به عليم، بل وصل ذلك خاصة في هذا الزمان إلى خيانة الولد لأمه نسأل الله السلامة والعافية، فقد مرت بي إحدى القضايا أن أماً وكلت ابنها وكالة مفوضة، وجعلت له أن يتصرف في أمورها كيف شاء، فكان كلما أراد شيئاً أخذ منها وكالةً مطلقة في نفس العقود التي تتصل بهذا الشيء فباع أملاكها، وكانت بخير ونعمة وتملك الملايين، فباع أموالها، وتصرف فيها، ومضت السنوات تلو السنوات وهو يماطلها في بعض حقوقها حتى جاءت الساعة التي فوجئت بدخول الضرر عليها، وأن موكلها قد أركبها الديون فضلاً عن حقوقها التي أضاعها، فذهب مالها، ولم يقف الأمر عند قضية هذا المال -وهو مصيبة عظيمة- بل ذهب واشترى باسمها، وعقد العقود -نسأل الله السلامة والعافية- باسمها، حتى فوجئت بسفره وغيابه فجأة، فأصبحت تسأل عنه ثم لم تشعر إلا بأصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، وهذا أمر عظيم، وهذا لا شك أن فتح الباب في مثل هذه الوكالات والتفويضات المطلقة، يفتح باب شر عظيم على الموكل، والشريعة جاءت بدرء المفاسد وجلب المصالح، ولذلك أمرت بالحجر على السفيه؛ لأنها علمت أن مثله لا يحسن النظر لنفسه، فأقامت عليه من يحفظ ماله، فلا يجوز للمسلم أن يدخل على نفسه الضرر على هذا الوجه، بل تقوم على مالك، وإذا أردت أن توكل فوكل في الوقت المناسب والشخص المناسب في الشيء المناسب؛ لأن الله عز وجل أمرك أن تتقيه حتى في مالك الذي أعطاك إياه واستخلفك، لكي تقوم عليه بما ينبغي أن يقوم به المسلم في ماله من حسن النظر، وحسن الولاية عليه، فعلى هذا لا يجوز إدخال الضرر بمثل هذه الوكالات بأن يقول له: أنت وكيلي في كل قليلٍ وكثير، وأنت وكيلي في كل شيء حتى ولو كان بشيء فيه ضرر عليه ونحو ذلك مما فيه الغرر.

    إذا فوض للوكيل شراء ما شاء بما شاء ولم يعين

    قال رحمه الله: [أو شراء ما شاء].

    أن يقول له: أنت وكيلي أن تشتري ما شئت، فإن الشيء الذي يشاؤه قد لا تشاؤه ولا ترضاه ولا ترغبه، فتختلف أهواء الناس ورغباتهم، فلا يصح التوكيل على هذا.

    قال رحمه الله: [أو عيناً بما شاء].

    أن تشتري بهذه المائة ما شئت، فهذا فيه ضرر، فربما اشترى شيئاً لا يريده، فأنت تقول له: اشتر بهذه المائة، وهذه المائة عين وهذه الألف وهذه العشرة آلاف هذا عين، تقول: اشتر بها ما شئت.

    قال رحمه الله: [ولم يعين لم يصح].

    (ولم يعين) يعني: الوكالة المبهمة، لكن لو قال له: أنت وكيلي أن تشتري لي عمارةً فبعض العلماء يقول: يحدد الأوصاف بما يصح سلماً، فيقول له: بما يرتفع به الضرر وبما يصح فيه السلم فيقول له مثلاً: اشتر لي طعاماً من نوع كذا وكذا مائة صاعٍ، أو يقول له: اشتر لي أرضاً (20×20) أو (30×30) في المدينة أو في جدة أو في مكة، ويحدد له الوكالة على وجهٍ لا ضرر فيه ولا غرر.

    1.   

    الأسئلة

    الإذن بالسكنى في البيت لا يستلزم الإذن بالبيع

    السؤال: قال رجلٌ لأخيه: اشتر العقار الفلاني واتخذه سكناً لك، فلما اشتراه الأخ باعه، فأنكر عليه ذلك البيع وقال: أنا لم آذن لك بالبيع فهل من حقه ذلك؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالوكالة جاءت مقيدة: اشترِ العقار الفلاني واتخذه سكناً لك، فأصبحت وكالة بالشراء، فالشراء صحيح، ووكالة أن يسكن، فإذا تصرف بغير هذين فتصرفه باطل، وبيعه باطل إذا لم يأذن له الموكل ولم يرض، وعلى هذا ينفسخ هذا البيع، ويرد العقار للموكل، ولا يصح هذا البيع لأن تصرفه فضولي لم يأذن به موكله، ومن أذن بالسكن لا يأذن بالبيع، ولذلك قد آذن لأخي أن يسكن في داري، ولا أرغب في بيعه، وقد آذن له أن يبيت في مزرعتي أو يتخذها سكناً أو يتخذها مكاناً يرتاح فيه، ولكن لا أذن له أن يبيعها ويفوت مصالحي فيها ومُلكيتي لها، وعلى هذا: فبيعه باطل مُنفسخ إذا لم يرض به المالك الحقيقي، والله تعالى أعلم.

    تصرفات وكيل البيع في حال توكيله بالبيع

    السؤال: ذكرتم -حفظكم الله- أن وكيل البيع له ثلاثة أمور:

    أولاً: يتم الصفقة، وثانياً: يمكن شرعاً من تسليم المبيع، فما هو الثالث منها؟

    الجواب: قبض الثمن، فعندنا العقد -وهو صفقة البيع- ثم التسليم، ثم الاستلام، وهو استلام الثمن، والتسليم للمثمن وهو المبيع، الاستلام للثمن والعكس للمشتري، فالمشتري عنده الصفقة، وهي الإيجاب والقبول، ثم بعد ذلك تسليم الثمن، واستلام المثمن فهي عكسيةٌ بالنسبة للتسليم والاستلام، فالبائع يسلم المبيع ويستلم الثمن، والمشتري يسلم الثمن ويستلم المبيع، والله تعالى أعلم.

    عدم لزوم استلام الثمن للتوكيل في البيع

    السؤال: إذا قلنا: إن من لازم التوكيل للبيع تسليم المبيع، أفلا يكون استلام الثمن مندرجا تحت قاعدة: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه) فيستلم الثمن دون القرينة؟

    الجواب: يصح البيع بتسليم المثمَن ولو لم يسلم الثمن، ويلزم البيع بتسليم المثمن ولو لم يسلم الثمن؛ ولذلك تسليم المثمن أقوى من تسليم الثمن، وعلى هذا: لا يصح، إنما يصح أن لو كان معتقراً لمجموع الأمرين معاً، بحيث تقول: لا يلزم البيع إلا بتسليم الثمن والمثمن، والواقع أن تسليم المثمن يوجب صحة البيع ولزومه، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع، والله تعالى أعلم.

    حكم تراجع من نذر أن يطلق امرأته

    السؤال: لو نذر رجلٌ أن يطلق امرأته فهل يمكنه أن يتراجع عنه؟

    الجواب: من نذر أن يطلق زوجه وأهله ورأى أن المصلحة أن لا يطلقها فإنه يكفر عن نذره ويأتي الذي هو خير، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وعلى هذا: النذر واليمين بابهما واحد، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وتقريرها؛ لأن كلاً منهما قد عقد فيما بينه وبين الله عقداً ينفك وينحل بالكفارة؛ ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة النذر كفارة اليمين، وعلى هذا: فإنه لو قال: لله عليّ أن أطلق زوجتي غداً أو أطلقها بعد غد، أو لله عليّ أن أطلق زوجتي في نهاية الشهر أو نحو ذلك، فنظر لمصلحته فأمضى وأبقى العقد كما هو، ففي هذه الحالة إذا حنث في نذره وامتنع من الوفاء به كفر كفارة اليمين، ولا شيء عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم نكاح بنت خالة الأم

    السؤال: هل يجوز للرجل أن يتزوج بنت شقيقة جدته لأمه؟

    الجواب: بنت شقيقة جدته لأمه هي بنت خالة بالنسبة للأم، وبنت خالة الأم يحل نكاحها؛ لأنها داخلةٌ في عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، فإن الله لم يذكر من المحرمات بنت خالة الوالدة، ولا بنت خال الوالد، ولا بنت عم الوالدة، ولا بنت عمة الوالد، ولا بنت عمه، فكل هؤلاء من النساء اللاتي دخلن في عموم الحِل، ولسن من المحارم بإجماع العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

    حجر إسماعيل عليه السلام من البيت

    السؤال: هل يعتبر حجر إسماعيل كله داخلٌ في الكعبة؟

    الجواب: حجر إسماعيل فيه وجهان للعلماء رحمهم الله في الطواف:

    جمهور أهل العلم على أن الطواف لا يصح إلا إذا استوعب البيت كاملاً، ولم يدخل بين البيت والحجر، وقال الحنفية: يصح الطواف إذا دخل بين الحجر وبين البيت، واستدل الجمهور بقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فوصف الله جل جلاله البيت بكونه عتيقاً، والعتيق فيه أقوال؛ فقيل: لأن الله عتقه من الجبابرة، فما قصده جبارٌ إلا قصمه الله وأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولذلك سميت مكة (بكة)؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة كما فعل الله بـأبرهة ، وقال بعض العلماء -وهو الصحيح-: إن البيت العتيق المراد به القديم؛ لأنه هو الذي بناه إبراهيم على القواعد التي بينها الله سبحانه وتعالى له، وبنى البيت عليها، ثم تقاصرت النفقة عن قريش -كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها- فتركت من البيت أذرعاً وهي الحجر، وهل جزءٌ من الحجر في البيت أو لا؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله، لكن من حيث الصحة لا يصح الطواف إلا إذا طاف من وراء الحجر؛ لأن الذراعين والثلاثة وقيل: إلى ذراع من البيت، فإذا دخل بين الحجر وبين البيت وقيل: ذراع، فيمكن أن يستوعب، لكن الأشبه: ذراعان إلى ثلاثة، والقول في ذلك مشهور وفيه رواية في صحيح مسلم .

    وعلى هذا لا بد وأن يستوعب البيت بالطواف، ومن دخل في طواف ركن كطواف الإفاضة وطاف فيما بين البيت والحِجر، ولم يكن يتأول قول من قال من السلف رحمهم الله بصحة الطواف على هذا الوجه؛ فإنه يلزمه أن يعيد طواف الركن، وعليه أن يعيد طواف العمرة أيضاً، ولا يزال متلبساً بعمرته لطواف الركن إذا لم يؤده كما تقدم في كتاب المناسك، والله تعالى أعلم.

    الحكم إذا اجتمع سهو نقص وزيادة في الصلاة

    السؤال: إذا اجتمع سهو نقص وزيادة فلمن سيكون السجود؟

    الجواب: إذا تعارض المتصل والمنفصل فيقدم المتصل على المنفصل، فالسجود قبل السلام فيه تدارك أكثر من السجود البعدي، ولذلك دخل السجود البعدي في القبلي كما في الصحيحين من حديث ابن عباس ، وكذلك حديث السنن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحد، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً، فليبن على ثلاث)، موضع الشاهد قوله: (ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً -يعني: صلاةً تامة- فالسجدتان ترغيماً للشيطان، وإن كان ما صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانه)، فعند الشك جعل النبي صلى الله عليه وسلم سجدتي الزيادة قبل السلام موجبة للجبر، ونظراً لعدم التحقق من الزيادة والنقص جُعلت قبل السلام، فدل على أن اشتراك الزيادة والنقص الأشبه فيه والأصح ما اختاره جمعٌ من العلماء من أن السجود يكون قبلياً، وهذا كله على مذهب من يقول: إن السجود يكون بعدياً إذا كان عن زيادة، وقبلياً إذا كان عن نقص، وعلى مذهب من يقول: السجود على التفصيل، لا على مذهب من يقول: السجود كله بعد السلام أو السجود كله قبل السلام، والله تعالى أعلم.

    حكم الدم الخارج من فرج المرأة في حالة الطهر

    السؤال: الدم الذي يخرج في حالة الطهر، هل هو دم نفاسٍ أو دم فساد؟

    الجواب: إذا كانت المرأة حاملاً وأسقطت وخرج مع هذا الجنين دم نُظِر: فإن كان الجنين الذي أسقطته فيه صورة الخِلقة أو بعد تخلقه أو أصبح جنيناً مكتملاً فالدم في حكم دم النفاس على أصح قولي العلماء.

    وأما إذا أسقطت ما لا صورة فيه ولا خِلقة فإنه دم فسادٍ وعلة، فالأول: يوجب المنع من الصلاة والصيام، وحكمه حكم دم النفاس سواء بسواء، والثاني: دم فسادٌ وعلة، لا يوجب المنع من الصوم ولا من الصلاة، وحكمه حكم دم الاستحاضة، والله تعالى أعلم.

    التفصيل فيمن يطوف نافلة وحضرته صلاة الجنازة

    السؤال: من كان في طواف نافلة، وأراد الصلاة على جنازة، هل يجوز له أن يصلي عليها ثم يستأنف الطواف؟

    الجواب: بالنسبة للطواف بالبيت فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعله في حكم الصلاة على أصح أقوال العلماء في حديث ابن عباس الذي اختُلِف في رفعه ووقفه: (الطواف بالبيت صلاة).

    وإذا ثبت أنه آخذٌ حكم الصلاة فإنه لا يقطع من أجل الجنازة على أحوط الوجهين عند العلماء رحمهم الله.

    وقال بعض أهل العلم: تعارضت العبادة التي يمكن تداركها والعبادة التي لا يمكن تداركها، فالصلاة على الجنازة لا يمكن أن يدركها إذا فاتت، والطواف بالبيت يمكن أن يدركه إذا قطعه وبنى، فقالوا: يقطع للصلاة على الجنازة كما يقطع للصلاة المفروضة، ثم يبني بعد فراغه من الصلاة على الجنازة، ونحن حينما قلنا: إن هذا أحوط، أي: أنه لا يُفعل في طواف ركن كطواف الإفاضة وطواف العمرة حتى لا يعرض طوافه للشبهة، لكن إذا كان طواف نافلة ونحوه وأراد أن يختار القطع ويبني ويستأنف إذا انتهى من صلاة الجنازة، فيقطع من أجل الفضيلة، ويصبح القطع في هذه الحالة ليس من باب البناء، يعني: عندما يقطع من أجل أن يصلي على الجنازة في النافلة لا يقطع لكي يعود ويبني، وإنما يقطع من أجل أن يستأنف من جديد، فإنه إذا قطع واستأنف من جديد حصل على الفضيلتين، حصل فضيلة الطواف على أتم وجوهها دون شبهة الحكم بالبطلان بوجود العبادة المخالفة، وفي الفرض يجوز ما لا يجوز من أجل النفل؛ لأن الفريضة متعينة بخلاف النافلة؛ ولذلك لا يمكن أن نقول: يقطع كالصلاة المفروضة؛ لأن القطع للصلاة المفروضة متعين، والقطع للنافلة متعين، لكن يقطع من أجل الفضائل، فيجوز أن يقطع من باب الفضيلة فيدرك العبادة التي لا يمكن تداركها ثم بعد ذلك يستأنف الطواف، وهذا لا شك أنه أبلغ في حصول الفضائل على أتم وجوهها وأكملها، وكذلك وقوع العبادة على وجهها الصحيح، والله تعالى أعلم.

    معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يحاز

    السؤال: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المبيع حتى يحوزه إلى رحله، هل المراد القبض أم نقله من مكانه؟

    الجواب: هذه المسألة مسألة كيل الطعام، وجريان صاع البائع وصاع المشتري، قد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب البيوع في مسألة القبض، وبيناه خلاف العلماء وتفصيلهم في شرح البلوغ، وبالنسبة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه) اختلف العلماء فيه، ففي القديم كان الطعام كالبر والشعير والتمر يباع بالصاع فيشتري -مثلاً- صاع تمرٍ ثم يبيعه لغيره، قال ابن عباس رضي الله عنهما في علة هذا: (إنه يخشى الربا) وتوضيح ذلك: أنه إذا اشترى صاع الطعام بدينار ولم يكله ولم يقبضه ثم باعه بدينارين، فكأنه باع الدينار الأول بالدينارين، فصارت حقيقة الأمر: الصفقة في ظاهرها بيع للتمر، وفي حقيقتها بيعٌ للدنانير، ولم يكن يداً بيد ولا مثلاً بمثل، فرأى رضي الله عنهما في هذا شبهة الربا.

    وقال بعض العلماء رحمهم الله: نهي عن بيع الطعام قبل قبضه لخوف الغش، وذلك أنك ربما اشتريت الطعام على أنه عشرة آصع والناس تأمنك، فإذا جئت تبيع إلى رجل وهو يأمنك وقلت له: عشرة آصع، على قول البائع الأول، ولم تكتل ولم تستوفه بوجهٍ تضمن به القول الصحيح، واشترى منك الغير، وكان ذلك طعناً في أمانتك، هذا من جهة التجارة.

    كذلك أيضاً ربما كان سبباً للفتنة؛ لأنه ربما بعته على شخصين أو ثلاثة فوثق الثاني بك ووثق الثالث بالثاني، ثم باع الثالث وأصبح كلٌ منهم يتهم أن النقص حصل عنده ولم يحصل عند غيره، وهذا يحدث نوعاً من الفتن والضرر، والبيع يحرمه الشرع إذا أدى إلى المفاسد، كما نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، ونهى عن بيع الغش ونحو ذلك، أياً ما كان: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض)؛ والقبض سمةٌ شرعيةٌ لانتقال الحكم بالضمان، وإذا قلت: إنه سمة شرعية لانتقال الحكم بالضمان، فإنه تتفرع مسألة وعلة ثالثة وهي: أنه إذا بنى على الطعام قبل قبضه وربح فيه، كان رابحاً لما لم يضمن، ووجه ذلك أنه لو اشترى منك مائة صاع -وهذا يحدث الآن في الأسواق- إذا اشترى منك صفقة، والصفقة تحتاج منك إلى حفظ ورعاية، ربما تركها عندك، فجعل حفظها ورعايتها عليك، وذهب وباعها بربح، فأصبح يأخذ ربح شيء لا يضمنه؛ لأنه لو تلفت الصفقة لقال لك: أعطني مالي؛ لأنني لم أقبض، فيلعب على الطرفين، فالشريعة لا تجيز ذلك، وليس من العدل أن يضمن ويغرم أحد الطرفين والآخر يأخذ المنفعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وهو مجمع على متنه: (الخراج بالضمان) أي: الغرم بالغنم والغنم بالغرم، فمن يغرم الخسارة هو الذي يأخذ الربح، وهذا عدل من الشريعة، فإذا كان المبيع عند البائع ولم يقتضه المشتري وذهب المشتري يساوم فيه؛ فإن هذا يضرك أنت البائع في حفظه، ويضرك في ضمانه، ومع ذلك لا يتم البيع إلا بقبضه، فكأنه يستفيد منك فائدةً يأخذها دون دفع ثمنها وحقها، وهذا ظلمٌ على الناس؛ ولذلك لم يجز البيع إلا بعد القبض الموجود لانتقال يد المشتري.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756009871