إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب المساقاة [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد منع المصطفى صلى الله عليه وسلم المزارعة في بادئ الأمر لوجود الضرر والجهالة، فلما وضح للناس أمرها وعلموا ما يحل وما يحرم منها، أجازه صلى الله عليه وسلم، وذلك رفقاً بالأمة، ورحمة بالعباد. فتصح المزارعة على جزء معلوم النسبة مما يزرع من الأرض، وعليه جرى عمل الناس في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم ومن بعدهم.

    1.   

    خلاف العلماء في حكم المزارعة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق بعقد المزارعة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان أحكام المساقاة شرع في بيان أحكام المزارعة، ومن عادة العلماء رحمهم الله -خاصة في مذهب الحنابلة- أنهم إذا فرغوا من بيان أحكام المساقاة أن يتبعوها بالمزارعة، وهذا ترتيب صحيح، والمجانسة بينهما واضحة، فإن المساقاة تكون في النخل والثوابت، والمزارعة تكون في حكمها بالنسبة للحبوب وأمثالها مما يزرع.

    قوله رحمه الله: [تصح المزارعة]

    المزارعة: مفاعلة من الزرع، وعقدها يقع بين شخصين أحدهما: مالك الأرض، والثاني: العامل، فالطرف المالك للأرض يدفعها للعامل على أن يقوم بزراعتها، ثم يتفقان بعد ذلك على أن الخارج منها يكون بينهما مقاسمة: الربع، النصف، الثلث، على حسب ما يتفقان.

    مثال ذلك: لو كان عندك أرض زراعية، وفيها ماء، تقول للعامل: خذ هذه الأرض وازرعها، ثم إذا زرعتها فنصف ما يخرج لي، والنصف الآخر لك، فهذا النوع من العقود ذهب جماهير السلف والخلف إلى جوازه ومشروعيته، ونسب هذا القول إلى الخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم، حتى قال بعض أئمة السلف كما نقله الإمام البخاري : ما من بيت في المدينة إلا وأهله يزارعون ودرج على ذلك السلف في أزمنة الخلفاء الراشدين وقالوا: إن آل أبي بكر وعمر وعثمان وآل علي كلهم كانوا يزارعون.

    وأما بالنسبة للمذاهب الأربعة فمذهب الحنابلة على جوازها، والشافعية أجازوها تبعاً للمساقاة، وأما المالكية فأجازوها إذا كانت في حدود الثلث تبعاً للسقي، وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله كما هو قول الإمام أبي حنيفة، وإن كان الصاحبان القاضي أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن رحمة الله على الجميع قالا بقول الجمهور.

    إذا ثبت هذا فإن السنة دالة على جواز المزارعة، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، وفيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر مما يخرج منها) وهذا الحديث يستدل به العلماء على مشروعية صحة عقد المساقاة، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه في الأصل منصب على عقد المساقاة.

    لكن بالنسبة للمزارعة في هذا الحديث فيمكن أن تؤخذ من قوله: (بشطر مما يخرج منها) يعني: من أرض خيبر، فشمل هذا ما يخرج من النخيل والأعناب، ومن الزروع، وتوضيح ذلك أن أرض خيبر كما قال العلماء لا يمكن أن تخلو من أرض بيضاء، ولا يخفى على الجميع أن المزارع من عادتها أن تكون فيها نخيل، ويكون هناك البياض الذي يتركه صاحب المزرعة للمواسم فيزرع فيه الحبوب كالقمح والشعير ونحو ذلك في فصول السنة التي يزرع فيها، أو يزرع فيها الخضروات أو نحو ذلك مما يمكن زرعه، فقالوا: إنه لا يمكن بحال أن تكون خيبر نخيلاً وعنباً فقط، وإنما من المعلوم والمعهود والمعروف أن هناك زروعاً.

    فإذاً لا يشك أن الحديث فيه وجه لدخول المزارعة، وبناء على ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على هذا الوجه، وأكدوا ذلك بأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما خيرها عمر رضي الله عنه بين الأرض وبين الزرع -يعني: نتاج الزرع- فاختارت الأرض، وبقية أمهات المؤمنين اخترن الحبوب، فمعنى ذلك أن هناك أرضاً تزرع وليس فيها نخيل، فـعمر خير أمهات المؤمنين ما بين أن تأخذ الواحدة أرضها فتقوم بنفسها أو تستأجر من يقوم بزراعتها، وبين أن تبقيها على شرط المزارعة والمساقاة الموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاختارت أم المؤمنين الأرض وبقي بقية أمهات المؤمنين يأخذن نصيبهن من الحبوب، فدل على أن هناك مزارعة، وأن عقد المزارعة كان موجوداً إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

    وهذه المسألة من أوسع المسائل؛ لأنه يدخل فيها عقد المزارعة مع عقد إجارة الأراضي، فهناك ما يسمى بعقد إجارة الأرض، فهل يجوز للمسلم أن يؤجر أرضه للزراعة؟ لو كانت عندك أرض زراعية فأحب شخص أن يأخذها منك ويستأجرها سنة أو سنتين يزرع فيها، فهل يجوز ذلك أو لا؟ فأدخلوا مسألة إجارة الأراضي مع مسألة المزارعة، والسبب في ذلك أن صورة المزارعة التي معنا أن يأتي العامل إلى رب الأرض ويقول له: أنا أزرع هذه الأرض وأعطيك نصف ما يخرج، قال: قبلت، فمعنى ذلك أنه استأجر الأرض بنصف ما يخرج منها؛ فإذاً المزارعة نوع من الإجارة، فمن هنا تتداخل هذه المسألة مع مسألة إجارة الأراضي، وفي مسألة إجارة الأراضي ما يقرب من سبعة أقوال، وهو خلاف بين السلف قد نشير إليه في باب الإجارة.

    لكن الذي يهمنا هنا الأحاديث التي اعترض بها على جواز المزارعة، وما ورد من السنة مما يحتمل تحريم المزارعة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج، وهذا الحديث من أكثر الأحاديث إشكالاً عند العلماء رحمهم الله، وهو حديث صحيح ولا إشكال في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المشكلة في فهم أو معرفة المراد من هذا الحديث.

    فـرافع بن خديج رضي الله عنه يحكي عن بعض عمومته من الصحابة رضوان الله عليهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن المخابرة) والمخابرة: أصلها من الخبر، وهي الأرض الزراعية، وفُسِّر قوله: (عن المخابرة) أن يؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها.

    وجاء أيضاً عن رافع بن خديج كما في الصحيح أنه لما نهى عنها -يعني: نهى عن المزارعة- فسر النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات، وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيء معلوم مضمون فلا بأس به) هذه الرواية الثانية فسرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فـرافع بن خديج تارة يحرم عموماً ويفهم منه التحريم العام، وأنه لا يجوز لك أن تعطي أرضك الزراعية لشخص من أجل أن يزرعها ويأخذ جزءاً منها وهذا نفهمه من بعض الروايات من حديث رافع.

    وبعض الروايات الأخرى نفهم منها أنه ينهى عن المزارعة إذا كان العقد على وجه الغرر والعقد الذي على وجه الغرر، أن تقول للشخص: ثم آخذ النصف الغربي وأنت تأخذ النصف الشرقي، أو آخذ النصف الجنوبي وأنت تأخذ النصف الشمالي فقالوا: لا يجوز لأنه يحتمل أن يسلم النصف الذي يأخذه هذا ويهلك النصف الآخر، فلا بد أن يكون الطرفان قد دخلا في عقد المزارعة على وجه لا يغرر أحدهما بالآخر، ومن هنا قالوا: إنه المقصود بقوله رضي الله عنه (إنما كانوا يؤاجرون) يعني: يؤجرون (على الماذيانات وأقبال الجداول) وذلك أن حياض الماء إذا كانت قريبة من القنطرة التي تجري فيها المياه فالغالب أن يكون زرعها جيداً ونتاجها سليماً، وإذا ابتعدت عن الحوض أو عن القنطرة القريبة التي فيها الماء الكثير فإما أن يموت الزرع لقلة الماء، وإما أن يخرج ضعيفاً، فهذا هو الذي يحكيه رافع ، وهو معنى قوله: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا).

    فمعناه أنهم يؤجرون إجارة فيها غرر، وفيها شيء من الغش، وصاحب المزرعة يقول: أنا لي القريب من الماء وأنت تأخذ البعيد من الماء، ومن هنا قالوا: حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن هذا يفضي إلى الخصومة، والمسلم لا ينبغي له أن يعامل أخاه المسلم على وجه فيه غرر ومخاطرة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

    قال رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس به) إذاً: معنى ذلك أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه رافع في الحديث الأول مفسر بالحديث الثاني، هذا بالنسبة للوجه الثاني لحديث رافع .

    وهناك حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند أبي داود في سننه، وذلك أنه لما بلغ زيداً أن رافعاً يحرم إجارة الأراضي على الصورة التي ذكرناها أنكر ذلك وقال: (يغفر الله لـرافع أنا أعلم بالحديث منه، إنما كانوا يؤاجرون على الثلث والربع فكثرت خصومتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تكروا المزارع ونهى عن المخابرة، فقال: هذا شأنكم لا تكروا المزارع) ، يعني: ما دام أن الزراعة تفضي بكم إلى الخصومة والنزاع والشقاق فالإسلام لا يحب الخصومة ولا يحب الفرقة، قال: (هذا شأنكم) أي: مادامت الأرض والدنيا تفسد ما بينكم من أخوة الإسلام فلا تؤجروا، ونهى عن إجارتها وجاء اللفظ برواية أخرى: (نهى عن المزارعة والمخابرة والمزابنة) هذا بالنسبة للأحاديث.

    وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه دقيق النظر في الأحاديث، ولذلك جمع الله له من العلم بالسنة ما لم يجمعه للأئمة من قبل، فإن الإمام أحمد بشهادة العلماء جمع الله له من السنة والآثار عن الصحابة ما لم يجمعه لإخوانه المتقدمين من العلماء كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي رحمة الله عليهم، كلهم أئمة ولكن الإمام أحمد رحمه الله تأخر عنهم واطلع على كثير من السنن والأحاديث وكان له فقه في سر الأحاديث واختبارها، فلما جاءه حديث رافع الذي يحرم المزارعة ونظر إلى حديث ابن عمر الصحيح الثابت في الصحيحين الذي يجيزها أخذ بحديث ابن عمر ؛ فلما قيل له بحديث رافع قال رحمه الله: حديث رافع ألوان، أي: أن حديث رافع ما جاء على طريقة معينة وإنما جاء بأوجه متعددة.

    وجاءت الرواية الأخرى عن الإمام أحمد قال: حديث رافع فيه اضطراب، وليس المقصود الاضطراب القادح ولكن الاضطراب الفقهي وهو: عدم اتفاق الروايات على وجه واحد، فأخذ بالذي لا اضطراب فيه من جهة اللفظ ودلالته وانضباطه على الأصول، ورد واعتذر عن الذي فيه اضطراب، والصحيح والذي تطمئن إليه النفس أن العمل بالمزارعة كما اختاره رحمه الله وإخوانه من الأئمة، ولكن يجاب عن حديث رافع بأحد وجهين:

    إما أن يكون المراد بحديث رافع رضي الله عنه الغرر، وأكثر الروايات عن رافع تقويه.

    مثال ما ذكرنا من الغرر أن يقول له: أؤجرها بالربع أو بالنصف على أن لي الربع الفلاني ولك الثلاثة الأرباع الأخرى من الجهة الفلانية كما قال: (يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول) فنقول: إذا وقعت مزارعة بين طرفين واشترط رب المال -الذي هو صاحب الأرض- أو اشترط العامل جهة معينة من الأرض أو مساحة معينة من الأرض لم يجز ذلك، ونحمل عليه حديث رافع رضي الله عنه، هذا بالنسبة للوجه الأول من الوجوه التي فيها غرر.

    كذلك يمكن حمل حديث رافع على أنه منسوخ، وهذا يقويه أن حديث جابر في الصحيح قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤاجرها) فنهى عن إجارة الأرض في أول الإسلام؛ لأن المهاجرين حينما قدموا المدينة لم يكن عندهم مال، وأمر بالمواساة والمساواة، وهذا من باب جبر الخواطر والتحقيق لأخوة الإسلام والمحبة، والإلف بين المؤمنين، وكان صلوات الله وسلامه عليه عند مقدمه على المدينة حريصاً على ذلك، حتى آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان الأنصار يحبون أن يعطوا لإخوانهم شطر ما بأيديهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

    فيحمل النهي عن إجارة الأراضي بصوره المتعددة على أول الشرع، ثم لما استقر الحكم أجازه، مثل ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال) فكان يحرم أن يدخر المسلم لحم الأضحية فوق ثلاث ليال، وهذا يدفع إلى أن يتصدق بالزائد، فلما جاء العام القادم أذن عليه الصلاة والسلام بادخارها، فسألوه عن ذلك فقال: (إنما منعتكم من أجل الدافة)، والدافة قوم كانوا من المسلمين قدموا من البادية، ونزلوا المدينة في أيام الحج وأيام عيد النحر، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون هناك ألفة ومحبة وأخوة بينهم، فنهاهم عن الادخار حتى يكون هناك نوع من التكافل والتعاطف والتآلف، وهذا هو مقصود الشرع.

    إذاً فنحمل أحاديث النهي على أول التشريع، وأنه من التشريع المدني خاصة، وأن حديث ابن عمر بقي إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقعت في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، ثم بقيت في زمان أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما، وبقي العمل بها إلى عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أئمة التابعين والسلف رحمة الله عليهم أجمعين.

    إذا ثبت هذا فالمزارعة صحيحة ومشروعة، وإذا قلنا بشرعيتها فيشترط أن تكون بجزء معلوم، فإذا جاء عامل وأراد أن يعمل في الأرض فإنه يقول له: اعمل ولي النصف أو اعمل ولي الربع فيحدد النسبة، ولو قال له: اعمل في الأرض وأرضيك أو اعمل في الأرض ولن نختلف، فإنه لا يجوز؛ لأن النسبة مجهولة، وأجرته غير معلومة، وبناء على ذلك لا بد من العلم بأجرة العامل وحظه ونصيبه، وكذلك لا بد من العلم بحق رب الأرض وهو المالك لها.

    1.   

    ما تصح به المزارعة

    قال رحمه الله: [وتصح المزارعة بجزء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل]

    مما هو معلوم للنسبة الثلث.. الربع.. النصف.. ثلاثة أرباع، فمفهوم قوله: (معلوم النسبة) فإنه إذا كان مجهول النسبة فإنه لا يصح، كأن يقول: (أعطيك بعض الخارج) فهو جزء من الأرض لكنه مجهول، وقد تكون النسبة معلومة لكن يدخل عليها شيئاً مجهولاً فيقول له: أعطيك النصف وأحواض من عندي، هذا النصف معلوم والأحواض مجهولة، ولا ندري كم يخرج فيها، فأدخل المجهول على المعلوم، فيصير المعلوم مجهولاً، فبهذا لا بد أن تكون النسبة معلومة، ولا يجوز أن تكون مجهولة.

    وقوله: [مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل]

    أي: من زرعها لربها أو للعامل، وهذه المسألة مبنية على مسألة تقدمت في الشركة، بعض الناس يقول: خذ الأرض وازرعها ونصف الزرع لي ثم يسكت ولا يقول: والنصف الآخر لك، فبعض العلماء يقول: لا يجوز حتى يقول: والنصف الآخر لك؛ لأنه لم يحدد له حقه، فحدد نصيبه وسكت عن حق الآخر قالوا: ولا بد أن ينص على حق الشريك الآخر وهو العامل وقال بعض العلماء: إذا قال له: لي النصف صح ولو لم يقل: ولك النصف الآخر، ولو قال: لي الربع، فإن الثلاثة الأرباع تكون للآخر، فهذا معنى قوله رحمه الله:

    [لربها أو للعامل]

    أي: بجزء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل.

    وقوله: (مما يخرج من الأرض) خرج بهذا لو قال له: أستأجرها وأعطيك مائة صاع من الأرز، والأرض فيها زرع آخر دون الأرز، فهذا منعه بعض العلماء وقال: لو قال له: أجر لي مزرعتك سنة وأعطيك مائة صاع من أرز فإنه من الربا؛ لأنه زرع الأرض حبّاً أو طعاماً من الطعام الآخر، فإن كانت من جنس الذي يعطيه إياه فكأنه عاوضه طعاماً بطعام من جنس واحد وصنف واحد، وصار نسيئة للتأخير وفضلاً للزيادة؛ لأنه ربما قال له: أعطيك مائة صاع وتخرج الأرض ثلاثمائة صاع، فصار كأنه أعطى مائة صاع من الأرز في مقابل ثلاثمائة صاع من الأرز، وهذا عين الربا كما بيناه في باب البيع، ويسمى ربا الفضل، وأيضاً أعطاه مائة صاع معجلة بثلاثمائة مؤجلة، وهذا عين ربا النسيئة، وقد بيناها في باب الربا، هذا إذا كان بجزء من غير الأرض.

    وإن كان من غير الصنف كأن يزرعها قمحاً ويعطيه أرزاً فإنه يقع الربا من وجه واحد وهو ربا النسيئة؛ لأنه أنسأ وأخر، ولذلك قال المصنف رحمه الله: [بجزء مما يخرج من الأرض] يعني: من الأرض التي اتفق عليها.

    [لربها أو للعامل والباقي للآخر]

    (والباقي للآخر) أي: إذا حدد ماله وسكت عن المال الآخر علم بداهة أنه قصد النصف الآخر له، وهكذا إذا قال: لي الربع، أي: ولك ثلاثة أرباع.

    قال رحمه الله: [ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض].

    هذه مسألة خلافية:

    بعض العلماء يقول: إذا دفعت الأرض الزراعية للعامل على أن يزرعها، فيجب على رب المال أو رب الأرض أن يقوم بكلفة الحبوب والبذر، فيحضر للعامل البذر ويجب عليه أيضاً أن يحضر له الغراس و(الشتلات) وهو ما يسمى في زماننا (بالشتل) هذا وجه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.

    وهناك وجه ثانٍ: أنه لا يشترط وهو الصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث لأهل خيبر بالبذر، ولم يتكلف صلوات الله وسلامه عليه ذلك، فدل على أنهم كانوا يقومون بها وأنهم كانوا يكفونهم المئونة مطلقاً بشطر أو نصف ما يخرج منها.

    [وعليه عمل الناس]

    أي: على ذلك عمل الناس.

    1.   

    الأسئلة

    النسبة بين العامل ورب الأرض مما يخرج من الحبوب أو الثمر

    السؤال: هل النسبة التي بين رب الأرض والمزارع في المحصول من الزرع أو في قيمة المحصول بعد بيعه أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    هل الحصاد والجذاذ على العامل أو على رب الأرض؟ هذا فيه التفصيل الذي سبق وتقدم في المساقاة، لكن عماد القسم على الناتج وعلى الحبوب نفسها، وعلى ما يخرج من النخيل من الثمر كما بينا فيما تقدم، وليس في القيمة، وإنما يمكن العامل رب المال من نصف الخارج، ويمكن أيضاً رب المال العامل من النصف الآخر، ويعطي كل واحد منهما الآخر حقه من عين المستحق من الثمرة سواء كان في المساقاة أو المزارعة، والله تعالى أعلم.

    التفصيل في ربا الفضل أو النسيئة في المزارعة

    السؤال: لم أفهم كيفية وقوع ربا الفضل والنسيئة في المزارعة، فأرجو التوضيح أثابكم الله؟

    الجواب: ثبت في الحديث الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يد بيد، وفي رواية: سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى) وفي بعض الروايات: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) هذا الحديث أصل وقلنا: إنه أجمع الأحاديث في حصر الربويات، فدل على أن المطعومات الأربعة التي ذكرها يجب فيها التماثل والتقابض إذا اتحدت.

    فإذا باع براً ببر أو شعيراً بشعير أو ملحاً بملح أو تمراً بتمر، فيجب التماثل صاعاً بصاع، والتقابض بأن يعطي بيد ويأخذ بيد، أو يتقابضان في المجلس قبل أن يفترقا، فهذا ليس فيه إشكال.

    فإذاً: إذا كنا قد فهمنا من السنة أن البر بالبر يداً بيد مثلاً بمثل فلو قال له: أعطني أرضك أزرعها براً وأعطيك مائة صاع بر الآن فصار كأنه اشترى البر أو عاوض البر الذي سيأخذه من الأرض زراعة بالبر الذي نجزه، فقابل الطعام بالطعام نسيئة؛ لأنه يعطيه الآن على أن يأخذ نتاج الأرض بعده فصار نسيئة، ثم إذا خرج الخارج من الأرض على ثلاثة أحوال إما أن يماثل المائة صاع التي دفعها فحينئذ لا يقع ربا الفضل، وإما أن يكون أكثر فربا الفضل، وإما أن يكون أقل فربا الفضل، فإذاً لا يمكن أن يستأجر للبر مزرعة يزرعها براً ولا يمكن أن يستأجر بالأرز مزرعة يزرعها أرزاً، هذا إذا كانا اتحدا.

    أما لو اختلفا فقال له: أعطني أرضك أزرعها وأعطيك مائة صاع من التمر ثم زرعها أرزاً، فالتمر والأرز مختلف الصنف، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد) فيكون قد أعطى مائة صاع من التمر في العقد ثم يستلم المقابل بعد ذلك كما يكون من نتاج الأرض مزارعة، براً وهذا هو وجه المنع فيها. والله تعالى أعلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756345386