إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للعين المؤجرة شروط ينبغي توافرها، ومن هذه الشروط: معرفة العين المؤجرة بالنظر إليها عياناً، أو أن توصف وصفاً دقيقاً، ويستثنى من ذلك الدور. ثم عقد الإجارة إنما يجري على منفعة العين المؤجرة لا على أجزائها، ويشترط أيضاً قدرة المؤجر على تسليم العين المؤجرة.

    1.   

    شروط العين المؤجرة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن عقد الإجارة يقوم على المنافع التي تتم المعاوضة عليها، وينبغي في هذه المنافع التي يتفق الطرفان على إجارتها أن تتوفر فيها جملة من الشروط، قصد الشارع من هذه الشروط المحافظة على حق المستأجر، بحيث يستأجر شيئاً يمكن حصول المقصود منه، فالمسلم إذا دفع ماله مستأجراً داراً من أجل أن يسكنها، فينبغي أن يكون على بينة من أمره، فيعرف الدار وصفاتها، وكذلك الأمور الذي يتوصل من خلالها إلى المنفعة الموجودة في تلك الدار المؤجرة.

    أما إذا استأجر شيئاً لا يعرف حقيقته، أو يكون غير مملوك لمن أجره، أو يكون مما يتعذر أن يستوفي منه كالبعير الشارد والعبد الآبق، أو يكون ذلك الشيء من الأشياء التي لا توجد فيها المنفعة، كاستئجار المريض من أجل العمل، فإن الغالب على الظن أنه لا يستطيع أن يقوم بالعمل الذي اتفق عليه ونحو ذلك، وكاستئجار الأرض للزراعة إذا كان لا ماء فيها.

    فكل الشروط الشرعية قصد منها المحافظة على حق المستأجر، وقصد منها العدل بين الطرفين، وأن يكون عقد الإجارة خالياً من الغش ومن أكل أموال الناس بالباطل وقد تقدم معنا في كتاب البيوع أن الشريعة تحافظ على حق الطرفين في المعاوضات، سواء كان في البيوع أو الإيجارات، فهذه جملة من الشروط ذكرها المصنف رحمه الله، كلها متعلقة بالمنفعة التي هي محل العقد.

    وإذا قيل: يشترط في المنفعة. معناه: أنه يشترط في محل العقد -أي: عقد الإجارة- لأننا قدمنا في تعريف الإجارة أن العقد بين الطرفين منصب على المنفعة، ففي الإجارة ينصب العقد على المنفعة: سكنى الدور، والأعمال والحرف كالحدادة والنجارة والسباكة، ونحو ذلك وكلها منافع يقصد منها أن يتحصل المستأجر على المصلحة التي يريدها من ذلك الشيء المستأجر.

    معرفة العين المؤجرة بعين أو صفة

    يقول رحمه الله: [و يشترط في العين المؤجرة: معرفتها بعين، أو صفة في غير الدار ونحوها].

    العين المؤجرة تستوفى منها المنافع، ولا يمكن للإنسان أن يستأجر محلاً لا يعرفه ولم يوصف له، فهذا مما فيه الغرر، ومن أمثلة ذلك:

    أن يستأجر داراً دون أن يكون قد رآها وشاهد غرفها ومنافعها لكي ينظر هل تصلح له أو لا تصلح، فإذا تم التعاقد بين الطرفين على عين من أجل الإجارة، فإنه لابد وأن تكون العين معروفة، قال رحمه الله: (أن تكون العين المؤجرة) أي: مثل: البيت.. العمارة.. الشقة.. الفلة.. المزرعة.. السيارة.. الدابة... فهذه كلها أعيان مؤجرة يقصد من ورائها المنافع.

    إذا أجرك البيت من أجل تسكن، فالمنفعة هي السكنى، أو أجرك الأرض من أجل أن تزرع، فالمنفعة هي الزراعة، وحتى لو كانت الإجارة باليومية فقد يؤجر ديوان مزرعته من أجل أن تجلس فيه للراحة والاستجمام ونحو ذلك، فتكون المصلحة والمنفعة هي الارتفاق بهذا الموضع.

    إذاً: لابد أن تكون العين التي هي محل التعاقد بين الطرفين معروفة للمستأجر؛ والسبب في هذا: أنه لو أجره شيئاً يجهله وقال له: أؤجرك سيارة. وظن المستأجر أنها جيدة، فإذا بها رديئة، فلربما كان يظن أن فيها منافع قد يرتاح إذا ركبها، فإذا به يفاجأ بالسيارة ليست فيها تلك المنافع، فيقول: يا فلان! أنا استأجرت منك السيارة لمنافع معينة، وهذه السيارة ليس فيها تلك المنافع.

    فيقول: أجرتك السيارة، وقد قبلت.

    فيحدث التشاحن والبغضاء بين الطرفين، فالشريعة تريد من الطرفين إذا تم التعاقد بينهما على عين مؤجرة أن تكون العين معروفة إما برؤية، أو بصفة في غير الدار أو نحوها.

    (برؤية) مثال ذلك: لو كان لك جار عنده سيارة، وهذه السيارة يؤجرها للسفر، فأردت أن تسافر، فقلت له: أريد أن توصلني إلى المدينة. فقال: أوصلك بسيارتي. فأنت تعرف سيارته وتعرف صفاتها، إذاً يصح، وهذا هو معنى الرؤية، أي: سبق لك وأن رأيت سيارته.

    أو قال له: أؤجرك أرضي الزراعية التي في موضع كذا. وأنت قد سبق وأن رأيتها، إذاً: المعرفة منك أنت المستأجر للعين المؤجرة بسبق رؤية.

    (أو بصفة) يقول لك: أؤجرك عمارة بجوار الحرم أو على شارع كذا. ويصفها لك وصفاً تاماً بحيث إن هذا الوصف يخرج فيه الإنسان من الغرر الذي يترتب على الجهالة، فإذا وصفها كذلك فحينئذٍ يصح، لكن يستثنى من هذا الدور؛ لأن الدور كانت تختلف في الزمن القديم، ولم تكن مثل زماننا اليوم، حيث تخطط، وتكون أطوال الغرف دقيقة ومفصلة، بل كانت في القديم تختلف في أطوالها وأحجامها، ويصعب فيها الوصف؛ ولذلك قالوا في الدور: لابد وأن تشاهدها؛ لأجل دفع الغرر، وسنأتي إلى هذا المستثنى.

    الأصل عندنا: أنه لابد أن تتقدم معرفة العين، إما برؤية كأن تكون قد عرفت سيارته أو عمارته أو فلته أو شقته، وسبق المعرفة يكون إما بالرؤية أو بالوصف، يقول لك: أجرتك سيارة. السيارة فيها الكبير وفيها الصغير، فقد تقول له: أريد منك أن توصلني إلى المدينة. قال: أوصلك وعائلتك -مثلاً- كل واحد بمائتين. قلت: قبلت. فربما تقبل بعائلتك أن تركب في سيارة خاصة، لكن لا ترضى أن تركب مع غيره، إذاً: لابد أن يحدد هل هي سيارة مشتركة أو سيارة منفصلة؛ لأنك قد تتضرر بالركوب مع غيره، وهل هي مكيفة أو غير مكيفة، صغيرة أو كبيرة؛ لأن الشريعة تريد من المستأجر أن يدخل في عقد الإجارة على بينة لا غرر فيها، ويكون مطمئناً أن يدفع المال في شيء يرى في نظره أنه يستحق.

    إذاً: علمنا أنه لابد من الرؤية أو الصفة، فحينئذٍ لو أجر سيارة بدون رؤية أو صفة فقال له: أوصلك إلى المدينة بسيارتي، لم يجز ذلك حتى يبين ويحدد؛ دفعاً للضرر ودفعاً للمفسدة، وهكذا لو أراد أن يستأجر السيارة باليومية مثلما هو موجود الآن، فيأخذ السيارة ويستأجرها يوماً بمائة، أو كل مائة كيلومتر بألف ريال مثلاً، فإذا أراد أن يستأجر هذه السيارة فلابد أن تحدد الشركة المؤجرة نوعية السيارة وأوصافها؛ حتى يخرج من الغرر؛ ويكون حقه مضموناً من هذا الوجه.

    ومسألة معرفة العين المؤجرة بالرؤية أو الصفة يترتب عليها حكم شرعي، وهو: أنه لو وصف لك السيارة، أو كنت تعرفها سابقاً بالرؤية، وتبين الأمر على خلاف ما عهدت أو خلاف ما وصف لك؛ فحينئذٍ يثبت لك خيار الرؤية بعد تبين حقيقة العين المؤجرة، مثال ذلك:

    قال لك شخص: أؤجرك سيارتي الفلانية إلى المدينة بألف. فقلت له: قبلت.

    وعهدك بالسيارة أنها مكيفة ونظيفة، فجئت وإذا بالسيارة مختلفة تماماً عن ذلك، عند ذلك لك خيار العين، فمن حقك أن ترجع وتقول: إنني أعرفها جيدة فأصبحت رديئة. لأن السيارة إذا كانت رديئة تعطلك عن المصالح بالتأخر، ولربما يخشى الإنسان منها الضرر أثناء قيادتها.

    إذاً: إذا اختلفت العين المؤجرة عما عهدت من سبق الرؤية كان لك خيار، وخيار الرؤية يثبت في بيع الغائب كما ذكرناه في البيوع، ويثبت في العين المؤجرة الغائبة إذا وصفت.

    ورؤية: كان له سبق رؤية فاختلفت عما كان يعهدها عليه، أو وصفها له فاختلفت الصفة، قال المستأجر: السيارة مكيفة؟ قال المؤجر: نعم. مكيفة. فلما ركب معه إذا بها غير مكيفة، إذاً: من حقه أن يفسخ عقد الإيجار؛ لأن هذا يعتبر تدليساً وغشاً، وبعض العلماء يقول: إنه يلزم بتأمين سيارة مثل ما وصف. أي: بدلاً عما وصف، فيلزم الطرف الثاني بتهيئة هذا النوع من السيارات على الصفة المتفق عليها.

    إذاً: يشترط في المنفعة أن تكون العين التي تكون منها المنفعة معروفة عند المستأجر: إما برؤية، أو بصفة في غير الدار، وقلنا: الدور تختلف بحسب اختلاف أحجام الغرف واختلاف أحجام المنافع، فقالوا: لابد في إجارة الدور من الرؤية والمشاهدة، فلو أنه أجره شقة بالوصف على هذا القول لم يصح من حيث الأصل حتى يقف ويرى الشقة على حقيقتها؛ لأنها تختلف، ولا يمكن أن توصف وصفاً خالياً من الغرر.

    أما بالنسبة لنحو الدور فمثل الحمامات في القديم، وقد ذكرنا هذا؛ لأنهم في القديم كانوا يؤجرون الحمامات من أجل الاغتسال، فالحمام يختلف حوضه صغراً وكبراً، ويختلف من حيث النظافة ونحوها، فقالوا: لابد من الرؤية.

    ولذلك نجد الآن في بعض الفنادق إذا استأجر المستأجر يعطونه المفتاح ويقولون له: شاهد الغرفة. وهذا شيء طيب؛ لأن هذا يمكن المستأجر من أن يكون على بينة من الشيء الذي يستأجره، ويكون على بينة من الشيء الذي يريد أن يرتفق بها، وهكذا بالنسبة لإجارة المحلات ونحوها.

    العقد على نفع العين المؤجرة دون أجزائها

    قال رحمه الله: [وأن يعقد على نفعها دون أن أجزائها].

    الشرط الثاني: أن يكون العقد على منافع العين لا على أجزائها، والسبب في ذلك: أن الإجارة عقد على المنفعة، وليست على الذات، وقد بينا في كتاب البيوع: أنه إذا اتفق الطرفان على إجارة الدار أو إجارة السيارة أو إجارة العامل، فإن المستأجر يملك المنفعة من ركوب السيارة وسكنى الدار وخدمة العامل، ولا يملك رقبة السيارة ولا رقبة الدار ولا رقبة العامل، فالعقد ليس بُمنصَبٍّ على الذات، وإنما هو منصب على المصلحة المترتبة الموجودة في هذه العين، سواء كانت من العقارات أو غيرها.

    حكم عقد الإيجار المنتهي بالتمليك

    إذاً: لابد وأن يكون العقد وارداً على المنفعة لا على الأجزاء، وجزء الشيء: القطعة منه والبعض منه. وبناء على ذلك: لا يصح أن يعقد على دار إجارة وهو يريد أن يملكه أجزاءها، وهو مثل ما يسمى الإجارة بالتمليك، لأن الإجارة شيء والبيع شيء، فإذا أراد أن يبيع قال: بعتك. وإذا أراد أن يؤجر قال: أجرتك. أما أن يقول: بعتك وأجرتك، أو: أجرتك وبعتك، فلا يمكن؛ لأن الشريعة لا تريد تداخل العقود؛ لأن تداخل العقود لابد فيه من الإضرار بمصلحة المستأجر أو المؤجر أو هما معاً؛ وتداخل العقود في الشريعة يوجب فوات الحقوق، وخثل أحد الطرفين لا محالة.

    فالرجل إذا اتفق مع الغير أن يستأجر بيته فإنه لا يملك إلا السكنى، وليس من حقه أن يتصرف في ذلك البيت خارجاً عن هذا العقد، وبناءً عليه نقول:

    أولاً: إن عقد الإجارة على المنفعة وليس على الذات ولا على أجزاء الذات.

    ثانياً: نفهم من هذا أن العلماء لا يقولون: إن الإجارة كالبيع، أي: أنها تأخذ حكم البيع من كل وجه، بل إن الإجارة واردة على المنفعة، والبيع وارد على الذات، فالإجارة لا ترد على الذوات ولا ترد على الأجزاء، ولا يمكن أن يقول له: أؤجرك البرتقال لتأكله؛ لأن أكل البرتقال ملكية لذات البرتقال، وأياً كان ذلك الطعام فإن هذا المطعوم إذا بيعت أجزاؤه وانتفع بأكله، فإن أكله يكون استهلاكاً للذات وهذا بيع، والإجارة استهلاك للمنفعة وليست باستهلاك للذات.

    وبناءً على ذلك: فإن عقد الإجارة المنتهي بالتمليك في العقارات أو في المنقولات من سيارات أو غيرها لا يصح، وذلك لأسباب:

    أولاً: أن الإجارة تستلزم ملكية المنفعة، وهذا العقد منصب على المنفعة مع الذات.

    ثانياً: أن هذا النوع من العقود يؤدي إلى عقدين في عقد على وجه الغرر.

    وتوضيح ذلك: أنه يقول له: أؤجرك هذه السيارة أربعة وعشرين شهراً، ثم تدفع خمسة آلاف وتملكها، فحينئذ معناه: أنه يريد أن يضمن منه أن يستأجر أربعة وعشرين شهراً، ثم بعد ذلك يملك السيارة بعد الأربعة والعشرين شهراً، فنسأل: هل العقد عقد بيع أو عقد إجارة؟

    إذا قال: هذا عقد بيع. قلنا: إن الأربعة والعشرين شهراً لو امتنع المستأجر في أول الفترة أو في نصفها أو بعد شهر أو شهرين، ثم أخذ منه مالك السيارة السيارة، فأصبح إجارة وليس بيعاً؛ لأن الإجارة هي التي يملك فيها البيع ويملك استرداد العين عند تعذر الإجارة، إذاً: ليس ببيع، وإن كان بيعاً في الظاهر، لكن في الحقيقة لا تنطبق عليه أوصاف البيع.

    فلو قال قائل: هو بيع في المآل، أي: أنه خيره، فقال له: بعد الأربعة والعشرين شهراً إذا أردت أن تملكها فادفع خمسة آلاف.

    نقول: باعه بعد أربعة وعشرين شهراً شيئاً -الذي هو السيارة- فلا ندري هل تبقى بعد أربعة وعشرين شهراً أو يأتي شيء يتلفها، ولا ندري هل تبقى على الصفات الكاملة، أو خلال الأربعة والعشرين شهراً مع الاستهلاك تتغير أوصافها وتتضرر، إذاً: لا يشك أحد في وجود الغرر.

    ولا تصح -كما قلنا- بيوع الآجال، كأن يقول له: بعتك سيارتي بعد ثلاث سنوات أو بعد أربع سنوات، لا يمكن هذا؛ لأنه بيع لشيء لا ندري هل يسلم أو لا يسلم، وإذا سلم هل يبقى كاملاً أو ناقصاً.

    ثالثاً: هب أن البيع صحيح، وهب أنه في الظاهر عقد بيع.

    نقول: لو صح البيع إلى أجل -أي: إلى بعد سنة أو سنتين- فنقول: باعه بشرط أن يستأجر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.

    فهنا أمور أولاً: تداخل العقود، وثانياً: أنه باعه مجهولاً لا يدري عن حاله، وثالثاً: لم تطبق أحكام البيع على المبيع خلال مدة الإجارة، فهو بائع وغير بائع، بائع في العقد لكن في الحقيقة والمضمون لو عجز المستأجر ألزمه برده، وهذا هو المقصود.

    وقد يقال: المقصود: أن أضمن الأقساط. وإنما سموه إجارة من باب ضمان الأقساط، ونحن نقول: فهذا لا تجيزه الشريعة؛ لأنه إذا اتفق مع شخص على بيع سيارة بعشرين ألف ريال، وأعطاه إياها أقساطاً على عشرين شهراً، وتعذر على المشتري أن يدفع الأقساط لعسرة، فنظرة إلى ميسرة، أو يعطى حكم الخيار على التفصيل المعروف في البيع، وعندنا حلول شرعية أفضل من هذا وأتم وأكمل، فلو مات المستأجر خلال هذه المدة فإنه قد أسس له حقاً بعد أربعة وعشرين شهراً، فلا ندري إذا مات هل هذه السيارة ملك له وتأخذ حكم الميراث أم ليست ملكاً له؟

    ولذلك يقول بعض الفقهاء: من أعجب ما وجد في شروط الشريعة: أنها تيسر للقاضي الحكم عند الطوارئ، فتقفل أبواب الجهالة في العقود، فإذا انطبقت شروط الإجارة وشروط البيع، ووقعت الإجارة على السنن، ووقع البيع على السنن؛ فلا يمكن أن تقع خصومة في بيع أو إجارة إلا وعرفت حق كل ذي حق.

    مثال: لو أن أجيراً استأجرته شهراً كل يوم بكذا ومات أثناء الشهر، فحينئذٍ يكون معروفاً ما الذي له وما الذي عليه، لكن لو مات الذي في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك في سيارة أو أرض، فلا ندري حينئذٍ هل هو مالك للأرض فتكون قد دخلت إلى ملكية الورثة، ونلزمهم بالدفع فيما بقي، فننزله منزلته على أن البيع قد تم في الأول، أو هو ليس بمالك بل مستأجر، ثم تنطبق مسألة موت أحد المتعاقدين، وهل يلزم الورثة بإتمام العقد أو لا؟ فيحدث نوع من الاشتباه في العقود، ولذلك فالغرر موجود من حيث الجهالة في صفة المبيع إذا قيل: إنه بيع.

    وثانياً: تداخل العقود على وجه يوجب الخصومة والشحناء.

    وثالثاً: أن المبيع لا ندري عن حاله بعد الأشهر.

    ولو قلنا إنه بيع، فإنه بيع وشرط، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولذلك لا يعرف هذا النوع من العقود عند المسلمين، ولم يذكر العلماء رحمة الله عليهم شيئاً يسمى إجارة تنتهي بتمليك أبداً، وهذه دواوين العلم وكتب الفقه موجودة، ومن أراد أن ينسب عقداً شرعياً إلى الشرع فعليه أن يتتبع كلام العلماء وأصولهم.

    وعلى هذا: فإنه لا ينعقد عقد الإجارة على الأجزاء.

    حكم تأجير ما لا تبقى عينه

    قال رحمه الله: [ فلا تصح إجارة الطعام للأكل ].

    يجوز لك أن تشتري الطعام لتأكل بإجماع العلماء، ويجوز بيع الطعام، فلا أحد يحرم بيع الطعام، ومعناه أن العلماء رحمهم الله يريدون الوفاء بالعقود، وهذا كله ينبني على كلمة واحدة وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فالشريعة حينما تضع الشروط وتقول: هذا حلال وهذا حرام، كل ذلك لمقصد، وهو أن الطرفين إذا اتفقا على شيء لابد وأن يكون شيئاً بيناً واضحاً، فلا يجوز إجارة الطعام للأكل؛ لأنه إذا استأجر الطعام من أجل أن يأكله فحينئذ استهلك ذاته، وإذا استهلك ذاته فالذوات تضمن بالقيمة ولا تضمن بالأجرة؛ لأن الشيء المستأجر تؤخذ منفعته وترد عينه، وأما بالنسبة لاستهلاك الأعيان بذاتها فيعتبر بيعاً، وتسري عليه شروط البيع المعتبرة.

    وقوله: [ولا الشمع ليشعله].

    ولا تجوز إجارة الشمع ليشعله، كانوا في القديم يضيئون بالشموع، وإذا قال له: أستأجر منك مائة شمعة توقدها الليلة. لم يصح، إنما يقول: أشتري منك مائة شمعة، وكل شمعة بعشرة ريال، وأؤجرك لإيقاد هذه الشموع كل شمعة بريال. فأصبحت مائة شمعة، وكل شمعة بعشرة ريال، فيصبح المجموع ألف ريال، وكل شمعة توقدها بريال، فهذا ليس فيه أي إشكال.

    تأجير الحيوان ليأخذ لبنه

    وقوله: [ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر].

    ولا يجوز إجارة الحيوان ليشرب أو يأخذ لبنه.

    هناك حيوانات تستأجر من أجل الركوب، وهي: إجارة الظهر، ويسميها بعض العلماء بـ(الكراء) ويدخلها في مسائل الكراء كما هو مذهب المالكية، فيجعلون إجارة الدور والسفن والنواقل والدواب من الكراء، ويسمونه كراءً في الأكرية، فإذا قال المالكية: الأكرية. فالمراد بها هذا النوع من الإجارات.

    وبالنسبة للحيوان: يكون منه الركوب، ويكون منه الحليب، والحليب من بهيمة الأنعام يرتفق به طعاماً، يشرب ويغتذى به وينتفع، فإذا تعاقد مع شخص على حليب، وقال: أستأجر منك حليب هذه الناقة، أو حليب هذه البقرة، أو حليب هذه الشاة. لم يصح؛ لأن التعاقد على ذات الحليب بيع، فعليه أن يقول: أشتري منك كل لتر من هذه البقرة أو يقول له: أشتري منك مائة لتر بألف ريال. وهذا يعتبر بيعاً.

    لكن أن يقول له: أستأجر منك هذه الناقة اليوم من أجل أن أحلبها. لا يصح؛ لأن الحليب ذات، والتعاقد على الذوات بيع، والمعاوضة عليها بيع، ولا يصح أن يقول له: أستأجر منك هذه الدابة لحلبها، لكن لركوبها يصح، وعلى هذا: يفرق بين المنفعة والذات.

    حكم بيع لبن الآدمية وتأجيرها على الرضاع

    وقوله: (إلا في الظئر) هذا استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ.

    (الظئر): المرضعة، والرضاعة تكون من الآدمي، يعني: يستأجر امرأة من أجل أن ترضع طفله، فقال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم: إن هذا النوع من العقود -وهو: استئجار المرأة للرضاع- يعتبر مستثنى من الأصل، فهو يسمى إجارة، لكنه في الحقيقة بيع، واستثنيناها لورود القرآن بذلك: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، هذا نص من كتاب الله على اعتبار الإجارة على الرضاع، وإن كان بعض العلماء يقول: بل فيه معاوضة، وتكون أجورهن أشبه بالعوض، وليس المراد به الإجارة، لكن جماهير العلماء على أنها إجارة.

    وعندنا مسألتان ينبغي التنبيه عليهما في مسألة استئجار المرأة للرضاع، فقد يحتاج الرجل لإرضاع صغيره، إما لموت أمه، أو وجود آفة أو ضرر، أو تعذر إرضاع أم الطفل للطفل، فيحتاج أن يسترضع لولده، وهذا الاسترضاع يكون على وجهين:

    الوجه الأول: أن يكون على عقد إجارة بالمدة.

    والوجه الثاني: أن يكون على عقد البيع.

    فاللبن الذي تخرجه المرضعة إذا قال لها: أرضعي طفلي سنة وأعطيك كذا وكذا، أو أرضعيه الشهر بألف. وتمت الموافقة، فهذه إجارة وحكمها حكم الإجارة.

    النوع الثاني: أن تحلب المرأة حليبها، وتضعه في وعاء أو في كأس ويحتاجه لصبيه، أو يقول لها: أرضعي صبيي. فقالت: لا أرضعه، لكني أحلب الحليب في الكأس وأبيع الحليب.

    فعندنا عقد بيع وعندنا عقد إجارة، ولابد من التفريق بين العقدين، فأما ما كان من الإجارة لمدة الشهر.. الشهرين.. السنة.. السنتين، فهذا لا إشكال فيه، ونص القرآن فيه واضح.

    لكن بالنسبة لبيع لبن الآدمية، هناك فرق بين لبن الآدمية ولبن الحيوان، فلبن الحيوان يجوز بيعه بالإجماع، لكن بيع لبن الآدمية اختلف فيه، فإن قالت لك: أبيعك هذا الكأس بمائة فللعلماء قولان:

    قال طائفة من العلماء: يصح بيع لبن الآدمية، ولا بأس بذلك؛ لأن الله تعالى أحل المعاوضة عليه بالإجارة، والإجارة نوع بيع، فإذا صحت المعاوضة عليه إجارة صحت المعاوضة عليه بيعاً من باب أولى وأحرى؛ لأن الإجارة مستثناة من الأصل، فمن باب أولى إذا كان العقد على صورة البيع الحقيقية، واستدلوا بقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6].

    الدليل الثاني: القياس، فقالوا: يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب كما يجوز بيع لبن بهيمة الأنعام، بجامع كون كل منهما فضلة حيوان ومباحة.

    وبالنسبة لهذا القياس يقولون: أنتم تجيزون بيع لبن الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ولا فرق بين لبن الآدمية ولبن الإبل والبقر والغنم، هذا فضلة حيوان وهذا فضلة حيوان، وكل منهما فضلة مباحة، فلا بأس بذلك.

    وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنابلة فقالوا: لا يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب. واحتجوا بأن لبن الآدمية جزء من الآدمي، والآدمي لا يجوز بيع أجزائه أو أعضائه؛ ولذلك لا يجوز بيع الآدمية كما لا يجوز بيع أعضاء الإنسان الآدمي، بجامع كون كل منهما جزءاً من البدن، والإنسان لا يملك نفسه ولا يملك أجزاء نفسه فلا يجوز أن يبيعها؛ لأن البيع لا يصح إلا بشيء يملكه، فإذا كان الإنسان لا يملك أجزاءه فلا يصح أن يبيع ما لا يملك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما لا يملك.

    إذا ثبت هذا فالحنفية كلامهم صحيح: أن أجزاء الآدمية لا يجوز بيعها.

    ثانياً: قالوا: إن بيع الآدمي فيه امتهان، والله يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]. فإذاً ينبغي أن يكرم.

    أما مسألة الرقيق فهذه مستثناة لورود النص، لكن من حيث الأجزاء ليس عندنا نص يجيز البيع، فإذا ثبت أن أجزاء الآدمي ليست محلاً للبيع، فإذاً: لبن المرأة مثل يدها ورجلها وأعضائها. فكما أنكم تقولون: لا يجوز بيع أعضاء الآدمية فإنه لا يجوز بيع لبنها، بجامع كون كل منها جزءاً من البدن.

    واعترض عليهم الجمهور وقالوا: إن أعضاء الآدمية ليست كاللبن، فاللبن فضلة سائلة، وينفصل من البدن ويخرج منه، والأعضاء لا تنفصل إلا بضرر، فقال الحنفية: نعطيكم أجزاء تستحلب من البدن: فما رأيكم في دموع الآدمية أو دمها؟ وما رأيكم في البصاق واللعاب وغيرها من الفضلات السائغة هل يجوز بيعها؟ قالوا: لا يجوز بيعها، قالوا: إذاً لبن الآدمية لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع دموعها ودمها وفضلاتها.

    قيل لهم: إن الدموع والفضلات لا فائدة فيها، ولكن اللبن فيه فائدة.

    فالذي يظهر أن مذهب الجمهور بجواز صحة البيع هو الأقوى؛ لأن الله تعالى أحل دفع العوض على اللبن، وهذا يدل على أنه محل للمعاوضة، فكما جاز استحقاق الأجر عليه بالإجارة جاز استحقاق العوض عليه في البيع.

    إذاً الخلاصة: أن استئجار المرأة للبن إن كان على المدة -كقوله: أرضعي ولدي ساعة، أو يوماً، أو شهراً- فهو جائز، وهو منصوص عليه في قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] وأما إذا كان العقد وارداً على ذات اللبن فهذا بيع، وفيه التفصيل الذي ذكرنا.

    تبقى مسألة: لو كان الحليب في ثدي المرأة، فقالت المرأة: أبيعك ما في ثديي من اللبن. لم يجز بإجماع العلماء والسبب: أن الذي في الثدي مجهول، ولا ندري أهو قليل أم كثير، فتحريمه من جهة الجهالة.

    نقع البئر وماء الأرض

    وقوله: [ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعاً].

    هذه المسألة في مسألة إجارة الأرضين.

    ذكرنا في الشرط الذي معنا: أنه يتشرط في المنفعة أن تتعاقد مع أخيك على منفعة الشيء لا على أجزائه.

    فيرد السؤال: لو أن شخصاً عنده أرض زراعية ليس فيها زرع، ولكن فيها بئر وهي صالحة للزراعة، فجاءه رجل وقال: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض من أجل أن أزرعها السنة بمائة ألف. فقال: قبلت. وتم العقد بينهما؛ جاز ذلك وصح، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وهو قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.

    وذلك لحديث رافع بن خديج في الصحيح، أن ما كان بذهب وفضة فلا بأس، أي: ما كان من إجارة الأرضين الزراعية بالذهب أو الفضة فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيه.

    وإذا ثبت أنه يجوز إجارة الأرضين للزراعة فقد يعترض المعترض ويقول: أنتم تجيزون إجارة الأرض للزراعة، مع أن الأرض فيها ماء، ولا تصح إجارة الأرض للزراعة إلا إذا كان فيها ماء، والماء يستهلك بذاته، فمعنى ذلك: أن العقد وقع على الأجزاء ولم يقع على المنافع، وأنتم تقولون: الإجارة يشترط فيما ألا يتم العقد على أجزاء العين المؤجرة، فكيف تصححون إجارة الأرضين للزراعة مع أن الماء المستهلك في زرعها جزء من العين المؤجرة؟

    والجواب: أن القاعدة تقدمت معنا في باب البيوع، وذكرنا دليلها من حديث ابن عمر في الصحيحين: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. فالماء هنا تبع للأرض، ويجوز أن يباع الشيء تبعاً لكنه لا يجوز أن يباع استقلالاً، ويجوز أن يكون تابعاً بإجارة أو نحوها لكنه لا يجوز أن يكون أصلاً في الإجارة، فجاز تبعاً، وبينا أن هذه القاعدة صحيحة في العبادات والمعاملات، وذكرنا من أمثلتها في العبادات: أن الإجماع منعقد على أن المسلم لا يجوز له أن يصلي عن الميت، وأن الميت إذا مات لا تجوز العبادات البدنية عنه إلا ما استثناه الشرع من الصيام عنه على التفصيل الذي ذكرناه في باب الصيام.

    ولكننا قلنا: لو أنه حج عن ميت فطاف، وأراد أن يصلي ركعتي الطواف فإن الصلاة وقعت هنا تبعاً ولم تقع أصلاً، فصحت العبادة تبعاً ولم تصح أصلاً.

    وذكرنا في بيع النخل قبل بدو صلاحه إذا باعه وقد أُبِّر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فصحح عليه الصلاة والسلام وقوع الثمرة بالبيع تبعاً للبستان إذا بيع، مع أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إذا كانت مؤبرة وقبل أن يبدو صلاحها استقلالاً، فهذا كله مفرع عن القاعدة التي ذكرناها: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل.

    وإذا ثبت هذا فنقول: إن الماء الموجود داخل الأرض الزراعية تبع وليس بأصل.

    ونفرع على هذا مسائل معاصرة، فمثلاً: الاستئجار في الفنادق؛ في غرفة الفندق منافع في دورات المياه، ويجد فيها منافع في مكان جلوسه، مثل: المناديل والصابون ونحوها من الأشياء التي يرتفق بها، فوقع استهلاك هذه الأعيان تبعاً ولم يقع أصلاً، فإن وقع أصلاً لا يجوز، لكن إذا وقع تبعاً فإنه يصح؛ لأنه يصح في التابع ما لا يصح في الأصل.

    فتتفرع هذه المسألة من أخذ المنافع، فلو أنك ركبت سيارة أجرة، فستجد -مثلاً- علبة المناديل، وقد جرى العرف أن توضع علبة المناديل في السيارة، فلو أخذت من مناديلها فلا زالت مناديلك، فكل شيء له قيمته وكل شيء له حقه، فأنت تستحقها بالركوب رفقاً، لكن هذا تبع وليس بأصل.

    فاستهلاك الذوات التي جرى العرف باستهلاكها كالماء في الأرض والزرع، وهكذا بالنسبة للمنافع والأعيان الموجودة في منافع الأشياء المؤجرة في المركوبات والعقارات، كلها جائزة على سبيل التبع لا على سبيل الأصل.

    القدرة على تسليم العين المؤجرة

    [والقدرة على التسليم].

    هذا هو الشرط الثالث: أن يكون قادراً على تسليم المنفعة.

    أنت حينما تستأجر شيئاً ينبغي أن تضمن حقك في الوصول إلى المنفعة، وهذا الشرط سنفصل فيه -إن شاء الله- في المجلس القادم، وهو مبني على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وسنبين -إن شاء الله- وجه اشتراط العلماء رحمهم الله للقدرة على تسليم المنافع في الإجارة.

    1.   

    الأسئلة

    مسألة في الإجارة على الفحوصات

    السؤال: نرجو بيان الأحكام المتعلقة بالإجارة على الفحص، كالفحص على الآلات والفحوص الطبية؟

    الجواب: هذا سؤال مهم جداً وفيه فائدة، ولذلك من أفضل ما يكون في دراسة الفقه: أن يكون هناك فهم للمسائل الموجودة حتى يكون ذلك أمكن للتصور.

    فمسألة الإجارة على الفحص: الشخص إذا أراد أن يفحص متاعاً أو شيئاً يملكه أو يفحص نفسه -كما في التداوي- فإن لهذا الفحص أحكاماً ينبغي أن يعرفها المسلم حتى يعرف ما الذي له وما الذي عليه.

    فنبدأ -مثلاً- بفحص الأشخاص في الطب: فالإجارة الطبية تنقسم في الأصل إلى قسمين:

    القسم الأول: الإجارة على الفحوصات.

    والقسم الثاني: الإجارة على التداوي.

    فالطبيب إذا استأجره الإنسان أو المستشفى إما أن يستأجره من أجل أن يفحص ليشخص مرضاً أو داءً، وإما أن يستأجره لعلاج داء، فأما السؤال فإنه ينصب على الاستئجار للفحوصات.

    الفحوصات في الأصل تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: ما يسمى بالفحوصات المبدئية، وهذا النوع من الفحوصات غالباً ما يقوم الطبيب بنفسه، مثل قرع بطن المريض، ومثل: التصنت إلى أماكن معينة مثل: (جس النبض) ونحو ذلك، وهذا يسمونه الفحص السريري أو الفحص المبدئي، وهو جملة من الإجراءات والتي يقوم بها الطبيب للمعرفة المبدئية لأعراض الأمراض، فإن الله من حكمته أن جعل لكل مرض ولكل داء علامات وأمارات يعرف بها.

    فهذا الفحص المبدئي له حكم، وهناك الفحص التكميلي، والفحص التكميلي أعمق في الأحكام؛ لأنه يستعين فيه الأطباء -بعد الله عز وجل- بوسائل أدق من وسائل الرؤية والمشاهدة واللمس باليد، ونحو ذلك من الفحوصات المبدئية، فتكون المسائل أحوج للتفصيل في النوع الثاني أكثر من الأول.

    ففي النوع الأول -الفحص المبدئي- إذا أراد أن يستأجر من أجل الكشف عليه، فإذا قال: من أجل أن يكشف عليه. هذا شيء، ومن أجل تشخيص المرض شيء آخر، وهناك أمران: إما أن يفحص من أجل أن يعرف وضع البدن، وإما أن يعرف ما الذي يتسبب في هذا الألم.

    فمثلاً: الفحص الذي يقصد به معرفة وضع البدن -مثل: الفحص الوقائي- هذا لا يقصد به كشف الداء، بل يفحص الدم ويفحص الخارج من الإنسان من بول أو براز أو غير ذلك، ولا يقصد منه معرفة مرض معين أو شكوى معينة، إنما المراد منه معرفة وضع البدن عموماً، وهذا نوع من الفحص لابد من معرفته؛ لأن المنفعة المقصودة: أن يظهر للمريض طبيعة بدنه، والحد الذي هو فيه البدن، سواء كان على حد الخطر أو على حد السلامة.

    وهذا النوع من الفحوص يقوم الطبيب فيه بالإجراء المتبع عند أهل الخبرة على حسب طلب المريض، فإن طلب منه فحص الدم من حيث وضعه، فإنه يفحصه على وضع متعارف عليه عند الأطباء، فإذا فحصه على وضعه المتعارف عليه وأخرج نتائج الأجهزة والآلات -من تصوير بالأشعة والتحاليل- دون أن يتصرف في ذلك، فعند هذا القدر تنتهي مهمة الطبيب وليس له علاقة بالعلاج أو التداوي، إنما فقط أن يكشف له طبيعة بدنه.

    إذاً: المنفعة في هذا النوع من الفحوصات هي: الكشف عن طبيعة البدن.

    النوع الثاني من الفحص: أن تقول للطبيب: أريد أن أعرف سبب هذا الألم. أو تقول: ما الذي يحدث -مثلاً- في الأذن أو لماذا أجد ألماً في بصري؟ ففي هذه الحالة يتحمل الطبيب مسئولية معرفة عين الداء، والفرق بين الحالتين: أنه في الحالة الثانية لو استأجرت طبيباً لمعرفة مرض في بدن وشخصه أنه مرض وتبين أنه غيره؛ لم يستحق الأجرة؛ لأنه في الأصل يستحق إذا كشف، وتكون له جعالة إذا قلت له: من أجل أن تكشف المرض.

    لكن من أجل أن يفحص لك -مثلما ذكرنا- فيستحق الأجرة بالعمل، فهناك فرق بين الأمرين، فإذا استأجر الطبيب من أجل معرفة دائه ومرضه فلا يستحق إلا بالتشخيص الواضح البين.

    وتتضح الصورة أكثر في الأشعة: فلو أراد أن يعرف ألماً موجوداً في عظامه هل هو كسر أم لا؟ فجاء إلى مصور الأشعة وقال له: صور لي يدي. فإذا قال له: صور. فالمصور يستحق الأجرة على التصوير فقط، وليس له علاقة حتى لو خرجت سليمة.

    لكن لو أن الطبيب قال له: يدك تحتاج إلى تصوير. مع أن المرض ظاهر ولا يحتاج إلى تصوير، وتبين أنه خدش عارض أو التهاب عارض في الجلد جرى عرف الأطباء أنه لا يصور فأمره بالتصوير، فإنه لا يستحق أجرة؛ لأن كل الإجراءات التي تتم بين الطرفين مقرونة بالعرف الطبي، فأي تصرف يطلبه المريض من طبيبه ينبغي أن تكون الأجرة مقيدة بذلك العقد والاتفاق بين الطرفين.

    ومن هنا حصلت الشبهة في مسألة التداوي بقراءة القرآن وأخذ الأجرة والمال على القراءة؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم قرءوا على المريض الممسوس والمجنون فأعطاهم الأجرة بعد شفائه، فمن أراد أن يقرأ وأعطي قبل الشفاء أو قال: أنا آخذ إذا شفي خمسة آلاف. فلا بأس إذا اشترط الجعل، لكن أن يفتح عيادة كالطبيب، وكل من دخل وشخَّص حالته أخذ منه الأجرة، فهذا لا يجوز؛ لأن مسائل الأرواح لا يستطيع أحد أن يكشفها.

    فإذاً: عندما يقول له: كلما تدخل عندي تدفع خمسين من أجل أن نقرأ ونعرف هل هو مس أو هل هو سحر أو كذا.. لا يصح؛ لأن الأمور الروحية لا يمكن بها إدراك أصل الداء، فقد يكون هذا الشيء لعارض من غضب أو نحوه من أمور لا علاقة لها بالمس والسحر، بخلاف الأمراض العضوية المشخصة التي يمكن الوصول فيها إلى حقيقة المرض، فاختلف الأمر بين الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أخذوا الأجرة لكن بالجعل، أي: أنهم قالوا: اجعلوا لنا جعلاً، والجعل غير الإجارة، لكن إذا قال: لا تدخل عندي حتى تدفع خمسين ريالاً، وكل جلسة أجلسها وأقرأ القرآن على المريض آخذ خمسين. لم يصح؛ لأنه نقله من الجعل إلى الإجارة، والإجارة على مثل هذا لا تصح، وقد يقول: إنه معيون وهو ليس بمعيون، وقد يقول: إنه مسحور وهو ليس بمسحور.

    ونرجع إلى مسألة الطبيب إذا قيل له: شخص لي المرض، أو إنني أشتكي -مثلاً- من ألم في موضع كذا، فأريد أن أعرف حقيقة هذه الشكوى، فإذا التزم الطبيب بكشف وتشخيص المرض فإنه يستحق أجرة التشخيص، وإذا التزم بالعلاج والمداواة فإنه يستحق أجرة المداواة، فتصبح عنده مرحلتان: إن اتفق معه على التشخيص فهذا شيء، وإن اتفق معه على التداوي، فهذا شيء آخر، وعلى هذا: فكشف حقيقة الأمراض وفحص الأمراض في الطب يستحق الطبيب الأجرة فيه إذا شخص على وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة والأطباء.

    أما الآلات: مثل السيارات، إذا جاء وأحضرها عند مهندس مثلاً، فإذا قال للمهندس -مثلاً-: اكشف لي عيب هذه السيارة. فهذا شيء، وإذا قال له: أصلح لي السيارة. فهذا شيء آخر.

    إذا قال له: اكشف لي عيب السيارة، صارت إجارة على فحص السيارة، فيفحص جميع ما فيها، وإذا حدد وقال: أريدك أن تكشف على شيء معين في السيارة، فهنا يتم العقد على شيء معين، ويكون مورد العقد على شيء معين، وفي هذه الحالة إذا قام المهندس بالكشف عندها وحدد ما بها، وكان يطمع أن تصلحها عنده فقلت: لا أريد أن أصلحها عندك. فيجب عليك دفع أجرة مثله، أما أن يأتي بسيارته ويكلفه الكشف عليها ويخدعه كأنه يريد أن يصلحها عنده ثم ينطلق ويصلحها عند غيره، فللعامل وللمهندس حق خبرته ونظره وتعبه، ولا يجوز أن يأمره بذلك إلا وقد حدد له أجرته، وهذا بالنسبة لكشف الآلة.

    لو أن الساعة تعطلت فجاءه وقال له: أصلح لي الساعة. فيكون المهندس أو الخبير بإصلاحها مطالباً بأمرين:

    الأمر الأول: معرفة منشأ الفساد وحقيقته، وثانياً: معرفة كيفية إصلاحها. فإن قال له: بها عيب كذا. قال له: حسناً، هذا العيب بكم تصلحه؟ فقال: هذا العيب له قطعة، وهذه القطعة إن اشتريتها أنت -فلو فرضنا أنها عقارب الساعة- أصلحها بخمسين ريالاً، ولو قال له: عقارب الساعة موجودة عندي، والثلاثة العقارب بثلاثمائة ريال، وتركيبها بخمسين ريالاً، فأصبح المجموع ثلاثمائة وخمسين ريالاً. فهذا لا شيء فيه، وخاصة على القول باجتماع الإجارة والبيع فيما يخف، وهذا مما يخف، ففي الفحص وإصلاح الآلات يكون الأمر موقوفاً على معرفة الفساد وما يستلزمه إصلاح الفساد، فيحدد أجرة المعرفة وأجرة الإصلاح.

    أما بالنسبة للمسائل المتعلقة بجزئيات الفحص على الأبدان -الذي هو الفحص الطبي- فهذه تحتاج إلى تفصيل، فمثلاً: التصوير بالأشعة لابد أن تحدد نوعية الأشعة: هل هي أشعة مقطعية أم سينية أم أشعة بالليزر؟ فيحدد ما الذي يريد أن يتصور به، ثم يحدد العضو الذي يريد أن يصوره، وتكون مهمة المصور أن يصور على وفق الأصول الطبية، بشرط أن تظهر الأفلام واضحة، فلو أنه قصر ولم تكن واضحة فمن حقه أن يطالبه بإعادة التصوير مرة ثانية.

    وأيضاً: يطالب المصور -إذا اتفق معه على التصوير وتشخيصه- بكتابة تقرير التصوير؛ لأن التقرير يعتبر تابعاً للإجارة، وقد جرى العرف على أن المصور يكتب تقريره، فإذاً: لابد وأن يكتب تقريره، فلو كان التصوير بالأشعة قيمته خمسين ريالاً، والتقرير كتابته بعشرين ريالاً، فلو أنه صور له ولم يكتب استحق الخمسين، وهذا شيء طيب وحسن في المستشفيات، فنجد عندهم نوعاً من التفصيل، فتجده مثلاً يقول لك: الأشعة المقطعية قيمتها كذا، والأشعة على اليد قيمتها كذا، والأشعة على الرجل قيمتها كذا. والمقصود: أنك تدخل إلى العقد وأنت على بينة، وهذا الذي تريده الشريعة للمتعاقدين؛ أن كل متعاقد يعرف ما الذي له وما الذي عليه.

    وإذا قرأ طالب العلم هذا المسائل وطبقها على ما يعيشه وعلى ما يبتلى الناس في أعرافهم؛ وجد سماحة الشريعة، وخاصة عند التطبيق ستظهر أمور جلية، وكم من مسائل قرأناها في المتون ولما طبقناها في واقع الناس وفي حياتهم وجدنا لها فوائد وحكماً وأسراراً؛ لأن الشريعة تنزيل من الحكيم الحميد، وربما العلماء يقولون حكمةً، ولكن كم من حكم تخفى! وكم من أسرار وفوائد لا تظهر إلا عند التطبيق والممارسة؛ ولذلك كانوا يقولون: من أفضل الشروح في الفقه شرح الفقيه القاضي أو المفتي؛ لأنه من خلال فتاوى الناس إذا جاء ليشرح فإنه يشرح بعمق، ويشرح بفهم، وعنده إلمام بالأصول والمستثنيات.

    والفقيه القاضي؛ يعرف خصومات الناس وحقوقهم، فيعرف قيمة شروط الشريعة التي تحدد حقوق المتعاقدين.

    فالمقصود من هذا: أن الإجارة إذا كانت على الفحص فلابد فيها من تحديد المنفعة المطلوبة، سواء كانت على الآدميين أو كانت على الآلات، والله تعالى أعلم.

    مسألة تداخل العقود

    السؤال: ذكرتم -حفظكم الله- أن تداخل العقود في الشريعة يوجب فوات الحقوق ويستلزم ختل الآخر، هل هذه قاعدة شرعية؟ وما هو المراد بالعقود هنا؟

    الجواب: تداخل العقود: أن يجمع بين عقدين فأكثر على وجه يتضمن الغرر، ومن أمثلة تحريم الشريعة لهذا النوع: نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة، فأدخل العقدين في العقد الواحد، فإذا قال له: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف نقداً، وبمائتين إلى نهاية السنة. وافترقا قبل أن يحددا، فأصبح وقد باعه بمعجل ومؤجل، باعه بعقدين وأدخلهما في عقد واحد، فأتم صفقة السيارة بقيمتين مختلفتين إحداهما أضر من الأخرى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا افترقا قبل تحديد البيعتين: (فله أوكسهما أو الربا) فإذا لم يبتا ولم يحددا هل هو بالنقد أو بالتقسيط صار تردداً في العقدين، فلا ندري هل نطبق على هذا البيع الآجل أو العاجل؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا التداخل في العقد: (فله -أي: للبائع- أوكسهما أو الربا).

    (له أوكسهما) قالوا: لأنه ربما باعه وهو يريد أن يأخذها مؤجلة، فرجع له بعد ساعة وقال له: لا أريدها مؤجلة، ولكن أريدها معجلة، فأعطاه الوكس -أي: الأقل- (فله أوكسهما): أي: أقلهما.

    (أو الربا) أي: أنه باعه وفي نيته أن يدفع له معجلاً، فظهر أنه يريده مؤجلاً، فكأنه عوض المعجل بالمؤجل مع الزيادة، وهو ربا الفضل، فقالوا: لا يجوز ذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلة لمكان التداخل.

    وأياً ما كان فإن تداخل العقود إذا كان على وجه يوجب الغرر فإنه من حيث الأصل والمبدأ أمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

    توضيح لقاعدة: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل

    السؤال: حصل عندي إشكال في القاعدة التي ذكرتموها: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. وهو أن العطر به مادة كحولية وهي تابعة، فهل عندما نشتريه لم نكن قصدنا -أصلاً- ما به من كحول؟

    الجواب: من حيث الأصل: أن ننظر في الدليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة وقال: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر) ولم يفرق بين قليلها وكثيرها، وقال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام) فجعل حكم القليل والكثير في الخمر سواء، فإذا ثبت أن التحريم في الخمر تعاطياً وتجارة شامل للقليل وللكثير؛ فإنه ينبغي في تحريم البيع أن نحرم القليل والكثير تابعاً أو أصلاً؛ لأن الله يقول: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] فأمر بالاجتناب الكلي ولم يفرق بين قليله وكثيره؛ فاستوى الحكم فيهما.

    وأنبه -بالمناسبة- في قاعدة: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. على أنك إذا تأملت النصوص وجدت أن النصوص استثنت، ولذلك لا نطبق هذه القاعدة إلا في حدود ضيقة جداً، إما أن يشهد نص بالاستثناء، وإما أن يحصل إجماع بين العلماء على الاستثناء، أو ينقدح دليل من قواعد الشريعة العامة وأصولها العامة على هذا الاستثناء، أما أن كل شخص يقول: هذا تابع فيجوز، وهذا تابع فيجوز. فقد يحرم ما أحل الله عز وجل بهذه الحيلة.

    وسبق وأن ذكرنا أن قواعد العلماء والقواعد الفقهية والقواعد الخاصة والضوابط لا ينبغي لكل أحد أن يتولى تطبيقها، بل عليه أن يطبقها من خلال كلام العلماء والأئمة المجتهدين، وأنبه على أن أي شخص يطبق قاعدة لم يسبق له دراستها بدليلها وأصولها على عالم متمكن منها، ولم يسبق له أن تعلم كيفية تطبيق هذه القاعدة على فروعها؛ فإنه يحرم عليه أن يطبق هذه القاعدة؛ لأن تطبيقها اجتهاد، والاجتهاد لا يجوز إلا لمن هو أهل، وينبغي على طلاب العلم أن يتورعوا.

    وكم نسمع بعض الأحيان من أن بعض طلاب العلم يسمع بعض الفتاوى من المشايخ ثم يطبقها على المسائل التي يسأل عنها، فهذا لا يجوز، وينبغي عليك أولاً: أن تعرف علم القواعد الفقهية، ثم تعرف دليل هذه القاعدة، ثم تعرف هل هذه القاعدة خرجت من أصل عام تنطبق على جميع الفروع أو لها مستثنيات، فقد تجتهد في شيء مستثنى، وقد تجتهد في مستثنى أجمع على استثنائه.

    فإذاً: لابد لطالب العلم أن ينتبه لهذه الأمور.

    ومن الورع والأورع، بل قالوا: العلم الحقيقي هو العلم الموروث، والعلم الموروث: أن تستثني وأمامك عالم وحجة بينك وبين الله تستثني به، أما أن يستثني طالب العلم من عنده، وبمجرد أن يقرأ القاعدة أو يقرأ المسألة يأتي ويطبقها، فقد تقحم النار على بصيرة.

    وثق ثقة تامة أن العلم لا يكون بالتشهي والتمني، ولكن يكون بالقدم الراسخة حينما تضعها على أثر ممن تقدمك من العلماء؛ لأن الله يقول: أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4] فالعلم الصادق الموروث والذي ينجي صاحبه أمام الله عز وجل هو المبني على حجة ودليل وأثر.

    والقواعد فيها الزلات العظيمة، وأقول هذا بالتجربة، فإن طالب العلم من خلال القواعد قد يحرم ما أحل الله؛ لأنها مشكلة، كما قال الله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] القواعد اجتهادات، وينبغي في هذه الاجتهادات ألا يتناولها إلا عالم على قدم راسخة، يعرف ما الذي ورد على هذه القاعدة، وكم من القواعد قرأناها، ثم بعد أن قرأنا المطولات وجدنا لها مستثنيات ووجدنا لها ضوابط وقيود.

    وعلم القواعد هذا علم مستقل، ولا يستطيع أحد أن يتقن علم القواعد إلا بعد أن يضبط علم الفقه كاملاً، ثم بعد ذلك تأتي مسألة القواعد الفقهية، لأن القواعد الفقهية المراد منها استخلاص أو خلاصة الفقه الذي قرأت.

    ومن أجل أن يبارك الله لطالب العلم في علمه ولا يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل؛ عليه ألا يستخدم القواعد إلا وقد سمع عالماً طبقها، أو أخذ العلم وطريقة تطبيق القواعد وإلحاق الفروع بالأصول من العلماء؛ فهذا هو الذي يعذره أمام الله عز وجل، والله تعالى أعلم.

    حكم سجود التلاوة في الصلاة

    السؤال: في الصلاة السرية إذا مر الإمام بآية السجدة هل يسجد أم لا؟

    الجواب: يشرع في الصلاة السرية كالظهر والعصر: أن يسجد الإمام إذا قرأ آية سجدة، وإن خاف أن يلتبس الأمر على المأمومين أو تحصل مفسدة وأراد ترك السجدة فلا بأس؛ لأنها ليست بعزيمة، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوم الجمعة، وقرأ آية في سجدة فقرأ وسجد، ثم قرأ الجمعة التالية آية فيها سجدة فتهيأ الناس للسجود فقال: (على رسلكم، إنها ليست بعزيمة).

    فمن فقه الإمام: أنه إذا كان مسنوناً ويخشى منه حدوث مفسدة أعظم، وأحب تركه من باب خوف المفسدة الأكبر من حدوث الخلل في الصلاة والتشويش على المصلين واضطرابهم فلا بأس أن يتركه، والله تعالى أعلم.

    لا مدة محددة بين عمرتين

    السؤال: هل من مدة محددة بين عمرتين؟

    الجواب: ليس هناك نص يحدد ما بين العمرتين، والذي ذكره بعض العلماء رحمهم الله أنه إلى نبات الشعر، وقدرها بعضهم بالأربعين؛ لأن الغالب فيها أن ينبت، وقال بعضهم: إذا وجد شعراً يحلقه، وهذا إذا حلق الشعر، لكن ممكن أن يعتمر ويقص شعره، فعلى هذا الضابط قد يؤدي عمرتين وليس بينهما إلا فاصل يسير.

    وأياً ما كان فليس هناك تحديد لما بين العمرة والعمرة، ومذهب جمهور العلماء جواز تكرار العمرة في السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهن) وقال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الكفر والفقر كما تنفي النار خبث الحديد) فهذا لا قيد فيه ولا تحديد، والله تعالى أعلم.

    عدم اليأس في النصيحة

    السؤال: سائل يشكو من عدم اهتمام أهله بالصلاة رغم ما أسداه إليهم من النصيحة، فما توجيهكم نحو هذا؟

    الجواب: الصلاة عماد الدين، ومن حرمه الله الصلاة فقد حرمه الخير، وما سميت صلاة إلا لأنها صلة بين العبد وربه، وما ذكر الله شرائع الإسلام وقواعده العظام إلا استفتحها بشهادة الإسلام ثم أتبعها بإقامة الصلاة التي هي عمود الإسلام، ولا قيام للبناء إلا بعموده.

    ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعظيم أمرها وشأنها، حتى أخبر صلى الله عليه وسلم أن أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي الله الصلاة، وقال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) وقوله: (خير أعمالكم الصلاة) دليل ظاهر على عظيم شأنها وعلو مرتبتها عند الله عز وجل.

    بل إن النصوص دلت على ما هو أعظم من ذلك، وهو بيانه عليه الصلاة والسلام أن العبد قد يضيعه الله عز وجل بإضاعة الصلاة، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم تحضره الصلاة فيتم طهورها وركوعها وسجودها وخشوعها إلا صعدت وعليها نور، ففتحت لها أبواب السماء، حتى تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه، تشفع لصاحبها وتقول: حفظك الله كما حفظتني، ومن ضيع حقوق الصلاة فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني).

    وكان بعض العلماء يقول: قد تمر عليَّ النكبة في اليوم فأخشى أنني أضعت في الصلاة خشوعاً أو أمراً من حقوقها فدعت علي. لأنها تقول: (ضيعك الله كما ضيعتني) فكم من عبد محفوظ حفظه الله بصلاته! وكم من عبد مضيع ضيعه الله بإضاعة الصلاة!

    أقول هذا حتى تحرص على هدايتهم، وتستنفذ كل الوسائل لدعوتهم على المحافظة على الصلاة، واستدم دعاء الله أن يهدي قلوبهم، وخذ بالأسباب التي تعينهم على حب الصلاة، ورغبهم فيها، وذكرهم وبصرهم بما عند الله من المثوبة لمن أقامها والعقوبة لمن ضيعها، ولا تيأس ولا تعجز، فإنه لا يزال لك من الله معين وظهير ما دعوت إلى الله، ولا تزال في البيت على خير، فخير الناس في بيته وأهله من أمرهم بما أمر الله ونهاهم عما نهى الله عنه، ولا خير في العبد إلا إذا أقام حق الله وأمر بما أمر الله به.

    فأمرهم بما أمر الله، وانههم عما نهى الله عنه، ولا تيأس، فلعل الله سبحانه وتعالى أن يقر عينك يوماً من الأيام بهدايتهم، ونسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يجعل ذلك عاجلاً لا آجلاً.

    ونسأله تعالى أن يمن علينا وعلى المسلمين بإقام الصلاة، وأن يجعلنا من أهلها المحافظين عليها المتمين لركوعها وسجودها وخشوعها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755989787