إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب السبقللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مميزات الإسلام أنه دين يحرص على القوة وأسبابها، ولذلك أمر بالإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، واعتنى بالإعداد إلى حد أنه أباح لأتباعه أن يتسابقوا على عوض في الخيل والإبل والسهام، وأباحه في غيره بدون عوض، وبالتالي فعلى المسلم أن يكون عارفاً بأحكام هذه المسألة وما يتعلق بها وشروط جوازها.

    1.   

    تعريف السبق لغةً واصطلاحاً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب السبق]:

    السبق من المسائل التي اعتنى الشرع ببيان جملة من أحكامها، وهذا الباب ذكره العلماء رحمهم الله لاشتماله على الحقوق، فإن المتسابقين، خاصة إذا كان السباق بينهما بعوض، ووقعت المنافسة بينهما على جائزة أو نحو ذلك، يكون فيه نوع استحقاق، وحينئذٍ يرد السؤال عن الأحكام المتعلقة بهذا النوع من العقود.

    يقال: سبق فلان فلاناً إذا تقدم عليه، فالسبق في أصل اللغة المراد به: التقدم على الشيء، ولا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فحقيقته اصطلاحاً هي حقيقته لغةً، فالسابق هو المتقدم على غيره.

    وهذا الباب المراد به: بيان الأحكام المتعلقة بالمنافسات، فإن الشريعة أجازت للمسلم أن يسابق على أشياء، ولم تجز له أن يسابق على أشياء أخر.

    ومن هنا يرد السؤال: ما هي الأشياء التي يجوز أن يسابق فيها وعليها؟ وما هي الأشياء التي لا يجوز أن يقع السباق عليها؟

    وهذا الباب الكلام في مقدماته:

    1.   

    مشروعية السبق والأدلة على ذلك

    أولاً: في مشروعية السبق:

    شرع السبق بدليل الكتاب، ودليل السنة، والإجماع.

    أما دليل الكتاب فقد قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا [يوسف:17] .

    فقولهم: إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ [يوسف:17] : أي: نتسابق، وهذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولم يرد شرعنا بخلاف ذلك، بل جاء بمشروعيته.

    فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت مشروعية السبق بالقول وبالفعل، والسبق بإسكان الباء: المسابقة، والسبق بالفتح: العوض المدفوع في المسابقة.

    فالسبق ثبت بفعله عليه الصلاة والسلام، وبقوله:

    أما بفعله: فقد صارع عليه الصلاة والسلام ركانة ، وسابق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين خرج معها إلى مسجد قباء، وكان إذا خرج معها يسابقها عليه الصلاة والسلام في الطريق، فكان يسبقها، فلما كبر عليه الصلاة والسلام سبقته رضي الله عنها، قالت: (فلما أخذه اللحم سبقته) فقال عليه الصلاة والسلام: (هذه بتلك) صلوات الله وسلامه عليه.

    وكذلك أيضاً ثبت أنه أقر صحابته وسابق بينهم، فقد سابق بين الخيول، وسابق بين الرجال، وسابق بين سلمة بن الأكوع وبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وسابق أيضاً بين الخيل المضمرة وغير المضمرة، فسابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ما يقرب من ستة أميال إلى سبعة أميال.

    والخيل المضمرة: هي الخيل التي تسقى وتعلف، ثم يمسك عنها العلف حتى تضمر، وتكون أسبق وأخف في العدو وفي السرعة.

    وسابق عليه الصلاة والسلام بين الخيول، وشجع أصحابه رضوان الله عليهم على هذه الفروسية لِما فيها من معاني الجهاد والقوة على الجهاد في سبيل الله.

    وكذلك أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية السباق من حيث الجملة، وأنه لا بأس بالمسابقة على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله تعالى.

    إباحة السبق المقصود به الوصول إلى طاعة الله عز وجل

    لكن الذي ينبغي أن يُعلم أن الله تعالى أحل هذا النوع من المنافسات لحكمة عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فقبل أن يدخل طالب العلم في هذا الباب ينبغي أن يتنبه إلى أن أي شيء فيه منافسة فإن فيه ضرراً، وذلك أنه يحدث الشحناء ويحدث البغضاء ويحدث إغارة الصدور بعضها على بعض.

    ولكن الشريعة نظرت إلى مصلحة أعظم، فإن الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى قوة في البدن، وقوة في العدد والعدة، وهذا يستلزم تهيئة البدن للجهاد في سبيل الله عز وجل، فالسباق ليس مراداً لذلك، وإنما هو مرادٌ لما هو أعظم منه.

    ولذلك نص العلماء على السباق فيما يستعان به على القوة في سبيل الله عز وجل، لا في مطلق المسابقة، وهذا أمر ينبغي لطالب العلم أن يتنبه له.

    ولذلك نجد النصوص انصبت على ما يقوي المسلم على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن الله أمر بالإعداد فقال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] فأمر بالإعداد.

    ومن الإعداد: تهيئة النفوس لمثل هذا، فإن المسلم إذا سابق ونافس غيره صارت عنده النفسية المتقبلة للمنافسة، فإذا دخل إلى ميدان الجهاد في سبيل الله، فهو بطبعه وبما أخذ من تجربته ومرور الحوادث المتكررة عليه في السباق، تجعله في قوة وجلد في الجهاد في سبيل الله عز وجل.

    ولذلك خصت بالذكر ثلاثة أشياء لوجود العوض فيها، ولم يبق السبق على إطلاقه؛ لأنه لو خرج عن دائرة هذه الثلاثة الأشياء أوغر الصدر، وجعل المسلم يتمنى أن أخاه ينكسر، ويتمنى أنه يسبقه أو نحو ذلك، ولكنه إذا كان في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبقصد الاستعانة على طاعة الله، ارتفع عن هذا إلى ما هو أسمى وأعلى، وصار قربة وطاعة لله عز وجل، فيؤجر المسلم عليه ويثاب، بخلاف ما إذا كان محضاً لما يراد به من أمور الدنيا.

    أما من حيث الأصل العام: فإن السباق فيه فوائد تعود على بدن الإنسان، وعلى قوته مثل قوة الرمي، ومثل قوة الخيل على العدو في سبيل الله عز وجل كما ذكرنا في الجهاد، ثم إن هذا التنافس يجعل المسلم دائماً يطمح إلى السمو بنفسه إلى المكان الأعلى، وفيه أيضاً تشجيع لمن أعطاه الله عز وجل القوة وشدة الكلد أن يبقى على قوته وكلده، حتى يستعان به على طاعة الله عز وجل إلى غير ذلك من المصالح.

    وقد أجمع العلماء على شرعيته من حيث الجملة، لكنهم اختلفوا في التفصيل.

    أنواع السبق

    والسباق يكون بالأبدان، الذي هو سباق الأشخاص، وإذا كان بالأبدان فإما أن يكون بالعدو، وإما أن يكون بالقوة، فإن كان بالقوة فهو المصارعة كأن يصطرع معه، أو يكون بالعدو وهو الجري، فهذا السبق بالأقدام ونحوها.

    ويكون أيضاً السباق بالدواب، وإذا كان بالدواب فإما أن يكون بذوات الحافر أو الخف كالخيول والإبل، وإما أن يكون بغيرها، فإذا كان بغيرها كالبغال ونحوها فهذا فيه تفصيل.

    السبق بالعوض ومتى يصح؟

    النصوص الشرعية بينّت ما يقع به السبق، وما يصح أن يكون به السبق بعوض وما يجوز به المسابقة بدون عوض.

    فهناك فرق بين المسابقة التي تكون بعوض، والمسابقة التي تكون بدون عوض، فالمسابقة التي تكون بعوض خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء فقال: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) فهذه ثلاثة أشياء مشروعة للسباق بالجوائز، وتكون عليها الحوافز.

    وعلى هذا نقول: السباق بالجري والعدو، والسباق بالمصارعة، وغيرها من الأشياء الأخر من حيث الأصل العام لا تدخل في العوض، لكن يجوز أن تسابق غيرك بالعدو والجري، بشرط أن لا يكون هناك عوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة على غير عوض وقال: (لا سبق) بالتحريك أي بعوض (إلا في نصل) الذي هو الرمح (أو خف) الذي يقصد به الإبل (أو حافر) الذي يشمل الخيل وما في حكمها.

    وبناءً على ذلك نقول: إن السبق إما أن يكون بعوض، وإما أن يكون بغير عوض، فيفصل فيه على هذا التفصيل فانقسم إلى هذين النوعين.

    هذا حاصل ما يقال في مقدمات السَّبق، وفي كلٍ أحكامه التي سيذكرها المصنف رحمه الله.

    قال رحمه الله تعالى: [يصح على الأقدام]:

    الأقدام: جمع قدم والمراد بذلك الجري، فلو أن جماعة قالوا: نريد أن نتسابق، لننظر من يسبق، وكان ذلك بغير عوض، فتسابقوا فلا بأس.

    الدليل على ذلك: ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق عائشة رضي الله عنها، فالسباق بالأقدام ليس فيه بأس، إذا كان بدون عوض.

    قال رحمه الله تعالى: [ وسائر الحيوانات ]:

    وذلك كالبغال، والحمير -أكرمكم الله- ونحوها من سائر الحيوانات، ويمكن أن يتسابقوا بالمراكب الموجودة الآن كالدراجات فيمكن أن يتسابقوا بها، ولا بأس بها حينئذٍ، إذا كان السباق بدون عوض.

    قال رحمه الله تعالى: [والسفن]:

    وكذلك يكون السباق في المراكب والسفن، فليس في هذا بأس، هذا من حيث الأصل العام، أنه يكون السباق بما كان من الثلاثة وغيرها إذا لم يكن بعوض.

    قال رحمه الله تعالى: [والمزاريق]:

    الزرق: الرمي يقال: زرق فلان فلاناً إذا رماه، وأصلها رماح يرمى بها وتكون قصيرة مثل الحربة، وكانوا في القديم يترامون بها، وينظرون أنهم أبعد رمياً، هذه المزاريق، وهي بخلاف النصل الذي هو السهم، فالسهام يراد برميها إصابة الهدف، لكن المزاريق تراد للبعد، وذلك ممكن أيضاً بالحجارة، مثل أن يرمي شخصٌ حجراً، ويرمي آخر حجراً، وينظران أيهما أبعد رمياً، فالمزاريق من جهة الرمي للبعد، والنصل من جهة تحديد هدف معين، أو غرض معين يصاب، فيكون السباق فيها من جهة تحديد الإصابة ومكان الإصابة ونوعية الإصابة، وهذا سنذكره إن شاء الله تعالى.

    يجوز العوض في سبق الإبل، والخيل، والسهام دون غيرها

    قال رحمه الله: [ولا تصح في عوض إلا في إبل]:

    هذا ظاهر الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَق) فهذا معنى لا تصح، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَق) السبق بالتحريك ما فيه عوض، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سَبَق إلا في خف)، المراد به الإبل، ولذلك قال رحمه الله تعالى: (في إبل)، وإذا كانت في إبل فلها شروط، فلا بد من تعيين هذه الإبل بأوصافها، وذواتها، فهل هي من العرابي التي لها السنام الواحد، أو بختية ذات السنامين، ويحدد المركوب منها، فيقول: هذه الناقة وهذه الناقة، فتحدد الإبل التي يراد أن ينافس عليها.

    قوله رحمه الله: [وخيل]:

    في حديثه صلى الله عليه وسلم قال: (أو حافر)، فقوله: (أو حافر)، المراد به الخيل.

    قوله رحمه الله تعالى: [وسهام]:

    السهام: جمع سهم، فهذه الثلاث جائز دفع العوض في المسابقة فيها؛ ولذلك قال المصنف: [ولا تصح في عوض إلا في إبل، وخيل، وسهام]، أي لا تصح المسابقة بجعل عوض من أحد المتسابقين، أو من غيرهما، إلا في هذه الثلاثة، لورود السنة بذلك.

    وهذا يدل على الاختصاص؛ لأنه المفهوم من قوله: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)، فكأنه ينهى عليه الصلاة والسلام عن إعطاء العوض في غير هذه الثلاث.

    وقد بينّا السبب في ذلك: أن الإبل يستعان بها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والخيل يستعان بها على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود بنواصيه الخير إلى يوم القيامة) والحديث صحيح.

    وكذلك أيضاً بالنسبة للنصل فإنه يستعان به على الجهاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي).

    وكما بينّا أن العوض يوغل الصدور، ويحدث الشحناء والبغضاء، إلا أن وجود المصلحة في الجهاد أعظم من هذا كله، وهذا من باب تقديم المصلحة على المفسدة، ولذلك يقولون: إنه في بعض الأحيان من حيث الأصل تقدم المفسدة على المصلحة.

    ويمكن أن يقال: إن درء المفاسد وإن كان مقدماً على جلب المصالح، إلا أن جلب المصالح قد يقدم على درء المفاسد، وذهب بعض العلماء إلى أن الجهاد في سبيل الله درء لمفسدة أعظم، فيكون هذا من باب درء المفسدة الأعظم بارتكاب الأخف، وعلى هذا فإن مصلحة الجهاد وإن كان مصلحة في الظاهر، لكنها في الحقيقة رد لكلف العدو وأذيته للمسلمين، وهذا درء للمفسدة، وهذا وجيه، والقول الأول هو أوجه.

    1.   

    شروط السبق فيما يؤخذ فيه العوض

    تعيين المركوب

    قال رحمه الله: [ولابد من تعيين المركوبين]:

    أي: لابد لصحة المسابقة من تعيين المركوبين، هذه الناقة وهذه الناقة، فلابد أن يعين المركوبين، ويعين جنسهما ونوعهما، ويكون هناك نوع من التكافؤ، كما سيذكره المصنف رحمه الله.

    أما لو كان المركوب مبهماً وغير معروف، فإنه لا يصح، فلابد من تعيين المركوبين، هذا إذا قلنا بأنه يريد أن يسابق في خف، أو حافر فلابد وأن يكونا معينين.

    والتعيين ضد الإبهام، فلا يصح أن يكونا مبهمين، أو مجهولين، بل لابد أن يعينهما ويحددهما.

    اتحاد المركوبين

    قال رحمه الله تعالى: [واتحادهما]:

    اتحاد المركوبين من حيث إنك تجعل الاثنين يدخلان إلى المسابقة، وكلٌ منهما يقول: يمكن أن يسبقني نظيري.

    أما لو كانا مختلفين، كأن يكون أحدهما من الإبل العرابية، والثاني من الإبل البختية؛ فحينئذٍ اختلف النوع، والجنس واحد -وهو كونهما من الإبل- فإذا اختلف نوعهما فقد اختلف العلماء:

    فقال بعض العلماء: يصح السَبَق مع اختلاف النوع واتحاد الجنس.

    وقال بعض العلماء: لا يصح إذا اختلف النوع مع اتحاد الجنس، كما نص المصنف.

    وفي الحقيقة -من حيث الدليل- فإن القول بأنه لا يشترط الاتحاد قوي جداً، وهذا يختاره بعض العلماء.

    فاتحاد المركوبين الأشبه فيه أنه لا يشترط، لكن يشترط ألا يأمن أحدهما أن يسبق الآخر -هناك وجه من جهة الاشتراط أنه عدم أمن أن يسبقه- حتى يتحقق العدل؛ لأنه إذا كان السبق بعوض، ودخل الإنسان بفرس، ولا يشك أن فرسه سابق، وفرس الآخر مريض، أو هزيل، أو كبير، ولا يشك أنه سيسبقه؛ فحينئذٍ لا شك أنه سيأكل المال بالباطل؛ لأنها ليست مسابقة حقيقية.

    وبناءً على ذلك: لابد وأن يكونا متحدين في القوة متحدين في العدو، وبينهما اتحاد من جهة الوصف، هناك فرق بين اتحاد النوع واتحاد الوصف، فإذا اتحدا على وجه لا يأمن معه أن يسبق زميله، أو رفيقه أو منافسه صحت، أما إذا كان الاتحاد المراد به اتحاد النوعين فلا.

    وعلى هذا فإنه إذا كان اختلاف النوعين مؤثراً صح ما ذكره المصنف في حالة فقط وهي: أن يكون أحدهما عرابياً والثاني بختياً وتكون البختية ثقيلة، والعرابية سريعة العدو؛ فحينئذٍ يترجح قول المصنف رحمه الله، لكنه على سبيل الخصوص لا على سبيل العموم.

    فالخلاصة: أنه من حيث الاتحاد، عند اتحاد الجنس، واتحاد النوع، واتحاد الصفة، هناك ثلاث مراتب:

    فاتحاد الجنس: أن تكون -مثلاً- كلها من الإبل، ولو أن هناك جنساً عاماً وجنساً خاصاً، فالمراد هنا أنها من جنس الإبل الخاص.

    وأما اتحاد النوع فإن الإبل فيها العرابية وفيها البختية، فالعرابية لها سنام واحد، والبختية لها سنامان، فإذا قلت: يشترط -أيضاً- اتحاد النوع، فحينئذٍ لا يصح أن يسابق بين عرابية وبختية.

    ولكن الصحيح أنه يجوز أن يسابق بين العرابية والبختية، بشرط: اتحاد القوة، وعدم أمن السبق، كما ذكرنا، وفي هذه الحالة نشترط اتحادهما في الصفات من جهة السرعة والعدو، وليس المراد اتحادهما من جهة النوع، كما ذكرنا.

    والدليل على أنه لا يشترط الاتحاد: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أو خف)، فالإبل إذا كانت عرابية أو بختية فهي ذات خف، وقد عمم النبي صلى الله عليه وسلم في المسابقة بين ذوات الخف، سواء أكانت متحدة النوع أم مختلفة النوع، فيبقى على هذا العموم.

    فالذي يظهر -والعلم عند الله- أنه لا يشترط اتحادهما من جهة النوع.

    تعيين الرماة

    قال رحمه الله تعالى: [والرماة]:

    أي: لابد من تعيين الرماة، والرماة: جمع رامٍ، وتعيين الرماة كأن يقال: فلان، وفلان، أو نترامى أنا وأنت ومعنا فلان، فيتحدد الأشخاص الذين يريدون أن يتسابقوا على الرمي.

    قلنا: لابد من تحديد الرماة حتى يتحقق ما ذكرناه من عدم أمن السبق، ويكون هناك نوع من التكافؤ بين الرماة، فلابد أن نعلم أشخاص الرماة حتى يغلب على ظننا تكافؤهم، وحينئذٍ يتحقق المقصود من المسابقة، أما لو كان أحد الراميين مريضاً هزيلاً مثلما ذكرنا في الخيل فلا يتأتى؛ لأنه لا يُشك حينئذٍ أنه سيحوز سبقه وسبق صاحبه.

    تعيين المسافة وتعيين الهدف

    قال رحمه الله تعالى: [والمسافة بقدر معتاد]:

    أي: ويجب تعيين المسافة، وهذا في حالة الرمي، فيجب تعيين الرماة، وتعيين المسافة التي يُرمى لها -مثلما ذكرنا في المزاريق- فإذا أرادوا أن يصيبوا هدفاً، أو يتراموا بالبعد، -كما قال بعض العلماء: إن النصل عام يشمل رمي الهدف ورمي البعد- فإذا قلنا: إنه يشمل رمي الهدف والبعد، فإنه ينبغي في هذه الحالة إذا أرادوا أن يرموا هدفاً-:

    أولاً: تحديد هذا الهدف، فما هو الهدف، أو الغرض الذي يراد أن يرمى

    ثانياً: تحديد مكان الإصابة، فتحدد -مثلاً- دوائر، يقال: الدائرة الأولى، الدائرة الثانية، الدائرة الثالثة...

    أو يوضع شيءٌ في داخل الغرض، ويقال: على إصابة هذا شيء، وعلى إصابة ما في هذا العمود شيء آخر، فلابد من تحديد الهدف.

    وكذلك لابد من تحديد قدر الإصابة، وعدد الإصابة، كتحديد الرمي بعشر طلقات لكل واحد.

    وإذا قلنا: إن النصل للهدف وتعيين الهدف -لأن هذا مما يستعان به على الجهاد- فإنهم إذا تراموا لإصابة هدف معين، فتارة يكون كل شخص أمامه غرضه فيقال: تضرب عشر طلقات، ويكون هناك -مثلاً- مواضع مرتبة فيضرب فيها.

    فتحدد عدد الطلقات، ويقال: لك عشر طلقات، فانظر كم تصيب منها، إما أن تصيبها كلها، أو تصيب أكثرها، فننظر أيهما أكثر إصابة، فيمكن حينئذٍ التفاضل من جهة كثرة الإصابة.

    وتارة يقول أحدهما لصاحبه: ترمي طلقة وأرمي طلقة، على أن نصيب غرضاً معيناً، أنا أرمي ثم ترمي أنت، وترمي أنت ثم أرمي أنا.

    فالأول على عدد الإصابات، والثاني على مطلق الإصابة، ثم قد يتحدد مطلق الإصابة، فهناك إصابة الهدف دون جرحه، وإصابة الهدف بجرحه، وإصابة الهدف بخزقه، وكلها لها مراتب معينة.

    فالمقصود في الجهاد في سبيل الله عز وجل قوة الرمي بحيث إذا رمى في سبيل الله يكون رميه قوي الوقع.

    فهو إذا رمى بالسهم حال السبق فلقوته ثلاث مراتب:

    المرتبة الأولى: أن يصيب السهم ويخرق وينفذ، فهذا سهم نافذ، وهذا أبلغ ما يكون في الإصابة، فيقال: لا يعطى العوض إلا لمن يخرق سهمه، فإذا أصبح شرطاً، فلا عوض ولا سبق إلا لمن خزق وخرق ونفذ السهم.

    النوع الثاني من الإصابة: أن يصيب ويبقى في نفس الشيء المصاب، فلا يخزق، لكن يتعلق به، فيكون السهم معلقاً، وهي الدرجة الثانية من الإصابة.

    الدرجة الثالثة من الإصابة: أن يصيب ويسقط فلا يثبت؛ لأنه يشد الوتر، فإذا كان رميه قوياً فإنه يثبت؛ لأن النصل يثبت في الهدف، فإذا كان الرمي قوياً خزق كما ذكرنا، وإذا كان دونه في القوة ثبت، وإذا كان ضعيفاً ضرب ثم سقط، فإن ضرب ثم سقط فتارة يجرح، وتارة لا يجرح.

    فإذاً كل هذه تفصل وترتب، وفي زماننا قد يكون هناك نوع آخر من الإصابة، كما هو معلوم في علم الرماية، على حسب ما هو معروف في أعراف الرماة وتراتيبهم.

    فالمهم أنه لابد من التعيين؛ لأن التعيين ينفي التنافس وينفي الشحناء، فإذا حدد الهدف، وحددت إصابة الهدف، وعدد الإصابة، وطريقة الإصابة، فإنه لا يأخذ السبق حينئذٍ إلا من كان مصيباً على الوجه الذي اتفق عليه بين الطرفين.

    1.   

    التكييف الشرعي للسبق والعوض فيه

    السبق جعالة

    قوله رحمه الله تعالى: [وهي جُعالة لكل واحد فسخها]:

    (وهي): أي المسابقة.

    (جُعالة) الجُعالة من الجُعل، والأصل فيها قوله تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، فقد جعل يوسف عليه السلام لمن جاء بصواع الملك حمل بعير، وهذا من باب الجُعل، والجُعل يكون للأشياء المحتملة الوقوع.

    تقول مثلاً: من أحضر بعيري الشارد أعطيه مائة، أو من أحضر ساعتي الضائعة، أو قلمي المفقود، أو كتابي الضائع، أو ابني، أو سيارتي، أو أي شيء ضائع منك، من أحضره فله كذا وكذا، فالشيء الذي تجعله هو الجُعل، ويقع في كثير من الأشياء.

    وأصلها من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا سعيد وأصحابه على أخذ الجعل كما في حديث الرقية قالوا: (اجعلوا لنا جُعلاً فجعل لهم الجعل قطيعاً من الغنم) فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فالجُعالة سيأتي -إن شاء الله- بيان أحكامها ومسائلها.

    فإذا قال له: إذا سبقتك فلي مائة، وإذا سبقتني فلك مائة؛ فحينئذٍ يكون الجعل هو المائة وهي جعالة، إذا قلت: إنها جعالة تسري عليها أحكام الجُعالة.

    من أحكام الجعالة

    ومن أحكام الجُعالة:

    أنها لا تستحق إلا بالقيام بالشيء المشروط على التمام.

    ولذلك لو قلت لشخص: إذا أحضرت سيارتي المفقودة أعطيك عشرة آلاف، فبحث خمس سنوات عن السيارة، فلا يستحق شيئاً إذا لم يأتِ بها، فلا يستحق الإنسان الجُعل إلا إذا قام بالعمل تاماً كاملاً.

    وعلى هذا تتفرع مسائل منها:

    عقد الجعالة هل هو جائز أو لازم؟

    أن عقد الجُعالة كما سبق وأن ذكرنا في أول كتاب البيوع، عندما ذكرنا أنواع العقود اللازمة وغير اللازمة، أن عقد الجعالة من العقود الجائزة في أول الحال، اللازمة في آخر الحال، أي: هو جائز ويئول إلى اللزوم.

    وبناءً على ذلك لو قال له: تسابقني على مائة، أو نتسابق على ألف، فالألف جُعل، فإذا قلت إنها جُعالة في ابتداء العقد لو قال: قبلت. ثم بعد دقيقة قال: رجعت، فمن حقه؛ لأنها ليست بلازمة إلا إذا دخل في المسابقة.

    فلا تلزم إلا إذا حصل السبق، فإذا دخل في المسابقة -أيضاً على هذا القول الذي اختاره المصنف- فلا تلزم إلا إذا سبقه، فإذا سبق أحدهما الآخر، وجاء الآخر يريد أن يرجع، فليس من حقه، ولزمه ما اتفقا عليه، فلو قال أثناء المنافسة: أنا رجعتُ، قبل أن يسبقه، كان له حق الرجوع.

    فإذاً تكون جائزة ما لم يسبق أحدهما الآخر، فإذا تقدم أحدهما على الآخر لزمته وصارت مستحقة، وهذا إذا كانا مع بعضهما، وكان الجُعل من أحدهما.

    أما لو دخل المحلل بينهما، فقال بعض العلماء: تصير لازمة بدخول المحلل؛ لأنه طرف أجنبي التزم له، وقال بعض العلماء: تبقى جُعالة؛ لأن الجُعل أيضاً للمحلل كما هو لواحد منهما.

    وهذا القول طبعاً في المذهب على أنها جُعالة سواء أدخل المحلل أم لم يدخل، وهذا من حيث الأصل، لكن قال بعض العلماء من مذهب المالكية وطائفة: عقد المسابقة من حيث الأصل لازم من أول الحال، ويرون أن الاثنين إذا اتفقا على المسابقة وقال الأول: نستبق على كذا وكذا، وقال الآخر: قبلت. لزمه الوفاء بما اتفقا عليه؛ لعموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فيرون أنها عقد لازم من أول الحال وثاني الحال، وليس من حقه الرجوع.

    1.   

    المناضلة وحكمها

    المناضلة يقصد بها التقوي على الرمي في سبيل الله عز وجل

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي]

    شرع المصنف رحمه الله تعالى في بيان مسألة المناضلة، وهي من المسائل المتعلقة بباب السبق، وذلك أن المناضلة -وهي الرمي بالسهم التام، الذي له نصل وريش في قول بعض العلماء رحمهم الله تعالى- المقصود منها أنها تعين على الرمي في سبيل الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه- قوله: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)، والشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام: إلا في نصل).

    والرمي بالسهام يتقوَّى به المسلم على الجهاد في سبيل الله تعالى، ولذلك لا يراد من السباق أن يغلب أحد المتسابقين الآخر، وليس المقصود من وجود السباق في الرمي تنافس الفريقين، إنما المقصود تقوية النفوس وشحذ الهمم على مراعاة هذه الخصلة التي هي من فروسية الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي) ، وهذا الحديث الصحيح يدل دلالةً واضحة على أن استعانة المسلم بقوة الرمي في سبيل الله عز وجل مقصودةٌ شرعاً.

    ومن هنا أجاز الشرع المسابقة بالرمي، وقال بعض العلماء: إنها من أفضل أنواع الفروسية، وذلك لأن النكاية به في العدو أبلغ، ولذلك أدخل الله تعالى الجنة بالسهم الواحد يُرمَى به في سبيل الله عز وجل ثلاثةً: مَن صنعه يحتسب أجره عند الله عز وجل، ومَن براه يحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى، ومَن رمى به في سبيل الله عز وجل يحتسب أجره عند الله سبحانه، وهذا يدل على فضل هذه الخلة والخصلة من خصال الفروسية، لما فيها من عظيم الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا قال العلماء: تصح المناضلة.

    وتقع المناضلة والمسابقة إما بين شخصين، أو أكثر من شخصين، ثم إذا كانوا أكثر فإما أن يكون كل شخص على حدة، وإما أن يكونوا طوائف ومجموعات، وكل ذلك جائز ومشروع، ولذلك بيّن المصنف رحمه الله جوازها، وشمولها لهذه الأحوال كلها.

    فلو أن شخصين أرادا أن يتسابقا في الرمي بالسهم، فحينئذ لا بد من تحديد الغرض، وتحديد مقدار الرمي، عدد الرميات وعدد الإصابة، وتقدم معنا بيان وجه اشتراط ذلك، دفعاً للتنازع والخصام.

    وكذلك معرفة من هو الآخر ومن هو السابق؛ لأنه إذا كان المقصود المسابقة فلا بد أن يظهر أحد الاثنين على الآخر، أو تظهر إحدى المجموعتين على الأخرى، وذلك يفتقر إلى تحديد الإصابات ونوع الإصابة، وإذا حدد الغرض، بعض العلماء يقول: يجعلون غرضين، يصاب الغرض، ثم يصاب الغرض الثاني، وحملوا ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة)، ولكن الحديث ضعيف، وأثرت بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا ينتضلون، ويترامون بالسهام، والمصنف رحمه الله أطلق المسألة وقال: تصح المناضلة، ولا شك -من حيث مقصود الشرع- أن تصحيحها مبني لتقوية النفوس على الجهاد كما قلنا.

    التشجيع في المناضلة وطلب العلم

    نبه بعض العلماء، وبعض المتقدمين رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز أن تجعل المناضلة وسيلة لإثار الشحناء والبغضاء، فإذا حضر المناضلة أشخاص آخرون غير المترامِيْنِ فلا ينبغي أن يشجع أحدهم الآخر على وجه يوغر به صدر الآخر على أخيه، ولذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك على وجه يعين على الإحسان لا على الفرقة، ولا على الشحناء ولا على الخلاف، ولا على إغارة الصدور بعضها على بعض؛ لأنه إذا ذموا المقصر وأهانوه وأذلوه، أوغر ذلك صدره على أخيه المسلم، فبدل أن تحصل المصلحة للجهاد في سبيل الله عز وجل من اجتماع القلوب واجتماع المسلمين على القوة في سبيل الله عز وجل -ومن أعظم ذلك-: اجتماع القلوب، يصبح العكس، والله تعالى قرن افتراق القلوب بالفشل فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

    ومن هنا: إذا كانت المسابقة في الرمي بالسهام فيها إغارة للصدور بعضها على بعض، فإن هذا يؤدي إلى مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع الرمي.

    ولذلك نبه العلماء رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز عند الانتضال بالسهام أن يُذَمَّ من قصر، وأن يمدح الذي أصاب على وجه تحدث به الفتنة، وفرعوا على ذلك مسائل، منها: مسألة المدح لطالب العلم إذا أصاب والذم لمن قصر من طلاب العلم، وهذه المسألة اختلفت فيها أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: الأفضل للعالم والأتم له والأكمل أن يُنقي علمه، وألا يمتحن طلابه بالسؤال؛ لأنه ربما سأل الطالب أمام الناس وفتن، وأصابه العجب وأصابه الرياء بالجواب أمام الناس، وفي ذلك مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع العلم، ولأنه لا يؤمن عليه من العجب، وغير ذلك من المفاسد التي قد تترتب على بروز الشخص وظهوره، وقد يكون الذي يجيب عند طرح السؤال صغير السن، وإذا تصدر الحدث افتتن، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا تصدر الحدث افتتن)، قالوا: ولأن طالب العلم إذا لزم في مجالس العلم السكينة والوقار والاستماع، فإن ذلك أتم للخشوع وأكمل للوقار، وأعظم في هيبة العلم، وأعظم في السكينة، خاصة وأنه يكون بعيداً عن الرياء، وبعيداً عن ما يشوش فكره عن التركيز لفهم المراد.

    وقالوا أيضاً: والغالب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أنه لم يكن يمتحن أصحابه، ولم يكن يسألهم، وإنما كان يلقي العلم، ولأنه ربما سأل طالب العلم، وكان في ذلك الوقت مشغول البال بهم أو غم أو كرب نزل به، أو شرد ذهنه بسبب ضعف البشر، فإن الإنسان يسهو في صلاته فضلاً عن مجلس العلم، قالوا: فلا يأمن أن يكون من خيرة طلاب العلم فيسأله أمام الناس فيحرجه، ولأجل هذه المفاسد كلها قالوا: الأفضل والأكمل أن يقتصر على إلقائه للعلم، وأن لا يكون السؤال سبباً للفتنة.

    ومن أهل العلم من قال: إنه يستحب أن يسأل العالم طلابه حتى يتأكد ويتحقق أنهم فهموا ووعوا، وذلك لأن السؤال فيه إحراج للإنسان، فإذا أحرج المسئول خاف غيره السؤال، وهذا مجلسٌ للعلم، إلى غير ذلك مما ذكروه من مقاصد.

    وتوسط بعض العلماء في المجالس العامة، والمجالس الخاصة، فقالوا: إذا كانت المجالس لخاصة طلاب العلم، ويقصد منها الضبط، فالأفضل أن تقوم على السؤال والمحاورة، والمذاكرة والضبط، وأما إذا كانت عامة فيها من يحسن ومن لا يحسن، فلا شك أن القول بعدم السؤال أبلغ وأتم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة عن الشجرة، وسألهم عن مسائل خاصة في المجالس الخاصة، ولم يسأل في مجالسهم العامة، وقالوا: إن هذا أبلغ وأبعد عن الرياء، فالشاهد في مسألة مدح من يجيد وذم من يخطئ أنهم قالوا: إن المفاسد في ذلك عظيمة، والأفضل والأكمل أن يكون على هدي السلف الصالح من إلقاء العلم، دون تعرض لمدح من أحسن وذم من أصاب.

    إلا أنه لا بأس أن يمدح طالب العلم إذا غلب على الظن أن ذلك يشجعه على طلب العلم، ويقوي نفسه ويشحذ همته، وتؤمن الفتنة، أما إذا غلب على الظن أنه سيفتن، وسيغتر، وأنه يحب الظهور ويحب المدح، فلا شك أنه لا تجوز إعانته على ما لا يرضي الله عز وجل، ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة والسلف فإنه يجد أن هديهم على إلقاء العلم دون تعرض للسؤال حتى كان بعض العلماء يقول: لا أحب للعالم أن يسأل طالب العلم: أفهمتَ؟ ؛ لأنه يُخشى أن يجامله فيقول: فهمت، فيكذب، فيحمله على الكذب.

    فالأفضل والأكمل أن يدعه لله تعالى، ولا شك أن طالب العلم إذا تُرك لله عز وجل، وتُرك أمره فيما بينه وبين الله عز وجل، لا شك أنه سيصيبه الخير إن أخلص، ويحرم -والعياذ بالله- على قدر ما فاته من الإخلاص.

    شروط المناضلة

    وعلى هذا فإنه تصح المناضلة وتشرع، وتوضع على ذلك الجوائز، ولا بأس بوضع الحوافز للمتسابقين في الرمي، ولا بد من التحديد، تحديد المجموعتين، كما تقدم معنا في شروط الرمي، أنه لا بد من تحديد الراميين، فيقال: فلان وفلان، وهذا الشرط الأول.

    الشرط الثاني: أن يكون الذي ينافس ويسابق قادراً على الرمي وعنده إحسان للرمي، فلو كان جاهلاً بالرمي، ولا يحسن الرمي فإنه لا يسابق؛ لأن الغالب أنه سيُغلب، وبذلك تكون المسابقة على غير وجها، فلا بد أن يكون محسناً للرمي.

    الشرط الثالث: أن يحدد الهدف الذي يصاب، ونوعية الإصابة وعدد الإصابة.

    وقد ذكرنا أن نوعية الإصابة تختلف بقوة الرمي، فهناك إصابة بالسهم تجرح الغرض، ولا يثبت السهم في المكان، وهناك إصابة يثبت فيها السهم ولا يُخرق الهدف، وهناك إصابة يخرق فيها الهدف، وفي زماننا يشرع أن تكون المسابقة على إصابة الغرض والهدف بالطلقة النارية الموجودة في زماننا، وَتعلُّْمُ ذلك يُعتبر من الفروسية، ويعتبر من الأمور المحمودة؛ لأن المسلم يستعين بذلك على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويكون فيه ما ندب إليه من إعداد القوة، كما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه المبين.

    1.   

    الأسئلة

    استحقاق الأجير المشترك الأجرة مع ضمان التلف

    السؤال: في حالة عدم تضمينه لما تلف من حرزه، فهل يأخذ الأجرة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالأجير المشترك لا يستحق الأجرة، لا في حال التفريط ولا عدم التفريط ما لم يسلم العين المتفق على العمل فيه، والقيام به فيها.

    وبناءً على ذلك تفوت أجرته بفوات العمل؛ لأنه لم يسلم العمل، فيستوي أن يكون مفرطاً أو غير مفرط؛ لأن التسليم للعمل لم يقع، والقاعدة عندنا في الأجرة: تسليم العمل، فإذا لم يسلم العمل فإنه لا يستحق الأجرة سواء أكان فوات المحل بتفريط، أم بدون تفريط.

    والله تعالى أعلم.

    الحوافز في العلم الشرعي

    السؤال: ما هو الأفضل بالنسبة لتعليم الصغار ونحوهم، من حيث إعطاء الحوافز وعدمه؟

    الجواب: أما من حيث العلم الشرعي، فلا شك أن تربية الصغير والكبير على الإخلاص لله الذي هو عماد الدين، والذي لا يقبل الله القول والعمل إلا به أن ذلك هو الأساس، والذي ينبغي التعويل عليه والحرص عليه.

    فإن النشء الصغير إذا نشأ من صغره على محبة هذا العلم، وإرادة وجه الله عز وجل وأن لا يأخذ على علمه شيئاً إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يشجعه ويحفزه على مواصلة علمه، وطلبه العلم لوجه الله، وابتغاء ما عند الله.

    فالواحد من مثل هؤلاء يعدل أمة من غيره.

    فلا يمكن أن يستقيم أمر العلم إلا بالإخلاص، ولا يمكن أن يستقيم أمر العلم إلا بإرادة وجه الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] .

    فالإنسان إذا تربى من صغره على أنه يريد وجه الله ويتعلم لله، ويقرأ لله، ويكتب لله، ويريد ما عند الله عز وجل، كان ذلك توطئةً لنفسه على الخير، ومحبة المعاملة مع الله عز وجل.

    فتجده أصبر على طاعة الله، وأقوى على مرضاة الله، ومنذ الصغر وهو لا يعرف إلا إرادة وجه الله سبحانه وتعالى.

    وهكذا تربى السلف، وتربى أبناؤهم، وتربى صغارهم، وتربى على ذلك صغيرهم ونشأ عليه كبيرهم، وهم لا يريدون إلا وجه الله.

    ولكن إذا دخلت الحوافز، ودخلت الدنيا، وهم في الصغر فليس في عقولهم ما يمنعهم من حقد بعضهم على بعض، وإغارة صدور بعضهم على بعض، وكراهية بعضهم لبعض، ولقد رأيت بعيني من بعض الزملاء حينما كانوا يتنافسون في بعض المسابقات يحقد بعضهم على بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ووالله لقد سمعت بأذني ممن هم من حملة القرآن، إذا تنافسوا في مسابقته، سب بعضهم بعضاً، وعاب بعضهم قراءة بعض، بسبب دخن الدنيا، حتى إنني سمعت من يقول: سأدعو الله أن لا تتفوق عليّ، وأن لا تتقدم عليّ، وأن لا يكون كذا، وأن لا يبارك لك في ما تأخذ.

    كل هذا من فتن الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا فتتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم)، فلا يمكن للإنسان أن يجد لذة هذا العلم إلا بالمعاملة مع الله وحده لا شريك له.

    فإذا أراد وجه الله وامتلأ قلبه بالله سبحانه وتعالى، سهرت عيناه وتعب جسده، وتغرب وهو يجد أنه في لذة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وخرج من أجل أن يعلم الناس، ولو مشى آلاف الكيلو مترات، ولو إلى الأقطار والأمصار وهو يتلذذ بكل ثانية؛ لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    لأنه يعلم أن هذه الخطوات، وأن هذا التعب والعناء والجد والتحصيل، أن ذلك كله يُخطُّ في صحيفته وتخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يكذبون، ويلقاها أمام عينه في يوم ينفع الصادقين صدقهم.

    فالإنسان لا يمكن أن يربي نفسه في هذا العلم، وأن يقيم علمه على الصراط المستقيم، وأن يقوم بحق هذا العلم إلا بالإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى.

    قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله.(

    فأساس الأمور كلها في الدين العلم الذي قرنه الله بالإيمان، فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] فما رضي بشيء يقرن بتوحيده إلا العلم.

    وذلك لشرفه وعلو مقام أهله عند الله سبحانه وتعالى، وتكفل بأجره فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ثم قال: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).

    فمعنى (أوتوا) أنه ليس لهم الفضل في هذا العلم حتى يدخلوه في الدنيا، أو يتكالبوا به على الدنيا، وإنما أريد به وجه الله، فهو عطية من الله، ويبتغى به ما عند الله، والثواب في ذلك كله من الله سبحانه وتعالى.

    فالواجب على طلاب العلم صغاراً وكباراً تربية أنفسهم على قصد وجه الله عز وجل، وينبغي على كل معلم، وكل مربٍّ أن يوطن طلابه ومن يربيهم على إرادة وجه الله عز وجل، فتجد الواحد من أمثال هؤلاء الذين يتربون في مدرسة الإخلاص يفوق أمة ممن يحفظون الكتب، حتى ولو لم يحفظ القرآن، فلو حفظ مثل هذا عشر آيات طيبة زاكية خالصة، وقلبه فيه تقىً لربه سبحانه وتعالى، كان هذا خيراً من الدنيا وما فيها، ممن يحفظ القرآن كله من أجل أن ينال شيئاً من عرض الدنيا.

    فلذلك تمحق البركة، وتذهب البركة، وتجد الشخص يحفظ القرآن، ويحفظه العشرات، ويحفظه المئات، لكن ليس لهذا الحفظ أثرٌ ولا بركة؛ لأنه إذا دخلت الدنيا ودخلت دواخل الدنيا أفسدته.

    ووالله لا يجتمع في قلب عبد آخرة ودنيا إلا غلبت إحداهما؛ فإما أن يريد الآخرة ويكون تقياً نقياً، وإما أن يريد الدنيا.

    وهذا في كل شيء من العلم، ليس في التحرير فحسب وليس في الكتابة فحسب، وليس في مجالس العلم فحسب، بل في كل مجلس تحضر فيه مجالس العلم فلتفتح عما في قلبك، لترى هل تريد ما عند الله؟ أو غير ذلك؟ فإن وجدت غير الله فاتق الله واستغفر، وقل: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أسألك العفو، اللهم إني قد أذنبت، اللهم إني قد أسرفت، فقد كان السلف يتهمون أنفسهم في الإخلاص، فكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (ما وجدت مثل نيتي إنها تتقلب عليّ) تتقلب ألواناً من فتن الدنيا، ونحن تارة نقول: نشجعهم، وتارةً نقول: نحمسهم، فلا تجد إلا مبررات، ولا يمكن أن يحصل الإنسان على الإخلاص إلا إذا سار على منهج السلف الصالح رحمهم الله، فقد كان لحافهم السماء، وبساطهم الأرض، مرقعة ثيابهم، وكانوا حفاة الأقدام، ولكنهم أغنياء بالله سبحانه وتعالى، أغنياء بالإخلاص وإرادة وجه الله، فحفظوا دواوين العلم وحفظوا دواوين السنة، والرجل يمسي ويصبح وهو جائع لا يجد الطُعمة، حتى أن طلاب الحديث -رحمهم الله برحمته الواسعة- كانوا يجلسون، فربما يمضي على الرجل اليوم الكامل ولا يجد طعامه، فيجلس من أجل أن يهيئ الطعام فيقال: إن الشيخ فلان قد عقد مجلس الحديث فيترك طعامه وينتقل إلى ذلك المجلس جائعاً، من أجل أن يحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    هذا الإخلاص الذي سمت به الأمة وزكت، وأصبحت علومها خالدة تالدة؛ لأن الله نظر إلى قلوب أهلها فعلم أنهم لا يريدون إلا وجهه، وما أريد به وجه الله بقي، وما أريد به ما عند الله كمُل وشرُف وحسُنت عاقبته في الدنيا والآخرة.

    فلا يمكن أن نصلح الأبناء والصغار والكبار إلا بالتوحيد والإخلاص، فهذه هي العقيدة وهذا هو الأساس الذي ينبغي أن ينبني عليه هذا العلم.

    لكن إذا أصبح الطفل يتحمس لحفظ هذه السورة بمال، ثم بعدها بمال، ثم إذا حفظ السور نافس غيره للمال، أصبح جميعهم منذ الصغر وأنفسهم متربية على محبة المنافسة وإظهار النفس على الأقران، والطبع يغلب التطبع.

    فتجده كلما جلس في مجلس أراد أن يتميز على غيره، وأن يغلب غيره، حتى ولو لم يجد منافسة بمال ومسابقة جلس معك فقال: أسمعني وأسمعك؛ لأنه فتن في شيء لا يستطيع أن يملكه، خاصة إذا كان من الصغار، فلذلك ينبغي علينا أن نربي وأن ننشئ الصغار على الإخلاص.

    فإن قال قائل: لن يبقى أحد! قلنا: لو لم يبق إلا واحد يريد وجه الله، فهو بملء الأرض ممن لا يريدون إلا الدنيا.

    فهذه الأمور ينبغي التربية عليها، والتنشئة عليها وهي أساس الدين، إذ أساسه التوحيد والإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل.

    نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم، اللهم اجعله خالصاً لوجهك الكريم، وما كان من دخن وما كان من خطأ وخلل، نسألك اللهم يا عفو يا كريم أن تعفو عنا وأن تسامحنا، وأن ترحمنا فيه، ولا تعذبنا، وأن تسامحنا فيه ولا تؤاخذنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

    والله تعالى أعلم.

    جهة إعطاء الجُعل في السباق

    السؤال: الجُعل ممن يكون في حال السباق؟

    الجواب: سيأتي تفصيل هذه المسألة، وبيان الصور التي يكون فيها الجُعل من أحد المتسابقين، وتارة يكون من خارج عنهما، وتارة يكون الجُعل منهما معاً، ويدخل المحلل بينهما.

    هذه كلها صور للجُعل، وإذا كان الجعل من خارج عنهما، فتارة يكون من بيت المال وتارةً يكون من غيره، فمن سبق أحرز نصيبه ونصيب صاحبه، وتارة يدخل المحلل بينهما فيكون السبق بينهما مع وجود المحلل الذي لا يدفع شيئاً على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله.

    والله تعالى أعلم.

    الفرق بين الرهان والسبق

    السؤال: نرجو توضيح مسألة ما إذا دخل اثنان في منافسة على أن يدفع كل واحد منهما للآخر؟ أثابكم الله.

    الجواب: جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم على أنه لو تنافس الشخصان على أن يدفع كل منهما للآخر إن سبقه، فإنه في هذه الحالة لا بد من دخول المحلل، وهو شخص ثالث عنده قدرة على أن يسبقهما، هذا الشرط الأول: أنه لا يؤمن سبقه؛ فإذا كان يؤمن سبقه وكان ضعيفاً فيكون وجوده وعدمه على حد سواء فلا يفيد.

    مثلاً: لو أنهما تسابقا بفرسين، فقال أحدهما: أعطيك عشرة آلاف إن سبقتني، وتدفع لي عشرة آلاف إن سبقتك، قال: قبلت، فلا بد من دخول المحلل؛ لأنه إذا لم يدخل كان قماراً، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، لكن العمل عليه عند جمهرة أهل العلم، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل والفتوى عند الجمهور: أنه لا بد من دخول المحلل بينهما، لما في ذلك من قطع معنى القمار والغرر، والمخاطرة بين الطرفين.

    الشرط الثاني: أن لا يدفع لأحد الطرفين، يكون محللاً ويدخل بدون دفع شيء، فإن سبقهما أحرز السبقين، وإن سبق أحدهما أحرز الذي وعد به، وسبق صاحبه.

    بمعنى: لو قلت: إن سبقتني لك عشرة آلاف، وإن سبقتك لي عشرة، فإن سبقتني لك مني العشرة التي وعدتني بها، وأخذت العشرة مني، والعكس أيضاً فإن سبق هذا الثاني أحرز السبقين.

    وبناء على ذلك قالوا: إنه لا بد من دخول المحلل بينهما قطعاً للقمار، ولا شك أن صورة القمار ظاهرة فيه ما لم يدخل المحلل بينهما، والعمل على هذا الحديث؛ لأن الضعف فيه من جهة الحفظ، وليس من جهة الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه صحيح ومتنه قوي، ولذلك لا بد من دخول المحلل بين الطرفين، والله تعالى أعلم.

    وصايا في طلب العلم والثبات على طاعة الله عز وجل

    السؤال: أنا شاب ملتزم قريباً، وأنا في حيرة، فبم تنصحني في كتابة العلم؟ ومع من أسير في هذا الطريق؟

    الجواب: أوصيك أخي في الله:

    أولاً: أن تحمد الله سبحانه وتعالى، قل: الحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، وإن الله تعالى قد تأذن بالزيادة لمن شكر، فقرن المزيد بشكره، ووعد سبحانه وتعالى أنه ما من عبد يشكره بقلبه وبلسانه، وبجوارحه وأركانه إلا أتم نعمته عليه.

    فاحمد الله عز وجل واشكر هذه النعمة أن أخرجك من الظلمات إلى النور، واحمد الله سبحانه وتعالى أن وجدت الشيء الذي طالما يتمناه كل مخلوق خلقه الله تعالى من أجل عبادته.

    أما الأمر الثاني بعد شكر الله عز وجل: فأوصيك بالثبات على طاعته، فإن من دلائل البركة في النعم أن يثبت الإنسان عليها، فإذا أراد الله أن يتمم عليك النعمة، وأن يبارك لك فيها، تممها بالثبات.

    ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت عنه في الرواية الصحيحة، كان إذا رقى على الصفا قال دعاءه المشهور: (اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا أن تستجيب، وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما هديتني للإسلام فلا تنـزعه مني أبداً حتى تتوفاني عليه).

    فكان يسأل الله عز وجل أن يثبته على الحق، وأن لا يزيغ قلبه؛ وهذه دعوة الصالحين، والأبرار المتقين، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين حكاية عنهم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] ، فعليك بالثبات على هذا الخير.

    ومن أعظم الأمور التي يثبت الله عز وجل بها من اهتدى: الاستكثار من طاعة الله، والجد والاجتهاد في مرضاة الله، ألا وإن أفضل ما يستكثر به العبد من طاعة الله: كثرة ذكر الله عز وجل، فأكَثِر من ذكر الله بالاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير.

    إن الإنسان ربما تمضي عليه عشر دقائق يستطيع أن يستغفر فيها ما لا يقل عن مائة مرة، ولربما تجلس ربع ساعة وأنت تسأل الرجل كيف حالك، كيف أهلك؟ كيف إخوانك؟ ووالله قد تبلغ في بعض الأحيان مئات من التسبيح والاستغفار والتحميد والتكبير، وجرب ذلك. حين تكون جالساً للحظاتٍ يسيرة، وتستطيع في بعض الأحيان أن تستغفر عشرة آلاف مرة في خلال ساعة، أو ساعة ونصف، فهي كنوز عظيمة وأجر عظيم ونحن في غفلة عنها، ومثل هذا الذكر هو الذي يثبت الله به قلب العبد على طاعته، فإن الله يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] .

    ولا يزال العبد في حرز من الشيطان، وحرزٍ من الخذلان، وحرز من الخيبة والخسران، ما ذكر العظيم الرحمن، فلذلك أوصى الله بذلك عباده المؤمنين فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ [الأحزاب:41]، وما وقف عند هذا حتى قال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، فأكثر من ذكر الله عز وجل واستكثر من الخير.

    ومن أهم الأسباب التي تعين على الثبات، وتجعلك على خير، وتفتح لك أبوب هذا العلم: برك لوالديك، فبعد ذكرك وكثرة ذكرك لله عز وجل بالاستغفار والتسبيح والتحميد، وغير ذلك مما شرعه الله من ذكره، وقراءة القرآن، تبر والديك، فإن الله يفتح لك أبواب الرحمة، فرضي الله عمَّن أرضى والديه.

    أمَّا ما سألت عنه من العلم فأوصيك أخي في الله:

    أولاً: بالإخلاص الذي يبارك الله به في قولك، وعملك، وظاهرك، وباطنك، وليلك، ونهارك، فلا يبارك لطالب العلم في علمه إلا بالإخلاص، كما ذكرنا.

    ومن الإخلاص أن لا تخرج من بيتك لأي مجلس من مجالس العلم، ولا تخرج لمحاضرة، ولا تخرج لزيارة أخٍ لك في الله، إلا وأنت تريد ما عند الله عز وجل، ودائماً تتهم نفسك بالتقصير، وإذا وجدت في نفسك التقصير فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسرك، وأن يغفر ذنبك، فإن الله غفور لمن استغفر.

    ثانياً: إذا رزقك الله الإخلاص، فعليك أخي في الله أن تحرص على كل كلمة تسمعها، فإن أرفع الناس منزلة في العلم من جمع فأوعى، وأعظم الناس أجراً في هذا العلم من ضبطه على أتم الوجوه وأكملها.

    ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن حفظ هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها، فقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) .

    فيحفظ الإنسان هذا العلم حفظاً متقناً، وأنت تعلم أن الله يرضى عنك ذلك، وأن الله يحب منك ذلك، واعلم أن من دلائل الإخلاص إتقان هذا العلم، فلا تُضع منه كلمة.

    واعلم أن من الأمور التي تعينك على عدم تضييع شيء في مجلس العلم: ألا تنتقص نفسك وتحقرها؛ لأن الشيطان دائماً يقول لك: من أنت حتى تفهم كل ما يقوله الشيخ؟ ومن أنت حتى تضبط كل هذا المجلس؟ أبداً والله لقد جلسنا في العلم ونحن لا نفقه شيئاً، ونقول هذا اعترافاً بفضله سبحانه وتعالى، ووجدنا قوله تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] .

    فالله إذا علم من قلبك أنك تحب إتقان العلم فتح عليك، ويسر لك وأعانك، فلا معين غيره، ولا ميسر سواه؛ فلتكن عندك همة صادقة في حسن الظن بالله، فإذا جلست للعلم فلا تقل: لا أفهم هذا الكلام كله، فقد جلسنا في مجالس العلم وكنا صغاراً ولم نكن نفهم كثيراً مما يقال، فما مضت فترة إلا وأصبحت هذه الكلمات مثل الغذاء لأرواحنا، نهلك إذا جعنا ونحس بالظمأ إذا افتقدناها.

    فالإنسان ينبغي عليه أن يوطن نفسه دائماً على حسن الظن بالله، ولو أن أي شخص إذا أتى إلى أي مسألة، أو مهمة، أو عمل، وهو لا يفقه في هذا العمل شيئاً، وقيل له: إذا ما أتقنت هذا الشيء سيحدث كذا، أو يصير كذا، فإنه سيحصل كل صغيرة وكبيرة.

    فالنفس فيها طاقة، وفيها قوة، ولكن الإنسان ينبغي أن يعلم أن هناك شيطاناً يخذله، وأن هناك عدواً لدوداً يقول له: من أنت حتى تفهم؟ من أنت حتى تعلم ؟ ومن أنت حتى تكون عالماً؟ قل: إن الفضل كله لله، فالفضل كله لله سبحانه وتعالى، وإنما عليك أن تحسن الظن بالله تعالى.

    فقد كنا نسمع بعض المسائل ونحن في ابتداء طلب العلم، وما كنا نظن أننا سنسأل عنها وكان المشايخ يوصون بضبطها وإتقانها، حتى سئُلنا عنها في الأمم، وأفدناها وانتشرت بين الناس، وما كنا نظن أنه يأتي اليوم الذي نُبلى فيه هذا البلاء الحسن.

    ولكن من تعب وجد واجتهد، وكانت له البداية المحرقة، فإن الله يجعل له النهاية المشرقة، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، وإن المعروف لا يبلى والخير لا ينُسى، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملا.

    فتتقن هذا العلم، ولا تقل: إني صغير، فأنت كبير بهمة صادقة وبنية صادقة مخلصة لوجه الله عز وجل، وبجد واجتهاد، وترى -بإذن الله عز وجل- عواقب هذا الجد والاجتهاد حينما تمضي كل فترة وأنت تحس أنك تبني على أساس مستقيم.

    أما لو جلس طالب العلم في مجالس العلم وهو ضعيف وبنفس منهزمة، ويقول: هذا علم كثير والشيخ مستواه كبير فلن ينتفع، فما عليك إلا أن تجد وتجتهد، وتفرض على نفسك الواقع الذي تراه، وتحس برحمة الله بكل كلمة تسمعها، وفي كل حكمة تعلمها.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل هذا العلم خالصاً لوجه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949273