إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الوقف [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما ينفع الإنسان عند ربه في الدنيا بل والآخرة بعد موته أن يوقف وقفاً لله تعالى، يدر عليه الحسنات كما لو كان حياً يعملها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على مشروعيته وفضله والحث عليه.

    1.   

    الأدلة على مشروعية الوقف من الكتاب والسنة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الوقف]

    هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب التي بحثها الفقهاء رحمهم الله، وبينوا مسائلها، وما اشتمل عليه هذا الكتاب من أحكام، ونظراً لعظم أمره، وعموم البلوى به في كل زمان ومكان، ناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع.

    وعبر بالكتاب، لكي يفصله عن الأبواب السابقة، فالأبواب السابقة متعلقة بالمعاملات المالية، والوقف يجمع بين المعاملة المالية من وجه، وبين العبادة من وجه آخر، وهو من حيث الأصل تسبيل لله عز وجل، ولذلك يخرج عن معنى المعاوضة من هذا الوجه، وعبر بالكتاب حتى لا يُظن أنه تابع للمعاوضات المالية.

    وإلا فالأصل أن العلماء رحمهم الله يخُصون الكتاب بالأبواب الكثيرة، مثل أن يقال: كتاب المناسك ويقال: كتاب الصلاة؛ لأن أبوابه كثيرة، والوقف ليست له أبواب كثيرة؛ ولكنه منقطعٌ عما قبله، فلو قال المصنف: باب الوقف؛ لظن ظانٌ أنه تابع للمعاملات المالية التي تقدمت معنا في الدروس الماضية.

    وقوله رحمه الله: (كتاب الوقف) أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوقف.

    وهو: حبس أو تحبيس العين، وتسبيل المنفعة والثمرة، والمراد بالعين: العين الموقوفة، سواء كانت من العقارات، أو كانت من المنقولات، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا التعريف وحقيقته، حينما ذكره المصنف رحمه الله في صدر الكتاب.

    مشروعية الوقف من الكتاب

    والوقف يعتبر مشروعاً بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة من العلماء رحمهم الله، فأما دليل الكتاب فإن الوقف داخلٌ تحت عموم الآيات التي دلت على الطاعات والخير، والندب إلى البر، ولذلك يعتبره العلماء رحمهم الله من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله عز وجل به في كتابه بقوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

    وإن المسلم إذا أوقف بيته أو سبَّل مزرعته، خاصة إذا جعلها للضعفاء والفقراء والمساكين، أو أوقف مسجداً للصلاة فيه، وانتفع الناس بعبادة ربهم وذكرهم لله عز وجل في هذا الموضع الموقوف، وكذلك بحلق الذكر في تلك المساجد الموقوفة، أو جعل صدقة كتسبيل المياه من حفر الآبار، وسقي العطشى، سواءً كانت داخل المدن، أو كانت خارج المدن، خاصة إذا كانت في السبل والمفازات التي تكون الحاجة فيها ماسة إلى وجود الماء، وهكذا إذا برّده أو وضع البرادات للماء، أو الأسباب التي تعين على تهيئته للعطشى والمحتاجين، ونحو ذلك من أفعال البر؛ فلا يشك أحد أنه من التعاون على البر والتقوى، وأنه من طاعة الله عز وجل، فهو داخل في عموم الصدقات والإحسان إلى المسلمين.

    مشروعية الوقف من السنة

    وأما دليل السنة فإنه صريح في الدلالة على مشروعية الوقف، فالفرق بين دليل القرآن والسنة على مشروعية الوقف أن دليل القرآن عام، وأما دليل السنة فإنه ورد في الوقف بخصوصه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمِره فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وسبّلت -وفي رواية تصدقت- على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث).

    هذا الحديث فيه فوائد عظيمة أولها قول عبد الله بن عمر : (أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضاً بخيبر) جاء في الرواية الأخرى أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أعز ما أصبت من مال، فما تأمرني فيها)؟ فانظر إلى فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الرجوع إلى العلماء، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو الخير والأحظ للإنسان في دينه ودنياه وآخرته.

    فلا يزال العبد موفقاً مسدداً ملهماً للصواب ما رجع إلى أهل العلم، وأحبهم، واستشارهم، فإن الله يضع له البركة في ذلك؛ لأن الدافع في الرجوع إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإجلال شعائر الدين، ولذلك يُوفَّق من يرجع إليهم، ويسدد ويلهم الخير.

    فهذا الصحابي الجليل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أصاب هذا المال الذي هو أعز ما يملك، فلم يتصرف فيه بمحض رأيه واجتهاده، مع أن التصرف مباح له شرعاً، فلو أنه باعها أو تصدق بها أو فعل بها ما شاء، فإن ذلك له، وهذا بتمليك الله عز وجل له ما دام أنه تصرف بما أحل الله وشرع؛ ولكن كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بالرجوع إلى الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك عظمت منزلتهم، وارتفعت درجتهم، وأثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات في كتابه، حتى بقي الثناء عليهم إلى يوم الدين يتلى في كتابه.

    كل هذا بمحبة الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال المسائل به، حتى يُصيب الإنسان الأقوم، والأسلم، والأرشد له في دينه ودنياه وآخرته، ولا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب بمشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دينه ودنياه وآخرته.

    وانظر إلى الأسلوب حين يرجع الإنسان إلى من هو أعلم وأفضل: (فما تأمرني)، ولم يقل: فماذا تشير علي؟ ولكن (فما تأمرني؟) وكأن الأمر أمره عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها)، فالوقف: هو التحبيس، فإذا أوقف الإنسان فقد حبس العين الموقوفة، فقوله: (حبّست) يعني أوقفت؛ لأن الشيء المحبوس موقوف عن الحركة وممنوع منها، فأصل الوقف الامتناع عن السير والحركة، يقال: وقفت الدابة؛ إذا أمسكت عن السير والحركة، ويقال: وقف الظل؛ إذا كانت الشمس في منتصف السماء وأمسكت عن الحركة.

    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) وهذا بالنسبة للأرض، وقد كانت خيبر أرض زرع، وكانت من أفاضل أراضي الجزيرة من حيث الزراعة ووجود النخل فيها، وكانت عامرة بذلك، ولا تزال إلى اليوم فيها بقية باقية من ذلك العمران، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) يعني حبست أصل الأرض، والمراد بذلك الأرض التي هي العين الموقوفة، وما عليها من الزروع والنخيل.

    قال عليه الصلاة والسلام: (وتصدقت بها -وفي رواية: وسبلت- وجعلت ثمرتها في ذوي القربى) فقوله: (وتصدقت بها): يعني بنتاج الأرض، وهذا يقع في وقف المزارع، حيث توقف المزرعة فيشمل ذلك الأرض التي هي العقار المحبوس، وكذلك ما عليها من النخيل والزروع، (وحبست ثمرتها): ثمرة النخيل كالتمر والرطب والبلح، وكذلك إذا كان فيها العنب أو غير ذلك من المزروعات، وتصدقت بثمرتها.

    فدل على أن العين تُحبس، وأنه إذا أوقف مزرعة وسبّلها؛ فإن ثمرتها تكون محبوسة، وذلك بصرفها في الوجه الذي خص الوقف به.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها) يعني الأرض: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) إذاً: معنى ذلك أن ملكية الواقف لها قد زالت، ومن هنا استدل طائفة من العلماء رحمهم الله على أن من أوقف شيئاً فقد زال ملكه عنه.

    وبناءً عليه يتفرع أن الشخص ربما أوقف مسجداً، وجعل يتصرف فيه دون أن يشترط نظارة المسجد له، ولربما ضمه إلى جهة مختصة بالمسجد؛ لكنه يتصرف فيه، ويأمر وينهى وكأنه يملكه، ولربما منع أو أخرج الناس من المسجد، فهذا مخالف للأصل؛ لأنه بإيقافه للمسجد خرج المسجد عن ملكيته، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الوقف يخرجه الإنسان من نفسه صدقة لله عز وجل.

    ولذلك يُعتبر من المعاملة بين المخلوق والخالق، والله عز وجل يملك المخلوق وما ملك، ولكنه سبحانه وتعالى جعل ابن آدم مستخلفاً في المال لكي يبتلي المحسن في إحسانه والمسيء في إساءته.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) البيع أصل في المعاوضات، أي: لا يجوز لك أن تعاوض عليها، ولذلك أجمع العلماء من حيث الأصل على أن الوقف لا يباع إلا في مسألة، وهي أن تتعطل مصالح الوقف، كرجل أوقف مزرعة ثم إن هذه المزرعة نضب ماؤها وتعذر سقيها، واحتيج إلى الانتقال إلى مكان آخر، فحينئذ يرفع إلى القاضي، فيحكم القاضي بجواز بيعها، فتباع ثم يشترى بدلاً منها ما يقوم مقامها.

    أما من حيث الأصل فلا يجوز بيع الوقف، فلو أوقف عمارة -مثلاً- صدقة على المساكين، أو صدقة على طلاب العلم، أو رباطاً لهم، ثم أراد أن يبيعها ويشتري غيرها؛ فنقول: لا يجوز بيع الوقف، والأصل أنه محبّس، وممنوع صاحبه من التصرف فيه، إلا في حدود ما اشترط من نظارته لمصلحة الوقف.

    فلو أنه أوقف أرضاً ثم وهبها لزيد أو وهبها لعمرو فإن الهبة لا تصح؛ لأن الهبة تفتقر إلى ملك، ومن هنا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملك زال ولا تصح الهبة.

    وتتفرع المسألة المشهورة من هبة أعضاء الآدمي، فإن الآدمي ليس بمالك لنفسه حتى تصح هبته، فلما كان الوقف قد زالت ملكيته عن الإنسان بالوقفية، لم تصح هبته للغير، فكذلك كل شيء لا يملكه الإنسان لا يملك الهبة فيه.

    ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا توهب ولا تورث) جمع عليه الصلاة والسلام بهذا الثلاثة الأصول: الانتقال بعوض، كما في البيع وجعل البيع أصلاً له، والانتقال بدون عوض كما في الهبة، وهذا انتقال اختياري، والانتقال الجبري كما في الإرث، وانظر إلى بديع هذه السنة ودقتها، وهذا يدل على صحة القياس؛ لأن الشريعة جاءت بأصل لكل باب على حدة، حتى تنبه على غيره.

    فإذا تقرر هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث مشروعية الوقف، وبين جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على الوقف.

    فهذا الحديث يعتبر عند العلماء أصلاً في مشروعية إيقاف المزارع والأرضين والعقارات، وتسبيل ثمرتها، وكذلك يعتبر أصلاً يقاس عليه غيره، فيقال: يجوز أن يوقف الإنسان كل عين في حكم المزرعة من جهة بقائها ودوامها، كما سيأتي إن شاء الله في شروط صحة العين الموقوفة.

    أما الدليل الثاني: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أن سعداً رضي الله عنه جاءه وقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها) يعني ماتت فجأة، وكان سعد رضي الله عنه من أبر الناس بأمه (إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟) وكانت قد توفيت وهو خارج المدينة في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفُجع بها رضي الله عنه، وكان يحبها حباً شديداً، فلما أتى وأُخبر بخبرها قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم).

    وفي رواية في صحيح البخاري: (فجعل لها حائط الخراف) وحائط الخراف: بستان من بساتين المدينة، وقد كانت العرب تسمي البساتين بأسماء، أي: تصدق به عنها براً منه رضي الله عنه بأمه، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت، ولو كانت بالوقف، فصح الوقف عن الحي، والوقف عن الميت.

    ومن أوقف على والديه جعل الله له الأجر من وجهين: أجر بر والديه، وأجر الصدقة، فهو مثاب من الوجهين كالصدقة على ذي القرابة، فإن الله يجعلها صدقةً وبراً وصلة.

    فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر وقفية المزرعة وأجازها، وقد فعل ذلك رضي الله عنه استئذاناً من النبي صلى الله عليه وسلم.

    أما الدليل الثالث من السنة: فما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

    فقوله: (صدقة جارية) يدل على مشروعية الوقف؛ لأن الصدقات الجارية هي الصدقات المحبوسة الموقوفة، بحيث تبقى بعد موت صاحبها، كمن حفر بئراً أو أجرى نهراً أو قنطرة لسقي المزارع، وسقي الدواب، وسقي الناس، وكذلك الصدقة الجارية كمن بنى بيتاً وجعله للضعفاء والفقراء والأيتام والمحتاجين، أو جعله لقرابته، صلة رحم لهم، أو جعله لطلاب العلم رباطاً يستعينون به بعد الله عز وجل فيأوي إليه ضعيفهم.

    وكذلك لو أوقف كتباً، فإنها صدقة جارية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة جارية)، فلما أقر عليه الصلاة والسلام الوقف على هذا الوجه، أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته.

    الوقف عند الصحابة رضي الله عنهم

    وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين.

    وكذلك أيضاً أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذرِّيته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يَخُص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلاً: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدِرة إلا أوقف في سبيل الخير).

    وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسُبُل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر)وذكر منهم: من أعطاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته.

    فضل الوقف لوجه الله

    فهذا هو شأن الموفق السعيد، فالوقف لا يُشك أنه مشروع، وأنه من خصال البر والطاعة، ولكن بشروط لا بد من توفرها، وهناك أُسس لا يكون الوقف خيراً للعبد في دينه ودنياه وآخرته إلا إذا حققها، أولها وأساسها أن يوقف لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياءً ولا سمعة، لا يطلب من الناس مدحاً ولا ثناءً، وإنما يوقف أمواله لوجه الله عز وجل يحتسب ثوابها عند الله سبحانه وتعالى.

    وكأنه تأمل ونظر وتفكر فوجد أن هذا المال لو بقي عنده انتفع به في الدنيا، فارتاحت نفسه، وارتاح أهله وولده، ووجد لذة هذا المال، سواءً كان مزرعة أو عمارة أو أرضاً، ولكن إذا تصدق به فإن الله يتقبل الصدقة من عبده الصالح بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له، فلا يزال تكثر صدقته، ويعظم أجره حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فيجد صدقته أضاعفاً كثيرة، لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى.

    ويتفاوت الناس في مضاعفة الله لهم في الصدقات على حسب نيتهم وعظم بلائهم في هذه الصدقة، فإذا نظر بين الأمرين وبين الخيارين، اختار ما عند الله على الدنيا، ومما ذكروا عن بعض الصالحين في زمان قريب أنه بنى بيتاً أنفق عليه أكثر أمواله، وكان من أفضل البيوت وأحسنها بالمدينة، واستغرق بناؤه سنوات، فلما كمل بناؤه وأحسنه وأتمه وأدخل فيه أزواجه وذريته، فلما استقروا فيه من أول النهار جمعهم في الظهيرة وقال: يا أبنائي! كيف وجدتم البيت؟ قالوا: وجدناه من أحسن ما يكون. فكل يثني على صفة موجودة في البيت.

    فلما انتهوا وفرغوا من ثنائهم، قال: إني فكرت ونظرت ووجدت أن هذا البيت هو أعز ما أملكه في الدنيا، وأن أفضل ما يكون مني أن أقدمه صدقة لآخرتي، يقول لي الوالد رحمة الله عليه -نقل الثقة-: ما رد عليه أحد من أولاده أو زوجه؛ لأن العبد الصالح إذا حسنت نيته، ونشّأ تنشئة صالحة، وجد ثمار هذا الصلاح حينما يأمر بطاعة الله أو يلتمس مرضاة الله، والعكس بالعكس، فمن يقصر في تربية ذريته وأهله وزوجه، ولا يكون قائماً على البيت كما ينبغي أن يكون، يخذله الله في مثل هذه المواقف كما خذل دين الله.

    فالشاهد أنه ما رد عليه أحد، بل وافقوه كلهم، فيقسم هذا الرجل الثقة للوالد يقول: والله لقد خرجوا في عز الظهيرة في الشمس، في الصيف من بيتهم إلى بيتهم القديم، وما غابت الشمس إلى وهو مليء بالأيتام والأرامل وضعفة المسلمين.

    فالعبد الصالح إذا عظمت الآخرة في عينه، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، هانت عليه الدنيا، وإذا أحس أنه يعامل الله سبحانه وتعالى فإنه يقدم على الوقف بكل شجاعة ورضا، ويبذل وقفه ويحس أنه الرابح والغانم، وأنه لا يخسر في المعاملة مع الله عز وجل شيئاً.

    فأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقف من أعظم الطاعات وأجلها، ثم يختلف الوقف بحسب اختلاف أحواله، فالوقف الذي تكون الجهة المستحقة فيه جهة عامة ومصلحة عامة من مصالح الدين، فإن الأجر فيه أعظم، كبناء المساجد والمدارس، فإن المساجد نفعها وخيرها عام، خاصة إذا كانت من مساجد الجمعة، فإن الأجر فيها لا يقتصر على الجماعات وإنما يشمل الجمعة والجماعات.

    كذلك أيضاً.. المساجد تتفاوت، فالمساجد إذا كانت في أمكنة عُرف أهلها بالمحافظة والحرص على الصلوات، وربما لم يكن هناك مسجد غير هذا المسجد الذي بني، فلا شك أن الأجر فيها أعظم، والوقف في هذا المكان أفضل من الوقف في غيره.

    كذلك أيضاً من المصالح العامة، وهي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى حفر الآبار، فإن الماء يحتاج إليه خاصة في الصيف، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غفر الذنوب بسقي الماء. فالبغي من بغايا بني إسرائيل مرت على كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش فرحمته فاستقت له من البئر، فغفر الله لها ذنوبها.

    فإذا كان هذا في كلب وبهيمة، فكيف إذا كان إحساناً بضعفة المسلمين في القرى والهجر البعيدة التي يحتاج أهلها إلى الماء، أو يطلبون الماء من أماكن بعيدة، أو يشتري الإنسان لهم سيارة لنقل الماء، فهذه الصدقة لا شك أن نفعها أعظم، وخيرها أعظم وبِرها أكثر، فيكون الوقف على هذا الوجه أفضل من الوقف على غيره.

    كذلك الوقف على ذي القربى والإحسان إليهم أعظم أجراً، كما ثبت في حديث زينب -امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها أنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة على أقرباء زوجها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها صدقة وصلة. أي أن الله يأجرها على أنها تصدقت ويأجرها على أنها صلة رحم.

    كذلك يفضل الوقف بحسب الغايات الموجودة فيه، ولذلك قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس (قواعد الأحكام) في مسألة الفضائل أن الأعمال تتفاضل بحسب المقاصد والوسائل.

    فإذا نظرت إلى الوقف على طلبة العلم، من بناء البيوت لهم، أو إعانتهم على الكتب، كإيقاف المكتبات للقراءة والمراجعة والمذاكرة، وكذلك شراء الكتب وتحبيسها عليهم، ونحو ذلك من الأمور التي تعين طالب العلم على طلب العلم، فإن الوقف عليها أفضل؛ لأنه ليس هناك أحب إلى الله عز وجل من ذكره سبحانه وتعالى، وليس هناك أفضل من طلب العلم، والعلم أفضل من العبادة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب).

    فدل على أن الوقف على العلم أفضل من الوقف على غيره، ويُقاس على ذلك بناء المساجد لتعليم أبناء المسلمين، وخاصة إذا وُجدت الحاجة الماسة للمحافظة على عقيدتهم؛ كأن يكونوا في بلد يحتاج إلى بناء مدرسة ويخشى عليهم أن يضلوا عن سبيل الله، أو يصرفوا عن الإسلام بتهويدهم أو صرفهم بالنصرانية أو نحو ذلك.

    فإن بناء المساجد في مثل هذه المواضع أجره عظيم، وثوابه كبير، فالوقف في هذه الحالة يكون أفضل من هذا الوجه، فإذا عظم بلاء الوقف وعظم نفعه، وكان نفعه عاماً، فالفضل فيه أعظم، والأجر فيه أكبر، ومما ذكره العلماء بناء البيوت في الطرقات نزلاً للمسافرين كما كان في القديم، حيث كانوا يبنون على طرقات السابلة بنياناً يجعلونه سبيلاً ووقفاً على من نزل فيه من المسلمين.

    كل هذه الأعمال فضُلت من جهة كونها عامة، والمصلحة فيها لا تختص بشخص، ولا بطائفة، ولا بجنس ولا بأفراد دون أفراد، وإنما نفعها عام، ففضلت من هذا الوجه.

    وأما بالنسبة للوقف الخاص، فالوقف الخاص لا بأس به، وهو مشروع، وسيأتي إن شاء الله بيان بعض المسائل المتعلقة به، ومن أمثلتها أن يوقف على ذريته، فإذا أوقف على ذريته أو قرابته، كأن يقول: صدقة على آل فلان، ويخص آل فلان، من قرابته، وقد يُخصِّص القرابة فيجعلها في العصبة، وقد يعمم القرابة، ففي هذه الحالة ينفذ الوقف، ويتقيد بما قيده الواقف، كما سيأتي إن شاء الله في شرط الواقف.

    لكن يختلف من جهة الفضل، ومن جهة عظم الأجر وحسن البلاء، وأياً ما كان، فإن الواجب على من أراد أن يوقف، أن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد وقفاً خاصاً -أن يوقف على بعض ولده- أن يتحرى العدل، وقد ذكرنا قضية الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وهي محل خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

    ولذلك يقولون: قد يوقف الإنسان فيظلم بعض الورثة، ولا يسلم الإنسان غالباً من هذا الظلم إلا إذا رجع لأهل العلم وسألهم، فالواجب على من أراد أن يوقف أن يستشير العلماء، وأن يسألهم الرأي السديد في الوقف، وأن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله.

    1.   

    تعريف الوقف في الشرع

    قال رحمه الله تعالى: [وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة]

    (وهو) أي الوقف (تحبيس) يقال: حبس الشيء إذا منعه، ومنه الحبس؛ لأنه منع من الخروج، وقوله رحمه الله: (تحبيس الأصل) أي: سواء كان من العقارات كما ذكرنا في المزارع والدور، أو من المنقولات كالدواب والحيوانات ونحوها، وفي أزمنتنا السيارات فيمكن تسبيلها، مثل شراء السيارات لنقل طلبة العلم ولنقل الماء، وهذا من أعظم ما يكون فيه الأجر خاصة في هذا الزمان، فربما كان الناس يبعدون عشرات الكيلو مترات عن الآبار وتحصل المشقة لهم في سقي دوابهم، وسقي أهليهم وذويهم، فشراء مثل هذه السيارات يعتبر تحبيساً للأصل.

    (وتسبيل المنفعة): وقد ذكرنا أن هناك العين وهناك المنفعة، فالعين هي الرقبة ذاتها كالبيت والمزرعة، وأما المنفعة فهي المصلحة الناشئة من العين، مثلاً: السيارة منفعتها الركوب، ومنفعتها الحمل عليها، فإذا أوقف مثلاً سيارة نقل الماء فإنه يحبِّس العين وهي السيارة، لا تباع ولا توهب ولا تورث، والمنفعة وهي نقل الماء مسبّلة على الجهة عمّمَها أو خصّصَها، فهذا تحبيس للعين وتسبيل للمنفعة.

    كذلك أيضاً لو أوقف بيتاً أو عمارة وقال: هذه العمارة للمطلقات الفقيرات، أو الأرامل، أو للضعفة والفقراء ونحو ذلك، فإن الرقبة أو العين وهي البيت لا تباع ولا توهب ولا تورث، فحُبِسَت؛ لكن منفعة السكنى فيها والجلوس فيها لمن سمى عمّم أو خَصَّص، كذلك المسجد، فالعقار (الأرض) والبناء الذي عليه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن منفعة الجلوس فيه، والصلاة فيه، وذكر الله عز وجل فيه، من تلاوة القرآن، وطلب العلم، فإنه يعتبر منفعة مسبّلة للمسلمين.

    إذاً تحبيس العين وتسبيل الثمرة مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبّست أصلها وتصدقت بثمرتها)ومن هنا نعلم أن العلماء رحمهم الله يحتاطون في التعريفات الشرعية حيث إنهم يأخذونها غالباً من السنة، ومن الأدلة التي دلت على حقيقة الشيء.

    فلما بين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث حقيقة الوقف، وقال: (إن شئت حبّست أصلها وسبلت وتصدقت بثمرها)دل على أن حقيقة الوقف تحبيس العين وتسبيل المنفعة.

    1.   

    بم يصح الوقف

    قال رحمه الله: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها]

    قوله: (ويصح بالقول): أي ويصح الوقف شرعاً بالقول الدال عليه، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صريحاً كقوله: أوقفت وحبّست وسبّلت، أو يكون كناية كقوله: حرّمت أبّدت تصدقت، فهذا كله من ألفاظ الوقف، ويختلف اللفظ الصريح عن الكناية من جهة أنه لا يحتاج إلى نية، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحكام اللفظ.

    فبيّن رحمه الله الركن الأول المتعلق بالوقف وهو الصيغة، فالوقف له صيغة، والصيغة تنقسم إلى قول وفعل، بعض العلماء يقول: الوقف لا يكون إلا بالقول فقط، ولا يقع الوقف بالفعل ولو دل عليه، فيرون أن الوقف لابد فيه من اللفظ، وأنه إذا لم يتلفظ لا يقع الوقف، كما يختاره أئمة الشافعية رحمهم الله، وهذا تقدم معنا في مسألة بيع المعاطاة، هل تشترط الصيغة أم أن الفعل يُنزل منزلة القول، ولـشيخ الإسلام رحمه الله برحمته الواسعة كلام نفيس في كتابه النفيس: القواعد النورانية، بيّن فيه إجماع السلف الصالح، وذكر فيه نصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال في الدلالة، فلا يشك المسلم بأن الشخص إذا بنى بناءً على شكل المسجد، ثم فتح أبوابه وأَذِن للناس في الصلاة فيه دون أن يتكلم؛ أن هذا الفعل كما لو قال لهم: أوقفت.

    كذلك أيضاً، لو أنه جاء إلى خزان ماء، فأخرج منه صنبور الماء ووضع كيزان الماء على الطرق العامة أو السابلة، أو أجرى قنطرة من الماء كما في القديم، انصبت في مكان عال لسقي الدواب أو سقي الناس، فلا يشك أحد أنه يقصد من هذا الفعل سقي المسلمين، ولا يحتاج أن يقول: وقّفت أو أوقفت هذا، أو سبلت هذا أو حبّست هذا، وإنما ننزل فعله منزلة قوله، ويكون الوقف ثابتاً بالفعل كما هو ثابت بالقول.

    ولا شك أن هذا المذهب الذي يقول: إن الأفعال تُنزّل منزلة الأقوال هو المذهب الصواب إن شاء الله، خاصة وأن نصوص الكتاب والسنة تتضمنه، وكذلك إجماع السلف الصالح رحمهم الله يدل على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال.

    إذا ثبت هذا فمعناه أن الصيغة التي هي ركن من أركان الوقف تكون بالقول وتكون بالفعل، فبيّن رحمه الله الصيغة بقوله: (ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه).

    وقوله: (وبالفعل الدال عليه): يشترط في الفعل أن تكون له دلالة، فإذاً: ليس كل فعل نقبله ونلزم الناس بأنها أوقفت وحبّست وسبّلت، بل لابد وأن يتضمن ذلك الفعل دلالة كما ذكرنا، مثلاً: البناء الذي يكون على شكل المسجد، وتجد فيه هذه القبة التي توضع على المساجد، وهي ليس من باب العبادة، إنما نشأت في أواخر عصور بني العباس، وكانت طريقة هندسية يُراد منها إيصال الصوت.

    ولذلك المساجد التي تجد فيها هذه الفراغ يسري فيها الصوت أكثر من المساجد المصمَتة التي تكون مثل الغرف، وهذا مجرب، ووجدنا هذا في بعض الأحيان، فكنا إذا انقطعت الكهرباء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الإمام في المحراب ونسمع صوته من آخر المسجد الأحمر.

    وهذا شيء ليس له علاقة بمسألة عبادة، إنما أن تحصر القباب في بنائها على الأولياء والقبور والمشاهد، فهذه من المنكرات والبدع التي ينبغي إزالتها وعدم جواز بقائها، لكني أتكلم أن القبة مما اصطلح الناس على وضعها في المساجد خاصة، لتأثيرها في نقل الصوت بداخل المسجد بشكل أوضح لا أنها أمر تعبدي.

    فإذا بنى إنسان بناء على شكل المسجد ووضع مثلاً هذه القبة عليه، وأشرع المنارة، فهذا الفعل منه دال على أنه يريد أن يجعله مسجداً، وقد ثبت عن بلال رضي الله عنه في رواية حسنها بعض العلماء وبعضهم يقول: إنها ترتقي إلى درجة الصحيح لغيره، أن بلالاً كان يؤذن أذانه الأول للفجر على سطح بيت الأنصارية بجوار المسجد، والرواية فيه مشهورة، وهي التي جاء فيها أنه كان يؤذن ثم يلعن المشركين، حتى إذا قارب الفجر للانبزاغ نزل رضي الله عنه فصعد ابن أم مكتوم وأذن.

    فالشاهد أنه كان يؤذن على مكان عال بقصد بلوغ الصوت لأنه كان يُحتاج إلى ذلك.

    ثانياً: من فوائدها أنها تدل على المساجد، فأنت إذا جئت إلى بلد، وتريد أن تصلي وأنت لا تعرف البلد، ولا تعرف مساجده، لا تستطيع أن تستهدي للمسجد إلا بهذا البناء وهذه الأمارة.

    فالبناء على هيئة وشكل المسجد دال على إرادة وقفه مسجداً لله عز وجل.

    فإن فتح بابه، وأشرعه للناس جاز للغير أن يدخل فيه وأن يصلي فيه، ويعتبره وقفاً، ويكون فعله منزلاً منزلة قوله: أوقفت هذا المسجد لله عز وجل.

    ولما قال المؤلف: (يصح بالقول وبالفعل الدال عليه) لم يجعل الفعل موجباً للوقفية دون أن تكون فيه دلالة، والدلالة تنقسم إلى قسمين: الدلالة الخفية، والدلالة الظاهرة.

    والمعتبر عند العلماء رحمهم الله -الذين يقولون بأن الأفعال تُنزّل منزلة الأقوال- الدلالة الظاهرة لا الدلالة الخفية، فإن الوقف يُوجب خروج المال عن ملكية صاحبه، ويوجب زوال يده عنه، والأصل أنه مالك، والأصل أنه متصرف فيه، فحينئذٍ لا نحكم بكونه وقفاً إلا إذا كان قاصداً له ودالاً عليه.

    بناءً على ذلك لو أننا وجدنا شخصاً أراد أن يقيم مسجداً في موضع، أو كان في الموضع مسجد، وهدم هذا المسجد من أجل البناء، فجاء وقال للناس: صلّوا في الحوش عندي مثلاً، صلوا في البيت.. نفهم أن قوله: صلوا في البيت ليس المراد به وقفية البيت للمسجد، وإنما مراده: ما دمتم محتاجين إلى مكان تصلون فيه، فإني قد وهبتكم بيتي ووهبتكم حوشي أو مكاني هذا من أجل الصلاة فيه حتى يتيسر بناء المسجد.

    فهذا الفعل غير دال على الوقف رغم دلالته في الظاهر، لكن بساط المجلس والحال الذي وقع فيه العرض من الشخص ليس دالاً على الوقفية، فلا نعتبره موجباً للحكم بكون ذلك الموضع قد زالت ملكية صاحبه عنه أو صار وقفاً أو مسجداً.

    إذاً يشترط أن يكون الفعل دالاً، وقلنا: العبرة بالدلالة الظاهرة لا بالدلالة الخفية.

    قال رحمه الله: [كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه]

    (كمن) الكاف للتشبيه، أي: كشخص جعل أرضه مسجداً، وأذن للناس بالصلاة فيه، وجعلها مسجداً، معناه: أن هيئة الأرض، وبناءه لها، وعمارته لها كانت على شكل المسجد، فحينئذ نعتبره وقفاً، فمن فعل هذا الفعل نعتبره قد أوقف الأرض، فلو تُوفي وجاء ورثته، وقالوا: الأرض أرض مورِّثنا، ونريد أن نبيعها، نقول إنه لما بناه على هيئة المسجد وأشرعه للناس، وأذن للناس بالصلاة فيه، فإنها دلالة ظاهرة تُنزَّل منزلة قوله: أوقفت هذه الأرض مسجداً.

    قوله: (وأذن للناس في الصلاة فيه) لابد من وجود الإذن، والإذن أصله الإباحة، يقال: أذنت له بالدخول: أي أبحت له الدخول، فالأصل أن الأرض لها حرمة، كبيوت الناس ومساكنهم، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإذن، فإذا بناه على هيئة المسجد وأذن للناس بالصلاة فيه؛ فإننا نعتبره فعلاً دالاً على الوقفية.

    لكنه قد يبنيه على هيئة وشكل المسجد، ولا يأذن لأحد بالصلاة فيه، يقول: أريد أن أبيعه بحيث من يشتريه يجعله مسجداً، وهذا سائغ ويجوز، كما لو اشترى سيارة مثلاً لنقل طلاب العلم أو نحوها، وقصد من ذلك أن يبيعها على من يوقفها، فقال: أريد أن أبتاعها من أجل أن يشتريها من يريد إيقافها، فالمقصود أن يأذن بالصلاة فيه، فيوجب الفعل الدال على أنه قصد الوقفية وتسبيلها لله عز وجل.

    وإذا أَذِنَ وخرج منه القول واللفظ الدال على الوقفية، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: تنتقل الملكية عنه، وهذا على أصح قولي العلماء أن من أوقف وقفاً عاماً أو خاصاً على جهة معينة، أو على أفراد، فإنه صدقة عليهم، مثل المسجد مثلاً، تزول ملكيته عن ذلك الشيء، وإذا زالت ملكيته وامتنع بيعه، فلو أن هذا المسجد تهدّم وأصبحت أرضه مثلاً خالية، أو احتيج حاجة ماسّة مثلاً إلى هدمه وتعويضه بمسجد آخر، يرد الإشكال، فكيف نبيع هذا المسجد ولا مالك له؟ وبناءً عليه قال العلماء: لابد من الرجوع إلى القاضي؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له، وهو من الأحباس المسبّلة لوجه الله عز وجل، ومنه يقولون: ينتقل لله عز وجل، والقاضي والسلطان والإمام يتولى النظر في مثل هذه الأمور، فيكون منزَّلاً منزلة من يملكه حتى يصح البيع ويكون بيعاً شرعياً؛ لأن البيع لا بد فيه من وجود بائع ومشتر، والبائع لابد أن يكون مالكاً، أو له ولاية.

    فالقاضي إذا تولى المسجد وباعه، فإنه يكون من باب الولاية لا من باب الملك، وهذه الولاية سببها أن الملك قد زال عن الأرض بإيقافها، سواءً كانت مسجداً، أو كانت مقبرة أو غير ذلك مما سُـبِّل في وجوه الخير.

    قال: [أو مقبرة وأذن في الدفن فيها]

    المقبرة: واحدة المقابر، والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، وجعل الله عز وجل من رحمته لبني آدم، وإكرامه لهم سبحانه أن الميت منهم لا يُترك على وجه الأرض؛ لأنه إذا ترك على وجه الأرض أكلته السباع، وانتهشته الجوارح، وأنتن وآذى الناس وأضر.

    فمن حكمته سبحانه وتعالى أن علّم وألهم بني آدم أن يقبر بعضهم بعضاً، فالمقبرة يُحتاج إليها لدفن الموتى، فإذا كان الإنسان يملك أرضاً وأراد أن يجعلها لآخرته، وأن يكسب البر والثواب بإيقافها فأوقفها مقبرة، فإنه بفعله لتسويرها، وفتح بابها، وإِذنه للناس إذناً ضمنياً أو إذناً صريحاً أن يُدخلوا موتاهم، وأن يقبروهم في ذلك الموضع؛ فإنه يكون هذا الفعل منه دالاً على الوقفية، فتكون الأرض وقفاً، إن كانت عامة فعامة، وإن كانت خاصة فخاصة، كأن تكون مقابر مخصوصة لآل بيت، كقرابته، فيقول: هذا الحوش أريده مقابر لي ولآل بيتي أو قرابتي، فيكون قد أوقفه على نفسه، وعلى أهل بيته.

    فكل من كان تنطبق عليه هذه الصفة، يجوز أن يُقبر ويدفن فيها، لكنها تكون صدقة، ويكون وقفاً، ويكون فعله دالاً على الوقفية كقوله.

    1.   

    الأسئلة

    حكم صرف الوقف غير المحدد على الأصناف الثمانية من أهل الصدقات

    السؤال: إذا أوصى الواقف أن يُتصدق بمزرعته ولم يذكر أي جهة، فهل تصرف للأصناف الثمانية من أهل الصدقات؟

    الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

    اختار طائفة من العلماء أنه إذا قال: تصدقت بهذه الأرض أو سبّلت هذه الأرض فقال: هذه صدقة، فإنها تكون عامة.

    إذا قال للفقراء اختصّت بالفقراء من بين الأصناف الثمانية، لكن إذا قال: صدقة، فمذهب طائفة من العلماء كما اختاره الإمام النووي والإمام ابن قدامة وغيرهم رحمة الله عليهم أنها تصرف في الأصناف الثمانية؛ لأنه مصطلح شرعي يكون مستحَقاً لجهته.

    ومن أهل العلم من قال: تُصرف وتكون في عموم وجوه الخير والبر، وفائدة الخلاف أنه إذا كان منها سيولة أو نقد، فإذا قلنا: إنها خاصة بالأصناف الثمانية؛ صرفت لأهل الزكاة، وإذا قلنا: إنها لا تختص بالأصناف الثمانية جاز أن يؤخذ من سيولتها لطبع الكتب، ونشر العلم، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وإصلاح الطرقات وغير ذلك من وجوه الخير العامة؛ لأنه لم يخصص، وهذه كلها صدقات، فتكون صدقات عامة لعموم المسلمين، وتكون صدقات خاصة، وأياً ما كان فكلا القولين له وجه، لكن القول بأنها تكون لأهل الزكاة فيه احتياط، إلا أنه من جهة اللفظ والدلالة إذا قال: صدقة، أن هذا عام لا يختص بصنف، أو يشمل الأصناف الثمانية وغيرهم، ويكون في أوجه البر العامة؛ لأنه يشملها قوله: صدقة.

    فمثلاً: لو قال: أريد أن أُحبِّس هذه العمارة على أن تقسم غلتها أثلاثاً: ثلث منها لإصلاح العمارة إذا تعطل شيء من منافعها، وثلث منها لورثتي، وثلث صدقة، إذا قال: الثلث صدقة، وجئنا وأخذنا هذا الثلث، وبنينا به مسجداً، فإن المسجد يوصف بكونه صدقة وطاعة؛ لأن الصدقة سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها، فكل ما كان من أعمال الخير والبر دالاً على صدق إيمان صاحبه بالله عز وجل، وتصديقه بموعود الله عز وجل؛ فإنه يدخل في هذا المعنى العام.

    إذ لو كان مراده أهل الزكاة لقال: صدقة على أهل الزكاة، ولما قال: صدقة؛ فإن هذا اللفظ عام، لكن لو أنها اختَصَّت بالضعفاء والفقراء الذين هم من أهل الزكاة واحتيط فيها فهذا أفضل، لأنه يُخرج من الخلاف، ويوجب أكثر الأجر؛ لأنهم أحوج من يكون إلى هذه الصدقة والبر.

    حكم الأخذ من ماء المسجد

    السؤال: إذا احتجت إلى الماء، فهل لي أن آخذ من ماء المسجد؟

    الجواب: إذا كان الماء مخصوصاً بالمسجد فلا يجوز إخراجه عن المسجد، مثلاً: الماء الذي في دورات المياه، فإنه لا يشك أحد أن صاحب المسجد قصد منه الوضوء، وقصد منه الطهارة، وقصد منه الإعانة على الصلاة، فكل ما كان داخلاً في هذا الشيء الذي يدل عليه الحال، فإنه يجوز للإنسان أن يرتفق به.

    أما لو أخرجه عن هذا الحد كأن يملأ الماء ويذهب به إلى بيته من أجل الشرب أو غير ذلك، فإن هذا يضر بمصلحة المصلين، ويضر بمصلحة من في المسجد، والأشد من ذلك والأدهى أخذ المياه من دورات المياه لغسل السيارات، أو نحو ذلك من المصالح الخاصة، فهذا الأمر فيه أشد؛ لأن الماء موقوف، ودلالة الحال تدل على أنه مخصوص بهذا الموضع.

    فالماء الموجود في المسجد مخصوص بالمسجد؛ لأنه لو يريده خارج المسجد لأخرجه عن المسجد، ولذلك ينبغي أن يُقيد به، ومن هنا قال أهل العلم: إذا وضع القرآن أو المصحف في المسجد لم يجز إخراجه، وإذا وُضِعت كتب العلم في مكتبة وخُصّت بها لم يجز إخراجها إلا إذا كانت -مثلاً- المدرسة نفسها تابعة للمكتبة أو نحو ذلك مما هو في حكم التبعية لهذا الموضع الذي خُصت به.

    فلا بد من التقيد في الأوقاف بأحوالها وصفاتها، ونحن قلنا: إن دلالة الأفعال كدلالة الأقوال، فصاحب المسجد إذا وضع خزاناً على دورات المياه فلا يشك أحد أنه وضعه من أجل دورة المياه، فإذا أخرج للناس ماءً من أجل أن يشربوا فهذا للسابل والطريق، لكن إذا أدخله إلى المسجد فما الذي دعاه أن يتكلّف مئونة وعبء إدخاله إلى المسجد، إلا قصد أن يكون صدقة على من في المسجد.

    ويتفرع على هذا أنه لو وضع ثلاجة ماء من أجل أن يشرب منها الناس، فلا يجوز لأحد أن يتوضأ أو يغتسل منها؛ لأن هذا الماء مجعول من أجل الشرب، وليس بمجعول من أجل الوضوء أو الغسل، ولذلك إذا اغتسل أو توضأ منها الناس أضروا بمصلحة المبرد للماء -الثلاجة- ولربما تضررت، وإذا وضعت من أجل السقي جاءها المحتاج للسقي، لكن يجدها فارغة؛ كلما بردت فُرِّغت من أجل الوضوء أو الاغتسال، أو قد يقل تبريدها وتقل مصلحتها، ويقل أجرها في نفع من يحتاج إلى الشرب الذي أُوقفت عليه.

    فلابد من العناية بهذا، فما جُعل وقفاً على جهة أو على وجه فإنه يتقيد به، وهذا إن شاء الله سنبينه أكثر عند بياننا لشرط الواقف ولزوم التقيد به.

    حكم إمضاء الوقف المضر بالورثة

    السؤال: إذا أضر الوقف بالورثة، كمن أوقف داره الوحيدة واحتاجها أولاده للسكنى، فهل يمضي الوقف أم يرد؟

    الجواب: هذا فيه حديث متكلم في سنده، أما إذا أوقف فإن وقفه ينفذ، ويخرج عن ملكيته، وليس للورثة سلطان على ما أوقفه مورثهم خارجاً عنهم؛ لأنه زالت ملكيته عنه في حياته، كما لو باع ووهب في حياته، وبناءً على ذلك لا سلطان للورثة على ما أوقفه مورثهم إلا في الحدود الشرعية.

    مثلاً: إذا رأى الورثة أن بستان مورثهم الذي تصدق به على الفقراء قد ضيعه ناظر الوقف، وكان ناظر الوقف أجنبياً عنهم، فمن حقهم أن يشتكوه؛ لأن هذا من بر والدهم وقريبهم أن يبقى الوقف على أحسن الأحوال، فإذا وجدوا الناظر قد أخل به فهم أحق من يشتكيه، وأحق من يحرص على حصول الأجر لمورِّثهم.

    فمن البر الحرص على إبقاء أوقاف الموتى، فمن بر الوالدين، ومن بر الجد، ومن بر قرابة الوالدين من الموتى الحرص على بقاء أوقافهم التي ينتفعون بها بعد موتهم لحصول الأجر والثواب لهم، والله تعالى أعلم.

    حكم الجهر بالقراءة في الصلاة

    السؤال: هل الجهر بالقراءة في الصلاة ركن من أركانها أم من المسنونات؟

    سؤال: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، منهم من يوجب، ومنهم من لم يوجب ذلك، وهم كلهم متفقون على أنه ليس بركن، ولكنه يكون إما واجباً أو سنة، فمن أهل العلم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه سنة، فالذين قالوا بوجوبه قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر فيما جهر فيه، وأسر فيما أسر، وقد أعلمنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (فما جهر فيه جهرنا، وما أسر فيه أسررنا) فوجب التقيد بما ورد من سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وقد قال : (صلوا كما رأيتموني أصلي).

    ومن أهل العلم من قال: الجهر سنة، وهذا هو الصحيح؛ أن الجهر سنة والإسرار سنة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، ولو كان الإسرار في السرية لازماً، والجهر في الجهرية لازماً لما جهر في السرية صلوات الله وسلامه عليه، كما في الحديث الصحيح في صلاة الظهر أنه كان يسمع الصحابة الآية والآيتين؛ لأنه لو كان الإسرار لازماً، والجهر لازماً، لا يغير ولا يبدل؛ لما خالف الصفة، فلما رفع صوته عليه الصلاة والسلام وجهر في السرية؛ نبه بالمثل على مثله وبالنظير على نظيره، فدل على أن الإسرار ليس بواجب، ولو كان واجباً لما خالفه.

    وفائدة الخلاف أنك لو نسيت في صلاة الصبح فصليت ركعتين ولم تجهر فيهما، فإذا قلنا: إن الجهر واجب لزمك سجود السهو القَبلي، وإذا قلنا: إن الجهر سنة لا يلزم سجود السهو القَبلي إلا على مذهب من يرى سجود السهو في المسنونات؛ لأن السهو عندهم من جهة دخول السهو بغض النظر عن كونه في واجبٍ أو غير واجب، كما يختاره بعض المالكية وأهل الظاهر رحمة الله على الجميع.

    وأياً ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خير في مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فالعلماء مع أنهم اختلفوا في الجهر والإسرار، لكن الأولى ألا تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان من جهر تجهر وما كان من إسرار تسر.

    ولذلك يشرع إذا صلى الإنسان الفجر، حتى ولو لم يدرك مع الإمام إلا لتشهد فله أن يجهر بالقراءة، لا كما نجده من كثير من الناس إذا لم يدرك إلا التشهد الأخير فلا تسمع له صوتاً، ولا تسمعه ينبس بكلمة، ولذلك ينبغي تنبيه هؤلاء على السنة، فيقال لهم: هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن علامات القبول وأماراته أن الإنسان يوفق لاتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في العبادة، بالتزام السنة والحرص عليها وتطبيقها كما وردت، مما يجعله الله عز وجل سبباً لقبول عبادة الإنسان، وعِظَم أجره فيها، والله تعالى أعلم.

    حكم الجمع بين صلاتين متماً للأولى وقاصراً للثانية

    السؤال: هل يجوز أن يجمع بين صلاتين متماً للأولى قاصراً الأخرى، وذلك أن الأولى دخل وقتها، وهو مقيم ثم سافر؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    قد سبق وأن ذكرنا مسألة الأصل وما يستثنى من الأصل، والجمع مستثنى من الأصل، والأصل أن تصلي كل صلاة في وقتها؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فلما ألزمنا الله عز وجل بكل صلاة في وقتها، وحدد للصلوات الإتمام والكمال في الرباعية، التزم العلماء هذا الأصل، وما ورد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم استثناءً خصوه بالوارد، وهذا هو الفقه، أي: أن تعرف الأصل فتستمسك به، وما وردت السنة به استثناءً تقصر فيه على صفة السنة.

    من هنا شدد جمهور العلماء في مسألة الجمع وجعلوا له شروطاً وضوابط؛ لأنه مخالف للأصل، ومرادنا بمخالف للأصل ليس المراد به مخالفة السنة، بل المخالف للأصل عندهم أن الأصل في الصلوات أنها مؤقتة، وهذا الأصل يدل عليه أكثر من دليل في الكتاب والسنة، والإجماع منعقد عليه.

    فخالف الأصل بمعنى أنه استثني من الأصل وجاء على خلافه، هذا معنى مخالفة الأصل، وخالف الأصل لأنك تجعل الأولى في وقت الثانية في جمع التأخير، كما في الظهر إذا صليتها مع العصر، والمغرب إذا صليتها مع العشاء، وتجعل الثانية في وقت الأولى كما في جمع التقديم؛ لأن الأصل أن تجعل الثانية المؤخرة في وقتها والأولى في وقتها، فإذاً لا يُشك أنها مخالفة لصورة الأصل الوارد، وهذه المخالفة مخالفة شرعية، وليس المراد به المخالفة المنكرة.

    فإذا قلت: إنه مخالفة للأصل، قال بعض العلماء: لا يقع جمع إلا إذا كان بين صلاتين مقصورتين إلا ما استثناه الشّرع من صلاة المغرب مع العشاء، قالوا: الأصل أن الصلاة تقصر، فلما كان المغرب من جنس ما لا يُقصر فإنه لا يقع الجمع في صلاة تقصر إذا كانت تامة؛ كأن يسافر في أول وقت الظهر ويجمعها إلى صلاة العصر، فحينئذ قالوا: إنه يصلي الظهر في وقتها، ويصلي العصر في وقتها، ولا يترخص بالجمع، بناءً على هذا المذهب؛ لأن الأولى لم تقع مقصورة، والجمع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر، فلم يجمع بين صلاتين إحداهما تامة والأخرى مقصورة.

    قال بعض العلماء: إنه يمكن أن يجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر بناءً على أن العبرة عندهم بآخر الوقت، فيجوز له أن يقدِّم العصر ويصليها مع الظهر، ولكن هذا الذي قال بالجواز يشترط أن يكون جمعك بعد خروجك، لا أن تجمع قبل الخروج؛ لأنك قبل الخروج مقيم، فإذا أردت أن تجمع والأولى تامة لا بد أن يقع خروجك للسفر قبل خروج وقت الأولى.

    مثال ذلك لو أَذّن الظهر وأنت بمكة لا تستطيع أن تجمع بين الظهر والعصر وأنت على نية السفر إلا إذا خرجت من حدود مكة قبل خروج وقت الظهر، فإذا خرجت قبل خروج وقت الظهر فالعلماء الذين يجيزون يقولون: يصلي الظهر أربعاً ثم يضيف لها العصر، فصلَّى الظهر أربعاً؛ لأنه خوطب بها أربعاً بدخول الوقت، فلا يصح له أن يقصر، وجاز له أن يجمع العصر إليها؛ لأن موجب الرخصة بالجمع هو السفر، وهو مسافر، فقد جمع وحالته حالة سفر، هذا وجه من يجيز ويرخص، وله وجهه.

    ويقوي هذا بأن المغرب تضاف إلى العشاء والمغرب لا قصر لها؛ لكن يُنقض هذا القياس؛ لأن المغرب ليست من جنس ما يقصر حتى يصح القياس، ومن هنا.. لو احتاط الإنسان فهذا أفضل وأكمل، ولكن لو وقع منه هذا الجمع ففيه وجه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة لمن ابتلي بالوسوسة

    السؤال: الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، فمن كان يقرأها ثم تأتيه الظنون والوساوس بأنه لم يقرأها فأعادها أكثر من مرة في الركعة الواحدة، فما الحكم في ذلك، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟

    الجواب: من ابتلي بالوسوسة فليشتكِ إلى الله عز وجل، وليكثر من سؤال الله سبحانه وتعالى أن يعافيه أو يربط على قلبه في هذا البلاء حتى يسلم من شره، ولا يكون للشيطان عليه سبيل.

    إذا ابتلي الإنسان ببلية يسأل الله رفع هذا البلاء، وإلا إذا لم يرفعه سبحانه وكتب أنه سيبقى مع هذا البلاء يسأله أن يُفرغ عليه من اليقين والصبر والإحسان -مرتبة الإحسان التي هي صدق اللجوء إليه سبحانه- ما يخفف به عنه هذا البلاء ويجعله خيراً له في دينه ودنياه وآخرته.

    فالوسوسة أمرها عظيم، قد جعل الله عز وجل آياته حجاباً وحرزاً وحفظاً لعباده من الوسوسة، وأمرهم أن يستعينوا به سبحانه وهو رب الجِنّة والناس، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4-6].

    فأمر نبيه وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم، والأمر لأمته من بعده، أن يستعيذوا به من الوسوسة، وهذا يدل على عظيم خطرها وبلائها، والوسوسة قد تنزل على الإنسان بلاءً من الله لكي يرفع درجته ويُعظم أجره، وهذا في حال؛ كأن يبتلى بالوسوسة مثلاً في طهارته فيُسبغ ولا يغلو، فإذا توضأ مرتين، وتبين له أنه أخطأ في وسوسته كتب له أجر الوضوء مرتين، ولو صلى مرتين، وسوس في الأولى ثم صلى ثم تبين له بعد الانتهاء من الثانية أنه صلى مرتين أو ثلاثاً كتب الله له أجر الفريضة ثلاثاً.

    لو فعلها غيره كان مبتدعاً، فهو الوحيد الذي ينال أجر الفضيلة مرتين؛ لأنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فهو مثاب فعلى ما ظنه واعتقده، وأُمر بالبناء على غالب ظنه، فإذا وسوس وغلب على ظنه أنه لم يفعل ثم فعل كتب الله له الأجر مرتين.

    لكن لو فعلها وهو عاقل عالم وكرر مرتين؛ فإنه في المرة الثانية مبتدع، ولا أجر له ولا ثواب، ففي الحديث الصحيح (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى الصلاة مرتين) أي يعتقد كلاًّ منهما فريضة، هذا من البدعة والحدث، لأن الله أوجب عليه صلاة واحدة وهو يصلي صلاتين والله يقول: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] فقد غلا في دنيه، وزاد ما لم يأمره الله عز وجل بزيادته.

    المقصود أن الوسوسة تكون ابتلاءً لرفع الدرجة للعبد من هذا الوجه، وتكون أيضاً بسبب ذنب وخطيئة سلط الله عز وجل بها الشيطان على الإنسان، ومن أعظم ما يسلط به: عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأذية الصالحين والعلماء وغيبتهم وسبهم وشتمهم والاستهزاء بهم.

    وهذا سبب فتنة فاعل ذلك في دينه؛ لأن هذا الأمر -أذية المسلمين، وأذية القرابة كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم- مظنة الحرمان من الخير فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

    فيصاب الإنسان بالبلاء بسبب الذنوب، ولذلك أخبر سبحانه وتعالى أن من يعش عن ذكره يقيض له شيطاناً فهو له قرين، فالوسوسة من الشيطان، وقد يكون سببها الغفلة عن ذكر الله عز وجل، كأن يكون حافظاً للقرآن فيترك مراجعة القرآن، ويترك مذاكرته، ويعرض عن القرآن حتى يهجره -نسأل الله السلامة والعافية- فيسلط الله عليه الوسوسة في وضوئه أو طهارته واستنجائه.

    أو يكون بسبب ذنب كالسخرية ممن ابتلي بذلك، كأن يأتي موسوس فيهزأ به أو يستخف به فيعافيه الله ويبتليه، أو يهزأ من شخص ذو عاهة، فيبتليه الله بعاهة وفتنة في دينه كالوسوسة، ومنها الوسوسة في الناس، والوسوسة في عقائدهم، والوسوسة في أفكارهم، والوسوسة في مناهجهم، والوسوسة في صلاحهم، وفي تقواهم، فيبتلى بالوسوسة؛ فيأتي إلى عبد صالح فيتشكك فيه ويُدخل في قلبه شيئاً من ذلك فيتسلط الشيطان عليه، لأن كل شيء فيه أذية للمسلمين دخل بدون حق إلى قلب المؤمن؛ فمعناه أن الشيطان قد تمكن من شعبة من شعب القلب؛ فإن كان الذي قد وسوس فيه الإنسان عبداً صالحاً تقياً يحبه الله؛ فإن الله يجعل بلاء من يشك في أمثال هؤلاء أعظم، وبلاء من يؤذيهم أجل، كالوالدين مثلاً فإن حقهم عظيم، فإذا أساء الإنسان الظن بهم ربما ابتلاه الله بالوسوسة في أهله وولده كما عق والديه، وهكذا بالنسبة للمظان الأخر، والذي يريد العافية من الوساوس والخطرات وتسلط الشيطان، فليستعصم بعصمة الله بالبعد عن الذنوب وكثرة الاستغفار.

    ولذلك كان بعض العلماء يوصي من ابتلي بالوسوسة يقول له: أكثر من استغفار الله، وقل: اللهم إني أستغفرك من ذنب سلط عليَّ هذا البلاء، فإن الله يقول: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، وأي بلاء يبتلى به الإنسان، سواءً كان في الشهوات أو الشبهات أو الشكوك، يسأل الله أن يغفر له ذنباً سلط عليه هذا البلاء.

    ولذلك أُثر عن محمد بن سيرين أنه ابتلاه الله بالدَّين في آخر عمره، حتى أنه سُجن فيه رحمه الله برحمته الواسعة، ولما توفي أنس رضي الله عنه كان قد أوصى أن محمداً يغسِّله، فما استطاعوا أن يغسلوه حتى أخرجوه رحمه الله برحمته الواسعة.

    ولما كان يوماً من الأيام مع أصحابه قال: أعرف الذنب الذي من أجله ابتليت بالدين، قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس. فابتلاه الله عز وجل بالدَّين في آخر عمره، فلا يهزأ الإنسان من الناس، وإذا رأى موسوساً في وضوئه فلا يضحك منه ولا يستخف به، وإذا رأى ذا عاهة فليحمد الله سبحانه وتعالى.

    الله سبحانه وتعالى يقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25]، الكلمة الطيبة إن رأيت مبتلى، فتقول له: اصبر واحتسب، فتصبح كلمة طيبة تؤتي أكلها كل حين؛ فكلما جاءه البلاء تذكر تصويرك له، وكلمتك له، ولربما بقيت معه إلى عمره، كلما تذكرها صبَّت في ميزان حسناتك حسنات وأجور ترفع بها درجات.

    فالإنسان يحرص دائماً على البعد عن المظالم وأذية الناس، فلن يوفق إنسان في دينه إلا إذا استعصم بعصمة الله عز وجل، وابتعد عن الذنوب.

    والحل في هذا أن الفاتحة إذا قرأها الإنسان وشك هل قرأها أم لم يقرأها؛ فإن كان الشك بعد مُضي وقت يغلب على الظن أنه قرأ فيه فحينئذٍ لا يلتفت إلى الوسوسة، بل يستصحب ويقوي نفسه بالدلائل، وقالوا: إنه إذا حصلت الوسوسة في الوضوء أو حصلت في القراءة، أن الأفضل والأكمل أن يكون معه إنسان، كالمرأة في بيتها تكون معها بنتها أو ابنها فتقرأ، حتى رخص بعض العلماء في مسألة الجهرية والسرية في الموسوسة أنها تقرأ وتنبس حتى تسمع نفسها وتستعين بالغير لإثبات ذلك قطعاً للوسوسة عنها.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم العفو والعافية، ودوام العافية والمعافاة التامة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755966702