إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الطلاق [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله سبحانه وتعالى الطلاق وجعل فيه حكماً عظيمة، وجعله وسيلة لدفع الضرر اللاحق بالزوج أو الزوجة أو عليهما معاً، ومشروعيته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. والتلفظ به هزلاً أو مزاحاً موجب لوقوعه، ولقد اعتنى أهل العلم بكتاب الطلاق لعموم البلوى به، فحرروا مسائله وأحكامه، وأنزلوا فيه الأحكام التكليفية الخمسة، وبينوا الأحكام المتعلقة بمن يصدر منهم لفظ الطلاق، فإنه قد يصدر من الصبي والمجنون والسكران والمكره.

    1.   

    تعريف الطلاق والأدلة على مشروعيته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الطلاق]

    كتاب الطلاق من الكتب المهمة في الفقه، وهو مما تعم به البلوى، وقد جعل الله الطلاق مُوجباً لحل قيد النكاح ورفع عِصمته، وبَيَّن أحكام الطلاق في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل من حِكمته وكمال عِلمه سبحانه وتعالى، جَعَل الطلاق حلاً للمشاكل، وقطعاً للنزاعات ودفعاً لمفاسد الخصومات.

    وفي هذا الطلاق مصالح عظيمة مع كونه يَشتمل على الضرر والفُرقة بين الزوجين؛ لكنه يشتمل على مصالح إذا وقع في موقعه، وراعى فيه الزوج ما ينبغي عليه مراعاته في مثله من مثله.

    وكتاب الطلاق يجعله العلماء -رحمهم الله- بعد مسائل النكاح؛ لأن الطلاق يوجب رفع العصمة، والمناسبة بين كتاب الطلاق وباب الخلع الذي انتهى منه المصنف واضحةٌ ظاهرة، وقد سبق وأن ذكرنا أن الحنابلة رحمهم الله يُقدِّمون باب الخلع على باب الطلاق، وبعض العلماء يُؤَخِّر الخلع عن الطلاق ويجعل الخلع بعد الطلاق.

    وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) الطلاق: أصله التَّخْلِيَة، ومنه قولهم: طَلَقَت الناقة إذا خُلِّيَتْ وحُلَّ وِثَاقُها، فأصل الطلاق التّخْلِية والإرسال.

    وأما في الاصطلاح: فهو حل قيد النكاح بلفظٍ مخصوص، وقيل: رفع قيد النكاح بلفظٍ مخصوص، وهذا اللفظ المخصوص سيأتي أنه صريح لفظ الطلاق أو كنايته بالنية المعتبرة.

    وقد شرع الطلاق بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما دليل الكتاب: فآياتٌ منها قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، وقوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، إلى غير ذلك من الآيات التي دلَّت على مشروعية الطلاق.

    وكذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطلاق كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حينما طلَّق امرأته وهي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق).

    وكذلك أجمعت الأمة على مشروعية الطلاق، وأنه مباحٌ وجائز على تفصيلٍ بين العلماء رحمهم الله.

    1.   

    الحكم والمقاصد الشرعية في الطلاق

    قال أهل العلم: إن في الطلاق حِكَماً عظيمة، فالله سبحانه وتعالى شرع للزوج إذا وصَلَت الحياة الزوجية إلى مقام لا يُحتَمَل، وحصل الضرر على الزوج أو الزوجة أو عليهما معاً من البقاء في النكاح أن يُطَلِّق، وجعل هذا الطلاق ثلاثاً، فجاءت الشريعة بالوسطية، فكان أهل الجاهلية في القديم يتخذون من الطلاق وسيلة لأذية النساء، فكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى تُقَارِب الخروج من العدة فيراجعها، ثم يطلقها طلقة ثانية، ويتركُها حتى تكاد تخرج من عدَّتها فيراجعها ولا يقربها ولا يعاشرها، إنما يفعل بها ذلك إضراراً: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا [البقرة:231]، فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129]، فكانوا يجعلونها كالمعلقة، لا زوجةً ولا مطلقة، فكانوا يُضَارُّون بالطلاق، فجعله الله ثلاثاً.

    وانظر إلى حكمته سبحانه وتعالى وكمال علمه جل جلاله، حينما جعل الطلاق على هذا الوجه، قالوا: لأن الحياة الزوجية إذا وَصَلَت إلى ضرر يَوجِب الطلاق فإما أن يكون من الرجل أو المرأة، فالرجل يُقْدِم على الطلاق فيُطَلِّق الطلقة الأولى، ففي الطلقة الأولى إما أن يكون الخطأ من الرجل أو يكون من المرأة، أما إذا كان منهما فلا إشكال، وفي الحالة الثانية: فإن الغالب أن الرجل إذا طلق الطلقة الأولى أن يتعقَّل ويذوق مرارة الطلاق، ويعرف هذه المرارة فيحِن إلى زوجته إذا كان ظالماً ومسيئاً، فيشعُر بقيمة الزوجة عند الفراق لها، فيحِن لها فيراجعها، فأَعْطَاه الله الرَّجْعَة، فإن رجع إليها رجع لها بعقلٍ غير عقله الذي كان معه، ويرجع إليها ببصيرة أكمل من بصيرته في حالِه الأولى، فإذا رجعت إليه ربما أخطأت هي، فإذا أخطأت عليه في هذه الحالة فإنه سيطلقها الطلقة الثانية، فأُعْطُوا أيضاً مهلة ثالثة، فإذا زادت عن الثالثة فلا وجه، فتصبح الحياة فيها نوع من الإضرار، وربما استغل الرجال الطلاق للإضرار بالمرأة، لذلك حدده الله عز وجل بثلاث تطليقات.

    فالطلقة الأولى لأن الخطأ إما أن يكون منه أو منها؛ فإن تكرر الخطأ منه في الثانية والثالثة، فلن تعود إليه حتى تكون عند زوجٍ غيره، فإذا عاشَرَت زوجاً غيره وطلقها الطلقة الثالثة أدَّبَه الشرع بأن تكون فراشاً لغيره، فيكتوي بنار الغيرة ويتألَّم ويتأوَّه، فإن كانت هذه المرأة عاقلةً حكيمة ووجدت زوجاً أصلح من الزوج الأول وبقيت معه وحمدت الله على السلامة من الأول، فعندها يكتوي الأول وينال عاقبة ظلمه وإضراره.

    فإن تزوج امرأةً ثانية؛ فإنه يتأَدَّب ولا يُقدِم على الطلاق ولا يهجم عليه؛ لأنه يخاف أن يحصل له مثل ما حصل مع الأولى، وإن نكحت هذه الزوجة زوجاً أضر منه وطلقها ثلاثاً فتحل للأول؛ فإن عادت للأول عادت وهي تحمد ضرره وقالت: هذا أرحم من سابقه، فصبرَت عليه، ثم هو يعود لها بنفس غير النفس التي كان عليها.

    فإذاً: تقييد الطلاق بالثلاث فيه حكم عظيمة؛ ثم إن الله سبحانه وتعالى من حكمته أن جعل الطلاق مخرجاً من المشاكل، فإن الحياة الزوجية لا تخلو من وجود المشاكل، إما بسبب اختلاف طبائع الناس، طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، أو تكون باختلاف الطبائع ممن يحيط بالزوج والزوجة كأهله وقرابته وأهلها وقرابتها، وحينئذٍ تنشأ المشاكل بسبب هذا الاختلاف والتضاد، فيكون الطلاق حلاً لهذه المشاكل؛ لأن كلاً منهما يمضي لسبيله، ويلتَمِس عشيراً يُحسِن إليه ولا يسيء، ويكرمه ولا يهينه، ويكون منه ما يُقصد من النكاح.

    أما لو بقيت المرأة عند زوجها، ولم يكن للزوج مخرج بطلاقها فلا شك أنه أمرٌ عظيم، فلربما اطَّلع الرجل من امرأته -والعياذ بالله- على خيانة، أو على وقوعٍ في حرام، أو يكون يَطَّلع منها على أخلاق رديئة، تنتقل إلى أولاده وذرِّيته، فلو أن الشرع أَلزَمَه ببقائها، فإن هذا غاية الضرر على الرجال، ولتَرَك الكثير الزواج خوفاً من هذا؛ لأن المنهج التشريعي في شرع النكاح أن نقول: يبقى إلى الأبد، أو نقول: يبقى مؤقتاً، فأما بقاؤه مؤقتاً ففيه إضرار بالرجل والمرأة كما في نكاح المتعة، وقد ذكر العلماء الضرر فيه، وأما كونه يبقى إلى الأبد، فإنه في حال وجود المشاكل والأضرار يبقى النكاح مفسدةً بَدَلَ أنه مصلحة، فينقلب من المصالح إلى المفاسد والشرور.

    فالوسط أن يبقى النكاح إلى الأبد، ولكن يرتفع إذا وُجِد مُوجب ارتفاعه وذلك بالطلاق.

    ثم هذا اللفظ -لفظ الطلاق- عَظَّم الشرع أمره، وألزم المكلف أن يحذر منه، فحتى لو تلفظ به هازلاً أو مازحاً؛ فإنه يُؤاخَذ بهذا اللفظ، ويُعَاقب بمضي الطلاق عليه، فلو أن رجلاً قال لرجلٍ يمزح معه: امرأتي طالق، فإنها طالق ولو قصد الهَزَل، وكذلك لو جلس مع امرأته فأحب أن يمزح معها وقال هازلاً: أَنتِ طالق.. أو طلَّقتُكِ.. أو أنت مطلقةٌ فإنه يمضي عليه الطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق) ، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أربعٌ جائزاتٌ إذا تُكُلِّم بهن: النكاح والطلاق والعتاق والنذر)، فهذا يدل على عظم شأن الطلاق، ولذلك ينبغي للمسلم ألا يستعجل في الطلاق وأن يتريث فيه.

    وقد نص العلماء رحمهم الله على كراهية الطلاق إذا لم يكن من حاجة، وأنه كالمخرج عند إعياء الحِيل، وإذا تعب الزوج ولم يستطع علاج مشاكله، فإن الطلاق يكون مخرجاً من هذه المشاكل، وعلاجاً لهذه الأضرار، أما إذا كان من دون حاجة فقد نصوا على كراهيته وبُغضه في هذه الحالة.

    وقوله رحمه الله: (كتاب الطلاق) من عادة العلماء في كتاب الطلاق أن يبينوا أركانه، فيبينوا أولاً من الشخص الذي يملك الطلاق وله حق الطلاق؛ لأن الطلاق قد يصدُر من الأهل وقد يصدر من غير الأهل، كأن يصدر من صبي صغيرٍ، أو مجنون أو سكران أو مُكْرَه، فيبحثون مسائل الشخص الذي هو أهلٌ للطلاق.

    كذلك أيضاً يبحثون الركن الثاني، وهو لفظ الطلاق وصيغته، فيبينون ألفاظ الطلاق الصريحة، وألفاظ الطلاق الكناية، وألفاظ الطلاق التي تُعتَبَر من السنة، وألفاظه البدعية، ثم كذلك يبينون الألفاظ المعَلَّقة والمنجَّزَة إلى غير ذلك من مباحث الصيغ.

    وكذلك أيضاً يُبيِّن العلماء محَلَّ الطلاق وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق؛ فإن الطلاق قد تُواجَه به المرأة التي هي زوجة المطَلِّق، وقد تواجه به أجنبية كأن يقول: إن تَزوجْتُك فأنت طالق، وأيما امرأةٍ تزوجتها فهي طالق، وأيما امرأةٍ أَعقِد عليها فهي طالق، وقد يُعمِّم وقد يُخصِّص هذا المحل.

    وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان المَحَل الذي يرد عليه الطلاق ويُحْكَم بصحة الطلاق إن ورد عليه، كذلك أيضاً اعتنى العلماء رحمهم الله في باب الطلاق ببيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته من حيث السنة والبدعة، فيقولون: هذا طلاقٌ سُنِّي لما وافق السنة، كأن يطلق المرأة المدخول بها في طُهرٍ لم يمسّها فيه طلقة واحدة فإنه يكون طلاقاً سُنِّياً، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وأُثِر عن علي أيضاً: (لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم).

    فيبينون الطلاق المشروع الذي شرعه الله وبيَّنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي للمسلم أن يلتزمه، وكذلك يبينون الطلاق البدعي والآثار المترتبة عليه كطلاق المرأة الحائض حال حيضها، وطلاق الثلاث بلفظٍ واحد، وهل يقع أو لا يقع، كل هذا يعتني به العلماء رحمهم الله في كتاب الطلاق، وبعد أن يبينوا الطلاق يشرعون في بيان آثار الطلاق، وهو باب العِدَّة وباب الرجعة، فيعتنون ببيان مسائل العِدَدْ ومسائل الرَّجْعَة، وكل ذلك اعتنى به المصنف -رحمه الله برحمته الواسعة- وكذلك إخوانه من العلماء، رحمهم الله أجمعين.

    1.   

    ثبوت الأحكام التكليفية الخمسة في الطلاق

    قال رحمه الله: [يباح للحاجة ويكره لعدمها]

    في بداية الطلاق يرد السؤال: ما حكم الطلاق؟ إذ هو مشروع، لكن هل هو مباح أو مشروع مع الكراهة أو هو مستحب أو واجب؟ هذه المسألة فيها تفصيل.

    ولذلك قال بعض العلماء: الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون مباحاً لوجود الحاجة، كرجل لم يرتح لامرأته ونَفِر منها ومن أخلاقها وطباعها فاحتاج إلى الطلاق؛ فإنه يكون مباحاً له أن يُطَلِّق، وإن صبر وتحمل فهو أفضل: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وقد تكون المرأة بذيئة اللسان، أو عَصَبِيَّة المزاج، فيتضرر بهذه العصبية ويَحْدُث عنده نوعٌ من الضيق، ويكون محتاجاً للطلاق لكي يتخلَّص من هذا الضيق ومن هذا الضغط الذي يجده من عشرته لامرأته، فهو مُحتاج، فمثل هذا يباح له الطلاق، والمباح مستوي الطرفين، لا ثواب ولا عقاب، فلا أجر له إن طلق، ولا إثم عليه إن طلق.

    قوله: (ويُكره لعدمها) كأن تكون عنده امرأة مستقيمة وهو مرتاحٌ معها وأراد أن يطلق، فيقال له: الطلاق في حقك مكروه، وقال بعض العلماء: إنه يَحرُم إذا كان فيه ضررٌ على المرأة في هذه الحالة إذا لم يكن له حاجة، وكما أن المرأة لا يجوز لها أن تسأل الطلاق من زوجها من دون بأس؛ كذلك لا يجوز للرجل أن يطلق من دون بأس.

    وقد تكون الحاجة التي تبيح الطلاق ماسة، كأن يكون الرجل عنده أربع نسوة وهو شديد الشهوة، وأكثر نسائه كبيرات في السن، فأراد أن يُطَلِّق واحدةً لكي يتزوج فيحصِّن نفسه عن الحرام، فهذا مُحتاج وعنده حاجة فيُبَاح له، ونحو ذلك من المسائل.

    قال رحمه الله: [ويستحب للضرر]

    كالمرأة التي تُضِر بزوجها، فتؤذيه بلسانها وكلامها، فتضرَّر الرجل منها من ناحية أذيَّتها له، أو أذيتها لقرابته كأخواته أو بناته من المرأة السابقة أو نحو ذلك، فهذا كله مما يوجَد فيه الضرر عليه وتوجد بسببه الحاجة، فيُشْرع له أن يطلِّق، ويكون الطلاق مستحباً، أي: مندوباً إليه، والسبب في ذلك: أن الشّرع قَصَد رفع الضرر، فإذا كان بقاؤها فيه ضرر، وتطليقها يدفع هذا الضرر، فإن دفع الضرر مستحبٌ شرعاً، فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها.

    كذلك يكون الطلاق مستحباً ومندوباً إليه، وذلك فيما إذا كان الرجل ضعيفاً والمرأة شابة، ولم يعطها حقها الذي يحفظها به من العفة، ويشعر أنه مضيقٌ عليها ومقتِّرٌ لها، وأنها إذا عاشرت غيره فإن ذلك أرحم بها وأَرْفَق، فيكون مستحباً له أن يدفع الضرر عنها، وهكذا إذا كانت عندها بعض المعاصي التي لا توجب الحكم بوجوب طلاقها؛ فإنه يكون مستحباً؛ لأنه ربما نقلت هذه المعاصي إلى ذرِّيتها وولده.

    قال رحمه الله: [ويجب للإيلاء]

    ويجب الطلاق إذا كان طلاقاً مبنياً على الإيلاء، فالرجل الذي حلف أنه لا يطأ أهله أو لا يطأ زوجته ومضى على حلفه أربعة أشهر وهو لم يقربها، وحَلَفَ على أربعة أشهر فأكثر، فإنه يُوقِفه القاضي عند تمام المدة، ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين، إما أن تُكَفِّر عن يمينك وتطأ زوجتك؛ فحينئذٍ لا إشكال، وإما أن تطلق الزوجة، وتَبْقَى على يمينك من أنك لا تطؤها، أما أن تمتنع من فراشها أكثر من أربعة أشهر فلا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]. فيخيِّره بين الأمرين.

    فهذا النوع من الطلاق يسميه العلماء: طلاق الإيلاء، وسيأتينا في باب الإيلاء، والإيلاء من آلى الرجل إذا حلف، فهو طلاقٌ منبنٍ على حلفه اليمين أنه لا يطأ زوجته، فحينئذٍ يكون الطلاق واجباً.

    كذلك يكون الطلاق واجباً إذا كانت المرأة فيها سوء وضرر، أو فيها فساد، وأمره أبوه أو أمرته أمُّه بتطليقها فوجب عليه البر؛ لأنه ليس في المرأة مانعٌ يمنع من طلاقها وهناك أمرٌ من الوالد، والأصل بر الوالدين، خاصة إذا كانت المرأة سيئة أو تقع في الحرام وتؤذي الوالدين، وبقاؤها فيه أذيةٌ للوالدين، فقال الوالد: يا بني طَلِّق امرأتك؛ فإنه يجب عليه طلاقُها بِراً لوالده ولوالدته، كما أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه أن يُطَلِّق زوجته، وكما أمر إبراهيم عليه السلام إسماعيل أن يطلق زوجته، وكل ذلك ثابتٌ وصحيح.

    قال رحمه الله: [ويحرم للبدعة]

    يكون الطلاق حراماً إذا كان طلاقاً مخالفاً للشرع، كطلاق المرأة الحائض، فإن طلاق المرأة الحائض مُجمَعٌ على تحريمه، وأنه طلاق بدعة يأْثَم إن فعله، فلو قال رجلٌ لامرأته وهي حائض: أنت طالق؛ فقد ارتكب الحرام، وأثم لتلفظه بالطلاق في هذه الحال، فهو طلاقٌ مُحرَّم، أو كأن يُطلِّق في طُهْرٍ قد مَسَّ المرأة فيه، فإن طلق المرأة في طهرٍ جامعها ومسها فيه، فإنه يُعتبر طلاقاً للبدعة؛ لأن الله يقول: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ.. [الطلاق:1]، فقوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي: طلقوهن لقُبُل عِدَّتهن، وقُبُل العدة، أي: استقبال العِدَّة، وهذا إنما يكون في طهرٍ لم يجامعها فيه، فإن طلقها في طهرٍ جامعها فيه فإنه طلاقٌ محرَّم.

    1.   

    الأحكام المتعلقة بأنواع المطلقِين

    قال رحمه الله: [ويصح من زوجٍ]

    هنا مسألة:

    إذا كان الذي طلَّق قد عقد على المرأة فهي زوجته، ويتعلق بها الطلاق، ومفهوم ذلك أن غير الزوج لا يُطلِّق.

    أما كون الطلاق من الزوج؛ فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، فبينت هذه الآية أن الطلاق لمن نَكَح، فدل على أنه إذا كان زوجاً للمرأة فإنه يتعلق بها الطلاق، ويمضي عليها طلاقه.

    كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، والمراد بذلك لمن نكح، إذ من أخذ بساق المرأة فله حق جماعها والاستمتاع بها، فقالوا: إن هذا يدل على أن الزوج هو الذي يملك الطلاق.

    حكم طلاق الرجل للمرأة الأجنبية

    طلاق الأجنبية يأتي على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يطلق الأجنبية طلاقاً مُنَجَّزاً، كأن يقول لها: أنتِ طالق، أو كرجل أعزب يقول: زوجتي طالِق؛ فإنه لا ينفُذ طلاقه بإجماع العلماء.

    ولكن من خاطب امرأةً أجنبية وهو يعلم أنها أجنبية وليست بزوجةٍ له وقال لها: أنت طالق، واشتكت إلى القاضي فإن القاضي يُعزِّرُه ويؤدبه، ويعتبر هذا من أذية الناس والإضرار بهم، وتُعتَبر نوعاً من الإساءة، فيُعَزِّره بحسب حال المرأة التي خاطبها، وبحسبه هو.

    واختلف العلماء في صورةٍ يُلحقها بعض العلماء بهذه الصورة، وهي: أن يشير لامرأةٍ فيقول: هي طالق، ويُظنها زوجةً له، وتَبيَّن أنها ليست زوجته، أو خاطب أجنبيةً يظنها زوجته فقال: أنتِ طالق مني؛ فقال بعض العلماء: حُكْم هذا كحكم طلاق الأجنبية؛ وذلك لأنه علَّق الطلاق بالمعيَّن، وتبيَّن أن المعين خطأ ولا عبرة بالظن البيِّن خطؤه، وعلى هذا فلا يُعتد بهذا الطلاق؛ لأنه تعلق بأجنبية.

    الصورة الثانية: أن يُطلِّق طلاقاً معلَّقاً، ويُعلِّق الطلاق على نكاحه، فيقول: إن تزوجتُ فلانةً فهي طالق، فهي أثناء تَلَفُّظه بالطلاق أجنبية، وستصير زوجةً له، فعلَّق الطلاق بحالة إن صارت زوجةً له؛ فإن وقع معلقاً على مثل هذه الصورة وأشباهها، فلا يخلو تعليقه من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يُعَلِّق الطلاق على النكاح بالتعميم، فيقول: كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، وكل امرأةٍ أَعقد عليها فهي طالق، فالطلاق أثناء صدوره صدر من أجنبي، ولكنه معلقٌ على الزواج، فهل تطلق المرأة أو لا؟ سيأتي بيانه.

    الحالة الثانية: أن يَخُص، وإذا خصَّص فإما أن يَخُصَّ بالزمان أو بالمكان أو بالأشخاص أو بالأجناس.

    مثال التخصيص بالزمان: كل امرأةٍ أتزوجها هذه السنة، أو كل امرأةٍ أعقد عليها هذا الشهر أو هذا الأسبوع فهي طالق.

    مثال التخصيص بالمكان: كل امرأةٍ أعقد عليها في المدينة فهي طالق.

    مثال التخصيص بالأشخاص: كل امرأةٍ من فلانٍ إذا نكحتها فهي طالق، أو إذا تزوجتها فهي طالق.

    مثال التخصيص بالقبائل: أن يقول: إذا نكحت امرأة من قبيلة كذا فهي طالق؛ فإذاً إما أن يُعمم وإما أن يُخصِّص، وإما أن يُقيِّد وإما أن يُطلق، ففي جميع هذه الصور، اختلف علماء السلف رحمهم الله في هذه المسألة.

    فالقول الأول: أنّ من طلَّق الأجنبيةَ معلَّقاً لا يقع طلاقه ألبتة مطلقاً، سواءً كان طلاقاً معلقاً بزمان أو بمكان أو بأشخاص أو بقبائل، أو قُيِّدَ بهذا كله أو لم يُقَيَّد، وهذا القول احتج أصحابه بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، وإلى ذلك أشار الإمام البخاري في صحيحه أن الطلاق مرتَّبٌ على النكاح، فإن قال: كل امرأةٍ أتزوجها، فالعبرة به حال القول، فقد طلَّق وهو أجنبي فلا يقع طلاقه، كما لو قال لامرأةٍ أجنبية: أنتِ طالق، وكما قال الأعزب: امرأتي طالق، وزوجتي طالق.

    كذلك أيضاً استدلوا بالسنة من حديث عائشة رضي الله عنها: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وقد حسن هذا الحديث غير واحدٍ من الأئمة والحفاظ رحمةُ الله عليهم، وهو حديث ثابت ويُحتَج به: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، فإن أسلوب الحصر والقصر، يدل على أن الطلاق يملكه من نكح، ومفهومه أنه لا يملكه من لا ينكح ، ومفهوم الحصر مُعتبر، وكذلك أيضاً استدلوا بصريحٍ المنطوق في قوله عليه الصلاة والسلام -في الحديث الحسن في السنن- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن الطلاق لا يقع إذا كان المطلِّق طلَّق شيئاً لا يملكه وليس في عصمته.

    وعليه فإنه لا يقع طلاقه مطلقاً؛ ولأننا لو قلنا بوقوع طلاقه لحرَّمنا ما أحل الله، وتوضيح ذلك: أن الرجل إذا قال: أيما امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، فمعنى ذلك أنه سيبقى بدون امرأةٍ ويحرُم عليه الزواج، فما من امرأةٍ يعقد عليها إلا حَرُمت عليه بمجرد العقد، فلا يستطيع أن يتزوج أبداً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (..وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فهذا يؤدي إلى محظور ومخالفة الشرع.

    ولذلك لما استأذن الصحابة -رضوان الله عليهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبتل نهاهم عن ذلك، وهذا يفضي إلى التبتل، بل هو أسوأ من التبتُّل، وعلى هذا قالوا: إنه لا يقع النكاح على هذا.

    فلو قال قائل: لماذا تفسدون قوله لو قيّد النكاح؟ نقول: إذا صححت الصيغة لصحَّت مقيَّدةً ومطلقة، والكتاب والسنة صريحان بأن الطلاق لا يتبع ولا يقع إلا بامرأة، أما الذين قالوا بوقوعه فقد استدلوا بصيغة الشرط وأنه اشترط فيما بينه وبين الله، وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: (إن عمَّم فلا، وإن خصَّص فنعم) يعني: إذا عَمَّم في قوله: أيما امرأةٍ أنكحها وأتزوجها أو نحو ذلك؛ فلا يؤاخذ بذلك، وإن خصص فيقع ويؤاخذ بذلك احتجاجاً بالأثر، ولا قول لأحدٍ مع نص الكتاب والسنة.

    ولذلك الذي يترجح هو القول بعدم وقوع الطلاق على الأجنبية مُعلَّقاً أو منَجَّزاً، عمَّم أو خصَّص، فلا بد في الطلاق من وجود المحل المعتبر، وهي المرأة التي ثبت أنها في عِصمة المطلق.

    حكم طلاق الصبي والمجنون

    قال المصنف رحمه الله: [ويصح من زوج مكلفٍ، ومميز يعقله]

    قوله: (مكلف) يكون بالبلوغ والعقل، فالصبي غير مكلف، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: الصبي، والمجنون كذلك، فقد أجمع العلماء على أن المجنون لا يصح طلاقه إذا وقع طلاقه حال الجنون، يَستوي في ذلك أن يكون جنونه متقطعاً أو مستديماً؛ فإن كان جنونه مستديماً فلا إشكال، وإن كان متقطعاً، وثبت أنه طلق في حال وجود الجنون فالجماهير على عدم وقوعه، وخالف بعض أئمة الحنفية فقالوا: يقع لاشتباه أن يكون أفاق عند الطلاق، وقالوا: إنه إذا كان يجن تارة ويفيق تارة وخاطب المرأة، فإن معنى ذلك أنه عَقَل أنها امرأته وزوجته، قالوا: فينفُذُ الطلاق لهذا، والصحيح ما ذكرناه، والإجماع على أن الأصل في المجنون أنه لا ينفُذُ طلاقه.

    وأما بالنسبة للصبي، فالصبي ينقسم إلى قسمين: صبيٌ غير مميز وصبيٌ مميز، والصبي مأخوذٌ من الصِّبا، والصبا ضدّ البلوغ والحلم والرجولة، فكمال الرجولة بالحلم والبلوغ.

    والصبا له حالتان، الحالة الأولى: أن يكون مع التمييز، والحالة الثانية: يكون بدون تمييز، واختلف العلماء في ضابط المميِّز وغير المميِّز، فبعضهم يقول: الصبي المميِّز يُحَد بالسنوات، وحَدُّوه في مسألة الطلاق -كما هو قول عطاء ، وطائفة من السلف ورواية عن الإمام أحمد- بعشر سنين، وهناك أيضاً قولٌ لبعض السلف أنه اثنتا عشرة سنة، وقولٌ بتسع سنين، هذه ضوابط المميز في الطلاق، وهناك تمييز في الصلاة الذي هو سبع سنوات، وهذا له حكم خاص، وبناءً على ذلك يُنتبه إلى أن كلامهم في الذي لم يبلغ، يعني لم يحتلم ولم يُنزِل المني، أما لو بلغ وأنزل واحتلم فهو رجل، لا يُقال: صَبي.

    فإذا كان في طور الصبا قبل أن يحتلم ويُمني، وقبل أن يصير رجلاً مكتمل الرجولة؛ فإنه إن كان دون سن التمييز فبالإجماع أنه لا يقع طلاقه.

    صورة المسألة: رجلٌ عنده ولد عمره ست سنوات وآخر عنده بنت عمرها خمس سنوات، فقال: يا فلان! زوِّج بنتك لابني، فاتفقا على تزويج البنت من الابن وتم العقد، فهذا زوجٌ لهذه الزوجة، فقال هذا الصبي: زوجتي طالق.. فلانة طالق.. أغضَبَته فطلقها، فما الحكم؟ إذا أغضبته فطلقها، فطلاقه وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه دون سن التمييز، لكن إذا بلغ اثنتي عشرة سنة وميَّز الأمور؛ فللعلماء فيه وجهان:

    جمهور السلف والأئمة والعلماء على أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وقال بعض السلف كعطاء ، وأيضاً رواية عن أحمد رحمةُ الله عليه وقول بعض أصحاب الحديث أنه ينفُذ طلاقه، والصحيح أنه لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة)؛ فبيَّن أنه غير مُؤاخذ، وبناءً عليه فإن نقصان العقل فيه يجعله لا يدرك ما يقول؛ ولذلك قال الله في السكران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، والصبي لا يعلم عواقب الطلاق كما ينبغي، ولا يعلم عواقب الكلمة كما ينبغي، ولو كان مُمَيِّزاً فإنه ليس عنده عقل يحجُره ويمنعه عن قول ما فيه ضررٌ عليه، وإذا كان الصبي منعه الله من التصرُّف في ماله خشية الضرر؛ فإنه إذا طلَّق فوَّت مالَه وهو المهر، وهذا يُقَوِّي أنه لا ينفذ طلاقه.

    فقول الجماهير بأن طلاق الصبي لا ينفذ هو الأصح والأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى.

    إذاً: لا يصح الطلاق إلا من زوج، فلا يصح من أجنبي، فلو أنه -مثلاً- طلَّق المرأة وخرجت من عِدَّتها فطلقها، فإنها إذا خرجت من عِدَّتِها أجنبية ولا ينفذ طلاقه.

    ولا بد أن يكون هذا الزوج مكلفاً، وهو الشرط الثاني، والتكليف: البلوغ والعقل، فلو طلق الصبي لم ينفذ طلاقه، مميِّزاً كان أو غير مميز، ولو طلَّق المجنون لم ينفذ طلاقه، سواءً كان جنونه متقطعاً أو مُطبِقاً بشرط أن يكون الطلاق حال الجنون.

    حكم طلاق السكران

    قال المصنف رحمه الله: [ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه]

    قوله: (ومن زال عقله) هذا مُفَرَّع على قوله: (مكلَّف). فالتكليف يستلزم وصفين: البلوغ والعقل.

    فمفهوم الشرط في قوله: (مكلف)، أنه إذا كان غير مكلفٍ لا يقع كما ذكرنا، قلنا: يزول العقل بالجنون أو بالسكر، والمسْكِر والمخَدِّر حكمهما واحد من حيث تفصيل العلماء.

    أما إذا كان سكراناً زائل العقل فله صورتان:

    الصورة الأولى: أن يكون سُكْرُه وزوال عقله على وجهٍ مأذونٍ أو معذورٍ به شرعاً، مثل أن يشرب عصيراً فيَتبين أنه خمر، فمثل هذا يسمى بالسكران المعذور في سكره، فهذا يُعذر، ويُنَزَّل منزلة المجنون ولا يؤاخذ، وحُكِي الإجماع على هذا كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله على أن السكران المعذور تسقط عنه المؤاخذة في جملة المسائل.

    كذلك أيضاً في حكم المعذور ما يقع في التخدير، فلو أنه وُضِع المخدر في شرابٍ وهو لا يدري؛ فإنه إذا شربه وتكلم بالطلاق وتلفظ به لم ينفذ الطلاق.

    كذلك أيضاً المخدِّر الجراحي، مثل ما يقع في العمليات الجراحية، حيث يُوضع المخدِّر في العملية الجراحية فإذا جاء قبل الإفاقة يتكلم ويتلفظ فتلفظ بتطليق نسائه، أو بطلاق زوجته فإنه لا ينفُذ؛ لأن تخديره كان على وجهٍ معذورٍ فيه شرعاً. وهذا نص عليه جماهير العلماء، كالإمام ابن قدامة والإمام النووي وغيرهم رحمةُ الله عليهم: أن السكران زائل العقل إذا كان زوال عقله بسبب يُعذر فيه شرعاً أنه لا ينفذ طلاقه.

    الصورة الثانية: أن يكون سُكره وزوال عقله على وجهٍ لا يُعذر فيه شرعاً، وهذا مثل -والعياذ بالله- من يشرب الخمر عالماً بها معتدياً لحدود الله عز وجل.

    فللعلماء في السكران إذا طلق حال سكره قولان: القول الأول: لا ينفُذ طلاقه ولو كان متعمداً للسكر، وهو مذهب الظاهرية وطائفةٍ من أهل الحديث ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

    والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أن السكران المتعمِّد للسكر ينفذ عليه طلاقه.

    واحتج أصحاب القول الأول -أن السكران الذي لا يُعذَر في سُكره لا ينفذ طلاقه- بدليل الكتاب والسنة.

    أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أن السكران لا يعلم ما يقول، وإذا كان لا يعلم ما يقول كان كمن يهذي بما لا يعلم، فهو غير مطَلِّق حقيقة، وعليه قالوا: لا ينفُذ طلاقه.

    واستدلوا بالسنة: ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أسقط المؤاخذة في قول السكران، وذلك ما جاء في الصحيحين من حديث حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما كانت الخمر حلالاً شربها في أول مقدمهم إلى المدينة، وكان علي رضي الله عنه قد أعد مهر فاطمة لكي يدخل بها، وكان له بعير شارِف، فأناخه بباب حمزة رضي الله عنه ثم ذهب، فشرب حمزة فثمِلَ في شربه، فغنته الجارية، فانتشى رضي الله عنه، فجَبّ سنام البعير، فجاء علي رضي الله عنه ورأى ما هاله، فذهب يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف على عمّه حمزة فوبخه وقرعه، فرفع حمزة رأسه إليه وقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أنتم إلا عبيدٌ لآبائي ) ولما قال هذه الكلمة تنبه عليه الصلاة والسلام أنه سكران، ولم يكن يعلم أنه سكران، فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع عليه الصلاة والسلام القهقرى، ولم يؤاخذ حمزة بهذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة لو قالها رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لكفر؛ لأن المقصود بها السخرية والحط من القدر، فلما قالها وهو في حال سكره لم يؤاخذه النبي عليه الصلاة والسلام بها.

    ونص العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط المؤاخذة بالرِّدّة في حال السكر، والردة قول، ولم يؤاخذه مع أنه سكران، لكن ردوا على ذلك بأن حمزة كان معذوراً في سكره، حيث كان الخمر مُبَاحاً، ورُدّ على ذلك بأن المؤاخذة مرتبطة بالعقل والإدراك، وليست القضية قضية كونه مباحاً أو محرماً.

    كذلك قالوا: إن الأصل يقتضي أن التكاليف منوطة بالعقل، والتكاليف من حيث المؤاخذة وعدمها تكون مرتبطة بالعقل، والسكران لا عقل له.

    والظاهر أن السكران يمر في سكره بثلاث حالات، ينبغي فيها التفريق في الحكم على ما يبدر منه في كل حالة على حده، وهذه الحالات هي:

    الحالة الأولى: أن يكون في بداية الهزة والنشاط والنشوة.

    والحالة الثانية: أن يكون في غاية السكر، وهي التي يسقط فيها كالمجنون، لا يعرف السماء من الأرض، ولا يفرق الأشياء ولا يميزها تماماً كالمجنون.

    والحالة الثالثة: أن يكون بينَ بين، يصحو ويلغو، ويكون عنده تمييز وعنده تضييع.

    فأما الحالة الأولى: وهي بداية الهزة والنشاط، فمن شرب الخمر وكان في بداية الهزة والنشاط والفرح وطلَّق، فبالإجماع ينفُذ عليه الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة لا يزول عنه الشعور، بل يكون مالكاً لنفسه، وهذا الحكم سارٍ على جميع الأحكام القولية والفعلية، فلو قتل أو زنى أو فعل أي شيء وهو في بداية الهزة والنشاط مالكاً لنفسه؛ فإنه يُؤاخذ.

    الحالة الثانية: إن كان في غاية السكر وهي نهايته المطبقة التي يسقط كالمجنون، لا يفرق تماماً بين الأمور، ولا يعرف السماء من الأرض، فقالوا: إن هذا لا يؤاخذ، وجهاً واحداً عند العلماء، وعند أصحاب القولين أنه يكون كالمجنون.

    الحالة الثالثة: هي الحالة الوسط وهي ما إذا كان السكران أحياناً يقول شيئاً صحيحاً وأحياناً وشيئاً خاطئاً، ويكون عنده تمييز وتضييع.

    وفي هذه الحالة اختلف العلماء في وقوع الطلاق، فمنهم من يقول: يقع طلاقه؛ لأن الأصل فيه أنه مُفِيق؛ فإذا كان في حالة لم يصل فيها إلى الجنون يقولون: نستصحب حكم الأصل -أنه مفيق- فينفذ عليه الطلاق.

    وأما الذين قالوا: إنه لا ينفذ عليه الطلاق، قالوا: إنه بدخوله الحالة الوسط هذه دخل في حالة الخلط، واختلط علينا أمره ولم نميز حاله، ولما كانت حالة غياب العقل والتأثير فيه والشبهة قائمة وموجودة؛ فإننا نعمل الأصل أنها زوجته، ولا نطلِّقها إلا بيقين، وإذا شككنا في هذا الطلاق، هل هو صادر عن قصد أو غير صادر عن قصد، وهو إذا عَقَل ورجع إلى صوابه إن أراد أن يطلِّق طلَّق، قالوا: ففي هذه الحالة وهو مختلِط فالأصل أنها زوجته، ونَشُك في تأثير هذا الطلاق فنسقِط هذا التاثير ونبقى على الأصل، هذا وجه التردد في الحالتين.

    أما الذين قالوا: إنه ينفذ، فإنهم استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]، فاستدلوا بعموم الآيات في الطلاق، قالوا: إن الله عز وجل جعل الحكم مرتباً على وجود اللفظ، ولم يفرق بين من يعيه وهو الصاحي وبين من لا يعيه وهو السكران.

    الدليل الثاني: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق).

    فجعل الهازل الذي لم يقصد الطلاق مؤَاخذاً بقوله، فالسكران قَصَد أو لم يقصد نؤاخذه بقوله كالهازل.

    والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بعدم وقوع طلاق السكران؛ وذلك إذا كان سكره مغيِّباً لعقله، لصحة ما ذكروه من أدلة الكتاب والسنة، والأصل كونها زوجةً له، وفي عصمته، فلا تبين من عصمته إلا بدليلٍ قوي.

    ومن أقوى ما يرجح قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لا طلاق في إغلاق) وهو يشمل السكران والغضبان الذي أطبق عليه الغضب فاستغلقت عليه الأمور، والسكران تستغلق عليه الأمور؛ لأنه بوجود الخلط فيه لا شك أنه يتلفظ بما لا يحب أن يتلفظ به، وشُبهة السكر فيه قوية، وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة بقول السكران، ودلّ دليل الكتاب على أن السكران لا يعي ما يقول.

    وبناءً عليه، فإنه يقوى قول من قال: إن السكران لا ينفذ طلاقه.

    قوله: (من زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه)، مثل المخدر في العملية الجراحية، ومثل من وضع له مخدر وهو لا يعلم، مثل من سكر بشرابٍ يظنه عصيراً فبان خمراً فهذا معذور.

    قوله: (وعكسه الآثم) أي: أن من شرب الخمر آثماً متعمداً عالماً فإنه ينفذ طلاقه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755999966