إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الرجعة [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اهتم الإسلام بشأن المرأة فجعل لها قدرها عند زوجها، ورفع من شأنها كأم مربية للأجيال، ورد لها اعتبارها فيما إذا اختلفت مع زوجها أو حصل لها طلاق أو فراق، أو انتهت العدة ولم يشعر بذلك الزوج، فلها قولها ورأيها تتكلم وتتخاطب مع زوجها وفق معايير الشرع وآدابه وأخلاقه أمام القضاء العادل. وهنا أحكام تتعلق باختلاف الزوج مع زوجته في وقت الطلاق وانتهاء العدة، ففي أحوال يقبل قولها وفي أحوال يقبل قوله، وقد بين الشيخ هذا الاختلاف، مع بيان مأخذ كل قول للعلماء في ذلك

    1.   

    اختلاف الزوجين في انقضاء العدة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل الاختلاف في الرجعة، وهذه المسائل في الحقيقة ترجع إلى كتاب القضاء، يختصم فيها الزوج مع زوجته، هل وقعت الرجعة أو لم تقع الرجعة؟

    وكان ينبغي أن تُذكر هذه المسائل في كتاب القضاء؛ لأنها راجعة إلى المسألة المشهورة: من هو المدعي ومن هو المدعى عليه؟

    وقد ذكرنا غير مرة أن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يذكرون مسائل الاختلاف في كل باب من أبواب المعاملات بحسبه، فمسائل الاختلاف في البيع تُذكر في كتاب البيع، ومسائل الاختلاف في الإجارة تذكر في باب الإجارة، وهكذا بالنسبة لمسائل الاختلاف في باب الأنكحة، فذكر المصنف رحمه الله اختلاف الزوج مع زوجته وسيذكر جملة من الصور التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله.

    هل نصدق الزوجة ونحكم بكونها خرجت من العدة، أو يبقى الزوج على الأصل من أنها رجعية وأنها في عدتها، ويحكم بقوله قضاءً؟

    هذه المسألة فيها تفصيل:

    من حيث الأصل: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، وادعت المرأة أن العدة قد انتهت، فإنها إما أن تكون من ذوات الحيض، أو تكون من ذوات الحمل، أو من ذوات الأشهر.

    فالعدة إما أن تكون بالحيض (بالأقراء)، وإما أن تكون بالأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض، وإما أن تكون بوضع الحمل، فإن كانت المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من ذوات الأقراء، فإنه حينئذٍ ينظر في الشيء الذي تدعيه، إن كان الوقت الذي ادعت فيه أنها قد خرجت من عدتها يمكن في مثله أن تخرج، حُكِمَ بقولها إلا إذا دل الدليل على خلافه.

    فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكان قد طلقها قبل شهر نظرنا إلى أقل الحيض، يكون فقه المسألة أنها دعت أنها قد حاضت ثلاث حيضات، أو طهرت ثلاثة أطهار، على الخلاف هل العدة ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات؟

    إذا ادعت أنها خرجت من العدة وكان وقت الطلاق قد مضى عليه ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الغالب صدقها، وهذا لأن الأصل أنها في كل شهر تحيض حيضة.

    لكن الإشكال أن تدعيه في غير المعتاد، كأن يمضي شهر على الطلاق، أو يمضي شهر ونصف على الطلاق، فهل يمكن لمثلها أن تحيض ثلاث حيضات أو تطهر ثلاثة أطهار في هذه المدة؟

    الجواب: نرجع إلى المسألة التي تقدمت معنا في باب الحيض، فننظر إلى أقل الحيض وأقل الطهر، فنضيف أقل الحيض إلى أقل الطهر ونكرره ثلاث مرات في الأطهار، وثلاث مرات في الحيضات مع الطُهر.

    فإذا قلنا على قول الحنابلة والشافعية رحمهم الله: إن أقل الحيض يوم وليلة، وقالت: إنها حاضت الحيضة الأولى في اليوم الأول وطهرت مباشرة ثم قالت: إنها طهرت ننظر في الطهر، فإذا وافق أقل الطهر الذي هو ثلاثة عشر يوماً أضفناها لليوم الذي هو يوم الحيض.

    ففي يوم الرابع عشر تم طهرها الأول، وتدخل في الحيضة الثانية، فإذا قالت: رأيت الدم في اليوم الخامس عشر، واليوم الخامس عشر هو الحيضة الثانية، فإذا قالت: انقطع الدم بتمام مدته أضفنا ثلاثة عشر يوماً فصار الكل ثمانية وعشرين يوماً فتكون قد دخلت في الحيضة الثالثة في التاسع والعشرين؛ فإذا قلنا: إنها قد دخلت بدخول التاسع والعشرين فأضف يوماً واحداً لحيضتها الثالثة، فبتمام اليوم التاسع والعشرين تكون قد أتمت الحيض، ثم قالت: إنها طهرت. فبداية طهرها أن تضيف على اليـوم التاسع والعشرين لحظة لكي تدخل في الطهر الثـالث.

    فإذا دخلت في الطهر الثالث فقد حلت على القول بتمام الحيض.

    وكذلك بالنسبة للمذهب قلنا: إن هذا القول وهو أن أقل الحيض يوم وليلة وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً استند إلى قضية شريح رحمه الله مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

    فإن امرأة ادعت أنها قد خرجت من عدتها في شهر، فرفعت القضية إلى علي رضي الله عنه فقال: شريح لهذا، وقال: ( إن جاءت ببينة من أهلها يشهدون بصدقها حكمت) يعني: بخروجها من عدتها، فقال له علي رضي الله عنه: (قالون) أي: أحسنت، أو كلمة ثناء بالفارسية.

    فدل هذا على أنه إذا مضت تسعة وعشرون يوماً ولحظة أنه يمكن أن يحكم بخروج المرأة من عدتها.

    أما إذا قلنا: إن الحيض لا حد لأقله فالأمر أخف وأقل؛ لأنه يتحقق ولو بلحظة واحدة كما هو مذهب المالكية، وتضيف إليها ثلاثة عشر يوماً طهراً، ويكون حينئذٍ الشهر زمن الإمكان من حيث الأصل.

    على كل حال المصنف رحمه الله اختار أنه تسعة وعشرون يوماً ولحظة، فإذا ادعت المرأة وكانت من ذوات الأقراء أنها قد طهرت خلال شهر أو خلال هذه المدة فأكثر، حكم بتصديقها من حيث الأصل؛ لأنه زمن الإمكان.

    هكذا لو كان الزوج يقر أن زوجته عادتها مثلاً ستة أيام، وتطهر في العادة أربعة عشر يوماً، فحينئذٍ يحسب لها عشرون يوماً ثم عشرون يوماً ثم عشرون يوماً، فلو ادعت بعد شهرين حكم بخروجها من العدة.

    وتقاس على هذا المسائل الأخر؛ لأن هذه المسألة أصل من جهة أقل الحيض وأقل الطهر؛ وإلا إذا ادعت المرأة أنها خرجت من عدتها في زمن يمكن أن تخرج فيه من عدتها وكانت من ذوات الحيض حكمنا بصدق قولها ما لم يقم الدليل على خلافه، هذا بالنسبة لذوات الأقراء.

    وإذا كانت المرأة من ذوات الأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا يكون الاختلاف في نهاية العدة مشكلاً إذا كان هناك اتفاق على بداية الطلاق.

    فإذا اتفقا على اليوم الذي وقع فيه الطلاق لم يقع إشكال في خروجها؛ لأنها تضاف ثلاثة أشهر كاملة، ولو ادعت دون الثلاثة الأشهر لم يلتفت إلى قولها؛ لكن الإشكال في هذا النوع من النساء أنه يختلف الزوج مع زوجته في زمن وقوع الطلاق.

    فيقول مثلاً: إن الطلاق كان يوم الخميس، وتقول هي: كان الطلاق يوم الأربعاء، فالزوج يدعي الطلاق في الخميس، والزوجة تدعي الطلاق في الأربعاء.

    فالفرق بينهما يوم واحد فإذا كان قد راجعها في هذا اليوم، فهل تكون قد خرجت من عدتها أو لم تخرج؟ فحينئذٍ يحكم بالأصل.

    وسيأتي إن شاء الله بيان أن الأصل بقاء الزوجية إلى يوم الخميس؛ لأنها قالت: طلقت يوم الأربعاء، فأنا الآن حل للأزواج وقد خرجت من عدتي، فقال: بل طلقتك يوم الخميس ولا زلت في عصمتي، وقد راجعتك في هذا اليوم الأخير.

    فاليوم المختلف فيه الذي هو تمام الستين يوماً على قوله، وزيادة اليوم على قولها، ترجع إلى مسألة أخرى، وهي أن الزوج حينما قال: طلقتك يوم الخميس. وقالت هي: طلقتني يوم الأربعاء، فالأصل واليقين أن الزواج باق إلى الخميس؛ لأن الأصل أنها زوجته وهو الذي أوقع الطلاق.

    الأمر الثاني أنه من حيث الأصل: أننا يوم الأربعاء متفقون على أنها كانت زوجته من حيث الأصل حتى وقع طلاقها، فيقولون: نستصحب الأصل.

    ولذلك فطائفة من العلماء يفرعون هذه المسألة على مسألة (اليقين لا يزال بالشك)، وهي إحدى القواعد الخمس التي ذكرناها، والتي قام عليها الفقه الإسلامي، ومن فروعها: ( الأصل بقاء ما كان على ما كان ).

    فالأصل أنها زوجته إلى يوم الخميس حتى يدل الدليل على سبق الطلاق، فإذا جاءت بشهود أنه طلقها يوم الأربعاء خرجت من عدتها وأصبحت حلالاً للأزواج، ولا يملك ارتجاعها إلا بعقد جديد، فهما إذا اختلفا وقالت: طلقتني يوم الأربعاء وأنا الآن حل وليس لك عليّ سلطان؛ لأني قد خرجت من عدتي.

    وقال: بل طلقتك يوم الخميس. حكمنا بقوله، فإن شهد الشهود أنه وقع طلاقه لها يوم الأربعاء حكم بكونها أجنبية ولا تحل له إلا بعقد جديد على الأصل الذي ذكرناه في الرجعية إذا خرجت من عدتها.

    أما ذات الحمل إذا طلقها وكانت حاملاً فالعلماء اختلفوا فيها على وجهين:

    من أهل العلم من قال: لا يمكن أن يحكم بخروجها من عدتها إلا إذا وضعت جنينها، ويكون الوضع المعتبر، وحينئذٍ لابد من مضي ستة أشهر؛ لأن الستة الأشهر هي تمام الحمل.

    وتقدير الحمل بستة أشهر تتفرع عليه مسائل مهمة جداً منها:

    مسألة شق بطن المرأة إذا ماتت وفي بطنها جنين، فلا يجوز إلا إذا تمت له ستة أشهر، وحكم الأطباء بوجوده حياً، فحينئذٍ يشق بطنها ويستخرج، أما إذا كـان دون ستـة أشهر فلا يشـق.

    كذلك مسألة: إذا ادعت أنها وضعت حملها قبل ستة أشهر لا يحكم، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] فبيّن سبحانه أن حمل الجنين وفصاله عن الرضاع يتم في خلال ثلاثين شهراً.

    وقد بيّن نص القرآن أن الرضاع في الأصل يكون حولين كاملين، والحولان أربع وعشرون شهراً، فإذا كان الحمل مع الرضاعة التامة بنص القرآن يكون ثلاثين شهراً، فمعنى ذلك أن أربعة وعشرين شهراً منها للرضاعة، ويبقى ستة أشهر هي للحمل، وهذا يدل على أن أقل الحمل هو ستة أشهر.

    إذا ثبت هذا وادعت أنها وضعت حملها، فقد اختلف العلماء فبعض العلماء يقول: ينظر إلى تمام الحمل وذلك بستة أشهر ولا يلتفت إلى ما دونه، ومن أهل العلم من قال: السقط إذا كان بعد مدة التخلق وتصويره حكم بخروجها من العدة إذا ألقته ولو كان سقطاً.

    وفرعوا على ذلك مسائل منها: أنه يستتبع الدم ويحكم بكونه آخر حكم دم النفاس، كما اختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله عليهم.

    وبناءً على ذلك يقولون: إذا تمت ودخلت في الأربعين الثانية هي التي ينتقل فيها من النطفة إلى العلقة، ثم ألقته، حكم بخروجها من العدة، والصحيح ما ذكرناه أنه لابد من تمام مدة الحمل حتى يحكم بخروجها من العـدة، كما سيـأتي تفصيـله في بـاب العـدد.

    بالنسبة لقوله: [ إن أمكن ] أي: زمان الإمكان لا نقبل من كل امرأة أن تدعي خروجها من عدتها؛ لأن هذا يفوت على الزوج إرجاعها، فالأصل أنها إذا طلقت طلقة واحدة أو طلقتين وكانت مدخولاً بها، فإن زوجها أحق بارتجاعها.

    فإذا ادعت أنها خرجت من العدة فقد فوتت على زوجها حقه، وحينئذٍ يترتب عليه أنه ربما عقد عليها رجل آخر، فعقد على امرأة في عصمة غيره.

    فهذا يدعو العلماء رحمهم الله إلى بيان الحد المعتبر للحكم بخروج المرأة، والقول المعتبر من المرأة إذا ادعت تمام عدتها وخروجها من حكم الرجعية.

    1.   

    أحوال المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها من زوجها

    أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن ممكن انقضاؤها فيه

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه ].

    فقوله: (وإن ادعت انقضاء عدتها) أي: من طلاقها الرجعي (في زمن يمكن انقضاؤها فيه) بأن قالت ذات حمل: مضت ستة أشهر، وأيضاً إذا قالت أنها ألقت جنينها أو ولدت.

    وكذلك ادعت انقضاء عدتها في شهر على القول الذي ذكرناه في أقل الحيض، أو ادعت أنها خرجت من عدتها وكان الطلاق قد وقع قبل ثلاثة أشهر، إن كانت من ذوات الأشهر، فحينئذٍ يحكم بقولها.

    قوله: [ في زمن يمكن ] فلو انعكس الأمر وكان في زمن لا يمكن، فادعت ذات الأشهر أنها خرجت من عدتها بعد شهرين لم يقبل قولها؛ لأنها قالت: طلقني في أول رجب ثم جاءت في نهاية شعبان تقول: إنها خرجت من عدتها.

    هذا زمن لا يمكن فيه خروجها من العدة؛ لأن الله عز وجل بين أن الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ادعت الشهرين أو ادعت الشهرين والنصف وعدتها ثلاثة أشهر لم يقبل قولها قطعاً.

    وكذلك أيضاً لو ادعت أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت، وحاضرت وطهرت في أقل من شهر كأن تقول في عشرين يوماً، فهذا ليس بزمن إمكان، وحينئذٍ لا يعتد بقولها.

    هناك قول آخر: إنه ينظر إلى أكثر الحيض ويعتد بأكثره، ويلزمها هذا الأكثر، وحينئذٍ تكون الصورة على خلاف مسألتنا كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله؛ لأنهم يحتاطون خاصة في مسألة حلها لزوج، وخروجها من عصمة الزوج الأول.

    قال رحمه الله: [ أو بوضع الحمل الممكن ] أي: أنها مضى لها ستة أشهر فأكثر، فهذا ممكن أنها تضع فيه حملاً، ويحكم بخروجها من عدتها بالوضع، وقال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكانت حاملاً، ومضى على طلاقها ستة أشهر، فإننا نحكم بكونها أجنبية عنه وقد خرجت من عدتها.

    قال رحمه الله: [ وأنكره فقولها ].

    مفهوم (أنكره) أنها إن صدقها في زمن الإمكان فلا إشكال، لكن إذا أنكر فالقول قولها، ومعنى كون القول قولها أن الزوج لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على كذبها وعدم صحة ما ذكرته.

    وهذا يختلف بحسب اختلاف الدعاوى، فالمسألة فيها خصومة بين الزوج وزوجته، فيأتي الزوج الأول ويجد أن زوجته قد عقد عليها زوج غيره فحينئذٍ يقول: هذه المرأة لا زالت في عصمتي. فقالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني.

    أو قال مثلاً: راجعت وأنت ما زلت في العدة الآن فكيف تنكحي، كل هذه المسائل تحتاج إلى فصل، وكل هذا الخصومات والنـزاعات تحتاج إلى قطع.

    فبيّن المصنف رحمه الله أننا ننظر إلى دعوى المرأة، فإن كانت دعواها أنها خرجت من العدة وافقت أصلاً صحيحاً، بحيث مضى زمن يمكن أن يصدق فيه قولها حكمنا بأنها أجنبية، وأنه لا حـق للزوج إلا إذا أقـام بينـة.

    فالأصل أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل لبيان هل خرجت المرأة من العدة أو لم تخرج؟ مما يترتب عليها من الحقوق والحكم ببطلان نكاح الثاني إذا وقع نكاحه، فإن المرأة في بعض الأحيان بمجرد ما تخرج من عدتها من الزوج الأول يعقد عليها في اليوم الثاني.

    وحينئذٍ يقع شيء من الخصومة، وربما حصل بين الناس شرور، ففصل بينهم بأن القول قول المرأة إذا مضى زمن يمكن أن يصدق فيه دعواها فيقبل قولها ويقال له: أحضر البينة على صدق ما تقول.

    فلو أقام البينة على أنها لا زالت في عصمته على صور مختلفة في ذوات الأقراء والحمل والأشهر حكم بقوله؛ لأن البينة حجة قاطعة للدعاوى.

    أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن غير ممكن

    قال رحمه الله: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها]:

    إذا ادعته الحرة من ذوات الحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة، فإذا ادعت هذا كان خلاف زمن الإمكان كما ذكرنا، ويُحكم ببطلان دعواها؛ لأن الدعوى إذا كذبها الحس لم تقبل.

    فالدعوى لها شروط وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء، فالقضاء لا يقبل كل دعوى، فشرط قبول الدعوى أن تكون صادقة أي: يصدقها الواقع ولا يكذبها الحس.

    لو أن شخصاً جاء عند القاضي وقال: أدعي أنني أملك مكة كلها، أو أني أملك المدينة كلها، أو أملك جدة، هذه لا يصدقها الحس وتكون دعوى باطلة من أصلها.

    الدعاوى الباطلة من أصلها لا تقبل، المرأة إذا ادعت أنها خرجت من عدتها في زمن لا يمكن أن تخرج فيه من عدتها كذبها الواقع والحس، فترد هذه الدعوى ولا تسمع.

    خلاف الرجل والزوجة في إثبات الرجعة ونفيها

    قال رحمه الله: [ وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال كنت راجعتك ].

    هذه المسألة ترجع إلى مسألة من المدعي والمدعى عليه؟ من أهل العلم من قال: إن المدعي كل من خالف الأصل والظاهر والعرف، فإذا خالف قوله الأصل أو خالف الظاهر أو خالف العرف فإنه يُحكم بكونه مدعياً ويطالب بالبينة.

    ويكون خصمه مدعىً عليه، فيكون القول قول خصمه حتى يقيم هو الدليل، ولا شك أنك حينما تكون مدعىً عليه أفضل من أن تكون مدعياً؛ لأن المدعى عليه الأصل أنه بريء، وأن القول قوله حتى يثبت ما يخالف هذا الأصل.

    فإذا كانت المرأة في مسائل الاختلاف هنا ابتدأته فقالت: خرجت من عدتي فقال: كنت قد راجعتك، فإذا قالت: خرجت من عدتي فلا شك أن الزوج يسلم، واليقين أنها الآن قد خرجت من العدة، لكن عنده دعوى أنه راجع.

    فاختلف العلماء رحمهم الله، هل الذي يطالب البينة الزوجة؟ لأن الأصل أنها زوجته ما دام أنه قد ادعى رجعتها فنقبل قوله ويكون إنكارها للرجعة دعوى تحتاج إلى بينة.

    نحن قلنا: المدعي من كان قوله يخالف الأصل أو يخالف العرف أو يخالف الظاهر، وهناك ضابط آخر عند بعض العلماء: أن المدعي هو الذي يقول: حصل، والمدعى عليه الذي يقول: لم يحصل، أي أن المدعى عليه هو الذي ينفي، والمدعي الذي يثبت.

    تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا

    المدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد

    وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه ادعى

    فهو هنا يقول: كنت راجعتك، قالت: ما راجعتني، فبعض العلماء يقول: القول قوله لأنه يثبت أصلاً مستصحباً من كونها زوجة.

    وبعض العلماء كما درج عليه المصنف يقول: القول قول الزوجة؛ لأننا على يقين أنها أجنبية؛ لأن الزوج لابد أن يسلم أنها انتهت عدتها، وأنها قد خرجت من وقت الرجعة؛ فحينئذٍ لا نشك أنها أجنبية؛ فإذا جاء يدعي أنه راجع كانت دعواه خلاف الأصل والظاهر.

    ومن هنا نقبل الظاهر من أنها أجنبية ونلغي دعوى الرجعية حتى يقيم الدليل.

    ويلاحظ كل طالب علم أن الإشكال هنا ما لم تقم البينة، فلو قامت البينة زال الإشكال، فلو أن الزوجة ادعت ولو بعد سنتين أنها خرجت من عدتها، وجاء وأثبت بالشهود أنه راجعها قبل خروجها من عدتها فإننا نحكم بكونها زوجته.

    إذا قامت البينة أو صدقته فلا إشكال، والأصل أن الزوج إذا أقام البينة وأثبت أنه راجعها رجعت إلى زوجها وأصبحت في حكم زوجاته.

    لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بين الزوج والزوجة، أو تزوجها رجل آخر، فهل نهدم النكاح الثاني ونحكم بكونه دخل على امرأة محصنة، والله عز وجل حرم المحصنات لأنها زوجة للغير، ولا يحل نكاح زوجة الغير؟ وقد أفتى بهذا الأئمة، وعلي رضي الله عنه كان يقضي بهذا، ويقضي أنها للزوج الأول مطلقاً سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل؛ فإذاً الإشكال عندنا في هذه المسألة، هل نصدق قول الزوج بناءً على أنه يستصحب أصلاً سابقاً للخروج من العدة، أو نصدق قول الزوجة؟

    المصنف رحمه الله وطائفة من أهل العلم وأئمة السلف يقولون: القول قول الزوجة مطلقاً، سواء بدأت أو بدأها هو بالكلام فالقول قولها، ومن أهل العلم من قال: القول قول الزوج.

    ومنهم من قال: القول قول من سبق منهما بالدعوى، ويكون من خالفه خالف الأصل، فالزوج إذا قال: راجعتك كان مدعىً عليه بنفي الرجعة عندما تقول: ما راجعتني وإنني أجنبية، أو خرجت من عدتي ولم تراجعني، والعكس لو أن المرأة قالت: أنا أجنبية وقد خرجت ولم تراجعني، فقال: راجعتك. يكون هو المدعي.

    فإذاً هذه ثلاثة أوجه عند العلماء، والأقوى والأصح إن شاء الله: أن القول هو قول الزوجة؛ لأن الظاهر والثابت عندنا هو أن يسلم أنها قد خرجت من العدة.

    والصورة هذه وقع فيها الخلاف والمرأة قد خرجت من العدة، فليس الخلاف في أنها لا زالت في العدة أو لم تزل، لو كان الخلاف في أنها خرجت من العدة أو لم تخرج لرجعنا إلى أن الأصل أنها في عدتها، ويكون موقف الزوج قوياً من هذا الوجه.

    لكن عندما يكون الطرفان متفقين على خروجها من العدة، وهو يدعي أنه قد راجعها قبل خروجها، فهناك شيء يسمى الظاهر، وهو أنه لم يراجعها؛ لأنه لو راجع لما نكحت، ولو راجع لقام الدليل على مراجعته فهذا يسمى عند العلماء بالظاهر.

    فهناك شيء يسمى الأصل، وهناك شيء يسمى الظاهر؛ وهناك شيء يسمى العرف، فمثل الظاهر لو أن شخصين راكبان على بعير فقال أحدهما: البعير بعيري، وقال الثاني: بل هو بعيري، فإنا نقول: الذي في المقدمة الظاهر أنه يملك هذا البعير؛ لأن ظاهر الحال أنه ما يقود البعير إلا صاحبه، فنقول: البعير له.

    ولو أن اثنين اختصما في بيت أحدهما داخل البيت، والثاني خارجه فأحدهما يقول: البيت بيتي فاخرج من بيتي، وقال الآخر: البيت بيتي ولست بخارج منه، فحينئذٍ نحكم للذي بداخل البيت أنه بيته؛ لأن دليل الظاهر يشهد بأن البيت بيته.

    فإذا ثبت هذا فإن الظاهر أنها أجنبية، وإذا ثبت عندنا كونها أجنبية فنقدم هذا الظاهر ونحكم به، ونعتبرها مدعىً عليها حتى يقيم الزوج الدليل والبينة على أنه راجعها.

    فإذا قالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني، وقال: بل راجعتك، فقال القاضي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فهنا يقول القاضي: إذاً ليس لك إلا يمينها، فإذا قلنا: القول قولها فمعناه أنها تحلف اليمين عند عجز المدعي عن إقامة البينة.

    والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه

    والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين

    فيطالب المدعى عليه بأن يحلف اليمين وتقول: والله لم تراجعني، بناءً على أن هذا هو الظاهر، وتشهد بالله أنه ما راجعها؛ لأنها ما سمعته يراجعها، ولا ثبت عندها بينة أنه راجعها، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن.

    فلو أن شخصاً استلفت منه عشرة آلاف ريال، وغلب على ظنك أنك رددت له العشرة آلاف ريال فمن حقك أن تحلف اليمين، ولو قال لك: احلف لي بالله أنك رددتها -وعندك غلبة ظن- فإنه يجوز لك أن تحلف على غالب الظن.

    ومن هنا فرع العلماء جواز حلف اليمين على الأمر الظاهر، فلو أن شخصاً ادعى على ورثة أن له على ميتهم مائة ألف ريال فقالوا: ما نعرف لك هذا، أحضر لنا بينة تثبت أن لك على مورثنا مائة ألف ريال، قال: ما عندي بينة ولكن احلفوا أنتم أنه ليس لي في ذمة أبيكم مائة ألف ريال.

    فهل من حقهم أن يحلفوا؟

    نعم؛ لأن عندهم دليل الظاهر، وهو أن مورثهم لو كان في ذمته شيء لأخبر ورثته وكتب ذلك، ولو فتح هذا الباب لكان كل شخص يدعي على الورثة أن له على مورثهم حقوقاً، فتؤكل أموال الناس بالباطل.

    فإذاً من حقها أن تحلف على الظاهر وتقول: والله ما راجعتني، بناءً على أنها لم تسمع برجعته، فهو يقول لها إنه راجعها وهي لم تر منه فعلاً يوجب الرجعة، ولم تقم البينة والدليل على ثبوت رجعته، فهي على يقين من أنها أجنبية، فيجوز لها الحلف على ذلك.

    قال رحمه الله: [ أو بدأها به ] هكذا الحكم لو بدأها، فالمصنف اختار هذا القول سواء بدأها هو بالقول أو هي بدأته، وبعض العلماء يقول: القول قول الزوجة، وبعضهم يقول: العبرة بمن بدأ، كما ذكرنا.

    وهناك وجه رابع أشار إليه الإمام النووي وغيره رحمهم الله برحمته الواسعة وقالوا: إنه يقرع بينهما، ومن خرجت له القرعة فالقول قوله؛ لأن كلاً منهما له أصل.

    فكل منهما له دليل قد يوجب أن يكون مدعياً من وجه ومدعىً عليه من وجه آخر، فنقول: يقرع بينهما لاستواء حقيهما، فمن خرجت له القرعة حكم بأن القول قوله.

    لكن المصنف اختار هذا القول الذي مشى عليه طائفة من العلماء رحمهم الله، أن القول قول الزوجة ما لم يقم زوجها الدليل والبينة على صدق ما ادعى.

    [ فأنكرته فقولها ].

    أي قالت: ما راجعتني. فالقول قولها لما ذكرناه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من طلقت وهي حامل ثم أسقطت قبل مضي ستة أشهر

    السؤال: ذكرتم حفظكم الله أن ذوات الحمل يجب أن تنقضي لها ستة أشهر، فأشكل عليّ لو أسقطت قبل ذلك؛ فهل نلزمها بعدة ذوات الأشهر أو نلزمها بثلاث حيض؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    هذه المسألة مندرجة تحت مسألة ذكرها العلماء رحمهم الله: إذا كانت المرأة على حال حكم بعدتها باعتبار حالها الذي هي فيه، ثم تغير هذا الحال.

    مثال ذلك: أن تكون صغيرة آيسة من الحيض ثم تحيض فهل تستمر بعدة الأشهر أو بعدة الأقراء أو يجمع بينهما؟

    فبعض العلماء رحمهم الله يرى أن دخول الوصف الثاني خاصة إذا كان أصلاً يلغي الوصف الأول، فلو مضى لها شهران ثم حاضت الشهر الثالث يقول: تستأنف المدة بعدة الحيض.

    ودليل هذا القول: أن الله اشترط في الاعتداد بالأشهر أن تكون غير حائض، فدل ذلك على أن الأصل أنها تعتد بالحيض.

    فإذا كان الأصل أنها تعتد بالحيض فحينئذٍ إذا حكم بعدتها بالأشهر ورجعت إلى الأصل ألغي الفرع، وحكم بالرجوع إلى الأصل ووجب عليها بالأصل بمعنى: أنها تعتد ثلاث حيضات على القول بالحيض أو ثلاثة أطهار على القول بالطهر.

    القول الثاني: يجمع بينهما ويحكم بإتمام العدة إن مضى لها شهران، فتكون في حكم من مضى لها حيضتان على القول بالحيض أو طهران على القول بالطهر.

    ويقول أصحاب هذا القول: تحيض حيضة ثالثة ويحكم بخروجها بها، فبأول حيضة من حيضاتها تخرج فيها من عدتها، أو بأول طهر على التفصيل والاختلاف هل العدة بالحيضات أو بالطهر، سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة واختلاف أهل العلم رحمهم الله فيها.

    وهذا المسلك أشبه بمسلك التلفيق، ومسلك التلفيق في بعض الصور قوي وراجح، وفي بعضها ضعيف مرجوح، ومسلك الرجوع إلى الأصل من ناحية أصولية أقوى إلا أنه في هذه المسألة أضيق، والقول بالتلفيق في الصورة الأخيرة التي ذكرناها أصح وأوجب.

    وبناءً على ذلك يقع التفصيل في هذه المسألة على الخلاف المعروف عند أهل العلم رحمهم الله.

    ففي بعض الأحيان بعض النساء تكون من ذوات الحيض، وفجأة يطلقها زوجها وينقطع عنها الحيض، وتبقى فترة طويلة لا يأتيها الحيض لمرض أو صدمة أو شيء يحدث لها، فهل تنتقل إلى ذوات الأشهر وتكون في حكم الآيسة؟

    هذه المسألة أصعب من المسائل التي قبلها، وهذه الأمور كلها خارجة عن الأصل ويتجاذبها أكثر من أصل، ففي بعض الأحيان يتجاذبها أصلان، وبعض الأحيان يتجاذبها ثلاثة أصول.

    وعلى كل حال فبالنسبة لمسألتنا التي وردت، وهي أنها لو حملت ثم أسقطت جنينها فلا أشك أنها ترجع إلى حيضها وتعتد بأطهارها؛ لأن الصحيح أن العبرة بالطهر لا بالحيض، فيلزمها أن تعتد ثلاثة أطهار؛ لأن الحمل لم يستتم، فوجوده وعدمه على حد سواء.

    والله تعالى أعلم.

    دلائل الشريعة جاءت بالحكم بالظاهر دون الالتفات إلى الباطن

    السؤال: إذا راجع الزوج زوجته دون أن يكون هناك إشهاد وعدم العلم من الغير، ثم بعد خروج المرأة من العدة أخبرها فأنكرته، فعلى القول بأن القول قولها هل تكون زوجته ديانة؟

    الجواب: هذه المسألة من حيث الأصل أنها زوجته إذا ثبتت الرجعة، خاصة على مذهب جماهير العلماء الذين لا يرون الإشهاد شرطاً لصحة الرجعة.

    وأما على مذهب الظاهرية الذين يرون أن الإشهاد شرط لصحة الرجعة فلا تكون زوجة له؛ لأنهم يرون أن الإشهاد شرط، ولم يقع الشرط الذي يحكم عند وجوده بصحة الرجعة.

    والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لا يشترط لصحة الرجعة الإشهاد، بل ليس الإشهاد بواجب كما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع زوجته ولم يأمره بالإشهاد، وصُرف الأمر عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب.

    وإذا ثبت هذا فهي زوجته ديانة بينه وبين الله، وأجنبية عنه قضاءً، فلو أنه وطئها ورفع إلى القاضي وليس عنده دليل على رجعتها فإنه يرجم ويقتل؛ لأنه زانٍ في هذه الحالة؛ وهي أجنبية منه، فلو وطئها دون أن يعقد عليها فيحكم بكونه زانياً والعياذ بالله.

    أما لو أنها بقيت ودخل بها الزوج الثاني وعقد عليها فالحكم قضاءً أنها زوجة الثاني؛ لأننا مأمورون بالأخذ بالظاهر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) فما دام أنه قد فرط في حقه حتى خرجت من عدتها فالله حكم حكماً أنها زوجة الآخر قضاءً.

    والحكم القضائي لا يؤثر في الحقيقة شيئاً، الزوج الثاني الذي تزوجها هو زوج شرعي، وهي زوجة شرعية؛ لأن هذا حكم الظاهر، وليس هناك دليل يدل على أنه راجعها.

    فهذا في حقوق المخلوقين، والله جعل أحكام الظاهر حتى في الحق بينه وبين عباده، فلو أن رجلاً جاء ودخل المسجد وهو يظن أنه متوضئ والواقع أنه غير متوضئ، وبقي على هذا بقية عمره وما تبين له أنه أخطأ، فصلاته تجزيه؛ لأن هذا الذي كلفه الله على الظاهر.

    وكذلك لو أنه شك هل خرج منه ريح أو لم يخرج، فأوجب الله عليه أن لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين.

    فإذا صلى والواقع أنه كان قد خرج منه شيء لكنه لم يسمع صوتاً ولم يجد ريحاً برئت ذمته، وصحت صلاته؛ لأن الذي تعبده بالوضوء تعبده أن يصلي على الأصل الظاهر.

    والذي تعبدنا بخروجها من عدتها وحلها للزوج الأول هو الذي حكم بهذا الظاهر، ولذلك لو أن رجلاً قذف امرأة بالزنا والعياذ بالله، وقد رآها بعينه تزني، فإنه يحكم بجلده حد القذف، ويحكم بكونه كاذباً فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13].

    مع أن الآية نصت على أن من رمى امرأة محصنة بدون دليل أنه عند الله من الكاذبين، والمراد بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ) أي: في حكم الله وشرعه.

    وفي الحقيقة لو أنه كان صادقاً أو أقام ثلاثة شهود عدول كلهم رأوها على الزنا والعياذ بالله، وثبت عندهم الزنا وشهدوا به، فكلهم يجلدون حد القذف إذا لم يشهد الرابع، وهؤلاء ثلاثة عدول من المسلمين كلهم شهدوا عليها بالزنا، فإننا نحكم على أنها برئية ومحصنة؛ لأن هذا هو حكم الله عز وجل.

    وهذا شيء من العدل الإلهي الذي تنـزل من الخبير سبحانه وتعالى، ولا أصدق منه قيلاً، ولا أحسن منه حكماً: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] فهذا الحكم الرباني على الظاهر.

    ولذلك ترتاح القلوب، وتبتهج النفوس بزوال الوساوس، ولو فتح باب هذه الظنون اليسيرة لما استطاع رجل طلق امرأته أن تعود له زوجته من كثرة الشكوك والحكم بالأدلة الضعيفة.

    فالحكم بناءً على الظاهر، والظاهر مرتبط بأصول شرعية إذا وجدت حكم بالحكم الشرعي كما هو، وإذا تخلفت حكمنا بالأصل الذي حكم الله عز وجل به، ولا شك أن هذا هو عين العدل والحكمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:43].

    والله تعالى أعلم.

    حكم الجنين إذا دفن مع أمه المتوفية وقد تجاوز الشهر السادس

    السؤال: والدتي توفيت أثناء الوضع ولم يخرج الجنين من بطنها، ولكن لجهلنا دفناها كما هي ولا ندري هل كان الجنين حياً أو ميتاً، فهل علينا شيء؟

    الجواب: أولاً: كان ينبغي سؤال العلماء والرجوع إلى أهل العلم، وبالمناسبة أقول: أي مسألة شرعية تنـزل للإنسان في نفسه أو مع الناس أو مع أهله أو ولده، ولا يسأل عنها ولا يستفتي العلماء؛ فإنه يتحمل إثمها وإثم كل ما يترتب عليها من الأخطاء.

    هذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان فيه على بينة، بل حتى لو اجتهد ووافق اجتهاده الشرع وعنده علماء يمكن أن يسألهم ورجع وسألهم بعد ما فعل الذي فعل ووجد أن الذي فعله صحيح، فإنه لا يزال آثماً شرعاً، الذي فعله صحيح لكنه آثم لكونه لم يسأل العلماء.

    سؤال العلماء ليس بالأمر السهل وليس بالأمر الهين، ولذلك فرض الله على أهل العلم أن يجيبوا السائل إذا سأل، وأمر الله نبينا من فوق سبع سماوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين في أوامره فقال: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10].

    فالسؤال أمر مطلوب وواجب شرعاً.

    الأمر الثاني: لا يسأل كل أحد، فوالله لا تقف على أحد تسأله إلا وقفت بين يدي الله يسألك: هل هذا أهل أن تسأله أو لا؟ فجامل من شئت أن تجامل، وأنصف في دين الله وشرعه ما شئت أن تنصف، فستقف بين يدي الله عز وجل.

    لا يجوز أن تسأل الجهّال وأنصاف العلماء وطويلبي العلم وكل من هب ودب، لا تتقي الله في نفسك ولا تتقي الله في دينك، ولا تتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تغرر به فتسأل إنساناً وتجلس بين يدي إنسان لا يستحق أن يجلس بين يديه أو يسأل.

    وعلى كل شخص يُسأل أو إمام أو خطيب إذا جاءه أحد يسأل وهو يعلم من نفسه أن أهل العلم لم يزكوه بالفتوى، فعليه أن يتقي الله، وأن يخاف الله جل وعلا، وأن لا يكثر سواد الناس حوله ليغرر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا من الخديعة والغش.

    وعلينا أن ننصح لله ولكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنصيحة لعامة المسلمين أن نتقي الله في الفتاوى، فليس كل أحد يسأل، بل تسأل من تستطيع أن تقف بين يدي الله عز وجل.

    قال الإمام الشافعي : ( رضيت بـمالك حجة بيني وبين الله ) لأنه علم أن كل صغير وكبير في هذا الدين سيسأل عنه أمام الله عز وجل، فلا تحضر لأحد يعلم إلا إذا كان قد أخذ العلم عن أهله، ولا تحضر لأحد يفتي إلا إذا كان قد أخذ الفتوى عن أهلها.

    نقول هذا الكلام لأن هذا الزمان كثرت الفتوى فيه، وكثر الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبح يلمع ويبرق ويزين للأمة من ليس بأهل للفتوى، ومن ليس عنده دين ولا ورع ولا علم ولا عقل يمنعه ويردعه، فتسمع الفتاوى العجيبة هنا وهناك ويشتت بالأمة شذر مذر.

    فهذا أمر ليس بالهين: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] وما ضلت الأمة ولا شقيت في هذا الزمان بشيء في ثلمة الدين مثل الفتوى، خاصة في أمور العقيدة والأحكام التي يتعبد بها الناس ربهم.

    فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يفعل أي شيء لنازلة نزلت به حتى يرجع إلى العلماء ويسألهم، ويسأل من يرضى بدينه قال الإمام مالك : ( ما أفتيت حتى شهد لي سبعون )، الله أكبر ما أعظم الورع والخوف من الله جل وعلا! إنه ما رضي أن ينصب نفسه مفتياً في دين الله عز جل حتى شهد له الأمناء العلماء الأتقياء الأصفياء أنه أهل لذلك.

    ولذلك بورك له في علمه وفتواه، وبورك له في قوله، وبورك فيما كان عليه رحمه الله برحمته الواسعة، فلا يجوز لأحد أن يتساهل في هذه الأمور.

    وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس وينصحوا لهم، فأي شخص يأتي ليسألك قل له: يا أخي! لست بأهل للسؤال، وإذا كان في مدينتك أو قريتك أو بلدتك رجل تلقى العلم عن أهله تقول له: اذهب إلى فلان واسأله.

    هكذا كان الصحابة والتابعون وأئمة السلف وأهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان يحيلون إلى من هو أهل للفتوى.

    الأمر الثالث: مسألة دفن المرأة وفي بطنها جنين فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: إن المرأة إذا لم تخرج جنينها وتمت للجنين ستة أشهر ووجد الدليل على حياته فإنه يشق بطن المرأة ويستخرج الجنين منها.

    القول الثاني: إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين أو ماتت أثناء الوضع، ولا يمكن إخراج الجنين إلا بشق البطن فإنه لا تشق بطن المرأة.

    القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى، من أنه يشق بطن المرأة لعدة أدلة:

    أولاً: أن الله أوجب علينا إنقاذ الأنفس من التهلكة، فإذا ثبت بدليل أو بشهادة أهل الخبرة، كما في زماننا من وجود الصور الإشعاعية التي تبين حال الجنين في بطن أمه؛ فإنه لا يجوز لنا أن نتسبب في هلاك هذه النفس؛ لأن الله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما توقف إنقاذه على شق البطن صار شق البطن واجباً.

    ثانياً: فقه المسألة من حيث القواعد أنه تعارضت عندنا مفسدة موت الجنين ومفسدة شق البطن، فوجدنا أن مفسدة موت الجنين أعظم من مفسدة شق البطن؛ لأن مفسدة شق البطن أهون من عدة وجوه:

    أولاً: أن الروح أعظم من إتلاف الجسم، ولذلك لو أن شخصاً وقعت الأكلة في يده مثل ما هو موجود الآن في مرض السكري أو نحوه، إذا سرت (الغرغرينة) في قدمه وقال الأطباء: إذا لم تقطع رجله يموت، وجب قطعها؛ لأن مفسدة العضو أهون من مفسدة النفس كلها، فهذا الوجه الأول.

    الوجه الثاني: أن مفسدة شق البطن يمكن تداركها بالخياطة، وأما مفسدة موت الجنين فلا يمكن تداركها أبداً.

    وحينئذٍ القاعدة ( أنه إذا تعارضت المفسدة التي يمكن تداركها مع المفسدة التي لا يمكن تداركها قدمت المفسدة التي لا يمكن تداركها على المفسدة التي يمكن تداركها )، فوجب شق البطن.

    ولذلك كان الذي تطمئن إليه النفس أنه يشق البطن ويستخرج الجنين، وفي هذه الحالة ينـزع الجنين إذا أمكن نزعه، وإذا لم يمكن فإنه يجوز الشق ولو توسع في شق الموضع الذي يخرج منه الجنين ثم يخاط بعد إخراج الجنين؛ إبقاءً لهذه النفس المحرمة.

    وأما بالنسبة لكم في هذه الحال فينظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، إذا كانت هناك أدلة تدل على حياة الجنين، مثل أنها قبل الطلق بيوم أو يومين أو مدة صورت وثبت أن الجنين حي أو بالحركة التي كان يعرفها القدماء يعرفون بها حياة الجنين من حركته وانقلابه، ونحو ذلك مما يدل على وجود الروح فيه، مما أشار إليه العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.

    فالأصل أنه حي ويكون قبر المرأة على هذا الوجه فيه شبهة بقتل الجنين، والقاعدة أن قتل الجنين بإلقائه حتى يموت أو تعاطي أسباب موته على هذا الوجه الذي ذكر، خاصة وأنه لم تكن هناك شبهة الفتوى، بحيث أنكم ما سألتم أحداً يرى عدم جواز الشق.

    فالأشبه في هذا أنه صورة قتل بالسببية، والقتل بالسببية موجب للضمان، لأنكم لم تقتلوه مباشرة وإنما قتلتموه تسبباً، وذلك أنه كان يجب إنقاذه.

    قال العلماء: لو أن شخصاً رأى غريقاً وناداه وبيده حبل كان يمكنه أن يلقيه له وينقذه، أو مر على جائع في مخمصة شديدة ويحتاج إلى ماء وطعام وبيده الطعام والماء وامتنع؛ كان قاتلاً له بالسببية، فإن قصد موته كان قاتلاً بالعمد والعياذ بالله.

    أما إذا قال: لا والله أنا هذا الطعام أخذته لنفسي، وعنده نوع من البخل، فهذا نوع من الشبهة، ولا يكون قتل عمد لكن إن قال: أنا قصدت قتله وأريد أن يموت، فهذا قتل عمد؛ لأن السببية المفضية للهلاك تكون بحكم المباشرة.

    أو نهشته حية فإن الحية هي التي قتلته، لكن السببية في تقريب الحية الذي أتى بها، أو حبسه في زريبة أسد فقتله الأسد، فالذي باشر قتله الأسد، والقتل سبب مفض للهلاك، فالسبب المفضي للهلاك مؤثر، ولذلك قالوا: لو أنه ضربه على مكان يغلب على الظن القتل به وأراد به الإضرار، كان سببية مفضية إلى القتل آخذة حكم قتل العمد.

    وقد فصل العلماء رحمهم الله في مسائل قتل الصيد، وسيأتينا إن شاء الله بيان أحكام السببية المباشرة في باب الجنايات، ولذلك فالأشبه والأحوط في هذا أنه قتل السببية.

    والله تعالى أعلم.

    التفصيل فيما إذا نسي الإمام التشهد الأول ثم رجع بعدما استتم قائماً

    السؤال: إمام قام عن التشهد الأول واستتم قائماً، فلما سبح المأموم عاد للجلوس، فانقسم أهل المسجد إلى طائفتين: طائفة رجعت، وطائفة استمرت في قيامها، فأي الطائفتين أقرب للصواب؟

    المشكلة أنه يوجد خلاف في هذه المسألة، الجمهور على أنه إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة لا يرجع، فلو استتم قائماً وشرع في الفاتحة ثم رجع وعلمت أنه جاهل فعليك أن تنوي مفارقته وتبقى على القيام؛ لأنك إذا رجعت رجعت إلى فعل زائد في الصلاة؛ لأنه ليس من حقه أن يرجع وليس من حقك أن ترجع؛ فإذا رجع فإنه قد زاد، خاصة إذا كان جاهلاً.

    في هذه الحالة تنوي مفارقته وتطيل في القيام حتى يقوم لأنك في مسجد لا تستطيع أن تنفرد، فإذا قام تابعته شكلياً، إذا جاء يكبر للركوع كبرت أنت لركوعك ولا تنوي متابعته، وإنما تتابعه صورة لا حقيقة، ظاهراً لا باطناً.

    أما إذا كان الشخص الذي فعل هذا الفعل يرى قول من يقول من السلف: إن من وقف ولم يجلس للتشهد الأول فعليه يرجع ما لم يركع، فهذا القول شاذ وضعيف لأنه مصادم لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي، فقام من الركعتين فسبحوا له، فأشار إليهم أن قوموا).

    فدل على أنه إذا استتم قائماً لا يرجع، في هذه الحالة نقول: تنوي مفارقته؛ لأنه أبطل صلاته؛ لأنه عندما رجع زاد في الصلاة ما ليس منها؛ لأنه قد سقط عنه التشهد والجلوس له، فكأنه رجع إلى جلسة ليست بلازمة له فأحدث في الصلاة فعلاً زائداً.

    ومن هنا قالوا: إنك لا تتابعه وتنوي مفارقته، ومن أهل العلم من قال: تتابعه لما كان فيها من شبهة الخلاف، وخاصة إذا كان طالب علم وتظن أنه يقول بهذا القول، أو يقول بقول من يرى أن مجرد القيام لا يكفي، بل لابد أن يشرع في الفاتحة حتى يكون قد شرع في الركن فعلاً.

    والصحيح أن العبرة بالوقوف؛ لأن بنفسه ركن القيام فلا يشترط له قراءة الفاتحة؛ لكن على القول الثاني لو كان الإمام يرى أنه لابد أن يقرأ الفاتحة، ففي هذه الحالة من أهل العلم من قال: يجب عليك الرجوع؛ لأنه يفعل فعلاً مشروعاً في حقه، فتجب عليك متابعته؛ لأن المتابعة في الأفعال الظاهرة واجبة في الواجبات.

    ومن هنا وجب عليك القنوت إذا قنت الشافعي وأنت لا ترى القنوت؛ لأنه يراه واجباً، فينقلب واجباً عليك بحكم المتابعة، والمتابعة للإمام خلاف مذهبه واجبة في الواجبات، ولازمة في الأركان، فحينئذٍ يجب عليك الرجوع، وهذا مذهب صحيح وقوي، أنه إذا كان يرى أنه لابد من قراءة الفاتحة ورجع وكان طالب علم فإنك ترجع معه؛ لأن المتابعة في الأفعال واجبة ولو خالفت مذهبك.

    وهذا أمر قرره أئمة المذاهب على اختلافهم، قرره الفقهاء الحنفية، كالإمام ابن عابدين في حاشيته، وكذلك صاحب فتح القدير الكمال بن الهمام رحمه الله.

    وكذلك قرره من أئمة المالكية رحمهم الله شراح خليل كـالحطاب وعليش ، وأيضاً قرره فقهاء الشافعية كالإمام النووي خاصة في الروضة، وأشار إلى أن الاقتداء بالمخالف في الفروع يلزم المتابعة.

    وقرره من أئمة الحنابلة الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، فذكر أنه يجب عليك أن تتابعه في الواجبات ولو كنت لا ترى وجوبها، لكنها لما كانت واجبة عليك صارت واجبة لك في حكم الاتباع في الائتمام، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لم حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) فرق فيه بين الأركان والواجبات.

    فأمر بالمتابعة في الأركان في قوله: (إذا كبر) أي: تكبيرة الإحرام (إذا ركع) (إذا رفع) ، ثم قال في الواجبات: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) .

    فدل على أن الإلزام بالمتابعة للإمام واجب في الواجبات والأركان؛ لأن الحديث فصلها، وقوله: (فإذا كبر) تفصيل لقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وتفسير لهذا الأصل، وإذا ثبت هذا فإنه إذا كان الإمام يرى أن مجرد القيام لا يكفي فعليك أن ترجع معه وتبقى معه.

    أما إذا كان عندك شبهة وبقيت واقفاً حتى انتهى لأنك تخاف أنه فعل هذا عن جهل، ثم قام ورجع إلى القيام، فالأفضل والأكمل أنك تنوي مفارقته لوجود العذر، وتتابعه في الصورة ولا تتابعه في الباطن؛ احتياطاً وابتعاداً عن السبب الموجب للفساد.

    والله تعالى أعلم.

    حكم هدم المساجد القديمة أو توسعتها

    السؤال: هناك مسجدٌ يراد توسعته فأضيفت إلى أصل أرضه أراض مجاورة له، ثم هدم هذا المسجد، ولما أعيد تخطيطه جعل الموضع القديم للمسجد دورات للمياه، فما حكم ذلك؟ علماً بأنه يمكن الآن قبل إتمام البناء إعادة النظر في الخرائط. أثابكم الله.

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    أولاً: ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز هدم أي مسجد إلا إذا وجد مبرر شرعي يقتضي جواز الهدم، من المبررات خشية سقوط المسجد كلية، أعني تهدمه وتهتكه بحيث يخشى أن يسقط على المصلين، أما لو كان السقف هو الذي يخشى أن يسقط فإننا نجدد السقف فقط.

    هذه أوقاف وأموال محبسة وأهلها بنوها يروجون ثوابها، وبمجرد ما بني المسجد أصبح المسجد وبناؤه وما فيه لله عز وجل، لا يجوز لأحد أن يقدم على التصرف فيه بإحداث شيء أو تغيير شيء إلا بحكم وإذن شرعي، هذا أمر تساهل فيه الناس.

    ومسألة توسعة المسجد تحتاج إلى نظر، وليس كل شيء يوسع، وليس كل شيء يهدم، ويبذر في بناء المساجد وتوسع حتى تكون لإنسان على حساب حسنة لغيره ممن هو أسبق وأحق، هناك حق للسابق الذي بنى المسجد أولاً فهو أحق، ولا يجوز لأحد أن يهدم بناءه ولا أن يفسد الأجر عليه؛ لأني إذا بنيت المسجد وأصلحته وبقي صالحاً لأن يصلى فيه فإنه يبقى على حالته إلى أن يشاء الله عز وجل أن ينهدم أو يخشى هدمه.

    أما أن كل شخص يأتي إلى مسجد مبني ليهدمه فلا.

    وبعض المساجد مسلحة مبينة ما فيها أي شيء، ولكن نريد أن نبنيها على بناءٍ حديثٍ، أو نريد أن نجملها، أو نريد أن نكملها، وهذا لا يجوز، ولا يرضى الله عز وجل به، ولا يرضى به رسوله، ولا يرضى به أئمة الإسلام، ولا يفتي به أحد من أهل العلم لا الأموات ولا الأحياء ممن يعرف أصول أهل العلم في الأوقاف.

    فالأوقاف لا يجوز التلاعب فيها، الشخص إذا أوقف مسجداً خرج من ملكه، حتى صاحب الأرض لا يستطيع أن يتصرف فيه لأنه خرج من ملكيته لله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ [الجن:18].

    فالمسجد إذا أوقف خرج عن ملكية صاحبه، فهذا أمر ينبغي أن يعلم، فلا يجوز هدم المساجد إلا بإذن شرعي، وبفتوى شرعية تبيح هدم هذا المسجد.

    ثانياً: توسعة المسجد عند العلماء فيها تفصيل: أن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، إذا كان المسجد يمكن توسعته مع بقاء القديم فإنه يترك القديم كما هو، ويوسع بأن تفتح جوانبه الشرقية والغربية، ويفتح جانبه المؤخر ويبقى القديم كما هو.

    لا يتلاعب في أموال الناس؛ لأن هذا إسراف، هذا بذخ، ومن علامات الساعة التباهي بالمساجد، فإذا كان التباهي بالمساجد مذموم شرعاً، والمبالغة في تزويقها مذموم شرعاً، فكيف تهدم المساجد من أجل هذا المذموم شرعاً.

    هذا أمر ينبغي أن يوضع في البال.

    والسبب في هذا الجهل والجرأة على حدود الله عز وجل دون الرجوع إلى أهل العلم، وقل الرجوع إلى أهل العلم وتقديرهم في مثل هذه الأمور.

    ولذلك ينبغي على كل مهندس يخطط المساجد أن يسأل أهل العلم، وأن يرجع إلى أهل العلم قبل أن يرهن بين يدي الله عز وجل عن مساجد المسلمين، كل من يتصل بأمر شرعي يتحتم عليه الفتوى والسؤال وينبغي عليه أن يرجع إلى أهل العلم.

    الطبيب أي شيء يطرأ عليه يرجع إلى أهل العلم قبل أن يقوم بأي عملية جراحية، فيسأل هل تجيز الشريعة هذا العمل أم لا؟ والمهندس قبل أن يقوم بتخطيط شيء يسأل ما هي الأصول الشرعية.

    فالأصل الشرعي في هذا أنه إذا احتيج إلى الزيادة للتوسعة فينبغي إبقاء القديم، ودورات المياه لا تفعل في القديم ولا يحل فعلها في القديم ولا يجوز شرعاً، ولو فعلت هدمت ويرجع المسجد إلى ما كان؛ لأن صاحبه أوقف هذه الأرض للعبادة وما أوقفها لقضاء الحاجات.

    ولو أن القديم بني بيتاً للإمام فإنه يهدم، وليس من حقه أن يبنى؛ لأن صاحبه أوقفه أرضاً للصلاة وما أوقفه بيتاً للإمام، ولا مسكناً للإمام ولا للمؤذن.

    هذه أمور ينبغي وضعها في نصابها، وينبغي الانتباه إلى أن هذه الأشياء ينبغي ترتيبها مع من يفتي ويعرف الأصول الشرعية.

    الشيء الثاني: أن هذا المسجد القديم أحق من الجديد، والله يقول: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] فصاحب المسجد القديم والأرض القديمـة أولى بالعبـادة من الأرض الجـديـدة.

    وجمهرة السلف وأئمة العلم على أنه لو تعارض مسجدان أحدهما قديم والآخر جديد فالأفضل أن تصلي في القديم؛ لأن القديم نص الله عز وجل على أحقيته لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] .

    فلذلك لا ينبغي التلاعب في هذه الأمور، ولا التساهل في إحداث المساجد وبنائها، الآن تجد مسجداً صغيراً يصلي فيه أهل القرية الجمعة، ثم تفاجأ بشخص يأتي ويبني مسجداً آخر بجواره، هذا جهل! من الذي أذن له أن يبني؟! ومن الذي أفتاه بهذا؟!

    ينبغي الرجوع إلى أهل العلم ووضع الأمور في نصابها، هذه أمور فيها حقوق شخصية، أهل العلم لهم كلمة في هذا وهم أحق أن يرجع إليهم، كما أن المهندس يبني عمارته.

    كذلك الأرض لا يمكن أن يفرط فيها، والحقوق التي تساهل فيها أهلها وبذلوها لوجه الله عز وجل لا يمكن أن تذهب هدراً، بذلوها لوجه الله وأوقفوها لوجه الله، أموات ينتظرون ثوابها في قبورهم، ويأتي من يجرؤ على هدم المسجد ثم يجعله دورات مياه!!

    هذا الأمر كله باطل، ويعاد الأمر إلى ما كان عليه، ويقال لمن يريد أن يوسعه: وسع مع إبقاء القديم، الأرض القديمة تبقى أرضاً للعبادة. إذا كان يريد أن يبني سكناً للإمام فجزاه الله خيراً، يريد أن يبني سكناً للمؤذن جزاه الله خيراً، لكن ليس على حساب حقوق الآخرين.

    كذلك ننبه على أن حد الأرض المسجد الآن بكامله يصلى فيه، لو جاء إمام المسجد وقال: نريد أن نضع حاجزاً ونبني مكتبة، فلا يصح أبداً، صاحب المسجد ما وضعه مكتبة، ولا أوقفه مكتبة، أوقفه مسجداً للصلاة، فينظر إذا كان هذا يضيق للصلاة ويمنع من الصلاة فيه فيمنع منه، ويبقى على الأصل أرضاً.

    ونقول لمن يريد أن يفعل مكتبة: جزاك الله خيراً أضف إلى المسجد قطعة أرض تكون مكتبة أو تجعل المكتبة في منطقة تابعة للمسجد.

    أما إن كانت الأرض قد أوقفها وسبلها صاحبها للصلاة فتبقى للصلاة، ولا يغير في الأوقاف ولا يبدل إلا وقف أصول شرعية محددة مرتبة، وقد تقدم بيانها في كتاب الوقف.

    فعلى المهندسين أن يتقوا الله عز وجل، وعلى كل من له علاقة بهذه الأمور أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يغير ولا يبدل؛ لأن تبديل الأوقاف تبديل وتغيير لشرع الله عز وجل، فالوقف ما سمي وقفاً إلا للتحبيس.

    ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عمر لما روى عن أبيه عمر قال: (إني أصبت أرضاً بخيبر هي أحب مالي إلي لم أصب مالاً هو أنفس عندي منه، فماذا تأمرني فيه؟ قال: إن شئت حبست أصلها).

    فبيّن أن الوقف محبوس لا يجوز صرفه عن هذا الحبس، ولذلك سميت أوقاف المسلمين أحباساً لأنها أوقفت فتبقى محبوسة على ما أوقفت عليه، وهذا أمر ينبغي التنبه له والتناصح فيه، وتذكير الناس بالله عز وجل، حتى لا يسيئوا إلى غيرهم.

    فكم من إنسان يريد الحسنة فيقع في السيئة، والسبب في هذا الجهل، وقد قال الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4] فهي عاملة ناصبة.

    عمر بن الخطاب لما نظر إلى النصراني في صومعته بكى قيل: يا ابن الخطاب أترق للنصرانية؟ قال: لا والله ومعاذ الله إني نظرت إليه فذكرت قول الله عز وجل: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3-4] .

    فهذا الشخص قد يأتي ويهدم مسجداً ويسيء إلى أخيه ويجعله دورات المياه؛ أعوذ بالله هذا لا يجوز! وعليكم النصيحة لهذا المهندس الذي قام بهذا الشيء، وينصح كل من يقوم بهذا الأشياء أن يرجع إلى أهل العلم فيما يتصل بالمساجد ونحوها.

    نسأل الله العظيم أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.

    والله تعالى أعلم.

    جواز تقبيل الحجر واستلامه في غير الطواف

    السؤال: هل استلام الحجر الأسود وتقبيله مشروع في غير الطواف؟

    الجواب: نعم! هذه المسألة نص طائفة من أهل العلم على أنه يجوز أن يقبل الحجر وأن يستلم في غير الطواف لما ثبت في الحديث الصحيح في رواية أحمد في مسنده (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف في حجة الوداع صلى ركعتي الطواف، ثم شرب من زمزم، ثم مضى إلى الحجر وقبله، ثم مضى إلى الصفا والمروة) .

    فقبله بعد شرب زمزم، أي: بعد انفصال الطواف؛ لأنه طاف وصلى ركعتي الطواف ثم شرب من زمزم، الشرب أجنبي؛ لأنه فصل بفاصل أجنبي.

    ومن هنا كان بعض العلماء يقول: عجبت من هذا الحديث لما فيه من هذا المعنى الدقيق؛ لأنه لو قبل بعد ركعتي الطواف لتوهم أحد أنها متصلة؛ لأن ركعتي الطواف متصلة بالطواف، لكن ذهب وشرب من زمزم، فقطع العبادات المتصلة بشيء أجنبي؛ لأن الأكل والشرب يقطع.

    ولذلك قالوا: من جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر والمغرب والعشاء فلا يجوز له أن يتغدى بين الظهر والعصر ولا أن يتعشى بين المغرب والعشاء؛ لأن الأكل والشرب أجنبي عن الصلاة.

    فلابد وأن يكون الجمع موافقاً للأصل، وعلى كل حال فإنه يصح ويجوز أن يُقبّل الإنسان الحجر ولو لم يكن طائفاً؛ لأن المراد تعظيم الحجر في الحدود الشرعية، وهذا التعظيم من تعظيم شعائر الله عز وجل، ولذلك قبله عليه الصلاة والسلام واستلمه وكان إذا وضع يده عليه قبلها، كما في الحديث الصحيح عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فهذا كله من فضل الحجر، ولما خصه الله عز وجل به.

    وقد جاء في الحديث أنه من يواقيت الجنة على اختلاف ألفاظه في رواية الترمذي وغيره، وقد حسن غير واحد من العلماء رحمهم الله هذا الحديث، وأشار الإمام الترمذي إلى أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيح.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755986505