إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب النفقات [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تستحق المرأة نفقة زوجها من حين أن تسلم نفسها له، والتسليم إما حقيقي وإما حكمي، والزوج إما أن يسلم النفقة كاملة، أو يعجز عنها كاملة، أو عن بعضها، ولكل حالة حكمها وتفصيلاتها. وهي أحكام مهمة قد يترتب على بعضها فسخ النكاح.

    1.   

    وقت استحقاق المرأة للنفقة تسليمها نفسها للزوج

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ، وجبت نفقتها ولو مع صغر زوجٍ ومرضه وجبه وعنته ].

    بعد أن بيّن المصنف رحمه الله وجوب النفقة على الزوجة وبيّن ما تقدر به النفقة، والأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الأصل، شرع في بيان متى تستحق المرأة النفقة.

    فهناك أصلٌ ينبغي اعتباره: وهو أن الزوج إذا سلمت إليه الزوجة ومُكّن منها فقد وجبت عليه نفقتها، وهذا الأصل نبّه عليه رحمه الله في بداية هذا الفصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى رتب النفقة على الاستمتاع وعلى قيام الزوجة بحقوق زوجها، وبينا ذلك في مسائل النشوز، وإذا ثبت هذا فإنه إذا تسلّم الزوجة ومُكّن من الاستمتاع منها فإنه حينئذٍ تجب عليه نفقتها، لكنه لو عقد على الزوجة ولم يتسلمها ولم يُمكّن منها فإنه لا تجب عليه نفقتها، وتبقى نفقتها على أبيها أو على إخوانها وقرابتها أو على نفسها إن كانت مستطيعة أن تنفق على نفسها، حتى يُمكّن الزوج منها وتسلّم إليه.

    التسليم الحقيقي للمرأة

    وهناك ضربان من التسليم: التسليم الحقيقي والتسليم الحكمي.

    التسليم الحقيقي: مثل أن يكون له منزل ويؤتى بالزوجة وتسلّم له بالمعروف وبالعرف، فحينئذٍ قد تسلمها وتمكّن منها حقيقة، وتجب نفقتها عليه بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو أنها بقيت في بيت أبيها، وقال أبوها: لا أمكنك من الدخول عليها إلا بعد شهر، أو بعد أن تجد عملاً، أو بعد أن تتخرج، أو بعد كذا وكذا من الزمان أو من الشروط، فإنه في هذه الفترة لا يجب عليه أن ينفق عليها، وتبقى على نفقتها في الأصل، فإن كانت تحت رعاية أبيها وجبت نفقتها على أبيها، وإن كانت تحت رعاية قريبٍ وجبت نفقتها على ذلك القريب حتى تسلم إلى الزوج.

    التسليم الحكمي للمرأة

    قوله رحمه الله: [أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ] وهذا التسليم الحكمي: بألا يكون عندها مانع، ولا عند أهلها مانع، وقالوا له: في أي وقتٍ تريد أن تأخذها فخذها، فحينئذٍ يكونون قد مكّنوه منها، وقالوا له: أي وقت تشاء أن تدخل بها فنحن على استعداد، والأمر يسير بالنسبة لنا، فلم يمنعوه من شيء، فأصبح التأخير منه لا منها، ففي هذه الحالة قد مكنوه، وهو لم يتسلمها حقيقة لكنه تسلمها حكماً؛ لأنهم لم يمنعوه منها، ولم يحولوا بينه وبين الدخول بها، وفي هذه الحالة تجب عليه نفقتها.

    إذاً: هناك التسليم الحقيقي وهناك التسليم الحكمي، فإذا بذلت نفسها له أن يستمتع بها، فحتى ولو كانت في بيت أبيها، فحينئذٍ تجب نفقتها عليه، ولا يشترط أن تنتقل إلى البيت، بل لو استمتع بها في بيتها، أو مكنته من نفسها في بيت والديها ولا يوجد مانع ولا حائل شرعي يحول دون ذلك؛ فإنه يكون في حكم من تسلّم زوجته حقيقة.

    وقد تقدم أن الشريعة الإسلامية تجعل التسليم الحكمي منزلاً منزلة التسليم الحقيقي، ومن أظهر ذلك ما ذكرنا في الأجير، أن الأجير أو العامل -مثلاً- لو استأجره شخصٌ يوماً كاملاً على أن يعمل عنده فجاء العامل ومكّن صاحب العمل من نفسه، ولكن صاحب العمل لم يعمل أو لم يطالبه بشيء، فإنه قد مكنه من نفسه، ويكون حينئذٍ رب العمل ملزماً بدفع أجرة العامل، فكذلك المرأة إذا مكنت نفسها ولم يمنعه أولياؤها منها، صار ذلك موجباً لثبوت حقها في النفقة عليها.

    لزوم نفقة المرأة بتسليمها لزوجها ولو كان صغيراً

    قال رحمه الله: [وجبت نفقتها ولو مع صغر زوجٍ].

    [وجبت نفقتها] أي: على الزوج، هنا (وجبت) بمعنى: لزمت أو ثبتت نفقتها؛ لأن الواجب يطلق بمعنى: الثابت والمستقر، كقوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] أي: ثبتت على الأرض واستقرت، ومنه قوله: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب، ويطلق الواجب بمعنى اللازم الذي هو الحكم الشرعي.

    فمعنى (وجبت) أي: أصبحت النفقة واجبة على الزوج ولازمة، وفي الأول لم تكن واجبة عليه، لكن إذا تسلم الزوجة أو مكنته من نفسها فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها.

    [ولو مع صغر زوجٍ]

    من أهل العلم من قال: إن الزوج إذا سلمته الزوجة نفسها أو مكن الزوج منها، وجبت نفقتها بغض النظر عن كون الزوج صغيراً أو كبيراً، ومن أهل العلم من قال: إذا كان صغيراً لم تجب نفقتها عليه، وإذا كان كبيراً وجبت النفقة.

    فالمصنف رحمه الله قال: (ولو مع صغرٍ) إشارة إلى القول المخالف؛ لأننا قلنا: (لو) يؤتى بها إشارة إلى خلاف في المذهب، فيستعملها المصنف رحمه الله في المتن إشارة إلى القول المخالف في المذهب، فإذا قلنا: إن الصغير إذا مكنته الزوجة من نفسها أو تسلمها وجبت النفقة فإن الذي يدفع النفقة هو وليه؛ لأن الصغير لا يتولى القيام على ماله كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] وبالإجماع فإن الصبي لا يتصرف بماله، وإنما يتصرف وليه، فيجب على وليه أن ينفق على تلك المرأة.

    لزوم نفقة المرأة على زوجها ولو كان مريضاً أو معيباً

    قوله: [ومرضه]

    أي: ولو مع مرض الزوج، فإذا كان الزوج مريضاً، لا يمكن أن يطأ، أو كان صغيراً فالوطء منه ليس كما إذا كان كبيراً، فبين رحمه الله أننا لا نلتفت إلى العذر، بل نلتفت إلى أن المرأة لها حق النفقة متى مكنته من نفسها وسلمتها إلى هذا الزوج، ما لمانع منه لا يعنيها، كما أن الأجير إذا مكن نفسه ممن يستأجره فإنه يجب عليه أن يدفع له أجره.

    قوله: [وجبه]

    قد تقدم أنه من العيوب، فلو كان مقطوع الذكر لا يتأتى منه أن يجامع ففي هذه الحالة تلزمه النفقة؛ لأن النفقة ليست قضيتها قضية الجماع فقط، بل ولأن المرأة أسيرة عند الزوج، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإنهن عندكم عوان) وهو يقتضي ثبوت حق النفقة، ولذلك قد تكون المرأة عند زوجٍ لا يأتيها ككبير السن ونحو ذلك، فلا يشترط أن يكون قادراً على الجماع، فالعبرة بكون المرأة مكنت من نفسها، وسلمت نفسها إلى الزوج.

    قوله: [وعنته]

    هذا أيضاً من العيوب، ومراده أن يقول: إذا كان العيب موجوداً في الزوج وقالت الزوجة: مكنتك من نفسي، أو سلمها أولياؤها إليه، ففي هذه الحالة لا يعنينا وجود العيب فيه أو العذر، والذي يهمنا هو أن للمرأة حقاً، وهو أنه متى مكنت الزوج من نفسها بغض النظر عن كونه يقدر كالكبير الصحيح القادر على الوطئ، أو لا يقدر كالصغير أو المجبوب أو من به عنة -وهو من لا ينتشر عضوه- وقد بينا هذا في عيوب النكاح، فهؤلاء كلهم فيهم عيوب تمنع الوطء.

    ونحن بينا أن العلة ليست أن يجامع أو لا يجامع، فإذا مكنت من نفسها وسلمت إلى زوجها وجب حقها في النفقة، ووجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وبينا أن هذا مبني على الأصل، وليس الجماع هو المعول عليه من كل وجه؛ إنما العبرة بكون المرأة سلمت ومكنت الزوج من نفسها.

    حكم امتناع المرأة عن تسليم نفسها حتى تقبض صداقها الحال

    قال رحمه الله: [ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال]

    إذا تزوج الرجل من امرأة، وعقد عليها وسمى لها صداقها حالاً أي: نقداً، فقال: مهرك -مثلاً- ثلاثون ألفاً أدفعها نقداً، أو قال: ثلاثون وسكت، فإذا سكت وجب دفعها نقداً؛ لأن المؤجل خلاف الأصل؛ فإذا اتفقوا على الثلاثين ألفاً ولكنه لم يحضرها، فمن حقها أن تمتنع من تمكينه من نفسها، ومن حق أوليائها أن يمنعوه حتى يدفع المهر؛ لأن مقاطع الحقوق عند الشروط.

    فإذا سكتوا على كون المهر مسمىً بدون تأجيل وجب تعجيله، وهذا أشبه بالشرط؛ لأن العقد أصلاً يتضمن التزامات من الزوج والزوجة، فواجب على الزوج أن يؤدي ما التزم به وواجبٌ على الزوجة أن تؤدي ما التزمت به، فمما فرض الله عز وجل أن يعطيها مهرها، ولذلك قال تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]

    فمن حقها أن تمنع زوجها أو يمتنع أولياؤها من تسليمها حتى يدفع الزوج المهر كاملاً، وهذا قد يكون له سبب؛ فإن المرأة في زواجها قد تتحمل أموراً في لباسها، ويتحمل أولياؤها أموراً في تهيئتها لزوجها، وتهيئة بيتها لها، وهذا يحتاج أن يكون عندها المال أو يكون عندها المهر، فإذا قالت: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي صداقي، فهذا من حقها، وكذلك من حق والدها ومن حق وليها أن يمنعها منه حتى يؤدي صداقها الحال.

    ولما قال رحمه الله: (الحال) مفهومه أن المؤجل ليس من حقها أن تمتنع بسببه، فلو قال: أدفع لك عشرة آلاف الآن وعشرين بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فإنه ليس من حقها أن تمتنع حتى يدفع لها المؤجل؛ لأن المؤجل إلى أجل، وبناءً على ذلك لا تمتنع إلا إذا اشترطت وقالت له: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي الصداق كاملاً، فقال: إذاً: أدفع لك عشرة هذه السنة، والعشرة الثانية في السنة القادمة، والعشرة الثالثة في السنة الثالثة، فمعناه أنه سيكون الدخول بعد السنة الثالثة.

    وهذا على حسب ما يتفق عليه الزوجان؛ لأنهم إذا تراضوا على شيء وتم العقد على اشتراط شرطٍ لا يعارض الشرع ولا يناقضه، وجب الوفاء به.

    حكم امتناع المرأة بعد تسليمها نفسها

    قال رحمه الله: [فإن سلمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملك]

    أي: (فإن سلمت نفسها) في هذه الحالة، وهي أن يكون لها استحقاق في المهر المعجل، فقال لها: مهرك ثلاثون، فاتفقا على ذلك، فقيل له: ادفع المهر، قال: ليس عندي إلا عشرون، فسلمت نفسها له على أساس أنه دفع ثلثي المهر، فلما سلمت نفسها أو مكنته من نفسها أرادت أن ترجع، فهنا سقط حقها في الرجوع، ووجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وفائدة إسقاط حقها: أنها لو امتنعت تكون ناشزاً ويسقط حقها في النفقة.

    فإذا مكنت زوجها من نفسها مع أن من حقها أن تؤخر، فقد دل هذا الفعل على الرضا بالتأخير والرضا بإسقاط حقها، فإذا أسقطت الحق فليس من حقها أن ترجع عن هذا الإسقاط؛ لأن حقوق المقابلة لا يملك الإنسان الرجوع فيها.

    1.   

    إعسار الزوج بالنفقة

    قال رحمه الله: [وإذا أعسر بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أو المسكن، فلها فسخ النكاح]

    العسر ضد اليسر، وعسر النفقة أن لا تتيسر للإنسان، ويكون عسر النفقة على صورتين:

    الصورة الأولى: أن لا يجد شيئاً، وهو حال الفقير، فلا يجد شيئاً له ولا لزوجته.

    والحالة الثانية: أن يجد بعض النفقات، ويجد بعض القوت الذي لا يسد الكفاية.

    خيار الفسخ للمرأة في حال إعسار الزوج بالنفقة

    فإذا أعسر ولم يقم بواجب النفقة على الزوجة فإنه اختلف العلماء رحمهم الله فيه، من أهل العلم من يقول: الإعسار في النفقات يوجب الخيار للزوجات، فالزوجة إذا حبسها زوجها ولم ينفق عليها ولو كان فقيراً -أي: لم ينفق عليها لعذر - فإن من حقها أن تطلب فسخ النكاح، ومعنى الخيار: أنها تخير بين أن تستمر وتصبر حتى يأتي الله بالفرج، وبين أن تفارق الزوج، وحينئذٍ يفسخ النكاح بينهما.

    ومن أهل العلم من قال: لا خيار في الإعسار بالنفقة.

    والذين قالوا: إن الخيار ثابتٌ في الإعسار في النفقة قالوا: إن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، ولا يمكن للحياة الزوجية أن تكون حياة زوجية والمرأة معذبة في عصمة الرجل، ولا يمكن أن تقوم المرأة بحقوق الرجل والرجل لا يقوم بحقوقها في النفقات، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لما فيه من الحرج والمشقة، ومعلوم أن المرأة إذا أعسرت ولم تجد طعاماً -خاصة إذا كان عندها أولاد- ربما تعرضت للحرام لأجلهم، وتعرضت للضرر في دينها وفي عرضها، ومن هنا قالوا: إن الإعسار يوجب ثبوت الخيار.

    وقالوا: إذا كانت الشريعة أعطت المرأة حق الخيار في عيوبٍ تكون في الزوج، مثل عيوب الجماع إذا طرأت، فمن باب أولى في عيوب النفقة؛ لأن النفقة أعظم ضرراً وأشد خطراً من عيوب النكاح، فمن هنا قالوا: يثبت الخيار للمرأة، ونقول لها إذا أعسر زوجها ولم ينفق عليها: إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، فإن اختارت فسخ النكاح ورفعت الأمر للقاضي فإنه يوقف الزوج ويقول له: يا هذا، هل تستطيع أن تنفق على زوجك؟ فإن قال: لا أستطيع، ثبت عند القاضي إعساره وعدم قيامه بحق نفقة زوجته، فحينئذٍ يحكم بفسخ النكاح بينهما.

    والذين يقولون: إن الخيار لا يثبت بالإعسار يحتجون بالأحاديث الصحيحة التي منها: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من شدة الحاجة والفاقة، حتى أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت تشتكي إلى رسول الله من شدة ما تجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة وما يوقد في بيته نار.

    قالوا: فهذا يدل على أن الإعسار في النفقة لا يوجب الخيار.

    والحقيقة أن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن فقه المسألة: إذا لم تصبر المرأة، وأمهات المؤمنين كنّ صابرات راضيات؛ لذلك خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين الآخرة، فاخترن ما عند الله سبحانه وتعالى والرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فالحقيقة أن الاستدلال بهذه النصوص محل نظر؛ لأن الزوجات راضيات، ومحل الكلام إذا لم ترضَ الزوجة وقالت: أنا لا أستطيع، وهذا شيء أحمل فيه ما لا أطيق؛ فأصول الشريعة في الدلالة تقتضي ثبوت هذا النوع من الخيار، وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله تعالى: أن الزوج إذا افتقر واشتد أمره حتى حبس عن المرأة نفقتها؛ فإننا نقول له: إما أن تنفق عليها بالمعروف؛ لأن الله أمرك بالعشرة بالمعروف، وإما أن تسرحها بإحسان، ولا نستطيع أن نقول للمرأة إنها ملزمة بشرع الله عز وجل أن تبقى على هذه الحال التي لا تجد فيها قوتها ولا قوت أولادها؛ فهذا لا شك أنه مخالف لأصول الشريعة، وبناءً على ذلك: ترجح القول القائل بأن الخيار يثبت للزوجة إذا أعسر الزوج بالنفقات.

    وأما إذا صبرت المرأة فلا شك أن هذا أفضل وأكمل، ما لم تخش على دينها، أو على عرضها، فإذا خافت الفتنة ووجدت أن هذا ليس بيدها فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن من حيث الأصل صبرها وتحملها واحتسابها للأجر عند ربها لا شك أنه أعظم، والله تعالى يجعل مع العسر يسرا، فمن هنا (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6].

    وشهد الله جل وعلا أنه لا يكون عسر إلا معه يسر، وكرر إثبات هذا اليسر مرتين، فصار العسر في الآية الأولى والثانية واحداً، واليسر الذي شهد الله به مرتين، فمن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله شهد باليسر، فإذا صبرت المرأة واحتسبت فالحمد لله، وأما إذا طالبت بحقها فلها حق الفسخ.

    تخيير المرأة عند إعسار الزوج بالكسوة

    [أو الكسوة]

    بأن يطعمها ولكن لا يكسيها، مثلاً: رجل عنده القوت وليس عنده المال الذي يشتري به الكسوة، فقلنا له: اكس زوجتك، فقال: ليس عندي ما أكسوها به، ففي هذه الحالة نقول للمرأة: أنت بالخيار، فإن تضررها بالعري وتضررها بعدم الكسوة قد يوجب لها الحرج، وقد يكون بالغاً، مع أنه قد يعرضها للحرام كما لا يخفى، وقد يضرها؛ لأن كسوة الشتاء تحتاجها لصلاح نفسها، فإذا كان لا يكسوها وبقيت على كسوة واحدة أو على كسوة بالية، تضررت في صيفها وتضررت في شتائها، وهذا لا شك أن فيه حرجاً وفيه ضيقاً على المرأة، والله عز وجل يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] أي: ليس في حكم الله ولا في شرع الله الحرج والضيق الذي لا يتحمله الإنسان، أو يوجب له العنت.

    ومن هنا نقول: إن المرأة إذا لم تُكْسَ تعرضت للحرج، فلو قلنا لها: اصبري، صار أمراً بالحرج، وهذا ليس من حكم الله عز وجل، ولذلك الذين قالوا بثبوت الخيار في الإعسار منهم من فصل فقال: الإعسار يثبت في القوت وفي الكسوة، أي: سواء أعسر في القوت، أو أعسر في الكسوة؛ لأن الزوجة تتضرر بهما.

    تخيير المرأة عند إعسار الزوج ببعض النفقة

    [أو ببعضها]

    قلنا: الإعسار على صورتين: إما إعسار كلي بأن لا يجد النفقة، أو إعسار جزئي وهو الذي يجد بعض النفقة، فالمرأة تتضرر بعدم وجود النفقة التي تحصل بها الكفاية، فإذا كان -مثلاً- قوتها من الطعام لا يجد إلا نصفه، وقال: ليس عندي إلا نصف طعامك، أو نصف ما يكفيك وأولادك، فإنه إعسارٌ.

    ولو أنه كساها بعض الكسوة لا كل الكسوة، أي: أنه يكسوها في الصيف ولا يكسوها في الشتاء، على القول بأن لها كسوتين: كسوة في الصيف والشتاء؛ فإن كسوة الصيف تضرها في الشتاء، وإن قال لها: أكسوك في الشتاء ولكن لا أستطيع كسوة الصيف، فإن لباس الشتاء لا يمكن لباسه في الصيف، فهذا فيه ضرر على المرأة، وحينئذٍ يثبت لها الخيار في الإعسار، سواءً كان بكل ما يجب أو ببعض ما يجب.

    قوله: [أو المسكن]

    أي: بأن قال: إني لا أجد لك مسكناً، وهي ساكنة في بيت أبيها، أو مثلاً أخذها وأسكنها في موضع عراء لا يعتبر مسكناً في العرف، فهو ملزم بأن يسكنها بالمعروف.

    مثال الإعسار بكل السكن: أن يضعها في بستان أو في أرض عراء ويقول لها: ما عندي شيء حتى أسكنك في مسكن، فنقول لها في هذه الحالة: لك الخيار، إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، ويقال له: إما أن تسكنها بالمعروف ويكون لها السكن الذي أمر الله عز وجل بما لا حرج عليك فيه ولا مشقة، وإما أن تسرحها بإحسان.

    قوله: [فلها فسخ النكاح]

    أي: أنه من حقها، لكن لا نوجب عليها، فهو ما قال: فيجب عليها فسخ النكاح، أي: أنها بالخيار؛ ولذلك سموه خياراً، يعني: لها أن تختار أحد الأمرين إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تطالب بحقها فتفسخ النكاح.

    ما يلتحق بالإعسار بالنفقة من الصور

    قال رحمه الله: [فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن حاكم]

    بين رحمه الله صورة من صور الإعسار الحكمي، فإنه قد يعسر حقيقة، وقد يكون الحال والصورة صورة الإعسار، مثل أن يسافر عنها، أو يذهب إلى عمل في ضاحية في المدينة، أو يخرج من البيت ويتركها، فيغيب عنها ولا يترك لها أي نفقة، ولا تستطيع أن تستدين من أحد على حسابه إن جاء.

    في هذه الحالة صار إعساراً في حكم امتناعه هو؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يغيب حتى يترك لأهله وولده قدر كفايتهم، والله أمره أن يتقيه سبحانه فيمن يعول، فإذا خرج وسافر وهو لا يبالي بزوجته، ولا يعطيها حقوق نفقتها في الطعام، والكسوة، والسكن، ولم يترك لها ولأولادها ما يكفيهم، فحينئذٍ فصل بعض العلماء واختاره المصنف، أنه يقال لها: هل بإمكانك أن تستديني من أحد حتى إذا حضر الزوج يطالب برد هذا الدين وقضائه عنك؟ إن قالت: نعم، لزمها أن تستدين، وليس من حقها أن تطالب بالفسخ؛ لأن الأصل بقاء العقد، والأصل بقاء العصمة، والزوج قد تأتيه ظروف لا يتمكن معها من إرسال النفقة.

    فإذا أمكن أن تستدين فإنه لا يبقى إلا هذا الخيار، وأما إذا تعذر عليها بأن يكون زوجها غريباً، أو أهلها فقراء وليس عندهم مال، أو لا تعرف أحداً يدينها، أو الناس الذين تعرفهم فيهم شح وبخل فلا تتمكن من الاستدانة، فلا الزوج ترك لها النفقة، ولم تتمكن من الاستدانة، وليس عندها مال تنفق، ففي هذه الحالة يثبت الخيار لها في قول طائفة كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن هذا في الضرر كالإعسار في النفقة؛ لأنها تعرضت لنفس الحالة التي تعرضت لها في حال وجوده.

    قالوا: فلا فرق، فكما أن الزوج لو كان حاضراً وحصل لها ما حصل من الضرر، فإن من حقها أن تطلب الفسخ، فكذلك لو غاب، وهو الذي فرط، وهو الذي ضيع حقه؛ لأنه كان المنبغي أن يحتاط بترك حقها وحق أولادها ونفقتها ونفقة من يعول، فلما ترك ذلك لزمه حكم الشرع بالفسخ، هذا بالنسبة لحالة غيابه دون أن يترك نفقة ودون أن تتمكن المرأة من الأخذ على سبيل الدين، سواء من مالها أو من قرابتها أو ممن تعرف.

    1.   

    الأسئلة

    حكم التضييق على المرأة في النفقة إذا كانت تجعلها في الحرام

    السؤال: إذا كانت المرأة تنفق ما يعطيها زوجها من النفقة فيما حرم الله، فهل يجب أو يجوز التضييق عليها؟

    الجواب: هذا السؤال في الحقيقة يتأتى فيما إذا أعطاها المال نقداً، بحيث تتمكن من شراء المحرمات، وإذا أعطاها المال نقداً من أجل أن تشتري طعامها وتشتري كسوتها، وهذا يستطيع أن يشتريه بنفسه، وإذا رأى أنها تسرف إسرافاً زائداً عن الحد فإنه يتابعها، لأن بعض الإسراف قد يسكت عنه الإنسان من باب الكماليات التي ليس فيها الحرام، فهذا يمكن أن يغض النظر عنه ويتسامح فيه.

    لكن إذا أنفقت المال الذي يعطيه لها ولأولادها في شراء المحرمات فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يقوم بشراء طعامها، ويوكل من يشتري لها كسوتها، أو يذهب بنفسه ليختار لها، أو يذهب معها لكي تشتري ما تريد من الكسوة التي لها ولأمثالها بالمعروف، ولا يمكنها من المال إذا كانت تعصي الله عز وجل به أو تشتري به المحرمات، وهذا واجبٌ عليه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] فالواجب عليه أن يقي زوجه من نار الله عز وجل ومن سخطه وغضبه، والله تعالى أعلم.

    حكم القول بأن نسك الإفراد منسوخ

    السؤال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) يستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنه لا يجوز إلا نسك القران والتمتع، ومنع نسك الإفراد فما الحكم؟

    الجواب: هذا القول شاذ عند العلماء، قال به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وخالفه جمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه الأئمة المأمور باتباعهم من الخلفاء الراشدين، فإن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في أكثر من خمس وعشرين سنة مدة خلافتهم الراشدة كلها ما حجوا إلا مفردين بالحج، وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن الإفراد منسوخ قولٌ ضعيف لا عمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإنما اختاره أفراد من العلماء، لكن النصوص واضحة:

    أولاً: ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما أتى ذا الحليفة قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحجٍ وعمرة فليهل) ثم أمر عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه بعمرة، فهذا الفسخ المراد به بيان مشروعية العمرة في أشهر الحج، وليس بيان لزوم أن يكون النسك في الحج تمتعاً، وفرق بين المسألتين، ولذلك قال أبو ذر في صحيح مسلم -وهم الصحابة الذين هم أعلم بالتنزيل- : (متعتان لا تصلح إلا لنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج) يعني: الإلزام بفسخ الحج بالعمرة.

    فهذا الإلزام فهمه ابن عباس مطلقاً، وكان ابن عباس رضي الله عنه من صغار الصحابة وانفرد بالقول بحل المتعة، وانفرد بمسائل معروفة من ربا الفضل ونحوه، وله جلالة قدره وعلمه ولكن لا يؤخذ بقوله إذا خالف من هو أعلم منه، وقد قرر هذه القاعدة بنفسه، ففي الصحيحين عنه لما أفتى بربا الفضل قال أبو سعيد : (يا ابن عم رسول الله! ألا تتقي الله؟! أيأكل الناس الربا بقولك؟ أهذا الذي تقول به وتفتي به شيء وجدته في كتاب الله، أو شيء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما كتاب الله فلا -أي: ليس فيه نص يدل على ربا الفضل- وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني).

    هكذا لا يعرف الفضل إلا أهله، وهذه مسألة واضحة جلية، جماهير سلفنا الصالح والأئمة رحمهم الله من الصحابة والتابعين وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعتمد عليهم في العمل والفتوى لا يحجون إلا مفردين، وهم الخلفاء الراشدون، وعلي رضي الله عنه لما رأى الناس قد يظنون أن المتعة لا تحل أهل بها وصاح بالعمرة لكي يرد على العكس.

    فلا الذين يقولون بالإفراد دائماً مصيبون، ولا الذين يقولون بالتمتع مطلقاً مصيبون بحيث يلزمون به الناس؛ إنما العدل الذي ينبغي القول به أنها أنساك ثلاثة خير الناس بينها، وأن الشريعة أرادت أن ترد على أهل الجاهلية في بدعتهم حينما كانوا يمنعون من العمرة في أشهر الحج؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وهو الذي أفتى بهذه الفتوى كما في صحيح البخاري: (كانوا يقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر) فمنعوا من العمرة في أشهر الحج، وكانوا يرون أن من أفجر الفجور أن يأتي الشخص بعمرة في أشهر الحج؛ ولذلك خالفهم الشرع وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه من لم يسق الهدي أن يتحلل ويجعلها عمرة.

    وأما مسألة أن الإفراد منسوخ فهذا قول شاذ، يقولون: إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وليس معه هدي فقد حل شاء أو أبى، هذا قول شاذ؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه، وكان هذا الحديث ليلة عيد النحر، وهذا الصحابي رضي الله عنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المشعر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، ما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليلٍ أو نهار، فقد تم حجه).

    فهذا نص واضح على أن الإفراد لا زال باقياً، وهذا الحديث متأخر عن الأمر بفسخ الحج بالعمرة، ولذلك فالصحيح أن إيجاب الفسخ الذي يقول به ابن عباس رضي الله عنه خاص بتلك السنة.

    وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (دخلت العمرة في الحج) أي أنه يجوز فعل العمرة في أشهر الحج، حتى لا يظن أن ذلك خاص بتلك السنة فيعود الناس إلى عادة الجاهلية.

    ومن هنا فالأحاديث واضحة في دلالتها، فينبغي أن يحمل كل نص على دلالته، فالأحاديث التي دلت على أن العمرة دخلت في الحج، معناها أنها دخلت في أشهر الحج فحل وقوعها في أشهر الحج؛ لأنها لها سبب، وليس المراد أنه لا يمكن أن يأتي الإنسان بحج منفرد وأنه لابد أن يكون معه عمرة إما قران أو تمتع، لأنه لابد من ربط السنة القولية بالسنة الفعلية، وسبر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والأحوال التي قيلت فيها النصوص حتى تفسر النصوص كما وردت، وتربط بفهم السلف الصالح.

    فإذا كان أئمة الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدون من بعدهم قد فهموا ذلك وفسروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فالواجب العمل بذلك، ولا شك أن القول ببقاء نسك الإفراد نسكاً شرعياً يخير المنسك فيه هو الأرجح، ولذلك اختار شيخ الإسلام رحمه الله أن الأفضل للشخص إذا أمكنه أن يأتي بالعمرة بسفر مستقل والحج بسفرٍ مستقل، فالأفضل له أن يفرد، وأما إذا أمكنه أن يسوق الهدي معه من بلده فالأفضل له القران تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم.

    وإن كان كما هو حال كثير من الحجاج الذين يأتون من الخارج ويصعب عليهم الإتيان للعمرة بسفرٍ مستقل، فالأفضل لهم التمتع، هذا من أفضل الأقوال في الجمع بين الأنساك الثلاثة؛ لأنه جمع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع أيضاً بين الآثار الواردة عن الصحابة.

    فإن عمر بن الخطاب وعلياً رضي الله عنهما وهما أعلم بكتاب الله كانا يقولان في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) أي: تنشئ للحج سفراً مستقلاً وللعمرة سفراً مستقلاً، فهذا أعظم للأجر وأتم للحج والعمرة.

    ثم قول ابن عباس كما يقولون: إن الأمر بالفسخ معارض للقرآن، لأن القرآن يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] أي: إذا أحرمتم بحجٍ أو أحرمتم بعمرة فأتموها، سواءً وقعتا مجتمعتين أو منفردتين؛ وهذه الآية تدل على لزوم إتمامه بالإجماع، حتى أن الحج لو فسد يجب عليه أن يتمه مع الفساد.

    ولذلك قضى أبو هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب إتمام الحج الفاسد، وعمر رضي الله عنه قضى بذلك: فإن الرجل لما جامع زوجته قبل عرفة أمره رضي الله عنه أن يمضي في نسكه الفاسد وأن يتمه.

    فنسك الحج لا يقال بوجوب فسخه لكن ممكن أن نقول للإنسان: افسخ حجك بعمرة وارجع بحجة وعمرة فهذا خير لك وأفضل، وليس هناك مانع من ذلك، مثلاً: جاء الحج، فنقول له قبل أن يطوف بالبيت: افسخ حجك بعمرة حتى تصيب العمرة مع الحج وتصبح متمتعاً وتنال فضيلة التمتع، وليس هناك بأس في هذا، لكن هذا على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، وفرق بين الإلزام وبين التخيير، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين بيع التورق والتقسيط

    السؤال: فضيلة الشيخ ما هو التورق، وهل هو نفس بيع التقسيط، وما حكمه؟

    الجواب: التورق: من الورق، أي: أن الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها من أجل أن يسدد ديناً أو يتزوج، أو يبني بيتاً، فهو يريد مالاً وليس هناك أحد يسلفه هذا المال، فاشترى سيارة بعشرين ألفاً مقسطة، ثم باعها نقداً، قالوا: إنه يريد الورق.

    فجمهور العلماء على أن من اشترى سيارة أو اشترى عيناً مؤجلة، ثم باعها معجلة بالنقد لغير الذي اشترى منه، كأن تأخذها من معرض ثم تبيعها على معرض أو على مشترٍ ثانٍ؛ فلا بأس في ذلك ولا حرج.

    والدليل على ذلك هو قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] فإنك لو اشتريت السيارة بالتقسيط بمائة ألف، فإنه يجوز بيع التقسيط ولا حرج فيه إلى أجل، فهذا بيع صحيح، ثم إذا بعتها على يدٍ ثانية بيعاً شرعياً تملكه به وقيمة السيارة حاضرة بتسعين ألفاً، قالوا: يجوز لك أن تملك هذه التسعين ولا بأس.

    أما كونك تدفع الزيادة في الأجل لزيادة الأجل فهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) لأن هذا ما يحصل به ربا؛ لأنه من المعدودات، والربا هو في المكيلات والموزونات، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كانت تأتي عليه الغزوة فجأة وليس عنده ظهر يركبه، فيأمر عبد الله بن عمرو أن يستدين للجيش، فيأخذ مائة بعير بمائتين ليرد لصاحب البعير بعيرين (أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) أي: إلى أجل، وهو أن يأتي الناس بصدقاتهم فتقضى هذه الديون، فدل هذا الحديث على أن قيمة النقد ليست كقيمة المؤجل قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3] فإذا كانت السيارة قيمتها إلى أجل بـ [90] ألفاً أو بـ [100] ألف فلا بأس ولا حرج، هذا بيع شرعي، فقد أحل الله بيع المؤجل كما أحل المعجل ما لم يدخله الغرر.

    لكن المحظور أن تبيع لنفس المعرض؛ لأنه لو باع لنفس المعرض الذي اشترى منه بمائة إلى آخر السنة القادمة، فباعها نقداً بتسعين أصبحت الحقيقة أنه بيع [90] نقداً مقابل [100] إلى أجل، وهو بيع العينة الذي حرمه العلماء وهو قول الجمهور، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فالمقصود أن التورق غير مسألة العينة، العينة يبيع لنفس المعرض الذي أخذ منه، لكن التورق يبيع لشخص آخر، فإذا باع لشخصٍ آخر فالجمهور على أن هذا ليس به بأس، وأنه لا حرج عليه.

    وشدد فيها بعض العلماء فقالوا: إن هذا الشخص يريد المال، فأصبح كأنه أخذ مائة حاضرة بمائة إلى أجل، وهذا عين الربا، فردوا عليهم بأنه يصير عين الربا لو كانت اليد واحدة، ولكن أخذ من شخص وأعطى لشخص آخر هذا ليس بربا.

    ثم قالوا لهم: إذا كانت العلة في التحريم عندكم أنه اشترى بمائة إلى أجل وباع بمائة حاضرة لحرمت بيوع التجار؛ لأنهم هنا يقولون في التورق: هذا مقصوده المال، وليس مقصوده السلعة، فنقول: والتجار مقصودهم الأموال وليس مقصودهم السلع؛ لأن التاجر حينما يشتري عشر سيارات ما يريد إلا أن المليون التي دفعها في العشر ترجع له مليوناً ونصفاً، وهذا لا يشك فيه أحد، فهي حلال على الغني حرام على الفقير الذي جاءه ظرف!! ما يمكن هذا؛ لأن الصورة عكسية، الغني يشتري بمليون ويربح مليونين ويتأخر في بيعها حتى تنفد، والفقير اشترى إلى أجل فليس برابح بل هو خاسر عكس الغني؛ لأنه سيدفع مائة ويأخذ تسعين.

    وبما أنه ليس هناك نص يدل على تحريم هذا، والعلة العقلية التي ذكروها منتقضة، فإنهم إذا كانوا يقولون: هذا مقصوده المال وليس مقصوده التجارة، قلنا: ليس هناك تاجر يشتري سلعة وهو يريد السلعة، فحينما تدخل بمال في التجارة، أو تدخل في معرض سيارات، أو تدخل في شراء القماش أو أي شيء تريد أن تتاجر فيه تدفع أموالاً وأنت تريد المال.

    وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذا وصحة قول جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله لما اختار هذا القول روجع كثيراً في هذه المسألة؛ لأن الحقيقة أن القول بجوازها يؤيده عموم النص: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] فإنه أصلٌ في حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه.

    وكذلك أيضاً العلة التي جعلوها موجبة للفساد منتقضة، بدليل أنهم يبيحون للتاجر أن يشتري وقصده المال، غير أن التاجر ربح وصاحب الدين غرم، فالأول غنم والثاني غرم، وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذه الصورة وأنه لا بأس بها.

    وأما بيع التقسيط: فالتقسيط بيعٌ مشروع، ولكن هناك صور محرمة، ووجود الصور المحرمة لا تقتضي تحريم البيع نفسه.

    وبيع التقسيط يقوم على أن تشتري شيئاً وتدفع قيمته أقساطاً بزيادة، ففيه أمران:

    الأمر الأول: تقسيط الدفعات، والثاني: الزيادة على قيمة السلعة لقاء الأجل.

    فأما الزيادة على السلعة لقاء الأجل ففيها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو دالٌ على جواز مثل هذا لقاء الأجل؛ إنما المحرم أن يقول له: إن أخذتها ودفعت الأقساط في سنة فهي بمائة ألف، وإن دفعتها في سنتين فمائة وخمسون، فيخرج من عنده ولم يحدد هل هي إلى سنة أو سنتين أو ثلاث، فهذا عين الربا؛ لأنه يمكن أن يعجز في السنة الأولى فيختار التأخير للثانية وهذا عين الربا، وهو (زد وتأجل) الذي كان من ربا الجاهلية، لكن التقسيط الموجود والشائع في أكثر صوره خاصة عندنا هنا أن الشخص يأخذ بمائة ألف كل شهر يدفع قسطاً، فإذاً الزيادة لقاء الأجل مشروعة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (بعير ببعيرين) إذا كان باتاً، لأنه ما قال: فإن تأخرت فثلاثة أبعرة، إنما قال: ببعيرين، وهذا الذي يسمونه الجزم والبت، فإن كان التقسيط على البت فلا إشكال.

    بقيت قضية كون المال أقساطاً فهذا فيه حديث صحيح، وهو حديث عائشة في الصحيحين، فإن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة في قصة أهلها لما كاتبوها وعجزت عن أقساط الكتابة، فنفس عقد الكتابة أقساط مؤجلة، وقد أحل الله عز وجل الكتابة في كتابه وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي -أي: الكتابة- مكاتبة بين العبد والسيد قائمة على بيع الأجل بالأقساط، فإذاً: وجود الأجل في التقسيط لا يمنع شرعاً لأن له نظيراً من نظيره.

    ووجود الزيادة لقاء الأجل لا يمنع، إنما الممنوع أن يقول له: هي لك مؤجلاً على أن تدفع لقاء تأخير كل سنة من القيمة الحقيقية 6% من القيمة الإجمالية أو 10% ، أو 5%، فهذا عين الربا ولا يجوز، حتى ولو علم أنه سينتهي في السنة الأولى، ولذلك تجد بعض الناس واثق من نفسه أنه سيسدد في السنة الأولى ويقول: إذاً لا أقع في الربا، نقول: لا، رضاك بالعقد كفعلك له؛ لأن كتابة هذا الربا فيه اللعنة، وحينما رضي به فإنه ملزم به، والراضي به يعتبر شريكاً لصاحبه في الإثم؛ لأنه يؤكل الربا.

    وعلى كل حال فبيع التقسيط ليس من البيوع المحرمة للوجوه التي ذكرناها من دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم.

    حكم أداء تحية المسجد وقت الأذان يوم الجمعة

    السؤال: يقول السائل: دخلت المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني، فهل أصلي ركعتين تحية المسجد أو أستمع إلى المؤذن وأصلي بعده أثناء خطبة الإمام؟

    الجواب: في الحقيقة إذا استمعت للمؤذن الأذان الثاني سيفوتك شيء من الخطبة، وعند العلماء هذه المسألة تعتبر من مسائل الازدحام، فعندهم مسائل يسمونها مسائل الازدحام، حيث ازدحم عندنا الاستماع للخطبة من أولها ومتابعة الأذان، وذكر الخطبة واجب؛ لأنه أمر بالإنصات له، فهو في مقام الواجبات، ولذلك أمر بالإنصات له وعدم الانشغال عنه، بخلاف الإنصات للمؤذن فإنه في الرغائب، فالأول بمنزلة الواجبات المؤكدة وهو المقصود من السعي إلى الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9].

    إضافة إلى أن الترديد وراء المؤذن من جنس العبادات واستماع الخطبة من جنس العلم، والعلم أشرف من العبادة، فمن هذه الأوجه اختار جمع من العلماء وكان اختيار الوالد رحمة الله عليه أنه يصلي ولا يردد وراء المؤذن، هذا كله على القول بأنه لا يردد أثناء النافلة، وهناك قول عند بعض العلماء أنه لو أذن المؤذن وأنت في نافلة فإنك تردد معه؛ لأنه من الذكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس وإنما هو التسبيح وقراءة القرآن وذكر الله) فقالوا: هذا من ذكر الله.

    لكن هذا ضعيف، والصحيح أنه لا ينشغل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أذكاراً محددة، فينبغي أن لا يردد معه، لكن يمكن أن يردد في نفسه، وكما لو كان في بيت الخلاء ونحو ذلك فإنه يردد في نفسه.

    وعلى كل حال أن تصلي تحية المسجد ثم تنصت للجمعة أفضل وأكمل، والله تعالى أعلم.

    حكم من اعتمر وسعى ثلاثة أشواط فقط

    السؤال: لو أن شخصاً اعتمر، وبعد الطواف سعى بين الصفا والمروة ثلاثة أشواطٍ فقط فما الحكم، هل عليه ذنب، أو الإعادة مرة ثانية؟

    الجواب: أولاً: ينبغي للمسلم أن يتقي الله في فرائض الله، الحج والعمرة أمر بإتمامهما ولا يجوز التلاعب بشعائر الله عز وجل فإن تعظيمها من تقوى القلوب، وتضييعها والاستخفاف بها لا يؤمن على صاحبه والعياذ بالله.

    وغالباً أن الاستخفاف بشعائر الله التي أمر الله أن تعظم وتركها وعدم المبالاة بها، هذا شيء يخشى على صاحبه، وعواقبه وخيمة؛ لأن الله تعالى أمر من أهل بالعمرة أن يتمها ومن أهل بالحج أن يتمه، إلا ما استثناه الله من الإحصار وغير ذلك مما يوجب الفسخ.

    على كل حال فيجب عليك أن ترجع وتتم سعيك، ونظراً لأنك سعيت ثلاثة أشواط ثم حصل الفاصل بين الشوط الثالث والرابع فقد انقطع التتابع، وعليك أن تبدأ بالسعي من أوله؛ لأنه يشترط في صحة السعي التتابع والموالاة، فإذا وقع الفاصل المؤثر كالأكل والشرب والخروج من المسعى فإنه يجب عليك أن تستأنف وتبتدئ سعياً جديداً، وعلى القول بأنه لا سعي إلا بطواف تطوف طواف نافلة ثم بعد ذلك تسعى بعده.

    لكن لو كان قد وقع جماع من هذا الشخص فإنها قد فسدت عمرته؛ لأنه لم يتم ركن العمرة، وإذا وقع الجماع قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة أو أثناء السعي قبل أن يتمه فإنه يحكم بفساد العمرة ولزوم إتمام الفاسد، ثم يقضي مكانها عمرة وعليه دم.

    حكم من صلى بالناس وهو محدث جاهلاً حدثه ثم علم بعد الصلاة

    السؤال: إذا صلى الإمام وهو على غير طهارة ولم يتذكر إلا بعد الصلاة، فذكر للمأمومين أنه صلى على غير طهارة، فما حكم صلاة الإمام والمأمومين؟

    الجواب: هذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء، جمهور العلماء على أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للطهارة أن صلاة المأمومين صحيحة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري : (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) فإذاً: صلاتكم تامة صحيحة وعليهم خطؤهم.

    فقالوا: إن من صلى وهو محدثٌ فقد أخطأ، فخطؤه عليه، ومن صلى وراءه فأتم الأركان واستوفى الشروط وأتى بالصلاة كما أمر فله صلاته، وهذا هو الصحيح، وفعل الصحابة دال على ذلك فإن مالكاً رحمه الله روى في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف، وبين الجرف والمدينة ما لا يقل عن أربعة أميال إلى خمسة أميال، فلما جلس على الساقية بعد طلوع الشمس رأى أثر المني على فخذه رضي الله عنه، فقال رضي الله عنه: (ما أراني إلا احتلمت وصليت وما اغتسلت) ثم اغتسل رضي الله عنه وأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة.

    وهذا يدل على أن الأصل أن صلاة المأمومين صحيحة ما دام أنه لم يتذكر أنه محدث إلا بعد سلامه ولم يعلم المأمومون بحدثه.

    أما الإمام فقولٌ واحد أنه يلزمه أن يعيد صلاته، فلو صلى وهو يظن أنه طاهر ثم تبين أنه محدث حدثاً أصغر أو أكبر وجب عليه أن يتطهر كما أمره الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لـمسلم : (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) وهذه الصلاة بغير طهور، وبناءً على ذلك يلزمه أن يتطهر كما أمره الله، وأن يصلي على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.

    حكم بيع التماثيل للكفار

    السؤال: النجارون في بعض البلاد ينحتون التماثيل ويبيعونها للكفار بأثمان غالية، هل هذا جائز؟ علماً بأن هذه التماثيل منها ما هو من ذوات الأرواح.

    الجواب: التماثيل محرمة، ولذلك قال علي رضي الله عنه لـأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا كسرته، ولا صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل على حرمة التماثيل.

    وبيعها محرم بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) وحرم بيع التماثيل لأنها تفضي إلى أعظم الشرور، وهو الشرك بالله عز وجل؛ وتحريم بيعها من تحريم الوسائل المفضية للمفاسد.

    والوسائل منها ما هو وسائل تفضي إلى المصالح، ومنها وسائل تفضي إلى المفاسد، فهناك وسائل تفضي إلى المصالح مثل: ركوبك السيارة من أجل أن تصلي في المسجد، وركوبك السيارة من أجل أن تدرك الحج، هذا وسيلة إلى طاعة وعبادة وقربة، وكذلك قد تكون الوسيلة إلى شر وفساد، فالوسيلة إلى الحرام من الزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك تأخذ حكم مقصدها، فمن هنا قالوا: أعظم الوسائل شراً وأعظمها ضرراً وأعظمها إثماً بعظم مقصدها، فإذا كانت وسيلة إلى الشرك فهي أعظم الوسائل ذنباً، وأعظمها شراً، وتشدد فيها الشريعة، ولذلك نهي عن الغلو في صالح أو طالح، في دين أو دنيا؛ لأن العبد الصالح إذا غلوا فيه ربما عُبد من دون الله واعتقد فيه، ووقع الشرك المحظورَ.

    وأيضاً عظيم الدنيا إذا عظِّم وصار يُعْطَى أشياء لا تليق إلا بالله عز وجل، فإنه يصرف القلوب من الخالق إلى المخلوق، فلذلك نهي عن الغلو؛ لأنه وسيلة للشرك.

    كذلك نهي عن بيع الأصنام؛ لأنه وسيلة إلى تعظيمها، وعبادتها، فلا يجوز بيع الأصنام مطلقاً، وما ورد في السؤال أنه يبيعها إلى الكفار فإنه في قول جماهير العلماء رحمهم الله محرم، سواء باع لكافر أو مسلم، وكونهم كفاراً لا يعني أن نعينهم على معصية الله عز وجل، وهذا نوع من الإقرار على ما هم فيه؛ ولذلك كان القول بأن الربا يجوز مع الكفار وبيع الخمر يجوز للكافر، والأصنام يجوز بيعها للكافر، كلها اجتهادات في مقابل النصوص، وأرى أنها مصادمة لنصوص واضحة، ولو نُظر وتؤمل إلى المعاني والاجتهادات الشرعية التي هي خلافها لكان أولى وأحرى.

    فلذلك لا يجوز بيع الأصنام والتماثيل لا إلى مسلمين ولا إلى كفار، ودليلنا: عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فتح مكة نهى عن بيع الأصنام والتماثيل دون أن يفرق بين الذي يباع له هل هو مسلم أو كافر، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص لهذا العموم، ولذلك لا يجوز هذا البيع وماله حرام، لكن لو كسرت التماثيل وأريد الاستفادة من مادتها كالخشب فيصنع به شيء آخر ينتفع به، أو كانت من نحاس وبيعت نحاساً من أجل أن تصهر ويستفاد منها بشيء آخر، فلا بأس ولا حرج، شريطة أن لا تباع لمن يعيدها إلى حالتها التي كانت عليها، ويستوي أن تكون التماثيل لذوات الأرواح أو تكون لمعبودات من غير ذوات الأرواح ما دام أنها لعبادة، فيستوي في ذلك أن تكون من ذوات الأرواح أو غيرها، والله تعالى أعلم.

    حكم المبادلة بالنقد مع التفاضل

    السؤال: كانت مع أخي [500] ومعي [490] فاحتاج الصرف الذي معي، هل يجوز أن أبادله ما معي بما معه، أم يشترط التماثل رغم أنه قال: الزائد هدية مني إليك.

    الجواب: الصرف لا يجوز في المتماثلين إلا مثلاً بمثل يداً بيد، ففي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد - وفي لفظ - سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى).

    وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض - يعني: لا تزيدوا بعضها على بعض- ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز).

    فبين عليه الصلاة والسلام أنه يجب عند صرف الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون مثلاً بمثل، وهذه الأوراق النقدية ينظر إلى رصيدها، فإذا كان رصيدها من الذهب كالجنيهات والدولارات والدنانير وجب صرفها مثلاً بمثل يداً بيد، وإن كان رصيدها من الفضة كالريالات والدراهم فإنه يجب أن يكون صرفها مثل بعضها مع اتحاد الصنف، ريالات بريالات مثلاً بمثل يداً بيد.

    وأما كوننا ننظر إلى أن هذه ورقة وهذا حديد -كما يوصف الريال بالحديد- وأن هذا من اختلاف الصنفين فهذا بعيد، لأن هذه العملة في الأصل أعطيت مستنداً لدين، وهذا الدين كان ريالاً فضة حقيقياً، وكوننا لا نستطيع الوصول إلى الرصيد لا يلغي الأصل من وجود الدين، لأن الدين لا يُلغى رصيده حتى ولو ألغي حقيقة بالتعامل مع الجماعات في الدول بعضها مع بعض، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك يجب صرفها مثلاً بمثل ويداً بيد، فيجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض.

    ثانياً: أن هذا ليس من العدل وليس من الإنصاف، ولهذا حرمت الشريعة صرف الذهب بالذهب متفاضلاً؛ لأن المسلم يظلم أخاه حين يصرف ديناراً بدينارين، ظُلم صاحب الدينارين، والظلم الموجود في صرف الدينار بالدينارين في القديم موجود في هذه الورق نفسها في صرف الـ [500] بالـ [490] -مثلاً- لا يشك أحد، وهل أحد يشك أنه لو صرفت 10 ريالات من الورق بـ 9 ريالات من الحديد أنه لا يظلم صاحب الورق؟ لا يشك في هذا، ولولا أنه محتاج ومضطر ما صرف العشرة بالتسعة، وهذا كل واحد يعرفه والله عز وجل يقول: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] والرضا غير موجود في هذا، ولذلك تجده يعطيها وهو كاره وهو مضطر، وهو محتاج إلى هذا الشيء.

    وذكر العلماء في علل الربا والمعاني التي من أجلها حرمت الشريعة الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين: أن هذا ظلم للفقراء، ويجعل الأغنياء يحتكرون الأموال، فإذا جاء الغني وعنده أموال يريد أن يصرفها، صار الذي عنده سيولة أكثر يأخذ أموالاً بدون تعب وعناء، وهذا هو الموجود الآن في الصرف، فإنه إذا كان عند الشخص القطع المعدنية استغل حاجة أصحاب المرض، فاليوم يصرف له عشرة ريالات بتسعة، وغداً لو صرفها بخمسة ريالات لم ينكر عليه أحد؛ لأنه يقول: عندي فتوى بجواز هذا، ولذلك تجده يمر على الشخص يكون له راتب دون [500] ريال فيصرف الخمسمائة بالنقص ثم المئات بالنقص، ثم الخمسينات بالنقص، ثم العشرات بالنقص، ماذا يبقى له من راتبه؟ يؤول له الأمر بعد أن كدح وتعب على [500] إلى أنها [490] والمستفيد الأول والأخير هو الغني على حساب الفقير.

    ونفس المعنى موجود في الذهب والفضة لا يختلف عنه، فيتضرر الأفراد وتتضرر الجماعة بالصرف المتفاضل، والموجود في القديم موجود الآن إذا صرف الريال بغيره متفاضلاً.

    ثانياً: لو قيل: إن هذا الورق ليس له رصيد، فلماذا أمر بزكاته؟ فالله ما أمرنا بزكاة الورق، إنما أمر بزكاتها لأن رصيدها مأمور بزكاته، والورق ليس فيه زكاة، إذ ليس في شرع الله أمر بتزكية الورق إنما أمر بتزكيتها لأن رصيدها من الذهب، أو رصيدها من الفضة، فالعلة كلها تدور على أن الرصيد ألغي، فنقول: لو أن شخصاً استدان من شخص وأعطاه مستنداً وقال له: لا رصيد لك، لم يصح شرعاً، كذلك إلغاء الرصيد واقعٌ في غير موقعه، أي: لا يؤثر في حقيقة الريال؛ ولذلك تجد نفس الخمسمائة تسمى خمسمائة ريال التي هي برأس واحد وورقة واحدة، والخمسمائة من المئات تسمى باسم واحد فالورق هو نفس الورق، والاسم هو نفس الاسم، ولذلك سمي الحديد باسم الورق، ولهذا كان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، العلامة الإمام المجدد، هذا الإمام العظيم الذي في الحقيقة ما رأيت عالماً حفظ الفقه على أصول المتقدمين مع عمق في العلم والورع مثل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ومن أراد أن ينظر إلى الفقه المؤصل الذي أبدع فيه وأجاد رحمه الله خاصة في الفتاوى يحار من دقة هذا الإمام -والله لا أقولها مبالغة إنها حقيقة- من يدرس هذه الفتاوى يجد فيها العجب، وحدثني من أثق به من المشايخ، يقول: أنا كنت من رجال الحسبة، وكان يرسلني لتعزير من يصرف الريال بتسعة عشر أو ثمانية عشر قرشاً، قال: أنا ممن عزر في هذا بأمره، كان يرى أنه يجب صرفها متماثلة، وعلى كل حال: الصحيح أنه يجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض وأن تكون مثلاً بمثل يداً بيد، إعمالاً للأصل، والله تعالى أعلم.

    أما قوله: الباقي لك هدية، فهذا حيلة، وإذا أراد أن يهدي فليقبض أولاً ثم يهدي، فهناك عقد صرف وهناك عقد هدية، فبعد ما ينتهي الصرف على السنن الشرعي يعطيه ما شاء، وحينئذ سترى هل تجد هدية أو لا تجد؟

    وعلى كل حال هذه حيلة على الشرع، فمكنه من مالك ثم انظر هل يهدي أو لا يهدي، على كل حال الأصل يقتضي أن تقبض ويقبض، وانظروا إلى عدل الشرع، فإنه من أروع وأجمل ما يكون!

    الناس يظنون أنه إذا حرمنا هذه المعاملات أننا نضيق، والله ما من حكم يستنبط من الشريعة فيه تحريم إلا وجدت فيه من الرحمة ما لا يحصى، ثم انظر إلى عدل الشريعة: تعطيه خمسمائة كاملة، وتقول الشريعة: لا تأخذ بذلها إلا كاملة، يقول لك: أنا راضٍ، تقول له: ترضى بإتلاف مالك!! هذا سفه، والشريعة تحجر على السفيه، ولو كان راضياً أن يدفع تسعة مقابل عشرة، لكن لا يرضى بذلك عاقل.

    ولذلك حرمت الشريعة بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، حتى لا يستغل الغني الفقير والقوي الضعيف، وهذا من عدل الله عز وجل، وتجد أن الشريعة أمرت بالتماثل في الموزونات والمكيلات، لكن المعدودات ليس فيها تماثل؛ لأنك لو أردت أن تبيع ثوباً بثوبين فقد تجد الثوب من الجودة بحيث يكافئ الثوبين، لكن الموزون محرر والمكيل محرر، وهذه الريالات في أصلها من الورق لها وزنها، ولذلك وجب النصاب فيها بالوزن، (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)، فهذا يعني الموزونات والمكيلات، فكله من عدل الله عز وجل، لأن المكيل ينضبط، فلا تستطيع أن تكون عادلاً مع أخيك إذا أخذت الصاع بالصاعين، وأخذت المد بالمدين، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وأمر بالتماثل فيها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755904595