إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب مقادير ديات النفس [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جرت عادة الفقهاء أنهم يفرقون في الديات بين دية النفس ودية الأعضاء وغيرها، والأنفس تتفاوت في ذاتها من حيث الضمان، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث وهكذا، فلما اختلفت الديات وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.

    1.   

    مقادير ديات النفس

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    قال رحمه الله تعالى: [ باب مقادير ديات النفس ].

    تقدم معنا أن الدية واجبة في القتل، وأن للأعضاء والمنافع دية أيضاً تقدر بحسب الضرر المتعلق بالعضو والمنفعة.

    والمصنف رحمه الله بعد أن بين لزوم الدية وفصل في دية العمد وشبه العمد والخطأ؛ التي هي أنواع القتل، شرع بعد هذا في بيان مقدار هذه الدية، وبناء على ذلك فإنه يتكلم على القدر الواجب من الديات، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان هذا، وتعتبر هذه المسألة من المسائل التي أجملها القرآن وفصلتها السنة؛ لأن الله يقول: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ [النساء:92]، فأجمل هذه الدية، هل هي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو هي من الذهب أو الفضة، أو من مجموع هذه الأشياء؟ فهذا إجمال، وبينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت أقضية الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين المأمور باتباع سنتهم رضي الله عنهم وأرضاهم بتفصيل هذه الديات.

    والمقادير: جمع مقدار، والمراد بذلك: القدر الذي فرضه الله عز وجل.

    والسبب في هذا: أن الأنفس تتفاوت في ضمانها، وتختلف هذه الدية بحسب الأنواع، فالدية من الحيوان من الإبل والبقر والغنم تختلف في مقاديرها في الإبل ومقدارها في الغنم والبقر، ومن هنا أفرد المصنف رحمه الله باباً لبيان هذه المقادير، سواء كانت في الأثمان من الذهب والفضة، أو في الحيوانات.

    وقال: [مقادير ديات النفس] لأن الدية إما في النفس وإما في الأعضاء، وإما في الجروح والشجاج، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله أن يفردوا دية الأنفس على حدة؛ لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي الذي له دين ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث، ومن هنا اختلفت مقادير الدية، ولما اختلفت وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.

    قوله رحمه الله: [باب مقادير ديات النفس].

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتقدير الديات خاصة بالأنفس، وحينئذٍ لا يتكلم على دية الأعضاء والمنافع، لأنه سيأتي الكلام عليها تبعاً، فابتدأ بالأعلى وهو دية النفس، وسيتبع ذلك بالأدنى كما سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.

    دية المسلم الحر

    قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير].

    الأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه المعروف بكتاب عمرو بن حزم الذي تقدم معنا، وكتبه لأهل اليمن في زمانه عليه الصلاة والسلام، بين فيه مقادير الديات، وقال: (دية المسلم مائة من الإبل).

    قوله: (دية الحر) خرج العبد، فالعبد بقيمته كما سيأتي، فإذا قتل أحد عبداً فإنه يضمن بقيمته.

    قوله: (المسلم) خرج الكافر؛ لأنه لا يبلغ هذا القدر، فدية المسلم أعلى من دية الكافر، فدية المسلم مائة من الإبل، والمراد به الذكر، أما الأنثى فإنها على الشطر من الذكر، تتنصف ديتها عن دية الذكر، فعقل المرأة على النصف من عقل الذكر في النفس.

    والدية كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام، والأصل فيها قصة عبد المطلب حينما نذر إذا جاءه عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، وكان آخر العشرة عبد الله ، وهو والد النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى الكعبة ونذر السهام على عدد أولاده فخرج سهم عبد الله ، فأراد أن يقتله وأن يذبحه، فصاحت قريش وامتنعت من ذلك، وقيل: إنه هو نفسه كان يحب عبد الله حباً شديداً، وهذا من قصص التاريخ التي اختلفت، فقيل: إنه ذهب إلى عراف في المدينة واختصم إليه مع قريش، فقال العراف: أخرجوا في كل سهم عشرة من الإبل حتى يخرج السهم على الإبل، وكان الأصل في الدية في الجاهلية عشرة من الإبل، فلما أشار عليه بهذا الرأي أخرج القدح الأول، والعشرة من الإبل التي كانت دية ثابتة، ثم حاول المرة الثانية فخرج الولد عبد الله، فحاول المرة الثالثة والرابعة والخامسة، حتى بلغ مائة من الإبل فخرج السهم على المائة من الإبل، فنحر المائة من الإبل وصارت سنة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية ما يفعله العظماء يتخذونه سنة، فأصبحت الدية مائة من الإبل، فجاء الإسلام وهي مائة من الإبل فأقره.

    وهذا مثلما ذكرنا أن أفعال الجاهلية منها ما أقرها الإسلام، ومنها ما أبطله، ومنها ما فصل فيه، وذكرنا من هذا أمثلة كثيرة، ومر بنا في العبادات والمعاملات مسائل من هذا، فهذه السنة كانت موجودة في الجاهلية؛ وهي ضمان الدم بالمال، وكانت الإبل أعز شيء وأنفس شيء عند العرب، وجاء الإسلام فجعلها رأساً في الدية، ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب عمرو بن حزم لأهل اليمن جعل الإبل أساساً وابتدأ بها، وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن في القتيل الخطأ -شبه العمد قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) فنص عليها عليه الصلاة والسلام، وهي كما ذكرت أعز ما كان يملكه العرب، فضمن بهذا الضمان؛ لأن الإبل محل إجماع، وكل العلماء متفقون بحمد الله على هذه السنة، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون رضي الله عنهم كلهم، والصحابة رضي الله عنهم على أن دية المسلم الحر الذكر هي المائة من الإبل.

    ويشترط في هذه المائة من الإبل: أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجوز أن يكون فيها معيب، وتؤخذ هذه المائة من الإبل من العاقلة إذا كان القتل خطأ، مثلاً شخص عنده سيارة فارتطم بأحدهم حتى قتله، فيطالب قرابته بهذه الدية، وتقدم معنا أنها تكون مقسطة ويطالب بها العاقلة، وهذا من دية الخطأ، فإذا طالب بها أحدهم فإنه يخرج وسط ماله، مثلاً عنده عشرة من أولاد العم، وعدد أولاده عشرة أو أكثر، فإذا تعين مثلاً على واحد منهم أن يدفع بعيراً ننظر إلى وسط ماله، فنقول: أخرج بعيراً من وسط مالك، ولا يطالب بالأنفس والكريم والجيد، ولا يجوز أن يخرج السقيم والعليل، وإنما يتوسط ويؤخذ من أوسط ماله، وهي واجبة على العاقلة، وسيأتي تفصيل العاقلة.

    هذه المائة من الإبل يشترط سلامتها من العيوب كما ذكرنا، وهي أصل عند بعض العلماء -الأصل في الدية الإبل- ومنهم من قال: إن الأصول هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فجعل الأصول خمسة في الديات، فالإبل هي الأساس، وكذلك الذهب والفضة والبقر والغنم، فيخير أن يخرج أي واحد من هذه، يعني: ليس بملزم أن يخرج إبله، فلو جاء بمائتين من البقر أجزأه، أو جاء بألفي شاة أجزأه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قالوا: هذه كلها أصول الديات، أيها أحضر أجزأه.

    قال رحمه الله: [أو ألف مثقال ذهباً].

    مثقال يعني: دينار من الذهب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم فقال: (ومن الورق ألف مثقال) وفي حديث السنن أن رجلاً من بني عدي عدا على رجل فقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بديته ألف دينار، فهذا يدل على أن الدية تكون من الذهب ألف دينار، وهذا طبعاً على الدينار الذي كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الدينار الذي ضرب على عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله: وهو ما يسمى بالدينار الإسلامي، واستشكل العلماء تقدير الذهب في الديات عندنا مع تقدير الذهب في الزكاة والجزية.

    وأجيب عن ذلك بأنه لا تعارض بين الاثنين، وهذا راجع إلى صرف الذهب، فإن عدل الذهب في الزكاة كل عشرين مثقالاً تعادل مائتين من الدراهم، فمعنى ذلك أن المثقال والدينار كان يصرف بعشرة دراهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا ذكر المصنف رحمه الله أنها ألف مثقال.

    قال: [أو اثنا عشر ألف درهم فضة].

    هنا الإشكال (اثنا عشر ألف درهم من الفضة) قالوا: إذا كان ألف دينار، فالمفروض أن يقابله عشرة آلاف درهم؛ لأننا قلنا: إن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وتقدم معنا في الزكاة؛ لأنه قال: عشرين مثقالاً أو مائتي درهم من الورق خمس أواق، وهي تعادل مائتي درهم، فاستشكل العلماء هذا في الألف دينار، وأجيب: أن هذا يختلف باختلاف الصرف، وقالوا: إن تقدير الدنانير في صرفها تختلف، ولذلك اختلف الحكم في الزكاة عن الحكم في الديات، وفي الحقيقة هذه المسألة لا زلت أبحثها، وقد سبق أن نبهت في الزكاة على أن فيها إشكالاً وكلاماً طويلاً للعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين في ضبط الدينار القديم وبعده الدينار الإسلامي البغلي، ثم الدرهم الإسلامي في عهد عبد الملك، واختلاف تقديرها بالعملات الموجودة الآن، ولا زلت أبحث عن المسألة إن فتح الله عز وجل وتبين فيها وجه الصواب يستطيع الإنسان أن يجزم.

    لكن مما ذكره بعض الأئمة والمحررين في رفع هذا الإشكال قد أشار إليه بعض الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وبعض أئمة المالكية، وبعض أئمة الحنفية أيضاً أشاروا إلى أن الصرف اختلف، وقد بين عمر رضي الله عنه ذلك في خطبته في الديات وقال: (ألا إن الإبل قد غلت) وهذا يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى تأثير السوق، وعلى كل حال جعل العدل اثني عشر ألفاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضمن الرقبة باثني عشر ألف درهم، وهذا عند العلماء رحمهم الله يعتبر أصلاً في الورق الذي هو من الفضة أنها تكون اثني عشر ألفاً، سواء كانت عدلاً للذهب؛ لأن الصرف كل دينار باثني عشر درهماً، أو كانت غير الصرف، فإذا لم تكن صرفاً له صار أصلاً، ومن هنا نفهم أن الفضة ليست عوضاً عن الذهب، يعني: ليست مقابلاً من باب صرف الذهب، فإذا كانت أصلاً فلا إشكال، وأما إذا كانت بدلاً حينئذٍ يرد الإشكال، إلا أن الذين يقولون: إنها بدل وإنها من الأصول لكن فيها معنى البدلية يعتذرون باختلاف الصرف، وهذا وارد: أن صرف الناس بالسوق يختلف من زمان إلى آخر.

    قال: [أو مائتا بقرة].

    يدفع مائتين من البقر، فيخير؛ إن شاء دفع مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، وهذا يدل على التفاوت بين الإبل والبقر، وجاء في الشرع ما يدل على أن الإبل والبقر بمنزلة واحدة، وكلا الأمرين جاء شرعاً، ففي الشرع في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينحرون الإبل عن سبعة) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بالبقر عن نسائه، واتفق القول على أن البقر عن سبع كما أن الإبل عن سبع، وهذا يقتضي المساواة، لكن جاءت السنة بالتفاوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى في يوم الجمعة كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية كان كمن قرب بقرة) فجعل البقرة دون الناقة، وجعل البقر دون الإبل، فتارة يستويان وتارة يختلفان، ومن هنا انعقدت الكلمة على أنه لو ضحى بالبقر عن سبع أجزأه، ولو ضحى بالإبل عن سبع أجزأه، وفي الدماء الواجبة كذلك، فإن البقرة يجزي عنها الإبل، فهذا يقتضي المساواة، وهنا فرق بينهما.

    وفي الحقيقة التفريق هنا وارد، وقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه في جعل العدل من البقر مائتين، ولم يخالفه فيه رضي الله عنه أحد من الصحابة، ولذلك يعتبر شبه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إجماع سكوتي من الصحابة رضوان الله عليهم.

    أيضاً: في البقر يشترط أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن يخرج من البقر المعيب، ثم لا يشترط أن يخرج نوع البقر الموجود في بلده، يعني: في الإبل يجوز أن يخرجها عراباً أو يخرجها بختية، ولا يشترط أن تكون من غالب إبل القوم الموجودة، فنقول لكل واحد من العاقلة: ادفع تيسر لك على حسب ما هو واجب عليك، سواء كانت عراباً أو بختية، وهكذا بالنسبة للبقر جيدها ورديؤها من جهة النوع.

    وأما من جهة المعيبة فإنها لا تجزئ لا في الإبل ولا في البقر كما قدمنا.

    قال: [أو ألفا شاة].

    وهذا عدل البقر والغنم، ومثلما ذكرنا أن الزكاة والأضاحي تختلف عن الديات، ومن هنا فرق بينهم، وقوي القول الذي قال: إن الألف دينار لا يقال: عدلها عشرة آلاف درهم، بل تفاوتت وزادت في الفضة، وهكذا هنا لا مانع أن تزيد البقر وأن تزيد الغنم، ولذلك في الأصل السبعة من الغنم تعادل البعير -كما في الأضاحي- ولكن هنا العشرة من الغنم تعادل البقرة الواحدة، ولذلك يصبح الواجب عليه ألفي شاة.

    قال رحمه الله: [ هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله ].

    كل واحد من هذه أصل، يستفاد منه: أنه لو أخرج أي واحد من هذه الخمس وجاء به فإنه يلزم الولي بقبوله، وعلى هذا لا يقول الولي: لابد أن تحضر لي الدية من الإبل، ولا يقول: لابد وأن تحضر لي الدية من النقود؛ أريد ذهباً، أريد فضة، لأن المراد ضمان حقه، وضمان حقه كما يحصل بالذهب يحصل بالفضة، وكما يحصل بالفضة يحصل بالإبل والبقر والغنم، ومن هنا لا يتعين واحد من هذه.

    1.   

    الأسئلة

    سبب وجوب الضمان في الإسقاط

    السؤال: إذا أسقطت الحامل جنينها خوفاً فهل يكون الضمان على الإسقاط أم على موت الجنين، وهل إذا أسقطت وعاش الولد فلا ضمان؟

    الجواب: إذا كان الجنين حياً وأسقطته ميتاً ففيه غرة؛ وليدة أو عبد، وأما إذا أسقطته وعاش وحيا ثم مات فحينئذٍ لا ضمان، الحمد لله أتى الله بالفرج، فبدل أن تتعب في الولادة أسقطته، يعني: ليس هناك قتل ما دام خرج حياً وبقي.

    على كل حال: لا ضمان عليه؛ لأنه -كما تقدم معنا في القتل- إذا عاش الجنين ثم مات بعد ذلك فإن هذا الموت بسبب آخر؛ لأنه لو كان بالإسقاط لمات فوراً، ولذلك يفرق بين السبب المؤثر والسبب الضعيف، وهنا السبب ضعيف جداً، ويقول العلماء: إذا وجد الفاصل يقول العلماء: السبب لا يؤثر؛ لأن غالب الظن أنه مات بقدر، ليس له عمر، وكتب الله أنه يموت بعد ولادته، لكن إذا أسقطته ميتاً فهذا ضمانه بالغرة كما ذكرنا، والأصل فيه حديث اقتتال المرأتين من هذيل، وهو حديث في الصحيح، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين لما أسقطته بغرة؛ وهي وليدة أو عبد وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مقادير الديات، والله تعالى أعلم.

    حكم ضمان رب العمل للعامل إذا تضرر

    السؤال: أحياناً يتعرض العمال لحوادث من جراء التعامل مع الآلات والمكائن، فيبعد العامل عن العمل فترة طويلة يخضع فيها للعلاج، فهل يجب على صاحب العمل أن يمضي له أجرته الشهرية حتى وهو مبعد عن العمل؟

    الجواب: من ناحية شرعية ليس ملزماً، فالعامل إذا عمل وباشر العمل فهو متحمل لمسئولية نفسه، فإذا قطعت يده من المنشار فهو الذي باشر العمل، ولا يحصل القطع إلا بإهمال من نفسه، وحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأن رب العمل ليس هو الذي أمسك هذه الآلات ولا هو الذي حركها، ولا هو الذي باشر الضرر الذي فيها، فالعامل متحمل لمسئولية نفسه، وهو عاقل بالغ رشيد، عنده خبرة وعنده معرفة.

    إذا بقي للعلاج ففضل من رب المال أنه يتولى نفقته ويتولى الإحسان إليه، لكن لا يجب عليه ذلك، إنما تجب عليه الأجرة إذا أعطاه عملاً وقدم له عملاً، هذا هو الأصل الشرعي، ولا يلزم رب المال أن يدفع أجرته حتى يشفى ويعافى، فإن هذا ما أنزل الله به من سلطان.

    الشريعة عدل وقسط لا جور فيها ولا غلو، لا نأتي ونقول: حقوق العمال! ونغلو في هذا الباب، ولا نأتي ونقول: حقوق أرباب العمل، كما أن العمال لهم حقوق كذلك أرباب العمل لهم حقوق، ولذلك الشريعة لا تغلو.

    تجد البعض يقول: أنا فقط مع الضعيف، فيأتي في حق الضعيف ويغلو على حساب حقوق الآخرين، وهذه هي المدنية الزائفة التي هجمت على الناس مناقضة لشريعة الله في كثير من المسائل، وعندما يأتون لحقوق المرأة فيصيحون: حقوق المرأة. حتى تذهب حقوق الرجال، يا ليت للرجال أناس ينادون بحقوقهم! يعني: تضيع حقوق الرجال على حساب مسألة حقوق النساء، وهذا سبب الغلو في الطرف، فالضعيف في الشريعة ضعيف حتى يرد له حقه دون غلو، فإذا غلي في حقه صار الطرف الآخر هو الضعيف الذي يضيع حقه، فالشريعة لا تنظر إلى هذا الغلو، وإلى هذه النظرات الضيقة التي تخالف شرع الله عز وجل، والتي تبالغ في حق الشخص حتى يكون على حساب غيره، ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نشهد شهادة الحق: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، إن كان قوياً أو ضعيفاً فالله أولى بهما أيضاً، فبينت النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل أنك إذا جئت تشهد لضعيف لا تشهد له بالباطل وتقول: والله خصمه غني أريد أن أشهد له، فالغني لا يضره لو دفع عشرة آلاف أو خمسة آلاف عوضاً. فهذا لا تأذن به الشريعة، وليس من حقك أن تتدخل في غني أو فقير، ولا في قوي أو ضعيف، فالله هو الذي يحكم، أما أنت فملزم أن تؤدي شهادتك على وجهها، فنقول: العامل هو الذي قام بهذا العمل، وهو الذي فعل هذا الضرر، وترتب على عمله بيده ومحض إرادته هذا الضرر، فيتحمل مسئولية نفسه هذا الأصل الشرعي.

    بعد هذا من الإحسان تكرماً من رب المال وتفضلاًمنه، ومن باب حفظ العهد، وهؤلاء العمال فيهم ضعف، ومنهم من لا يجد حتى براتبه إلا قدر سداد الكفاية، فكون رب المال يريد أن يضع له راتباً مستمراً حتى يبارك الله له في ماله فجزاه الله كل خير، وأكثر الله من أمثاله وأعظم أجره، لكن أن يلزم ويفرض عليه ذلك فلا، هب أن فقيراً جاء بعامل من أجل أن يصلح له باباً أو يفعل له شيئاً، ثم انكسرت يده، فهل يظل الفقير يصرف عليه حتى يشفى؟

    أبداً.. الشريعة ليس فيها هذا، الشريعة تقول: كل شخص يتحمل جناية نفسه، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].. كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، فهو من ألحق الضرر بنفسه، إذ لو قام بعمله كما ينبغي وتحفظ لما حدث هذا الشيء، فلما أهمل وقصر حصل الضرر فهو يتحمل مسئولية نفسه، ولا يلزم رب المال بدفع الأجرة له، ولا بمعالجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك والله تعالى أعلم.

    التوسع في المسائل الخلافية وأقوال العلماء

    السؤال: هل يستحب لطالب العلم في دراسته للفقه التوسع في مسائل الخلاف وأقوال العلماء، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا أراد أن يشوش على نفسه ويتعب ويضيع يتوسع، الفقه يؤخذ بالتدرج، فيبدأ في المذهب بالدليل ويأخذه ويؤصله ويراجع المرة تلو المرة، ويقرأ في هذا الذي سمعه من الشيخ أو قرأه في الكتاب المرة بعد المرة؛ لأنه مسئول أمام الله عز وجل، فكل درس يحضره طالب العلم يسمع فيه حكماً شرعياً فقد تحمل أمام الله المسئولية عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فلا بظن أحد أن حضور مجالس العلماء هو من باب إضاعة الوقت والتفكه والتندر.. أبداً.. هذه المسألة تسأل عن حفظها وضبطها، خاصة إذا كنت من طلاب العلم المتخصصين، فيجب عليك إتقانها.

    فالمشكلة أن بعض طلاب العلم بمجرد أن يأخذ هذه المسألة يذهب إلى أقوال العلماء ويبحثها في المطولات، فيدخل في بحر لا ساحل له.

    طالب العلم أول ما يبدأ بالتأصيل، ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، فيأخذ من شيخ الزبدة والدليل، ثم بعد ذلك إذا جاء أحد يشوش عليه بقول مخالف يسكته، يقول: هذا الذي أعرف، وهذا الشيخ أدين الله عز وجل أنه متمكن في علمه، وأعتقد قوله بالدليل؛ لأنك ستقف بين يدي الله وتعتقد شيئاً بالدليل، الممنوع أن تتعصب بدون دليل، فإذا قال لك الشيخ حكماً بالدليل تبقى عليه، فإن جاءك شخص يشوش عليك بقول آخر أو بدليل آخر فقل له: أنا والله لم أبلغ درجة الاجتهاد حتى أعرف هل هذا الدليل يصح أم لا يصح، وقد يكون في الصحيحين لكن دلالته ليست صحيحة.

    وهذا ليس خاصاً بالمسائل، وإنما يشمل حتى الفتاوى في الحوادث التي تقع، تجد فتوى عن علماء أجلاء يذكرون قولاً، ثم يأتي شخص ويعقب على هذه الفتوى بعشرات الأحاديث والآيات.. والله لو تأمل المتأمل لوجد أنها لا علاقة لها بهذه المسألة التي أفتي فيها لا من قريب ولا من بعيد، والسبب في هذا: أن البعض يغتر، وبعض الأحيان تأتي مسألة يؤصلها العالم بأدلتها وحسن النظر فيها وهو يعرف كيف يفتي، ولا يمكن أن تتجاوز الفتوى فيها خمسة أسطر، ويأتيك شخص يؤلف كتاباً فيها؛ لأنه يجمع من هنا ومن هناك، ويأتي بأقوال العلماء ويسردها ويفهمها بفهمه، ويؤولها بتأويله، ويسوغها على حسب ما ظهر له، وأما العالم النحرير فإنه يعلم ما الذي يقوله، ويعرف ما هي أصول الفتوى، وكيف يخاطب الناس بفتاويه، وكيف يؤصل؛ لأنه يعلم أن كل كلمة محسوبة، وأن كل عبارة يمكن أن تؤول ويمكن أن تصرف، فلذلك لا يتشتت طالب العلم، فإذا وجدت إنساناً تثق بدينه وأمانته وعلمه، أو شهد له أهل العلم أنه أهل؛ سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين ودرست على يده وأخذت على يده فأنت تبقى على قوله بالدليل، لكن اضبط هذا الذي تسمعه.

    وهذه هي مشكلة بعض طلاب العلم فإنه لا يضبط الذي يسمعه، وإنما ينشغل بشيء آخر فيقرأ كتباً كثيرة، ثم يقول: والله أنا لا أستطيع أن أركز، وهذا ما هو إلى بسبب عدم المنهجية وعدم وضوح الطريق الذي يسير عليه طالب العلم، وثق ثقة كاملة أنك عندما تلخص كل درس، وتلخص أحكامه بالأدلة، وتعتقد هذه الأحكام بدليلها وتخاف من الله عز وجل في كل شيء تنسبه إلى الشريعة ألا تنسبه إلا بقول عالم يوثق بدينه وعلمه، حتى في الفتاوى، فليس كل شخص وجد منشورة يوزعها من باب بيان الحق وهو لا يعرف هل هذا الذي أفتى بما فيها إنسان من أهل العلم أم لا، أو إنسان يوثق بعلمه أم لا، وقد تكون في المعضلات والمسائل التي يقف عليها مصير الأمة.

    والمشكلة: أنك لا تشك أن من يفعل هذا ويتبعه أنه يريد الحق والخير، فالخوارج رفعوا القرآن على أسنة الرماح وقالوا لـعلي : (لا حكم إلا الله) هل يستطيع أحد أن يرد هذا القول؟ ماذا قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل). هذا من رسوخ علي رضي الله عنه الذي كان يقال عنه: (آية في الفقه) رضي الله عنه وأرضاه، وكان ملهماً في فقه القضايا، حتى كان عمر رضي الله عنه يستعيذ من قضية لا يحضرها أبو الحسن ، وكان إذا جاءته النازلة أول ما يلتفت إلى علي رضي الله عنه، مما أوتي من الفهم، ومع ذلك يرفعون له القرآن.

    ليس كل قول يأتي في المطولات يخالف قولك الذي درسته معناه أنه انتهى الأمر، والله كنا بعض الأحيان نشك في بعض مشايخنا من باب ما يحدث للإنسان، فالإنسان بشر، ولكن إذا زالت الفتن وانقشعت عرفنا حقيقة الفتوى وما هي أصولها، وما هو العمق الذي كانوا يتكلمون به، وما هو الأصل الذي كانوا يعتمدونه، وفي دروسهم وجدنا أن هذه الأحاديث التي كان يشوش علينا بها بعض طلاب العلم من أسهل ما يكون الجواب عنها، وأنها إما أعم من موضع النزاع، أو خارجة عن موضع النزاع، ولكننا في البداية كنا نجد الحديث المتفق في الصحيحين يدل على كذا، والآية تدل على خلافه.. فلذلك ينبغي التريث.

    ثم إني أقول: لا مانع أن تأخذ بفتوى الغير، ولا مانع أن تأخذ بأقوال الغير، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا احتقر الشخص قول غيره -نسأل الله السلامة والعافية- فتجده يقول: القول الآخر ضال أو خطأ، ومن باب بيان الحق لابد أن ينشر هذا القول المخالف، ولذلك أنصح كل النصيحة ألا تدخل في الفتاوى وألا تدخل في المسائل بضرب بعضها ببعض، أو الحكم بصواب عالم على حساب عالم آخر، قل: هذا شيخي، وهذا العلم الذي رأيتم بالدليل، وأما غيره فلم يظهر لي، إلا إذا تمكنت من الأصول وقامت علي الحجة، أو خذ الدليل واعرضه على شيخك، أما أن تذهب إلى المطولات وتنظر فيها، أو مثلاً تجمع فتاوى في المسألة، فهذا مما تضيع به الأمة.

    وأقول هذا بمناسبة الأحداث التي نعيشها الآن: هي مسألة عارضة، نحن ذكرنا من فقه العالم في المسائل التي تطرح على الأمة ألا يتشتت وألا يشتت الأمة معه، هناك ثوابت مسلمة ينبه عليها، ينصح فيها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا يستطيع أحد أن يقول: إنه كذب أو إنه أخطأ، هذا أمر ينبغي أن يضعه كل شخص في حسابه، وأن يفهم ذلك وأن يعيه كذلك، ويجب على طلاب العلم أن يحرصوا على غرس منهج السلف الصالح بلزوم الجماعة والبعد عن القيل والقال، وهذا أمر لا يُختلف فيه.

    إذا حصل اختلاف في المسألة قلنا: في المسألة توقف؛ لأنه إلى الآن لم نعلم الصواب عند زيد أو عمرو، قلنا: كفوا ألسنتكم، هل هذا جاء من فراغ، لو أننا اتضحت لنا الصورة لعرضنا هذه المسألة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا فيها تفصيلاً واضحاً في مسألة الأحداث التي جرت وما كان لها من تبعات، أما أن يأتي الشخص ويلتقط له فتوى يشوش فيها على فتاوى علماء كبار أجلاء ويتهمهم بالباطل ويتهمهم بالمداهنة وبالممالأة أبرأ إلى الله، اتق الله في نفسك! ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله ويحذر.

    إذا كنت تريد أن تقول لشخص حقاً وكنت من أهل الاجتهاد قل ذلك، لكن إياك أن تكسب الإثمين فتدخل في نوايا العلماء وقلوبهم، هل كلما وجدنا قولاً يخالف العلماء الكبار فمعناه أنه هو الحق، وأن ما قاله العلماء الأجلاء مشكوك فيه؟ هذا حرام ولا يجوز، وما هكذا يقابل العلماء الذين ينصحون للأمة، يا أخي! لست عليهم بمسيطر، ولست تعلم بما في قلوبهم وصدورهم ونواياهم من أنهم يداهنون أو يقصدون غير الله عز وجل، لك الظاهر والله يتولى السرائر، وهم مسئولون أمام الله فيما أفتوا به، فنحن ننبه على هذا؛ لأن هذا من المنهج.

    وإذا أفتى أحدهم فتوى وجاء شخص وبرر هذه الفتاوى واتهم العلماء الكبار والله ليقفن بين يدي الله عز وجل، وليسألن عن هذه الأرواح التي أزهقت في هذا الحادث، تفجير ما لا يقل عن مائتي مسلم، وهذا أقل تقدير وقيل: سبعمائة مسلم، سيقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأل عن دمائهم، ويسأل عن مشروعية قتلهم، هذا إذا كان يرى أن هذا جائز، أما كون المسلمين هم الذين يفعلون هذا، فلا تستطيع أن تقول: إن هذه الأمة هي التي فعلت هذا الفعل بالمسلمين، وتحتاج المسألة إلى دراسة، هذا إذا كان المسلمون فعلوه، ثم تسأل أمام الله عز وجل عن التبعة التي جرَّت غير المسلمين إلى بلاد المسلمين، وحدث ما حدث من جميع الآثار والأضرار.

    إذا روجت فتوى -تعارض فتوى العلماء- تبرر هذه الأفعال ستقف بين يدي الله لتسأل عمن أفتاك بهذا، لا يحسب الإنسان أنه إذا رأى قولاً أن القول الآخر منتهٍ، وأن هؤلاء ضعاف، وأن هؤلاء مساكين، وأن العلماء لا يعرفون قول الحق، عليك أن تتريث، وأن تعلم أنه لو سكت عالم يريد أن يستبين الأمور ليس معناه أنه خائف أو جبان، موسى عليه السلام يواعده الله عز وجل أربعين ليلة، ثم يأتي ويأخذ برأس أخيه وبلحيته ويجره لما عبد قومه العجل، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، ويصيح عليه هارون ويقول له: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، وبين له عذره فقال: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، خاف الفتنة، هذا نبي من أنبياء الله، ماذا قال بعدها: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ [الأعراف:151]، ليس كل من سكت معناه أنه خائف أو جبان، من يسكت خوفاً من الله أن يوقع الأمة في خطأ أو خلل، ومن يأتي بالأصول والثوابت ليس كمن يطلق العنان لنفسه في الفتاوى، ولا تحسب أن كل فتوى يقال فيها تبرير لأشياء أنها هي الحق والصواب، وما بلغت مبلغ العلم، وكم من أحاديث سردت في تبرير بعض الأشياء والله لا تمت إلى الأمر بصلة، هناك مسائل واضحة عند العلماء في مواجهة الكفار للمسلمين، وقواعدها معروفة، ومسائل الجهاد أدلتها وأصولها واضحة مضبوطة ليس فيها أي إشكال، والمسائل المستثناة لها ثوابت، وهذه المسألة أقسم بالله أنها لو عرضت على عالم جهبذ من علماء المسلمين لجثا على ركبتيه خوفاً من أن يقول فيها على الله عز وجل، ومع ذلك تجد من لا يبالي، نحن نقصد نوعية من الناس وإن كانت قليلة وشاذة، وأرجو من الله أنهم حسني النية، ولا نحب أن يأخذهم أحد على سذاجة، فننبه على هذا؛ لأنه أمر مهم جداً، وليس معنى هذا السكوت على بعض الأشياء أن المراد بها كتمان الحق، أبداً والله! وإن من أهل العلم من نعرف أنه ما دخل في العلم إلا وروحه في كفه.

    وعليك أن تعلم أن حبك للحق وحماسك للحق يدعوك إلى هذا، واعلم أن هناك من أهل العلم من هو أسبق منك إسلاماً والتزاماً وغيرة لله ورسوله، فاتق الله في نفسك، فكل واحد حري به أن يتقي الله عز وجل، وأي شيء يشوش به على علماء أجلاء في منشور أو فتوى فليعلم أنه سيسأل أمام الله عز وجل عن تفريق كلمة المسلمين وشتاتها، حتى ولو كانت على أقل تقدير مسألة اجتهادية، والأمة رجعت إلى علماء معتبرين منصبين للفتوى فأفتوا فيها، فهم المنصبون أمام الله عز وجل، ما الداعي أن يأتي شخص ويشكك، فكل الذي يعنينا هنا قضية منحصرة، وهي هذا التشويش الذي كلما حدثت عندنا مسألة نراه، وكلما حدثت عندنا فتنة تظهر طائفة وإن شاء الله أنها قلة قليلة، وأرجو من الله أن يكون عندهم حسن نية، وبعضهم عن سذاجة -يعني: عن حسن نية- يقال له: هذا حق، خذ وانشر، حتى إن بعضهم يأتي إلى بعض المشايخ ويكتب له في المحاضرة: اتق الله ولا تقل إلا الحق، سبحان الله! أصبح أهل العلم سذجاً يوجهون من عوام.

    يا إخوان! هناك كلمات جارحة لأهل العلم، وإلى الله المشتكى! وهناك تصرفات من بعض الناس يحسبونها هينة وهي عند الله عظيمة، فلا تجرحوا أهل العلم بهذه الأمور، ولا تجرحوا كبار العلماء بالطعن فيهم، ولا تجرحوهم بالانتقاص ونسيان فضلهم ونسيان معروفهم، حرام هذا.. فنحن والله نحبهم في الله ونحب ما يكون منهم من الخير للأمة، ولا نرضى من أحد أن يزعزع ثقة الناس بهم، وهم بشر يخطئون ويصيبون، ولكن نرجو من الله أن يجعل ما يكون منهم من الصواب أكثر مما يكون منهم من الخطأ، ولا ندخل في نواياهم.

    وعلى كل حال: أسلم تسلم؛ تسلم في دينك ودنياك وآخرتك، وكلما جاء شخص يخوض في هذه المسألة تقول: اسكت وإلا قمت عنك، لا يضرك شيء، ولست مسئولاً أمام الله عز وجل أن تعتقد هذا الأمر، وليس بفرض عين عليك، ولذلك عليك أن تأخذ بالسلامة.

    وكل الذي ننبه عليه حفظ حرمة العلماء، كما كنا بالأمس ننهى أحداً أن يتكلم فيهم كذلك ننهى اليوم أحد أن يمس حرمة أحد العلماء؛ لأن الكلام في العلماء ونزع ثقة الناس من العلماء ثلمة في الإسلام، وطعن العلماء من وراء ظهورهم ثلمة في الإسلام، ولذلك نقول: ينبغي التريث ما أمكن وعدم الاستعجال، وإن شاء الله ستنجلي الأمور، وكما ذكرنا: لابد لليل من فجر، وعليك أن تعلم أن للعلماء حجتهم بينهم وبين الله عز وجل، واعلم أننا قرأنا سيرة السلف الصالح رحمهم الله ووجدنا عجباً، والله إن بعض القصص في بعض الفتن لو رأيتها لوجدت عجباً واتهمت صاحبها بأنه خائف ذليل، وأنه مثلاً ما أراد أن يصدع بالحق، ثم شاء الله أن ترجع الناس إلى فضله ونبله، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه وقد حدثت الفتنة بين علي ومعاوية، ومن معهما من الصحابة يقول: قد كانت فتن ما نجا منها إلا عبد الله بن عمر؛ لأنه لم يدخل في الطائفتين؛ لا في طائفة علي ولا في طائفة معاوية ، مع أن أهل السنة والجماعة يرون أن الحق مع علي ، فإذا حصل نزاع بين العلماء -هذا إذا كان الذي يخالف من أهل العلم المشهورين- فهذا شأنهم، ولا تشوش على الأمة، وعلينا أن يكون عندنا منهجية ويكون عندنا ضوابط.

    الوصية الأخيرة: إياك أن يضرك قول القائلين وإرجاف المرجفين، فكم كنا مع علمائنا ومشايخنا يفتون في المسائل ويبينون الحق في النوازل، فسمعنا من القيل والقال، ومن الترهات ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وما بقي إلا الحق.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].

    ما هو الذي ينفع الناس؟

    السيل في بدايته يحتمل زبداً رابياً، ثم بعد ذلك يصفو الماء ويبقى في الآبار والعيون، فتنتفع به الأمة، وقد ضرب الله مثلاً للعلم بالماء، فدع الناس يتكلمون، ودعهم يرجفون، ولكن إياك أن تخوض مع الخائضين، أو تهلك مع الهالكين، فهذه والله وصية لي ولكم.

    والداعي إلى ذلك: أن الأمور إن شاء الله وبإذن الله عز وجل ستنجلي وتتضح، ولكن إياكم أن يدخل العدو فيفرق صفكم ويفرق جمعكم، وهذه أصول نبهنا عليها؛ لأننا وجدنا منهج أئمة السلف الصالح رحمهم الله تقرير هذا الأصل في الفتن، وما وجدنا الأمة قوية إلا بتقريره والحرص عليه، فإذا جادلك المجادلون، وأخذ عليك المفتونون وخاضوا معك فيما يخوضون فتول عنهم وأعرض فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (تكون فتن النائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي)، فتأتي فتنة، فتجد من يروج المنشورات عن حسن نية أو عن خبث نية لا قدر الله، وهذه المنشورات تراها سهلة ولكنها طعنة في العلماء، وما تورث من شتات الشمل وتفريق الأمة عند الله عظيمة، فهذا ماشٍ فيها وماض فيها.

    وكذلك أيضاً من يحاول أن يوهن من محبة الناس للعلماء وتقدير الناس للعلماء، ومن احتقار فتاوى العلماء المشهورين، فهذا كله ينبغي الحذر منه، ونصيحة الناس فيه، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط.

    فنسأل الله بعزته وجلاله، وبعظمته وكماله أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده الصالحين، اللهم انصر دينك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم دمر أعداء الدين وشتت شملهم وفرق جمعهم، واجعل بأسهم بينهم يا رب العالمين! اللهم اهدنا بهداك، واجعل عملنا في رضاك، واكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم يا عظيم يا جليل! نعوذ بوجهك العظيم من فتن المفتونين، ومن إرجاف المرجفين، ومن ضلال المضلين، اللهم اهدنا ولا تضلنا، وارحمنا ولا تعذبنا، اللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مبدلين، اللهم ارزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، اللهم لا تزلزل بها أقدامنا، اللهم اجعلنا ممن ثبت عليها إلى لقاك يا حي يا قيوم! اللهم ثبتنا عليها أحياء، واحشرنا في زمرة أهلها أمواتاً يا حي يا قيوم!

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    حكم من أفطر قبل دخول الوقت

    السؤال: في رمضان الماضي أذن المؤذن قبل دخول المغرب، فأفطر بعض الناس، فهل عليهم قضاء؟

    الجواب: إذا أذن المؤذن قبل الوقت فإنه يجب على الناس أن يقضوا هذا اليوم إذا أفطروا بأذانه، وهكذا لو تأخر المؤذن حتى طلع الفجر ومضى وقت على طلوعه فأمسكوا بأذانه، بمعنى أنهم أكلوا قبل الأذان مباشرة وكان الوقت وقت إمساك فإنه يجب عليهم الضمان.

    والأصل في ذلك: أن الله أوجب على المكلف أن يصوم يوماً كاملاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وحق الله يجب ضمانه، والخطأ في هذا كونه أذن خطأ فيسقط الإثم ولكنه لا يسقط الضمان للحق، ولذلك الخطأ لا يوجب سقوط الضمان في الحقوق، والله تعالى يقول: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] فقال: (لا تؤاخذنا) والمؤاخذة هي الإثم، فالإثم ساقط بوجود الخطأ ولكن الحق ثابت، ولو أن شخصاً استدان من شخص ألفاً ثم أخطأ وقال: ليس لك عندي شيء، فإن هذا الخطأ لا يسقط حق الرجل، فلو تذكره بعد فترة يجب عليه أن يسدد، فالخطأ يسقط الإثم أثناء التلبس بالعذر، ولكنه لا يسقط الضمان، وإذا كان هذا في حقوق المخلوقين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دين الله أحق أن يقضى)، فذمة المخلوق مشغولة بحق الخالق من صيام هذا اليوم تاماً كاملاً، فيجب عليه الضمان، والله تعالى أعلم.

    المسألة الثانية: نحب أن نوصي المؤذنين أن يتقوا الله عز وجل في أذانهم، خاصة في شهر رمضان، فلا يجوز للمؤذن أن يتساهل وأن يقوم وقت ما شاء يؤذن للفجر أو يتساهل في أذان المغرب، وعلى أهل الحي إذا وجدوا من مؤذنهم تلاعباً أن يشتكوه وأن يرفعوه إلى المسئولين، وإلا كانوا شركاء له في الإثم؛ لأن أمثال هؤلاء يفسدون على الناس دينهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قال العلماء: مؤتمن على ركنين من أركان الإسلام: الركن الأول: الصلاة، والركن الثاني: الصوم، فهو إذا أذن قبل الوقت في الفطر أو أذن بعد الوقت في الإمساك عرض صيام الناس للخلل، فلا يجوز السكوت على أمثال هؤلاء، بل يجب نصحهم وتوجيههم، فإذا لم يرتدعوا استبدلوا بغيرهم ممن يخاف الله ويتقيه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يفسد صيامها، والله تعالى أعلم.

    بيان أن الزكاة تكون في أهل البلد الذي فيه المزكي

    السؤال: إذا كان لدي مال سواء كان أغناماً أو مزارع أو أي شيء من عروض التجارة في بلد آخر غير بلدي الذي أسكن فيه، فهل أخرج زكاته في أهل البلد الذي أسكن فيه، أم أخرجها في البلد الذي فيه هذا المال، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه مسألة مبنية على اشتراط إخراج الزكاة في الموضع الذي فيه المزكى، والدليل عليها قوله عليه الصلاة والسلام: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا في حديث معاذ في الصحيحين، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الزكاة في نفس البلد الذي هي فيه، ومن هنا يرد السؤال المذكور: هل العبرة بمال الرجل أو بمسكنه؟

    الذي عليه المحققون من الأئمة من أصحاب هذا القول أن العبرة بمال الرجل، فيخرجه في الموضع الذي فيه المال، وإن أخرجه في الموضع الذي هو فيه فلا بأس ولا حرج، لكن الأحوط والأسلم أنه يخرجه في الموضع الذي فيه المال، والله تعالى أعلم.

    حكم قضاء السنن الراتبة

    السؤال: من كان مداوماً على السنن الرواتب وفاتته سنة راتبة فلم يتذكرها إلا بعد يوم أو يومين، هل يقضيها أم لا؟

    الجواب: كتب له الأجر، والسنن الرواتب ليست واجبة مثلما ذكرنا في الواجبات في الصوم، فحينئذٍ السنن الراتبة إذا نسيها كتب الله له الأجر كاملاً، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، فإنك إن داومت على قراءة القرآن والأذكار، وداومت على الأعمال الصالحة، ثم -لا قدر الله- أصابك مرض كتب الله لك الأجر كاملاً، وقد يكون الرجل في عز شبابه وقوته يسافر في تعليم الناس وتوجيههم، ويسافر للحج والعمرة والأعمال الصالحة، فلما كبر قعد عن ذلك كله، فيكتب الله له أجر شبابه تاماً كاملاً، فكل من عذر يكتب الله له أجر الطاعة التي يداوم عليها.. في السفر يكتب له.. في المرض يكتب له.. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله) وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على حبه وطاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016452