إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [4]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مجتهدة في العبادة، فقد كانت تسرد الصوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإكثار من التعبد مع مراعاة الضوابط الشرعية ليس ببدعة، وهو ما كان يفعله السلف، ومن ذلك ختم القرآن في أقل من ثلاث. وكانت عائشة رضي الله عنها شفيقة بالمسلمين، شديدة الحياء والحشمة حتى أنها كانت تحتجب من العميان والموتى، وللأسف جاء بعض السفهاء في هذا العصر وطعنوا في الحجاب بشبه باطلة فندها العلماء ووضحوا عوارها.

    1.   

    صيام أمنا عائشة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهي راوية الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في جامعه عن شيخ المحدثين وسيد المسلمين أبي عبد الله البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، عن أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)، قال أبو عيسى : هذا حديث حسنٌ غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد أورد الإمام الترمذي هذا الحديث كما تقدم معنا في الباب الخامس من أبواب الطهارة فيما يقوله الإنسان إذا خرج من الخلاء، وبعد أن انتهينا من دراسة إسناد الحديث وصلنا إلى مدارسة ترجمة راوية الحديث أمنا عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.

    وقد تقدم معنا إخوتي الكرام شيءٌ من ترجمتها العطرة المباركة، وقلت: سنتدارس أحوالها ضمن ستة أمور:

    أولها: فيما يتعلق بفضلها وأفضليتها.

    ثانيها: فيما يتعلق بحب نبينا صلى الله عليه وسلم لها محبةً خاصةً.

    والأمر الثالث: في أسباب حبها وتقديمها على غيرها رضي الله عنها وأرضاها.

    والأمر الرابع: في زواج نبينا صلى الله عليه وسلم من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    وهذه الأمور الأربعة تقدمت معنا مدارستها وبقي معنا أمران:

    الأمر الخامس: في ترجمتها العطرة الطيبة فيما يتعلق بقيامها بجميع أمور الدين، من تعظيمٍ لرب العالمين، وشفقةٍ على المخلوقين.

    والأمر السادس: في حب الله لها، وغيرته عليها، ودفاعه عنها.

    أما الأمر الخامس فيما يتعلق بعبادتها لربها، وبشفقتها على خلق الله جل وعلا، فسنتدارسه ضمن ثلاثة أمور مختصرة:

    أولها: فيما يتعلق بعبادتها لله، في صيامها، وصلاتها، وخوفها، وخشيتها من ربها جل وعلا.

    والثاني: فيما يتعلق بكرمها، وجودها، ومساعدتها للمخلوقين.

    الثالث: سأختم ترجمتها المتعلقة بالأمر الخامس هذا بالحديث عن خلقها الذي ينبغي أن تقتدي به نساؤنا الصالحات في هذا الوقت؛ في حيائها، ومحافظتها على حجابها واحتشامها نحو المبصرين ونحو العميان ونحو الميتين، رضي الله عنها وأرضاها وعن سائر أمهاتنا والصحابة أجمعين.

    أما فيما يتعلق بالأمر الأول: في عبادتها لربها وتعظيمها له؛ فهي من العابدات القانتات المجتهدات في ذلك، وكيف لا وهي زوجة سيد العابدين، وإمام الزاهدين، وخير خلق الله أجمعين، على نبينا وآله وأزواجه وأصحابه صلوات الله وسلامه.

    لقد بلغ من جدها واجتهادها في طاعة ربها أنها بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام واظبت على الصيام، وما كانت تفطر إلا الأيام التي نهينا عن الصيام فيها، أربعة أيامٍ في السنة: يوم الفطر، ويوم الأضحى، وثلاثة أيامٍ من أيام التشريق، المجموع خمسة أيام، وما عدا هذا فكانت تصوم الدهر رضي الله عنها وأرضاها، نعم في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام ما كانت تفعل ذلك من أجل تفرغها لخدمة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد أن توفي عليه صلوات الله وسلامه وانتقل إلى جوار ربه إلى الرفيق الأعلى ما بقي شيءٌ يشغلها عن هذه الطاعات، وخدمة النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من صيامها نافلة، فكانت تسرد الصوم بعد ذلك وتواصله -وهذا ثابتٌ عنها بالأسانيد الصحيحة- تعظيماً لذي الجلال والإكرام، وكذلك في طبقات ابن سعد في الجزء الثالث صفحة ثمانٍ وستين وخمسٍ وسبعين بإسنادٍ صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وهو ابن أخيها وهي عمته، ينقل عنها أنها كانت تصوم الدهر، وأنها كانت تسرد الصوم.

    ونقل عنها ذلك سعد بن إبراهيم أيضاً.

    فلا يقولن قائل: نهينا عن صيام الدهر، كما نهينا أيضاً عن أن نقرأ القرآن في كل يومٍ أو في كل ليلة؛ فهذا في من يشق عليه ويترتب عليه مللٌ ونفورٌ من العبادة، وأما من كان يتحمل فهو أدرى بنفسه، والصحابة هم أعلم الناس بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، ولذلك قرر أئمتنا أن ما ورد من أحاديث تنهى عن صيام الدهر وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث فهو محمولٌ على من يسأم أو يترتب على ذلك محظور، وقد بحث في هذه الأمور الإمام اللكنوي في كتابه إقامة الحجة وبيَّن أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة، ووفق بين النصوص الشرعية الثابتة عن خير البرية عليه الصلاة والسلام التي تنهى عن صيام الدهر، وعن قراءة القرآن في اليوم والليلة، وختم القرآن في اليوم والليلة، وبين ما تواتر عن صالحي هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم فقال: إن تلك النصوص التي تنهى محمولةٌ على واحدةٍ من أمورٍ عشرة، فمن اتصف بواحدٍ منها فالنهي يقع عليه وإلا فلا حرج عليه.

    1.   

    الضوابط العشرة للإكثار من التعبد

    وهذه الأمور العشرة ختم الإمام اللكنوي بها كتابه، والكتاب في قرابة مائة وسبعين صفحة، انظروا آخر الكتاب من صفحة سبعٍ وأربعين ومائة إلى صفحة خمسٍ وخمسين ومائة، فقرر هذه الأمور العشرة بعد أن استخلصها من الحوادث والنصوص والتخريجات في الكتاب، ثم انتهى بعد ذلك إلى هذه الأمور العشرة، وسأسردها سرداً، ولعل الله أن يسهل الكلام عليها تفصيلاً ضمن مباحث الأحاديث التي تأتي معنا في المستقبل إن شاء الله.

    والإمام اللكنوي من علماء الهند الصالحين، وتوفي سنة أربعٍ وثلاثمائةٍ وألفٍ للهجرة، صار له منذ أن مات مائة سنة وعشر سنوات عليه رحمة الله، له هذا الكتاب، وله كتب كثيرة في الحديث نافعة، انظروا ما يتعلق بهذه المسألة: إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة، لكن ضمن هذه الضوابط:

    أولها: الجواز محمولٌ على ما إذا لم يحصل هناك مللٌ يشوش التذاذ العابد بالعبادة، ويشوش حضور قلبه؛ فإذا كان يقوم بالعبادة ويتلذذ وقلبه حاضر ويكثر، أي: يصوم الدهر، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كل ليلةٍ مرة من أوله إلى آخره، وقلبه حاضر، وتلذذه موجود، قال: هذا لا يقع عليه النهي، وما ذكر جزئيةً إلا قررها بأحاديث صحيحة، (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد)، فلينم، قال: وهذا مما يدل على أن النهي مختص بما إذا حصلت سآمةٌ وملل، كون الإنسان يعلق حبلاً في السقف ويصلي فإذا نعس يتأرجح بهذا الحبل ليدفع النعاس عن نفسه، في الحقيقة هذا فيه سآمة وإكراه للنفس، لكن إذا كانت نفسه تقوم بذلك عفواً دون جهدٍ وتعب، والنفوس تتفاوت، فنحن إذا قمنا ليلةً واحدة نتثاقل، ونسأل الله أن يتوب علينا، وذاك إذا ترك ساعةً من القيام يتثاقل، ويرى أن حياته في القيام، فلا يمكن أن نقيس حالنا عليه، ولا يمكن أن نعطيه حكمنا، ولا يصلح أن نقيس الملائكة على الحدادين، ولا أن نقيس البيض على الحديد؛ فكل واحدٍ له حكم فليأخذ بما يليق بحاله: ( ليصل أحدكم نشاطه )، فإذا كان نشاطك في أربع ركعات فصل أربع ركعات، وإذا كان نشاطك في قيام الليل بأكمله فقم الليل بأكمله.

    إذاً: النهي هذا فيمن يعتريه سآمةٌ، ويفقد تلذذ وحلاوة المناجاة، ويكره القلوب على ذلك، والقلوب إذا أكرهت عميت.

    الثاني: النهي منصب على من حمل نفسه مشقةً لا يطيقها، وأما إذا كان يقوم بذلك ويطيقه فلا حرج، (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، فإذا كان يطيق القيام ويطيق مواصلة الصيام، ويطيق قراءة القرآن كل ليلة فلا حرج.

    الثالث: النهي ينصب على من فوت ما هو أهم مما يقوم به من العبادة، كما لو كان الإنسان مشتغلاً بالتعليم ودروس العلم، فترك ذلك من أجل أن يتفرغ للنوافل، فهذا في الحقيقة ضيع شيئاً عظيماً مقابل أمرٍ يسير، فإذا كان لا يضيع ما هو أهم فلا حرج، وهكذا إذا كان يقوم الليل ويضيع صلاة الفجر، فقم قبل الفجر بربع ساعة أحسن من أن تقوم الليل من أوله إلى آخره وتغلبك عيناك وتنام عن صلاة الفجر، ولأن يشهد الإنسان صلاة الفجر في جماعةٍ خيرٌ له من قيام ليلة.

    الرابع: النهي ينصب على من يضيع حقاً شرعياً، وإذا كان لا يضيع حقاً شرعياً فلا يقع عليه النهي، هناك سيضيع ما هو أعظم من الطاعة، وهنا سيضيع حقوق الناس، كما لو كان سيضيع حقوق الأهل، أو حقوق الضيف، أو حقوق وواجبات نحو العباد، لو قام الليل وله زوجة، نهاره صائم، وليله قائم، فستتطلع إلى غيره، لكن لو قدر أنه أعطى الزوجة حقها ثم قام بمناجاة ربه إلى الفجر فلا حرج عليه؛ لأنه ما ضيع حقاً شرعياً، ولا فرط في أمرٍ يجب عليه، وأعطى كل ذي حقٍ حقه.

    الخامس: النهي فيمن يبطل الرخص الشرعية ويعدها باطلة، ويعتبر العامل بها عاصياً، هو قام الليل وصام الدهر، فقيل له: فلان لا يقوم من الليل إلا ثلثه، فقال: هذا مخطئ، فيقال له: قف عند حدك، أنت فعلت ما تطيقه فلا تتهجم على غيرك ممن يفعل ما رغب الشرع المطهر فيه، فإذا قام ثلث الليل فهو على هدى، فإذاً: الرخص الشرعية بأن يقوم الإنسان على حسب ما في وسعه لا يجوز أن تعدها باطلة، ولا أن تعد العامل بها عاصياً.

    السادس: النهي يكون إذا أوجب ما لم يوجبه الله، أو حرم ما لم يحرمه الله، يعني لو قام الليل وقال: هذا واجب، ومن لم يقم الليل أثم وعصى، ولو صام الدهر واعتقد وجوبه وتحريم الفطر فيه، فجعل صيام شوال صيام رمضان، نقول له: الحقيقة أنك أدخلت في دين الله ما ليس منه، فعبادتك مردودةٌ عليك، فإذا لم يفعل هذا فلا حرج عليه أيضاً.

    السابع: أن يوفي العبادات حظها عندما يقوم بها، فإذا لم يوفها حظها فالنهي ينصب عليه وينهى عن تلك العبادة، فإذا أراد أن يقرأ قراءة هذرمة لا يعي ما يقول، ولا يفقه ما يقرأ، ويصلي كنقر الديك، فنقول له: هذه العبادة أنت منهيٌ عنها، فلو قال: أنا أقوم الليل، نقول: صل نشاطك بعبادةٍ مشروعة أحسن من أن تكثر من هذه الحالة التي ليست مشروعة، فأنت لا تعطي القراءة حقها من أحكام التجويد، ولا تُعمل عقلك في التفكر والتدبر، وتختم كل ليلة ختمة أو ختمتين لكن الحروف كلها متداخلة كأنك تقرأ شعراً، والله تعالى يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، فإن قال: أنا إن فعلت ذلك لم أقرأ كل ليلة إلا ثلاثة أجزاء، قل له: اقرأ جزءاً واحداً خيرٌ من الختمة بكاملها هذرمةً، فلا بد له من ضابطٍ شرعي، ولذلك فما نقل عن سلفنا كـعثمان وغيره رضي الله عنهم من الصحابة الكرام أنه يقرأ القرآن في ركعتين، فنجزم أنه لا يفعل هذا هذرمة، وتصاحبه ألطاف الله جل وعلا ومعونته، فيبارك له في الوقت، فيقرأ قراءة مرتلة، ويمد له ويبارك له فيه بحيث يختم القرآن في ركعتين، يقرأ قراءة مرتلة متقنة يستنبط منها ويتدبر ويتفكر، وإذا قال: لا أقوى على هذا، فقل له: صل نشاطك واقرأ نشاطك حسبما تطيق وتتحمل.

    الثامن: إذا فعل ما فعل من طاعات والتزم بها فينبغي أن يداوم عليها، وأن نعلم من نفسه ذلك، ولا ينبغي أن يتركها، فأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، فإن قال: سأنشط بعض الليالي وأحييها من أولها إلى آخرها، ثم أترك القيام، فقل له: قم كل ليلة عشر دقائق خير من أن تقوم ليلةً بكاملها في السنة ثم تترك القيام بعد ذلك، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، فإذا عملت عملاً من أمور الخير فلا تتركه، فإذا كنت تجد من نفسك التحمل فبها ونعمت، وإلا فخذ ما تطيق من أول الأمر؛ لأن من شرع في عبادةٍ وتركها فهو كالمعرض عنها، و(من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم)، ولو لم يحفظه من البداية لما كان له هذه العقوبة؛ لأن التارك للشيء بعد الدخول فيه كالمعرض عنه، وكالزاهد فيه، كأنه ما رأى فيه فائدةً فتركه، وهذا يدل على سفاهةٍ وحماقة.

    التاسع: النهي يكون فيمن يتسبب في ملل غيره، هو لا يمنع، لكن يفعل عبادةً يؤذي بها غيره ويتسبب له في هذا الملل، كما لو كان إماماً وأراد أن يحيي الليلة بالقرآن من أوله إلى آخره والناس لا يطيقون، إذا كان عندك جد ونشاط ولا يعتريك الملل، فإذا اعتراهم الملل فلا يجوز إلا إذا وثقت بأنهم يقبلون، ولذلك لا ينبغي للإمام أن يطول فيما لم يرد له به الترخيص بقراءته؛ فإذا قرأ مثلاً سورة ق أو سورة السجدة وسورة الإنسان في صلاة الفجر وقالوا: طولت! لا نصلي خلفك! يقول: صلوا أو لا تصلوا لا شأن لي ولكم؛ هذه صلاتي موافقة للسنة، لكن لو أراد أن يقرأ مثلاً سورة البقرة في صلاة العشاء فينهى ويمنع إلا إذا رضي المأموم، فلو قالوا: يسرنا أن تقرأ فينا كل ليلة ثلاثة أجزاء في صلاة العشاء فلا حرج، وما عدا ذلك فالتزم بما لا يشق على الناس.

    العاشر وهو آخر الضوابط: ألا يعتقد أن ما يقوم به أفضل مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: النبي عليه الصلاة والسلام هو الكامل، وما صدر عنه من تشريع فهو الكامل الأكمل، وذاك الهدي الأتم الأحسن، وأنا ما أفعل هذا لأنني أفضل أو لأن هذه الكيفية أحسن، إنما أفعل هذا لأنه رخص لي في فعله، وإذا صام الإنسان وأفطر وتهجد ونام فهو أفضل، لكن رخص لنا إذا تحملنا ولم نقع في واحدٍ من هذه المحظورات أن نقوم وأن نصوم، وعليه فأنا ضمن دائرة الجواز.

    إكثار السلف من التعبد وفق الضوابط العشرة

    بهذه الضوابط العشرة نستطيع أن نرد ما نقل عن سلفنا الكرام من قراءةٍ للقرآن في ليلة، وأحياناً كان بعضهم يقرأ في الليلة ثلاث ختمات، فأحد أئمة التابعين كان يختم كل ليلةٍ ثلاث ختمات، ويباشر أهله ثلاث مرات، ولما توفي قالت له: نعم الزوج كنت! ترضي ربك وأهلك، فإن قيل: كيف يختم ثلاث ختمات؟ فقل:

    أولاً: يبارك الله له في الوقت وهو على كل شيءٍ قدير، فما ألفه أئمتنا لو أردنا أن نكتبه لما أطقنا، فالإمام ابن الجوزي مصنفاته زادت على خمسمائة مصنف، والسيوطي زادت مصنفاته على سبعمائة مصنف، وبعض المصنفات أكثر من عشرين مجلداً، لو أردت أن تكتبها كتابة لانتهى عمرك وما انتهت، فكيف هذا؟ هذا موضوعٌ آخر، كتاب الإتقان للإمام السيوطي الذي طبع في أربعة مجلدات الطبعة الحديثة جعله مقدمة تفسيرٍ له، وتفسيره إلى الآن في عالم المخطوطات، فلا تقس نفسك عليهم، ولا تقس أولئك على نفسك؛ فكل واحدٍ يأخذ ما يستطيع، وكل إناءٍ له حجم ويتسع على حسب حجمه.

    سعيد بن جبير عليه رحمة الله كان يختم القرآن ما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء إلى آخر ثلث الليل الأول ولا يوجد بين المغرب وآخر ثلث الليل الأول إلا ست ساعات أو خمس، ولا يمكن قراءة القرآن في أقل من ست ساعات مهما كان الإنسان حافظاً متقناً مسرعاً.

    والإمام النووي في التبيان يقول: أكثر ما بلغنا عن بعض الصالحين أنه كان يختم ثمان ختمات في اليوم والليلة، أربع في النهار وأربع في المساء، فلهم أحوال خاصة، يبارك الله لهم في أوقاتهم، فإذا وصلنا إلى مثل هذا نقف عند حدنا، ولا داعي بعد ذلك لأن نسفه أئمتنا، وإذا جاء إنسان بعد ذلك وقال: ورد في المسند والسنن الأربعة إلا سنن النسائي ، والحديث رواه الدارمي من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)، وعليه فلا يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فقل له: هذا الحديث خير من فهمه الصحابة الكرام، فـعثمان بن عفان رضي الله عنه عندما كان يختم في ليلةٍ واحدة في ركعتين، فهل خالف السنة؟! إذاً هذا محمولٌ على ما تقدم معنا من تخريجات وتأويلات في الجمع بين نصوص الشرع.

    يبقى معنا فعل النبي عليه الصلاة والسلام هو الأكمل والأفضل والأحسن، وعمل أولئك ضمن دائرة الجواز، وإذا كان كذلك فالأمر سهلٌ يسير، وما نقل بالإسناد الصحيح عن أمنا عائشة وهي زوجة خير خلق الله عليه الصلاة والسلام أنها كانت تصوم الدهر: (ولا صام من صام الدهر)، نقول: هذا فيمن يسأم، أو يشق عليه، أو يعتقد أن هذا أفضل، فيمن يقول: ما لنا ولرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أين نحن منه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فينبغي أن نجد في العبادة أكثر منه، لا! قفوا عند حدكم الآن ستدخلون في دائرة البدعة؛ لأنكم سترون أن ما تقومون به أكمل مما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهديه كما قال: (أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد -أنام- وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فإذا قدر أنهم ما فعلوه بهذه العلة، بل قالوا: هدي النبي عليه الصلاة والسلام هو الأكمل، لكن أطقنا نحن زيادة على ذلك فلا حرج في ذلك دون أن نرى أن ما نحن عليه أكمل، ودون أن تحصل سآمة لنا أو لغيرنا، ودون أن نضيع حقاً واجباً ينبغي أن نقوم به، وغير ذلك ضمن المحترزات العشرة السابقة.

    وهذه أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تصوم الدهر، وقد عده الإمام الزركشي من خصائصها وفضائلها في كتابه: الإجابة فيما استدركته أمنا عائشة رضي الله عنها على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد أورد لها أربعين خصيصة، وقال في الخصيصة السادسة والثلاثين: أنها كانت تصوم الدهر، وهذا من جدها واجتهادها، ولا يعتبر خروجاً عن الهدي النبوي على نبينا صلوات الله وسلامه بالشروط التي تقدم ذكرها وضبطها.

    ضابط في ختم القرآن

    قال الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن صفحة ثمانٍ وأربعين -والكتاب ينبغي أن يقرأه طالب العلم مرات وليس مرة واحدة، وكلما قرأه لا يشبع منه- يقول فيه بعد أن ذكر حال السلف في الختم -وأقصى ما بلغه ثماني ختمات، أربع في النهار وأربع في الليل-: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص؛ فمن كان يظهر له عند خلو الفكر خصائص يستنبطها فليختصر على قدر ما يحصل له ذلك، يقول: أنا إذا قرأت قراءة مرتلة هادئة فإني استنبط معالم وفوائد، وأتفاعل مع القرآن وأخشع، فنقول: اقتصر على المقدار الذي يحصل لك به ذلك، جزءاً أو نصف جزء على حسب ما تحصل هذه الفوائد، ومن كان مشغولاً بنشر علمٍ أو بمهمات الدين فليقتصر من قراءة القرآن على ما لا يحصل به إخلالٌ بما هو مرصدٌ له؛ فإذا كنت مثلاً مدرساً أو معلماً وشغلت نفسك بقراءة القرآن ضيعت الرعية، وإذا شغلت نفسك بقراءة القرآن وقيام الليل لم تتفرغ لنشر العلم وتعليم العباد، فاقتصر على ما لا يضر بما أنت مرصدٌ له ووقفت حياتك من أجله.

    ثم قال: وإن لم يكن من هؤلاء، أي: ليس ممن يستخرجون اللطائف والأحكام بدقيق الفكر، ولا هو مرصد لمصلحةٍ عامة من تعليم علم، أو رعاية في شئون الأمة، فليستكثر ما أمكنه من غير مللٍ ولا هذرمة، وهذا هو الوعي الشرعي والفقه الديني الذي يجمع بين هذه النصوص ويوفق بينها وبين من تلقاها عن نبينا عليه الصلاة والسلام من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

    إذاً: هذه عبادة أمنا عائشة في صيامها.

    1.   

    قيام أمنا عائشة رضي الله عنها

    انظر بعد ذلك إلى عبادتها في قيامها رضي الله عنها وأرضاها، فقد كانت تقوم الليل، وتكثر من قراءة القرآن، ومن دعاء ربنا الرحمن.

    روى أبو نعيم في كتاب الحلية الجزء الثاني صفحة ثمانٍ وأربعين، ورواه عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة في المصنف أيضاً، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفسيريهما، ورواه البيهقي في شعب الإيمان: أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تقوم الليل وتقرأ القرآن، فإذا وصلت إلى قول الله في سورة الطور: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، تقف وتقول: اللهم من عليّ وقني عذاب السموم، هذا فيمن كانوا في أهلهم مشفقين خائفين، إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26-28]، ولا يجمع الله على عبده خوفين، ولا يجمع له أمنين؛ فمن أمنه في الدنيا خوفه يوم القيامة، ومن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، اللهم من علينا وقنا عذاب السموم.

    وروى الإمام ابن الجوزي في صفة الصفوة في الجزء الثاني صفحة واحد وثلاثين في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها، والأثر أشار إليه الإمام النووي في كتابه التبيان صفحة ثمانٍ وستين، فبعد أن نقله الإمام النووي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، قال: وروينا أيضاً مثل ذلك عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وخلاصة ما حكى: عن القاسم بن محمد رضي الله عنه -الذي هو ابن أخيها وهي عمته- قال: كنت إذا غدوت إلى العمل وإلى السوق في الصباح، فقبل أن أذهب إلى شأني أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها -يسلم عليها- قال: فبكرت وغدوت يوماً فدخلت عليها فرأيتها تقرأ القرآن وتبكي وتردد هذه الآية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28]، تقرأ وتردد وتبكي، وما شعرت بدخوله ولا باستئذانه، يقول القاسم بن محمد رضي الله عنه يقول: فوقفت وراءها حتى مللت الوقوف وهي تردد الآية وتبكي، يقول: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت فإذا هي كما كانت قائمةٌ تبكي وتصلي وتردد هذه الآية.

    صائمةٌ مصليةٌ داعيةٌ قانتةٌ خاشعة، هذه أمنا عائشة رضي الله عنها، وهذه صلتها بالله.

    1.   

    ذكر الخوف من الله في حياة عائشة رضي الله عنها

    ومع ذلك فاستمع أيضاً لخوفها ووجلها من ربها جل وعلا، والأمر كما قال أئمتنا: ليس الخوف من كثرة الذنوب، إنما الخوف من صفاء القلوب: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وأكثر الناس خشيةً لله أعلمهم بالله جل وعلا.

    روى ابن سعد في الطبقات والإمام أحمد في المسند والبخاري في صحيحه، والحديث من أصح الأحاديث فهو في صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي مليكة ، وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة من أئمة التابعين، أدرك ثلاثين من أصحاب النبي الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة للهجرة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو إمامٌ ثقةٌ فقيهٌ عدلٌ رضا، عن عبد الله بن أبي مليكة رضي الله عنه قال: استأذن ابن عباس رضي الله عنهما على أمنا عائشة رضي الله عنها وهي مغلوبةٌ في مرض موتها، فقالت: أخشى أن يدخل ابن عباس ويثني علي -سيدخل على أمه ويثني عليها بما هي له أهل- فقيل لها: يا أم المؤمنين! إنه ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من وجوه المسلمين، هذا حبر الأمة وبحرها ترجمان القرآن لا يؤذن له، فقالت: أدخلوه، فلما دخل قال لأمه رضي الله عنها وأرضاها: كيف تجدينك؟ قالت: بخيرٍ إن اتقيته، يعني: إذا صرت تقيةٍ لله فأنا بخير، فقال لها ابن عباس رضي الله عنهما: أنت بخيرٍ إن شاء الله، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكح بكراً غيرك، ونزل عذرك من السماء، وهي تبرئتها كما سيأتينا في المبحث السادس آيات تتلى في محاريب المسلمين، عذرك نزل من السماء غيرة من الله عليك، في براءتك وطهارتك، وإثبات عفتك، ومكانتك، فأنت على خير، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ومحبوبة إليه، لم يتزوج بكراً غيرك، وما تزوجك إلا بوحيٍ من الله، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما بعد ذلك، فدخل عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها رضي الله عنهم أجمعين، وهو من محارمها، فقالت: دخل ابن عباس فأثنى علي، وددت أني كنت نسياً منسياً، نعم إذا قلت هذا فقد سبقك إلى هذا القول الصديقة مريم عندما قالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، أي: شيئاً لا يذكر، ولا شأن لي ولا اعتبار، وضبط نِسياً بكسر النون، والنسي هو الشيء الحقير المطرح الذي لا يلتفت إليه، ويقال لخرقة الحيض: نسي، وجمعها أنساء، يا ليتني كنت نسياً منسياً، يعني: خرقة بالية كالخرقة التي تتمسح بها المرأة، وهذا من باب تواضعها واحتقارها لنفسها وخشيتها من ربها.

    وقولها هذا رواه أيضاً الإمام عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الحادي عشر صفحة ثلاثمائة وسبعة، ومن طريقه رواه أبو نعيم في الحلية في الجزء الثاني صفحة خمسٍ وأربعين، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه أيضاً في الجزء الثالث عشر صفحة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة، ورواه الأئمة وكيع وهناد والإمام أحمد في كتب الزهد، ورواه الإمام أحمد أيضاً في كتاب فضائل الصحابة، يا ليتني كنت نِسياً منسياً، نَسياً منسياً، وقد بوب على هذا القول وذكر نظائر له من قول سلفنا من صحابةٍ وتابعين رضوان الله عليهم أجمعين: بوَّب أئمتنا في كتب الزهد كما فعل وكيعٌ وهناد ، فقالا: باب من قال: يا ليتني لم أخلق، فأوردوا هذه الآثار عن أمنا عائشة وعن الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين بدءاً من أبي بكر فمن بعده، يقولون مثل هذه الكلمات من باب تعظيمهم لربهم، واتهامهم لأنفسهم، لا اعتراضاً على قدر الله جل وعلا.

    وقد روى ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة أربعٍ وسبعين فما بعدها عن أمنا عائشة رضي الله عنها أقوالاً متعددةً كثيرةً تشبه هذه الجملة المتقدمة، منها: أنها كانت تقول: يا ليتني كنت شجرةً، يا ليتني كنت مدرةً وهي طينٌ متجمد، يا ليتني كنت حجراً، وكانت تقول: وددت أن الله لم يكن خلقني شيئاً قط، يا ليتني كنت شجرةً أسبح، وكانت تقول: يا ليتني لم أخلق، يا ليتني كنت ورقةً من هذه الشجرة، وكانت تقول: يا ليتني كنت نباتاً من الأرض ولم أك شيئاً مذكوراً، وكل هذا من باب اتهامها لنفسها واحتقارها؛ وذلك لزهدها وتعظيمها لربها، وحذاري حذاري أن يظن أحدٌ أن هذا من باب التسخط على المقدور والاعتراض على العزيز الغفور، فحاشا سلفنا أن يصدر منهم ذلك، إنما ذلك من شدة خشيتها وخوفها من ربها، وورود هذا عن السلف جنسه متواتر، وقد بوب عليه أئمتنا أبواباً بهذا الخصوص مثل: باب من قال: يا ليتني لم أخلق.

    إذاً: هذا فيما يتعلق بتعظيمها لربها، من قيامٍ، وصلاةٍ، وخوفٍ، وخشوعٍ، وإخبات.

    1.   

    شفقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على المسلمين ومساعدتها لهم

    أما فيما يتعلق بمساعدتها لعباد الله فحدث ولا حرج، كنت قد فصلت الكلام على ذلك في مبحث النبوة عند جود نبينا عليه الصلاة والسلام وكرمه، وعند بيان مسكنه وأثاثه، وأن ذلك من باب الاختيار لا من باب عدم وجود عرض الدنيا، إنما ما كان يأتيه ينفقه ويختار بعد ذلك ما اختاره من هذه المعيشة المتواضعة على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، وقلت: إن ذلك الخلق ورثه عنه نساؤه، وبدأت بأمنا عائشة وقلت: التفصيل سيأتي فيما بعد، فسأعيد ما سبق مع إضافة شيءٍ إليه على وجه الاختصار لننتقل إلى الأمر الثالث إن شاء الله فيما ينبغي أن يستفيده النساء من حياء أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    حقيقةً إحسانها ومساعدتها لعباد الله وشفقتها عليهم لا نظير له، وقد أخذت هذا من نبينا عليه الصلاة والسلام واستفادته منه، وهي حبيبته ستتخلق بأخلاقه عليه وعلى آله صلوات الله وسلامه، فاستمع لهذه القصص.

    يروي الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة سبعٍ وستين، وهناد بن السري في كتاب الزهد، والأثر في الحلية بسندٍ صحيح في الجزء الثالث صفحة سبعٍ وأربعين عن أم ذر رضي الله عنها وأرضاها، والأثر ذكره ابن حجر في الإصابة، والإمام ابن كثير في أسد الغابة: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أجمعين أرسل إلى أمنا عائشة مالاً في غرارتين، قدر هذا المال يكون مائة ألف درهم، وفي رواية هناد في الزهد: بلغ ثمانين ومائة ألف درهم، أرسل إليها هذا المبلغ الكثير، فلما وصلها صبته من هاتين الغرارتين -أي: الوعائين- وبدأت تقسم وتوزع، حتى حان المغرب فقالت لجاريتها: عليّ بفطوري، فأتتها بخبزٍ وزيت لتفطر عليه بعد أن وزعت مائةً وثمانين ألف درهم قبل غروب الشمس، فقالت لها جاريتها: هلا تركتي لنا درهماً نشتري لحماً نفطر عليه؟ الجواب الذي قالته أمنا عائشة أعظم بكثير من توزيعها لتلك الدراهم الكثيرة، قالت: لو ذكرتيني لفعلت، قلوب مستغرقة بالله جل وعلا، لا تنتبه لحالها في هذه الحياة الدنيا.

    إذاً: ما اختاروه من حياة الشظف والقلة لا لعدم وجود المال والتنعم، فلو أرادوا لصارت معهم الجبال ذهباً كما تقدم معنا في حياة نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فانظر إلى هذا الخلق المحمود، ومثل هذا كثير.

    وروى أيضاً أبو نعيم في الحلية وابن سعد في الطبقات عن عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين، قال: رأيت أمنا عائشة رضي الله عنها تتصدق بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جيب قميصها، وإنها لترقع جانب درعها، عندها درع بالي وقميص قديم ترقعه وتتصدق بسبعين ألف درهم.

    وروى الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح في الجزء الرابع صفحة ثلاث عشرة عن عروة بن الزبير أيضاً، قال: بعث معاوية بن أبي سفيان بمائة ألفٍ إلى أمنا عائشة ، فما قامت من مجلسها حتى وزعتها، ثم أفطرت على خبزٍ وزيت، فقالت لها جاريتها بريرة : هلا تركت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.

    وثبت في الحلية عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضوان الله عليهم أجمعين قال: أهدي إلى أمنا عائشة رضي الله عنها سلال من عنب، فأمرت بتوزيعها ووزعتها، الآن الجارية احتاطت فاحتفظت بسلة عنب، فلما حان المغرب لتفطر -وكانت تصوم الدهر- أحضرت الجارية شيئاً من العنب، قالت: من أين هذا؟ قالت: من السلال التي جاءتك رفعت سلةً منها، قالت: سلةً؟ هلا عنقوداً واحداً؟! والله لا أذوقه، وزعت على الناس وتتركي لنفسك سلة؟ نجعل أنفسنا مثل الناس ولا نؤثرهم علينا؟ يعني: لو تركت عنقوداً لأكلت منه، أما سلة بكاملها فكلي أنت هنيئاً مريئاً.

    انظر إلى هذا الكرم وهذا الجود، توزع سلالاً وما تركت لنفسها عنقوداً، إنما الذي ترك الجارية، ولما علمت بأن الذي ترك سلة بكاملها قالت: لا آكل من هذا شيئاً، ومثل هذا كثير.

    روى الحاكم في المستدرك أيضاً في الجزء الرابع صفحة ثمانية بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين عن ذكوان ، وهو مولى أمنا عائشة رضي الله عنها أعتقته، وهو أبو عمرو : أن درجاً -أي: صندوقاً- من خشب قدم إلى عمر من العراق عندما حصل ما حصل من فتوح القادسية والقضاء على الفرس الضالين، فيه جوهرٌ، فلما فتح الدرج قال عمر للصحابة: تدرون كم ثمن هذا؟ قالوا: لا ندري، قال: كيف سنقسمه ونوزعه على المجاهدين؟ فاختلفوا فيه، فقال عمر رضي الله عنه: أتأذنون وتطيب نفوسكم -يستأذنهم لأنه حق للمجاهدين- أن أبعث به إلى أمنا عائشة لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، هذه حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالوا: تطيب نفوسنا، من لا تطيب نفسه أن يرسل روحه إلى أمه فضلاً عن عرض الدنيا؟! فلما جيء به إلى أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وزعته قبل أن تقوم من مقامها، فبدلاً من أن يقتسموه هم قسمته هي، وما تركت لنفسها جوهرةً واحدةً ولا شيئاً منه، رضي الله عنها وأرضاها.

    وبالنسبة لـذكوان فهو مولاها، وقد كان يؤمها، وكان إذا أمها يقرأ من المصحف، وقد بوب البخاري على ذلك باباً في كتاب الأذان فقال: باب إمامة العبد والمولى، ثم روى بسندٍ معلق بصيغة الجزم، قال: وكانت عائشة رضي الله عنها يؤمها عبدها من المصحف، وهذا دليلٌ للسادة الحنابلة رضي الله عنهم أجمعين على أن القراءة من المصحف لا تبطل الصلاة؛ لأن النظر في المصحف عبادة، وتغتفر الحركات التي تجري من المصلي؛ لأن هذا ضمن مصلحة الصلاة، كالحركات التي تحصل منه في حال قيامه وركوعه وسجوده ومد يديه، هذه كلها حركات للصلاة وليست حركات عبث، وعندما يمسك المصحف فإذا كان عبادة ورخص له فيه، فالحركات لا تضر إن شاء الله.

    وذكوان أبو عمرو مدنيٌ ثقة، حديثه مخرج في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي ، قال الحافظ في الفتح: وهذا الأثر الذي أورده الإمام البخاري معلقاً بصيغة الجزم أن ذكوان -هذا أبو عمرو- كان يؤم أمنا عائشة من المصحف، قال: وصله ابن أبي داود في كتاب المصاحف، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد الرزاق في مصنفه أيضاً، والشافعي في مسنده رحمة الله عليهم أجمعين. وهذا ثابتٌ في أصح الكتب بعد كتاب الله، والأثر روي موصولاً في الكتب التي ذكرتها.

    هذه نماذج من جود وكرم أمنا عائشة رضي الله عنها، والأخبار في ذلك كثيرة سأختمها بهذا الخبر لننتقل إلى الجانب الآخر.

    روى هناد في كتب الزهد في الجزء الثاني صفحة ثلاثٍ وثلاثين عن عطاء ، قال: بعث معاوية رضي الله عنه طوقاً من ذهب إلى أمنا عائشة رضي الله عنها فيه جوهرٌ قومّ بمائة ألفٍ، فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم تأخذ منه شيئاً، يعني هم يقدمونها لتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها على صاحباتها، فإذا جاءها الشيء أعادته إلى صاحباتها ولم تأخذ منه شيئاً. والأخبار في ذلك كثيرة، فهذا تعظيمها لربها، وهذه شفقتها على خلق الله وإحسانها إليهم، فجمعت مقاصد الدين من تعظيمٍ لرب العالمين، وشفقةٍ على المخلوقين.

    1.   

    حياء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعفتها ووجوب اقتداء المسلمات بها

    أما الأمر الثالث الذي سنتدارسه وأختم به الترجمة الطيبة العطرة فيما يتعلق بالأمر الخامس في تعظيمها لله وشفقتها على خلق الله هو فيما يتعلق بحيائها وعفتها وصيانتها، ووجوب اقتداء المسلمات بها في هذا الجانب الطيب، وخير ما في المرأة حياؤها بعد تعظيمها لربها جل وعلا، وقلت: سأذكر كيف كانت تستحيي وتصون نفسها من المبصرين ومن العميان ومن الميتين؛ ليقتدي النساء بها في ذلك الخلق الكريم.

    تغطية عائشة رضي الله عنها وجهها في الحج

    الحادثة الأولى فيما يتعلق بها وبصاحباتها وبنساء المسلمات في العصر الأول فيما يتعلق بصيانتهن على وجه العموم، -وهي على رأسهن- نحو نظر المبصرين في هذه الحياة.

    روى الإمام أحمد في المسند، وأبو داود وابن ماجه في السنن، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، والدارقطني في سننه، وابن الجارود في المنتقى، وبوب عليه أبو داود في سننه باباً في كتاب المناسك فقال: باب المحرمة تغطي وجهها، هذا إذا كانت محرمة، وفي غير الإحرام أولى أو أدنى فهذا يحتاج إلى بحث، وبوب عليه الإمام ابن ماجه في السنن باباً فقال أيضاً في كتاب الحج والمناسك: باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها، يعني: تنزل الثوب على وجهها، وبوب عليه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الحج، فقال: باب المحرمة تلبس الثوب من علوٍ، يعني في مكانٍ عالٍ من رأسها فيستر وجهها، فهذه ثلاثة تراجم في ثلاثة من كتب السنن في سنن أبي داود وابن ماجه والبيهقي .

    ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، والنساء في حالة إحرام لا يوجد من يمر في ذاك الوقت إلا الصحابة حتى التابعون لا يوجدون؛ لأن كل من سيمر هو صحابي رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وأمنا مع النساء المسلمات يحججن مع خير البريات عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه، ويمر بهن الصحابة الكرام أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة، تقول أمنا عائشة : كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرماتٍ، فإذا حاذوا بنا -أي: اقتربوا منا ولاصقونا وصرنا جنباً إلى جنب- سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، متى ما اقترب منا الرجال أنزلنا الحجاب وغطينا الوجه، فإذا جاوزونا -سبقونا أو تأخرنا نحن عنهم- كشفناه، سبحان الله! أنت أمنا وفي نسك مع النبي عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء أتقى خلق الله، فما شهدت البشرية بعد أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أتقى لله منهم، ومع هذا تحتاطين كل هذا الاحتياط، أنت ومن معك من النسوة أنا على يقين أن الذي سيمر بكن من الصحابة لا يستطيع أن ينظر ولا أن يرفع طرفه إلى امرأةٍ في نسك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك انظر إلى هذه العفة وهذه الحَصانة وهذا الحياء الذي كان عليه النساء الصالحات وعلى رأسهن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    درجة حديث تغطية عائشة رضي الله عنها لوجهها في الحج

    والحديث لا ينزل عن درجة الحسن كما ستسمعون إن شاء الله في التحقيق، جميع رجال إسناده ثقاةٌ أئمةٌ أثبات، إلا رجلٌ واحد: يزيد بن أبي زياد الهاشمي ، جرى حوله كلام فاستمعوا له ثم انتبهوا بعد ذلك للشواهد التي لا ينزل بها هذا الحديث عن درجة الحسن بحال، فإن يزيد بن أبي زياد قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيفٌ، كبر فتغير وصار يتلقن، ثم أشار إلى أن حديثه مخرج في صحيح البخاري تعليقاً، وأخرج حديثه مسلم في صحيحه، وكذلك وأهل السنن الأربعة، ويزيد بن أبي زياد تابعيٌ بالاتفاق، أدرك أنس بن مالك ورآه وروى عنه رضوان الله عليهم أجمعين، وقد توفي سنة ستٍ وثلاثين ومائةٍ للهجرة، إذاً هو ضعيف، كبر فبدأ يتلقن، وإذا قيل له الشيء ينقله دون ضبطٍ وروايةٍ له.

    والإمام الذهبي في الكاشف بين أن رواية الإمام مسلم له في صحيحه وردت مقرونةً بغيره، ولم يرو له مسلم بمفرده، والحافظ ابن حجر لم يشر إلى هذا في التقريب، وهو شيعي، والتشيع القديم تشيع أهل الكوفة وهو تقديم علي على عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

    يقول الذهبي في الكاشف: وهو شيعيٌ عالمٌ فهمٌ صدوقٌ لكنه رديء الحفظ، ولم يترك، وقال في الميزان: هو أحد مشاهير الكوفة على سوء حفظه، وقال في السير: معدودٌ في صغار التابعين، رأى أنساً ، وكان من أوعية العلم فليس بمتقن، ثم ذكر أن الإمام شعبة حدث عنه مع براعته ونقده للرجال، وكان شعبة يقول: ما أبالي إذا كتبت عنه ألا أكتب عن غيره، ثم قال الذهبي بعد ذلك: لو وقف الإمام شعبة على الروايات التي لقنها لما كتب عنه.

    إذاً: جميع رجال الإسناد أئمةٌ ثقاتٌ أثبات إلا يزيد بن أبي زياد ، تابعي حديثه في البخاري تعليقاً، وفي مسلم مقروناً، وفي السنن الأربعة، وقد حسن الإمام الترمذي حديثه في جامعه من أوله إلى آخره، وسيأتينا إن شاء الله ضمن قراءة سنن الترمذي بعون الله.

    وهذا الحديث الذي روي عن أمنا عائشة رضي الله عنها رواه الإمام البيهقي أيضاً في السنن الكبرى في المكان المتقدم في الجزء الخامس صفحة ثمانٍ وأربعين، وقال: خالفه ابن عيينة ، فرواه عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أم سلمة ، لكن في الأثر الثاني أيضاً يزيد بن أبي زياد ، وبقيت العلة كما هي.

    شواهد حديث تغطية عائشة لوجهها في الحج

    فإن قيل: إن كان كذلك فكيف حسنت الحديث؟ نقول على كلام الإمام الترمذي : الحديث حسن واضح، وإلا فاستمع لهذه الشواهد التي تقرر هذا، ولا ينزل الحديث عن درجة الحسن بحال.

    الشاهد الأول: حديث أسماء ، وقد رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الأول صفحة أربعٍ وخمسين وأربعمائة بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين، أقره عليه الذهبي وهو كذلك، وعلى قول مخرف من المخرفين في هذا الحين كما سيأتينا بأن هذا الحديث على شرط مسلمٍ فقط، وليس على شرط الشيخين ، وهو السفيه صاحب كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، وسأشير إن شاء الله إلى سفاهته في هذا الكتاب، يقول: هذا الحديث على شرط مسلم وليس على شرط الشيخين، ويكذب في ذلك، وسيأتينا أن الراوي الذي قال عنه: لم يخرج له البخاري ، خرج له البخاري في صحيحه، وخرج له أيضاً في غير صحيحه فهو على شرط الشيخين كما سيأتينا إن شاء الله.

    إذاً: الحديث على شرط الشيخين وليس على شرط مسلم فقط، ولفظ الحديث: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها وعن أبيها وعن الصحابة أجمعين، قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل الإحرام ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    يعني: الواحدة إذا أرادت أن تمشط شعرها في الإحرام فلا يجوز، فماذا نعمل؟ نمشط شعرنا قبل الإحرام، لكن في حالة الإحرام نغطي وجوهنا من الرجال ونحن مع خير الأنام عليه الصلاة والسلام، أما يشهد هذا الأثر لأثر أمنا عائشة ، ذاك عن أمنا عائشة وهذا عن أسماء ، وهذا كما قلت: على شرط الشيخين.

    الشاهد الثاني: رواه الإمام مالك في الموطأ بسندٍ صحيحٍ كالشمس لذاته لا لشواهده، وانظروه في الجزء الأول صفحة ثمانٍ وعشرين وثلاثمائة في كتاب الحج، وبوب عليه الإمام مالك باباً فقال: تخمير المحرم وجهه، أي: المرأة التي ستستر وجهها من الرجال، ولفظ الحديث: عن هشام بن عروة ، عن زوجه فاطمة بنت المنذر بن الزبير قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن مع أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهم أجمعين- في الحج ونحن محرمات.

    إذاً: فاطمة تقول: نخمر وجوهنا مع أسماء ونحن محرمات، لكن هذه ما حجت مع النبي عليه الصلاة والسلام، فكأنها تقول: أسماء تلقت عن عائشة وعن النساء المسلمات، وعن الهدي الذي كان يفعل مع خير البريات عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ثم نحن إذا حججنا مع أسماء كنا نخمر أيضاً وجوهنا معشر النساء التابعيات.

    إخوتي الكرام! هذا أثر فاطمة بنت المنذر ، وهي تابعيةٌ حديثها مخرجٌ في الكتب الستة أيضاً، ثقة من الطبقة الثالثة كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب.

    الشاهد الثالث: من كلامها يشهد الأثر الذي رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح في الجزء الخامس صفحة سبعٍ وأربعين عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: المحرمة تلبس ما شاءت من الثياب إلا ثوباً مسه ورسٌ أو زعفرانٌ، ولا تتبرقع، ولا تلتثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت.

    إذاً: لا تلبس البرقع، وهو لباس الوجه الخافت، ولا تتلثم فتسد خرقةً على فمها وأنفها كما هو حال المرأة الحيية عندما تكون في مزرعةٍ وتقابل رجلاً، فتراها مباشرةً تتلثم فتغطي الفم والأنف ونصف الوجه، ولا تتبرقع، لكن تسدل إن شاءت شيئاً من رأسها على وجهها، هذا كلام أمنا عائشة رضي الله عنها، فهذه ثلاثة آثار تشهد للأثر الأول، فلا ينزل الحديث عن درجة الحسن لما وجد له من شواهد على أنه لو لم يرد لكفى أثر أسماء في إثبات حجاب المرأة إذا كانت محرمة وعدم كشف وجهها، لكن أنا أريد أن أذكر أثر أمنا عائشة لبيان حيائها الذي يتعلق الآن بها، أما الحكم الشرعي فهو ثابتٌ عنها وعن غيرها رضي الله عنها وعن الصحابيات أجمع.

    احتجاب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن العميان

    الأمر الثاني: سأذكر كيف كانت تستحي أيضاً من العميان وليس من المبصرين فقط، ثم بعد هذا أعلق بما ينبغي التعليق حول هذه الآثار إن شاء الله.

    روى الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثاني صفحة تسعٍ وستين: أنه دخل عليها رجلٌ أعمى فاحتجبت منه، فقال لها الأعمى: تحتجبين مني ولست أراك؟ فقالت: إن لم تكن تراني فإني أراك، ولا يجوز أن أنظر إليك، كما لا يجوز أن تنظر إلي. وهذا كله مأخوذٌ من مشكاة النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا حديث أمنا أم سلمة وميمونة وهو في المسند وسنن أبي داود والترمذي وصحيح ابن حبان : (احتجبا منه، أفعمياوان أنتما؟).

    احتجاب أم المؤمنين عائشة رضي عنها عن الموتى

    والأمر الثالث: كانت تستحي أيضاً من الموتى وتحتجب منهم رضي الله عنها وأرضاها.

    روى ابن سعد في الطبقات، والأثر رواه الإمام أحمد في المسند، وقال عنه الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح في الجزء التاسع صفحة سبعٍ وثلاثين، ورواه الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين في الجزء الرابع صفحة سبعٍ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أضع ثوبي في بيتي بعد أن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فإذا كشفت ما يحل للزوج والأب أن يراه فلا حرج، وجهي مكشوف ويداي بادية كما تظهر المحارم على محارمهن، فكنت أقوم في بيتي وأقول: زوجي وأبي، قالت: فلما دفن عمر ما دخلت حجرتي إلا ومشدودةٌ عليّ ثيابي حياءً من عمر .

    وفي روايةٍ كانت تقول: لم أضع ثيابي عني منذ أن دفن عمر في البيت. كأنه رجلٌ حاضر حي، فأنا أتحجب منه كما لو كان على قيد الحياة، وحقيقةً الأموات يدركون ويشعرون ويرون كرؤية وإدراك وشعور الأحياء، بل ما هو أشد وأدق، وإن كان لا يجب علينا أن نراعي هذه الأحكام بالنسبة للأحياء، لكن مراعاتها ورعٌ وتقى، فأمنا عائشة رضي الله عنها كانت تأخذ بذلك، وهي أمنا زوجة نبينا عليه الصلاة والسلام، تتحجب من المبصرين، ومن العميان، ومن الميتين، فماذا نصل نحن بعد ذلك من نسائنا؟!

    1.   

    ردود على الطاعنين في حجاب المرأة

    إخوتي الكرام! موضوع حجاب المرأة وبخاصة موضوع الوجه كثر اللغط في هذه الأيام عنه، وسأذكر لكم أربعة نماذج من كلام السفهاء، ولا أريد أن أصفهم بغير هذا الوصف، ولا أسفه من سفاهتهم في هذا الحين دعاة الرذيلة باسم المحافظة على شريعتنا الجليلة، لا أعلم كيف انحطت عقول البشرية في هذه الأيام مع وضوح هذه الآثار، وسطوعها كسطوع الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك يتلاعبون ويحتالون، وانظر إلى هذا التسلسل بينهم.

    الرد على من قال بانتهاء حكم الحجاب بانتهاء الرق والإماء

    واحد هؤلاء يسمى خليل عبد الكريم ، ويقال في التعريف به: أمضى اثنتي عشرة سنة رئيساً لجمعيةٍ شرعية، يقول: النقاب ليس من الإسلام، والحجاب غير ضروريٍ الآن، ثم يتكلم في صفحات يخلص منها في نهاية كلامه إلى أن نصوص الشرع تنقسم إلى قسمين، يقول: إلى إسلام قبلي، وإلى إسلام حضاري، إسلام مدني، إسلام متطور، يقول: وأنا لا أنكر أن نصوص الحجاب واردة في القرآن والسنة وموجودة، لكن هذه معالجة لحياة القبلية، فكان العرب يتحجبون، والإسلام في أول الأمر شرع الحجاب لوجود إماء، لتتميز الحرة عن الأمة، فالحجاب فرض في الزمن القبلي، فإذا زالت الإماء وزال الرق، وسعت البشرية وكدحت من أجل تحرير البشرية، وكأنهم يزعمون أنهم أحرار، أنا ما أعلم أنه يوجد على وجه الأرض الآن إنسانٌ حر، كل الأمة والعالم يقاد بالحديد والنار من قبل الكفرة الذين يسيروننا كما يريدون بهيئة الأمم الملحدة التي فيها الأعضاء النجسة الخمسة، هذه يقال عنها: أحرار، أما ما عداهم فهم في أذل مرتبةٍ، ولا حول لنا ولا قوة لا في أنفسنا ولا في أي شيءٍ من شؤون حياتنا، أما أولئك فيعيشون من عتاتهم بحركة إصبع لا بحركة لسان، يصدر قراراً تجمع عليه كما يقال البشرية بأسرها، لهم حق الفيتو، وهؤلاء حقيقةً هم البشر، وأما من عداهم فلا نعلم هل يصل إلى درجة البقر أو لا، فهذا يحتاج إلى تأمل.

    يقول هذا: البشرية كدحت وألغت الرق وعليه فلا داعي للحجاب، وآيات الحجاب نقرأها لكن للبركة، ولنكتسب على قراءة كل حرفٍ عشر حسنات، بكل قلة حياء يصرح بهذا في مقاله، وأنا أرى أن الحجاب ليس له ضرورةٌ الآن رغم النصوص الواردة في هذه الخصوصية، فلو طبقنا منهج تاريخية النصوص وربطها بظروف المجتمع والبيئة التي ظهرت فيها لاتضح الأمر، والنصوص التي وردت بشأن لباس المرأة كان الغرض منها تمييز الحرائر عن الإماء الجواري، إلى أن صرح بعد ذلك بقوله وبئس ما قال، يقول: هذه النصوص تتلى للعبادة وجلب البركة وانتهى الأمر، هذا أول سفيه من السفهاء في هذا الوقت.

    الرد على من قال بأن الحجاب مكروه وأنه يلغي آدمية المرأة

    جاء سفيه ثاني وهو الدكتور أحمد شوقي أفندي ، وغالب ظني أنه في بعض دول الخليج في هذه الأيام تحدث عن النقاب في التاريخ في الدين في علم الاجتماع، وتسفه هذا السفيه أيضاً بكلام يستحيي منه البهيم من الحيوان لا الإنسان، وأنا أعجب ممن رد عليه وقد رد عليه بعض المشايخ من هذه البلاد، كان ينبغي أن يرد عليه بسيف مسلول لا أن يرد عليه بكلامٍ يخرج من اللسان؛ لأن الذي يتلاعب بدين الرحمن ينبغي أن يوقف عند حده.

    وخلاصة كلامه: أن حجاب الوجه المعتمد فيه أنه مكروه، يقول: لا أقول: حرام، فلا يجوز أن نقول: مستحب أو مشروع، يقول: إنه مكروه، ولا ينبغي للمرأة أن تتحجب، وإذا تحجبت فعليها إثم، لكن ليس كإثم الزنا، بل مكروه فقط إذا سترت وجهها، وقال بعد ذلك: علامة المتطرفين في هذا الحين إعفاء اللحية بالنسبة للشباب، ولبس النقاب بالنسبة للنساء، هذا في هذا الكتاب يصرح فيه بقلة حياء، يقول: هذه علامة المتطرفين، وعليه ينبغي أن تعمل الحكومات بالسيوف للصالحين والصالحات، ما بقي متطرف في الأمة إلا من في وجهه هذه السنة المباركة، وإلا من التزمت بالعفة التي كان أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام ومعهن الصحابيات يلتزمن بها حتى في نسك الحج، وهذا يقول: المعتمد أنه مكروه.

    ثم أدخل نفسه في العلوم الشرعية وتكلم بكلام عجيب يقول في صفحة سبعين بعد أن قرر أنه مكروه -وهو لا يدري ما يقول، ولا ما يخرج من رأسه-: والنقاب ليس إلغاءً لوجه المرأة فحسب، بل هو إلغاءٌ لآدميتها ولعقلها.

    حسناً أيها السفيه! فلم جعلته إذاً مكروهاً؟! الذي يلغي الآدمية والعقل هذا ينبغي أن تقول عنه: هذا أكبر المحرمات.

    وبعد أن قرر أنه مكروه في صفحة اثنتين وأربعين قال: لأنه لم يرد نص على تحريمه، إنما هو تنطع من الشابات، ثم بعد ذلك يقول: وإذا تحجبت المرأة فكيف ستكون محاميةً تدافع عن المظلوم، وتكون بعد ذلك مهندسة تبني العمائر، أسأل الله أن يسهل بناء قبر عليك عما قريبٌ، يعني: قَلَّ المهندسون؟ لازم المرأة تكون مهندسة؟!

    ثم جاء هذا السفيه بحديث جر الذيول، قال: وإن صححه أبو داود : (قال: ترخين شبراً، قالت: إذاً تنكشف أسواقهن، قال: يرخينه ذراعاً ولا يزدن)، قال: هذا الحديث يتنافى مع كل تعاليم الإسلام، وما لا يقبله العقل لا يقبله الإسلام، هذه هي مسألة سهلة هذا مباح الدم، ولذلك أنا أعجب ممن ردوا عليه، هذا إذا وجد سيف أغنى عن كتابة مقالات بالرد على سفاهته.

    وفي صفحة سبعين قرر أن مظهر التطرف لحية ونقاب، وقال: لا ينبغي النقاب، كيف ستعمل المرأة سكرتيرة؟ ثم ختم هذا الخائن الكلام بقوله: النقاب على معنى الخيانة؛ لأن المرأة تفعل الأفاعيل والبلاوي ولا تكشف هويتها عندما تكون متنقبة، لكن إذا وجهها مكشوف يقال: هذه من أسرة كذا، فإذا فعلت شيئاً عرفت، فلا تفعل الزنا، أما المستورة فهذه هي الزانية، لا أعلم عصراً من العصور قيل فيه: من تستر وجهها زانية، ومن تكشف عفيفة، إلا هذا العصر المنحط الذي ابتلينا به.

    الرد على صاحب كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب

    وجاء سفيه ثالث ليقول: النقاب مكروه، وذاك يقول: كان مشروعاً ليس بمكروه، لكن النصوص لا يعمل بها؛ لأن العصر تطور، فعندنا نصوص قبلي ونصوص حضاري، هذا ألف كتاباً سماه تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، يرى أن الحجاب كالزنا، أي: أن التي تستر وجهها زانية، وآخر شيء يقوله في كتابه الذي قال في مقدمته: إن كان صواباً من الله، وإن كان خطأً مني، وأرجو أن تدعو لي؛ لأنني بذلت ما في وسعي، وقد حصلت جميع أو أكثر وسائل الاجتهاد، قال في آخر الكتاب: التي تتبرج وتكشف عن فخذيها وصدرها وظهرها عصت الله من جهة واحدة وهي أنها ما تحجبت، والتي تلبس النقاب عصت الله من جهتين: خالفت الشرع عندما لبست النقاب، وظهرت بمظهر المتكبرين، قال: ولذلك ينبغي أن نستغفر الله للمتبرجة مرة، وللمتنقبة مرتين، ثم يقول: فأيهما أحق بالإكثار؟ أيهما أقرب للتوبة؟ أيهما أولى بالاتفاق؟ إن المنقبة تحتاج إلى أن نستغفر لها مرتين، بينما المتبرجة مرة واحدة؛ لأنها أقل ابتلاءً وأقرب إلى سواء السبيل، وإن كانت كلاهما منحرفة عن الهدي النبوي، أعوذ بالله! أيها السفيه! الانحراف الثاني للمتبرجة ما رأيت وجهها وهذه عندما تبرجت غوت وأغوت، ولازم تستغفر لها أيضاً لأجل إغوائها، أما المتنقبة على تعبيرك فمتكبرة ومخالفة للشرع، ثم انظر إلى هذا السفيه ماذا يقول حول النصوص التي تقدمت معنا، هو يقول: إنه تخرج من كلية الطب البيطري، ليتك بقيت مع الحمير وأرحت الأمة منك، بيطري وجئت تدخل بعد ذلك في علوم الشريعة، يقول: النص الحادي عشر أخرجه الحاكم في مستدركه: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا ننكشف قبل ذلك في الإحرام)، قال: هذا صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه، يقول: هذا النص اتخذه البعض دليلاً على غير ما دل عليه، ولذلك حملوه فوق ما يحمل من ناحية أنه خالف في دلالته الحقيقية من ناحيةٍ أخرى، ويلزم هاهنا الحياد والانصاف ليتبين وجه الحق الذي هو بينٌ عندنا تمام البيان. ونناقش الآن هذا النص بتسلسل هادئ على النحو التالي:

    أولاً: إن الحديث -كما رأينا- أخرجه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ونحن إكمالاً للفائدة ولا فائدة عندك، نقول: إنه على شرط مسلمٍ وحده، وليس على شرط الشيخين؛ لكون سنده مشتملاً على زكريا بن عدي الذي لم يرو له البخاري شيئاً في جامعه الصحيح، بل وفي غيره، وبذلك لم يتحقق فيه إلا شرط مسلم وحده، وقد ذكرنا هذا من باب تمام الفائدة لا أكثر. ورداً عليه نقول: زكريا بن عدي أبو يحيى البصري خرج له أهل الكتب الستة إلا أبو داود في السنن، وقد خرج له في المراسيل.

    وهو نزيل بغداد من كبار العاشرة، مات سنة إحدى عشرة أو اثنتا عشرة ومائتين، خ م مد أي: البخاري ومسلم وأبو داود في المراسيل بعد ت س ق، رمز الرموز الستة إلا د لـأبي داود لم يذكرها؛ لأنه ما خرج له في السنن، ولإيضاح الأمر أكثر يقول الذهبي في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاثٍ وأربعين وأربعمائة: حدث عنه البخاري خارج الصحيح، وفي الصحيح بواسطة، ثم أعمى القلب هذا ما فهم المراد، يعني البخاري في الصحيح روى عنه بواسطة، لكن من رجاله كما يروي عن التابعي بواسطة، وخارج الصحيح روى عنه مباشرةً في كتاب الأدب المفرد، وقال في الكاشف: والبخاري روى عنه في صحيحه بواسطة، فهو من رجال البخاري ، والأثر على شرط الشيخين.

    يتعلق الكلام إخوتي الكرام حول رد كلام هذا السفيه أذكره في أول المحاضرة الآتية غداً إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشائخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755958166