إسلام ويب

مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفلللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أوجب الله عز وجل على الأم رضاع ابنها حولين كاملين، وتوعدها بالعقوبة الشديدة إذا منعته إياه، ورتب على إرضاعها ولدها آثاراً عظيمة وفوائد كبيرة؛ منها فوائد تتعلق بالرضيع؛ كوقايته من الأمراض بفضل العوامل المناعية المتوافرة فيه، فضلاً عن كونه غذاء آمناً ونظيفاً في نفسه لا يحتاج إلى تعقيم، أما فوائده المتعلقة بالأم، فمنها: المساعدة على عودة جسمها إلى طبيعته بعد تغيرات الحمل والولادة، ووقايتها من كثير من الأمراض المرتبطة بالجهاز التناسلي كالسرطانات وغيرها، وهذا بفضل الله عز وجل ورحمته.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً, وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا, وعلمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً, وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك! اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فلا زلنا ضمن مباحث النبوة على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهذا البحث المستطرد جرنا إليه خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، فبعد أن انتهينا من ذكر خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أمهاتنا وأهل بيته الكرام, وتبين لنا ما في ذلك الخلق من دلالات واضحات على أنه رسول رب الأرض والسماوات, عليه صلوات الله وسلامه، قلت: يحسن بنا أن نتعرف على أمهاتنا أزواج نبينا اللواتي أكرمهن الله بصحبة خير خلقه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, وقلت: إن الله خص نبيه عليه الصلاة والسلام بزيادة على ما أباحه لهذه الأمة المباركة، فشرع له وأباح له أن يقترن عليه صلوات الله وسلامه بأكثر من أربع نسوة، وقلت: لا بد من بيان الحكمة في ذلك, كما أنه لا بد من بيان حكمة التعدد في غيره عليه صلوات الله وسلامه، كما أنه لا بد من بيان حكمة النكاح على وجه العموم، وقلت: ضمن هذه الأمور الثلاثة خمسة وعشرون حكمة لا بد من بيانها، وكنا نتدارس حكم النكاح العامة ومقاصده الأساسية البارزة، وأنها خمسة مقاصد، وخمس حكم, أولها: كما تقدم معنا تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية حسية أو معنوية، وثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية، وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريقين اثنين, حسن عشرة كل منهما لصحابه ومساعدته له ونفقته عليه، ورابع الحكم العامة للنكاح: تذكر لذة الآخرة، وخامسها: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل صاحبه وقرابته.

    ذكرنا ثلاث حكم من هذه الحكم الخمسة, الأولى والثانية والثالثة، وقبل أن ننتقل إلى الرابعة كنا ذكرنا شيئاً يتعلق بما تقدم من الحكم، وقلت: إن مغانم الزواج يشترك في تحصيلها الزوجان الرجل والمرأة، لكن لا بد لتحصيل تلك المغانم من وجود الشروط فيهما وانتفاء الموانع عنهما. وتقدم معنا أن كلاً من الزوجين يؤجر على تربية الولد، وأن كلاً من الزوجين يؤجر على نفقته عليه. وذكرت أمراً في آخر المباحث الماضية أحب أن أكمله, لننتقل بعد ذلك إلى الحكمة الرابعة في هذا المبحث إن شاء الله.

    قلت: إنما نبهت عليه على وجه الخصوص لأنه حصل فيه تفريط وتساهل من قبل كثير من الأمهات في هذه الأوقات، ألا وهو: رضاعة الأولاد، وقد فرط كثير من النساء في إرضاع أولادهن, وقلت: جعل الله للأولاد حقاً ثابتاً في الثديين، ينبغي أن يأخذ الأولاد حقهما من هذين الثديين, وإلا فسيسلط الله الحيات على هذين الثديين لتنهشهما وتخدشهما وتعضهما بعد الممات؛ لأن الأم فرطت في حق الأولاد. فالله جعل للأولاد حقاً في هذين الثديين وهو حق الرضاع، وذكرت آيتين كريمتين تدلان على ذلك، الآية الأولى في سورة البقرة: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233], إلى آخر الآية. وتقدم معنا أن الآية أوجبت الرضاع, وبينت أن الفصال والفطام لا يجوز إلا بعد التحقق من ثلاث أمور, أولها: رضا الزوجة، ورضا الزوج، ومشاورة أهل الخبرة، فإذا قرر هؤلاء الثلاثة أن فصال الولد وفطامه عن الرضاع قبل سنتين لا يضره ولا يؤذي بنيته فلا جناح عليهما، وقولنا: فلا جناح, أي: لا إثم عليهما في فصاله. والآية تشير إلى أن إرضاعه ليبلغ السنتين أكمل وأحسن، إنما إذا اتفق هؤلاء الثلاثة فتحققنا أن الضرر منتفٍ عن الولد في حال فصاله قبل السنتين، واتفق الزوجان ووافق أهل الخبرة وقالوا: لا ضرر على المولود في الفصال، ففي هذه الحالة لا جناح عليهما في فصاله وفطامه. وما عدا هذا فلا يجوز.

    والآية الثانية ذكرتها في سورة الطلاق، ويقال لها: سورة النساء القصرى، والقصرى: يعني الصغيرة, التي ليست كسورة النساء الكبيرة، وثبت تسميتها بسورة الطلاق وسورة النساء القصرى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما في صحيح البخاري، والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي, وفي مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور, وفي تفسير الطبري، ومعجم الطبراني الكبير, وتفسير ابن المنذر، وابن أبي حاتم, وتفسير ابن مردويه، ومسند عبد بن حميد, والأثر صحيح، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سماها بسورة النساء القصرى، يعني: الصغرى. ونقلت هذه التسمية أيضاً عن أبي سعيد الخدري في تفسير ابن مردويه رضي الله عنهم أجمعين، وهذه الآية تقدمت معنا أيضاً, لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]. ما الآية التي قبلها؟ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6]. فإذا طلقت المرأة أيضاً ينبغي أن ترضع ولدها, ولها أجرة الرضاعة، وينبغي على الوالد أن ينفق على ولده, وأن يدفع أجرة الرضاع لمطلقته، لأم هذا الولد كما قرر ذلك ربنا الصمد.

    هذا ذكرته - كما قلت- في المباحث الماضية، وآخر شيء ذكرته تقريراً لهذا كما تقدم معنا الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وقلت: إن إسناده صحيح على شرط مسلم, وهو في الجزء الثاني، صفحة عشر ومائتين من رواية أبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: جميع رجال الإسناد ثقات أثبات احتج بهم الشيخان، غير واحد فقط لم يحتج به البخاري, ألا وهو سليم بن عامر الحمصي, فهو من رجال مسلم فقط، نعم أخرج له البخاري لكن في الأدب المفرد، وأخرج له مسلم في صحيحه, وأخرج له أهل السنن الأربعة، وهو من التابعين الكبار, ولد في حياة النبي عليه الصلاة والسلام, لكنه لم يره, رضي الله عنه، ومن أثبت رؤيته فقد وهم، وقد روى عن أبي هريرة، وأبي الدرداء, وروى عن تميم الداري، وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما عداه جميع رجال الإسناد فقد روى عنهم الشيخان، ولذلك الحديث على شرط مسلم؛ لأن هذا لم يرو له البخاري, كما قال ذلك الحاكم وأقره الذهبي, والحديث فيه طول كما تقدم معنا، ومحل الشاهد فيه، في الرؤيا التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام يقول: ( ثم مررت على نساء .. إلى قوله: إذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات ). وقلت: هذا وقع في رؤيا منام لنبينا عليه الصلاة والسلام، ورؤيا الأنبياء وحي، ( فقلت: ما بال هؤلاء؟ فقالا )، أي: الملكان اللذان أخذا نبينا عليه الصلاة والسلام ليتجول في عالم الرؤيا، ( فقالا: هؤلاء اللواتي يمنعن أولادهن ألبانهن ). يسلط الله على ثديهن الحيات بعد الممات, فتنهش الحيات ثدي النساء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن، وتكملة الحديث، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( ثم بعد ذلك انطلقت فإذا أنا بغلمان يلعبون بين نهرين، فقلت: من هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء ذراري المؤمنين ). وقد تقدم معنا أن أولاد المسلمين الموحدين إذا ماتوا قبل الحنث فهم في جنات النعيم باتفاق أهل السنة الكرام الطيبين. يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( ثم شرف لي شرفٌ -أي: بدا- فإذا بثلاثة نفر يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء زيد، وجعفر، وعبد الله بن رواحة ). وهم أمراء النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة مؤتة، الأمير الأول: زيد بن حارثة حب نبينا عليه الصلاة والسلام، فلما قتل أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ابن عم نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة . وقد قتل هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في غزوة مؤتة، وكانت في جمادى الأولى في العام الثامن من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع ما حصل فيها من قتال عظيم بين المسلمين وبين الكافرين، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وعدد الكفار على أقل تقدير مائتا ألف، وعدد من قتل من المسلمين في تلك الموقعة من ثمانية إلى اثني عشر فقط، منهم هؤلاء الأمراء الثلاثة، وكم قتل من الكفار؟ لا يعلم بذلك إلا العزيز القهار. لكن انتبه إلى ما حصل فيهم من قتل! ثبت في صحيح البخاري عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه هو الذي أخذ الراية بعد ذلك, واستطاع أن ينهي المعركة, وأن يعود بالجيش سالماً إلى المدينة المنورة، يقول خالد كما في صحيح البخاري : لقد انقطعت تسعة أسياف بيدي في غزوة مؤتة، تسعة أسياف يضرب بها وانقطعت وتكسرت، وما بقي في يدي إلا صحيفة يمانية، وهي حديدة عريضة يقاتل بها, أما السيوف انقطعت وانكسرت من كثرة ضربه في الكفار. يقول ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا عظيم جداً، يعني: موقعة ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف يقتل من أولئك مقتلة عظيمة، ومن هؤلاء القتلى ثمانية إلى اثني عشر، يعني: أقصى ما قيل قتل اثنا عشر صحابياً رضي الله عنهم في غزوة مؤتة، منهم هؤلاء الأمراء الثلاثة, وقيل: ثمانية, أو خمسة وهؤلاء الأمراء الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    وآخر الحديث يقول: ( ثم شرف لي شرف فإذا بثلاثة ينتظرون, فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: إبراهيم، وموسى، وعيسى على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ). ينتظرونك يا محمد!

    الشاهد في هذا -كما قلت-: أن الله يسلط الحيات تنهش ثدي النساء إذا منعن أولادهن ألبانهن. فالمرأة ستحصل مغانم كثيرة من النكاح، لكن بشرط أن تتقي الله، وأن تقوم نحو الذرية بما أوجبه الله، فجعل الله للأولاد حقاً في ثدي الأمهات، فينبغي على الأمهات أن يعطين الأولاد هذا الحق الذي جعله الله للأولاد.

    هذا - كما قلت- تقدم معنا، وذكرته في بداية هذا المبحث بشيء من التوضيح, وأزيده توضيحاً، كما قلت: سأتكلم على مكانة الرضاعة ومنزلتها, وعلى فوائدها وحسنها.

    إن رضاعة الأولاد من ثدي أمهاتهم لها آثار كثيرة بدنية ونفسية على الأولاد وعلى الأمهات، والأمهات إذا فرطن في ذلك فقد اعتدين على أنفسهن وعلى أولادهن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088778561

    عدد مرات الحفظ

    778967898