بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد ذكرنا مسائل صلاة الجماعة وحكمها، وذكرنا أن المسائل المتعلقة بها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: من حيث وجوب صلاة الجماعة على المقيم.
والثاني: من حيث وجوب صلاة الجماعة في السفر.
والثالث: من حيث وجوب الصلاة جماعة في المسجد سفراً وحضراً. هذه ثلاثة أقسام.
أقوال أهل العلم في حكم صلاة الجماعة
وكنا تحدثنا سابقاً عن القسم الأول والثاني، وهو حكم صلاة الجماعة في الحضر والسفر، وقلنا: إن مذهب الحنابلة أن صلاة الجماعة تجب على الأحرار القادرين ولو في سفر، وكذلك القدرة في كل شيء بحسبه، فليست القدرة هنا إلا حال العجز عن الجماعة في حال أداء العبادة، ومما يدل على ذلك أن
الحسن البصري ذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا جاءوا إلى المسجد فوجدوا الناس قد صلوا؛ صلوا فرادى، وهذا -كما يظهر- على مجيء الرجل ولم يجد جماعة؛ فصلى وحده، فهذا الذي يظهر، والله أعلم!
وعلى هذا فصلاة الجماعة واجبة، ويجب تحصيلها حال أداء العبادة، فإن كان هناك جماعة وإلا صلى وحده، كما لو قام الرجل وخشي فوات صلاة الفجر، فأمر أهله أن يصلوا معه فوجد معهم العذر فصلى وحده فلا حرج.
قال المؤلف رحمه الله: (ولو سفراً)، وهذا دليل على أن صلاة الجماعة لا تسقط حضراً ولا سفراً، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع صلاة الجماعة في حضره ولا في سفره، فقد صلى بأصحابه في السفر في حج وغزو، وكل الذين ذكروا قصره عليه الصلاة والسلام في السفر إنما ذكروه حينما صلى بأصحابه جماعة، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: كل الآيات الواردة في صلاة الخوف صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعةً، مع أن الأمر لو نظر إليه من حيث هو؛ لقلنا: إنه صلى وحده خشية العدو، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه قبالة العدو وقبالة القبلة، والمؤلف قال: (للصلوات الخمس المؤداة)، وأما المقضية أو المنذورة فإنهم لا يوجبون ذلك، هذا مذهب الحنابلة في المشهور عندهم، وقلنا: إن الراجح -والله أعلم- أن صلاة الجماعة واجبة في المؤداة وفي المقضية، وذكرنا دليل ذلك كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة حينما قال صلى الله عليه وسلم: ( من يكلأ لنا الليل؟ فقال بلال : أنا يا رسول الله! فنام الصحابة فاستقبل بلال الشمس ثم نام، فلم يقوموا إلا والشمس على أظهرهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا بلال! فقال: أخذ بنومي الذي أخذ بنومك يا رسول الله! ثم قال: قوموا فارتحلوا عن مكانكم، فإن هذا مكان حضرنا فيه شيطان، ثم أذن ثم أقام ثم صلى بأصحابه )، هذا يفيد أنه عليه الصلاة والسلام أخر الصلاة عن مكان إلى مكان وأمر أصحابه أن يقوموا وأن يتوضئوا، مما يدل على أن تحصيل الجماعة حتى في المقضية واجب.
قال المؤلف رحمه الله: (وجوب عين)، هذا هو مذهب الحنابلة، أن صلاة الجماعة واجبة وجوب عين، واعلم أنهم اتفقوا على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه إذا اتفق أهل بلد على ألا يصلوها في المساجد؛ قوتلوا حتى يفعلوها، وقلنا: قوتلوا ولم نقل: يقتلوا؛ لأن هناك فرقاً بينهما (فيقاتلوا) يعني: يبين لهم وجوبها حتى لو أدى ذلك إلى مقاتلتهم وليس إلى قتلهم، فالمقاتلة ممانعة، وأما القتل فهو فناء، وهذا فرق كبير، لأنهم تركوا شعيرة من شعائر أهل الإسلام.
وقد ذكر أبو العباس ابن تيمية : أن الأئمة اتفقوا على أن من ترك صلاة الجماعة مطلقاً؛ فإنه آثم، هذا من حيث مشروعيتها في الجملة.
وأما مشروعيتها في حق المكلف، فذهب الحنابلة إلى أنها واجبة وجوب عين على المكلف، وقلنا: إن هذا القول أظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العتمة، ولو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبواً )، و( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار )، فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما هم أن يحرق على قوم، دليل على أنهم تركوا واجباً، ولا عقوبة إلا بذنب، فدل ذلك على أن ترك الجماعة ذنب يستحق معه العقاب.
وهذا الحديث تكلموا فيه من حيث الوجوب وعدم الوجوب، فقد قال بعضهم: إن هذا ليس فيه دلالة على الوجوب، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك صلاة الجماعة حين قال: ( ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أنطلق ) والجواب عن هذا: أولاً:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق برجال معهم حزم ) فصلاة الجماعة قد أديت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها أخرت الصلاة، وهذا يدل على أن ترك الصلاة جماعةً في المسجد لحاجة أخف من ترك الجماعة مطلقاً.
والدليل الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ثم آمر بالصلاة فتقام )، فهذا دليل على وجوب إقامتها.
والثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم آمر بالصلاة فتقام ثم أنطلق )، لإثبات وجود الترك حتى تحصل العقوبة، فكيف نعرف أن فلاناً لم يصل إلا بعد أن تقام الصلاة فينظر هل صلى أو لم يصل؟ فهذا دليل على وجوبها في الجملة.
واعلم أن القول بالوجوب العيني هو مذهب الحنابلة وأكثر الحنفية.
والقول الثاني في المسألة: أنها فرض كفاية، وهو مذهب الشافعية في المشهور عندهم، ومعنى فرض كفاية: أنه إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فإذا أقيمت الصلاة جماعة؛ صارت في حق الباقين مستحبة على القاعدة في فرض الكفاية.
ويشكل على هذا أن ابن مسعود قال: ولو أنكم تخلفتم عن الصلاة كما يتخلف هذا المنافق -ومن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من كانوا أحياناً يتركون الصلاة- لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وذهب المالكية رحمهم الله إلى أنها سنة، واعلم أن المالكية حينما يطلقون على الشيء أنه سنة، فالمقصود به السنة التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بها أمر إيجاب، وهذا يخطئ فيه كثير ممن ينقلون كلام المالكية، فالمالكية أحياناً يقولون عن السنة المؤكدة بأنها واجبة، ولهذا يرون أنها تجبر بدم في الحج، وعليها العقوبة، وتجبر بسجود السهو في الصلاة وغير ذلك.
إذاً أكثر الحنفية على أن صلاة الجماعة فرض عين على كل أحد، ومذهب الشافعية فرض كفائي، ومذهب مالك بأنها سنة، ويقصدون بالسنة كما في مراقي السعود وغيره أن السنة هي التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها، وظاهر كلامهم أن الأمر فيها أمر إيجاب، ولكنها ثبتت بدليل ظني كما يقولون، وليست بدليل قطعي، ولا سبيل الإلزام فيها قطعي أيضاً، فإذا كان سبيل الإلزام فيها ظنياً، فإنهم يقولون: إنها سنة.
إذاً من الخطأ حينما ننقل عن المالكية أنها سنة، ونقصد بالسنة أنها هي التطوع والمستحب؛ لأن المالكية يسمون المستحب نفلاً وندباً، ويسمون ما يتقرب به العبد مما هو سنة مطلقة تطوعاً، مثل الصلاة، حين تكثر من الصلاة يسمونه تطوعاً، وأما الندب والنافلة فهي ما أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراً غير إلزام.
وقد فهم البعلي في الاختيارات عن ابن تيمية أنه يقول بأنها شرط، ونقل ذلك عن ابن عقيل من الحنابلة، والصحيح أنه لا يعرف عن ابن تيمية أنه قال بأنها شرط، وإنما ذكر ذلك استطراداً.
وأما قول البعض: إن صلاة الجماعة سنة، وهو قول جمهور أهل العلم، فهذا بهذا الإطلاق خطأ، بل إننا نستطيع أن نقول: إن جمهور أهل العلم على أنها واجبة في الجملة، فالحنابلة فرض عين وأكثر الحنفية، و مالك واجبة وجوباً ظنياً، والشافعية فرض كفاية.
مناقشة من قال بشرطية صلاة الجماعة
العدد الذي تنعقد به صلاة الجماعة
قال المؤلف رحمه الله: [وتنعقد باثنين ولو بأنثى وعبد في غير جمعة وعيد لا بصبي في فرض]، يعني: أن الجماعة تحصل باثنين، وهذا هو الذي يظهر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
الاثنان فما فوق جماعة )، وهذا الحديث تكلم فيه الحفاظ، وقد رواه
الدارقطني و
ابن ماجه و
البيهقي ، وضعفه الإمام
البيهقي ؛ لأن في سنده رجلاً يقال له:
الربيع بن بدر وهو ضعيف.
ويدل على ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم كما عند أبي داود من حديث أبي سعيد : ( ألا رجل يتصدق على هذا )، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد للرجل الجماعة، وهذا أصح شيء في أن الاثنين جماعة، وأما حديث: ( الاثنان فما فوق جماعة )، فهو ضعيف، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.
مكان وقوف الإمام في صلاة الجماعة
انعقاد صلاة الجماعة بالأنثى والصبي
قال المؤلف رحمه الله: (ولو بأنثى)، والدليل على أن الأنثى يحصل بها الجماعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر
أم ورقة أن تؤم أهل دارها، وهذا الحديث تكلم فيه العلماء، والراجح أن الحديث فيه ضعف، فإن في سنده رجلاً يقال له:
الوليد بن جميع ، وأمه الراوي عنها
ليلى مجهولة.
قال المؤلف رحمه الله: (في غير جمعة وعيد)، لأن الجمعة اختلف العلماء في ذلك، فذهب الحنابلة إلى أنها لا بد فيها من أربعين وكذلك العيد، فاشترطوا العدد في الجمعة والعيد، وهذا له دليله، والذي يظهر -والله أعلم- وهو اختيار ابن تيمية : أن الجمعة تحصل باثنين غير الإمام والخطيب، فرجح ابن تيمية أن الجمعة تحصل باثنين غير الخطيب إذا كانوا مستوطنين بلداً، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (لا بصبي في فرض)؛ الحنابلة يرون أن الصبي لا تصح إمامته، فلا يصح ائتمامه في الفرض، وقولهم: (في فرض)؛ لأنه صح الائتمام بصبي لم يبلغ في غير الفرض، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس حينما قام عن يساره، فأخذ بشحمة أذنه حتى أقامه عن يمينه، والذي يظهر -والله أعلم- أن كل ما ثبت في النفل جاز في الفرض، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا مذهب الشافعية، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله في أحكام الائتمام والإمامة.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
إمامة الصغير
صلاة المسافر في المسجد
السؤال: ما حكم الصلاة في المسجد للمسافر؟
الجواب: الصلاة في المسجد لا تجب على المسافر، وهذا الذي يدل عليه حديث جابر بن يزيد بن الأسود ولهذا مالك استدل بهذا الحديث على أن الصلاة جماعة في المسجد لا تجب، ولكن هذا في مسجد الخيف والرسول صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف معروف أنه مسافر، وقال: ( صلينا في رحالنا )، فأذن لهم أن ينصرفوا عنها لأنهم مسافرون.
فالمسافر الراجح أنه لا تجب عليه الجماعة في المسجد، وعامة أهل العلم لم يقولوا بوجوبها إلا ابن عبد الحكم وشيخنا محمد ، محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الفقيه المعروف الذين يقولون: يمكن أن يكون له مذهب كأنه من تلاميذ مالك و الشافعي ، هذا هو رأي الشيخ محمد .
وابن تيمية يقول: وينبغي ألا يترك المسافر الجمعة.
ونقول: الجمعة ما هي بواجبة، وكذلك الفجر ما هي بواجبة. ونقول أيضاً: الجماعة شيء والمسجد شيء، فلو أني سافرت أنا وأنت، وذهبنا وجلسنا في شقة، فيجوز أن نصلي جماعة قصراً في الشقة ولو كان المسجد قريباً؛ لأن الجماعة حاصلة في الشقة لكن ما تجب في المسجد، لكن لو كان هناك مسافر بمفرده أوجبنا عليه أن يصلي في المسجد لتحصيل الجماعة، وتحصيل الجماعة واجب فلا تسقط حضراً ولا سفراً.
وحديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه دليل على أن الصلاة في المسجد لا تجب، وهو قول الأئمة الأربعة في المشهور عنهم، أن الصلاة في المسجد لا تجب لا في الحضر ولا في السفر، وهناك رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن تيمية أنها تجب في الحضر ولا تجب في السفر، وهو رأي شيخنا محمد بن عثيمين وشيخنا ابن باز ورواية عن ابن القيم ، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.