الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويسن أكله قبلها، أي: قبل الخروج لصلاة الفطر لقول بريرة : (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي)، رواه أحمد ، وأفضل على تمرات وتراً، والتوسعة على الأهل، والصدقة، وعكسه، أي: يُسن الإمساك في الأضحى إن ضحى حتى يصلي؛ ليأكل من أضحيته لما تقدم، والأولى من كبدها].
قال المؤلف رحمه الله: (والأفضل تمرات وتراً) لحديث أنس السابق ذكره.
قال المؤلف رحمه الله: (والأولى من كبدها) لم أجد حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، وقد أشار إليها إسحاق بن راهويه كما في مسائل إسحاق الكوسج ، وقد علل الحنابلة سبب الأكل من كبدها، فقالوا: لأنها أسرع تناولاً وهضماً، والذي يظهر والله أعلم أنه يأكل كما شاء من غير تقييد، ومما يدل على ذلك أن قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، يدخل في الأضحية والهدي، وقد قال جابر في هديه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (ثم أمر ببضعة من كل بدنة فوضعت في قدر فطُبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها)، فهذا يدل على أنه لا يلزم أن يكون من الكبد، وأما قول بعضهم أن ذلك من باب سرعة الفطر فهذا ليس فيه ما يدل على ذلك، والله أعلم.
وللفائدة يذكر بعض الباحثين في الحواشي حديثاً عن بريدة عند الدارقطني : (وإن لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل)، وهذا ليس حديثاً عند الدارقطني وإنما هو كلام لبعض الفقهاء، وعلى كل حال هذه الزيادة غير صحيحة.
قال المؤلف رحمه الله: [وتكره صلاة العيد في الجامع بلا عذر إلا بمكة المشرفة؛ لمخالفة فعله صلى الله عليه وآله وسلم. ويستحب للإمام أن يستخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد؛ لفعل علي رضي الله عنه، ويخطب لهم، ولهم فعلها قبل الإمام وبعده، وأيهما سبقه سقط به الفرض. وجازت التضحية].
وبالتالي فإن الصلاة في المساجد من غير عذر خلاف السنة ولكنه ليس بمكروه، فإن صلى في المسجد فلا تخلو الصلاة في المسجد من حالين: إما أن تكون لعذر وإما أن تكون لغير عذر، فإن كانت لغير عذر فقد مر أن الحنابلة يقولون: مكروه، والراجح أن ذلك ليس بمكروه ولكنه خلاف السنة، وإن كانت لعذر مثل أن يكون ثمة مطر أو خوف أو أراد أن يستخلف الإمام بعض الضعفة الذين يشق عليهم الذهاب فلا حرج، ودليله حديث علي بن أبي طالب الذي رواه النسائي من طريق الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم أن علياً رضي الله عنه استخلف أبا مسعود البدري على الناس فخرج في يوم عيد، والحديث أيضاً رواه الشافعي وصححه النووي في خلاصة الأحكام، و ابن مفلح في النكت والفوائد على المحرر، وهو قابل للتحسين، وإنما قلت: قابل للتحسين؛ لأن ثعلبة بن زهدم لا يُعرف له راوٍ إلا الأسود بن هلال ، ولكن سبق أن الرجل المجهول إذا كان من كبار التابعين وروى عن الصحابة، ولم يأت بما يُنكر، وكان قد روى عنه غير واحد فإنه يُقبل، كما أشار إلى ذلك الذهبي في الموقظة.
وأما ما جاء عند أبي داود وغيره من حديث عبيد الله التيمي عن أبي هريرة أنه قال: (أصاب الناس مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد)، فهذا الحديث لا يُفرح به؛ لأن الحديث في سنده الوليد بن مسلم رواه عن عيسى بن عبد الأعلى عن عبيد الله التيمي عن أبي هريرة ، و الوليد بن مسلم يأتي بما يُنكر، ولهذا فإن الوليد بن مسلم من شيوخ أحاديث تدليس التسوية، وتدليس التسوية لا بد أن يُصرح الراوي بالتحديث في كل طبقة من طبقات الإسناد، ولهذا الإمام أحمد ضعف الحديث وقال: لا يُعرف لـعبيد الله التيمي ، وضعفه النسائي أيضاً.
وكما قلت: إن قصة علي إن شاء الله كافية في هذا، وعلى هذا فقول المؤلف: (ويُستحب للإمام أن يستخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد لفعل علي )، إذا كان هناك ضعفة فلا حرج إن شاء الله؛ ليشهدوا الخير ودعوة المسلمين.
قال المؤلف رحمه الله: (ويخطب لهم)، يعني: يصنع هذا المستخلف مثلما يصنع الإمام، وأما قول: وقد جاء في حديث علي عند ابن أبي شيبة أن الناس قالوا لـعلي : لو استخلفت من يصلي بالضعفة، قال علي : والله لو استخلفت أحداً لأمرت أن يصلي بهم أربعاً، فهو حديث ضعيف، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وأيهم سبق سقط به الفرض وجازت التضحية) ومعنى (سقط به الفرض) يعني: الفرض الكفائي، وكذلك في جواز الذبح من الأضحية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن ذبحها قبل الصلاة فهي لحم ليست من النُسك في شيء، ومن ذبح بعد الصلاة فهي نُسك)، وعلى هذا فلا فرق أن يذبحها بعد انتهاء صلاة هؤلاء أم صلاة الناس في المصلى.
قول المؤلف رحمه الله: (ويُسن تبكير مأموم إليها) يُستحب للمأموم إذا صلى صلاة الفجر أن يخرج إلى المصلى، هذا هو السنة؛ لما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يخرج إلى المصلى بعد الصلاة ماشياً، وروي عنه أنه خرج بعد طلوع الشمس، ولعل خروجه بعد طلوع الشمس لحاجة والله أعلم، وعلى هذا فالسنة الخروج إلى المصلى بعد الصلاة مباشرة بحيث لا ينشغل عن الصلاة، وخروج ابن عمر بعد طلوع الشمس لعله كان قد انشغل في صدقة الفطر؛ لأن السنة أن يعطيها قبل الصلاة، فلعله تأخر في ذلك، والله أعلم.
ولهذا فيُسن التبكير للقرب والدنو من الإمام ولأجل بقائه في المصلى ينتظر الصلاة، وانتظار الصلاة صلاة كما قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة : (والرجل لا يزال في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه)، فهذا يدل على استحباب التكبير، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُسن تأخر إمام إلى وقت الصلاة)، يعني: يُستحب للإمام ألا يخرج إلا وقت أداء صلاة العيد لقول أبي سعيد الخدري : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة)، والحديث ذكره المؤلف، ورواه مسلم في صحيحه، وعلى هذا فالسنة للإمام ألا يخرج إلا للصلاة، وهذا من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يكاد يخرج للناس إلا لأداء الصلاة؛ ولهذا قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولأن الإمام يُنتظر ولا ينتظر) فالإمام يُنتظر فينتظره المأمومون، وأما هو فلا ينتظر أحداً؛ ولهذا خرج عمر رضي الله عنه يوماً إلى صلاة الصبح فقال: والله لا ننتظر على صلاتنا أحد.
هذه الرواية: (للعيد والوفد)، وفي رواية : (للجمعة)، والحديث له ألفاظ، لكن فيها (تتجمل بها للعيد والوفد).
قول المؤلف: (أي لابساً أجمل ثيابه)، هذا معنى أحسن هيئة، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة)، وهذا الحديث ضعيف، والصواب أنه مرسل، ولا يصح حديث صحيح صريح في النهي عن لُبس الثوب الأحمر، ولا حديث صحيح صريح في جواز لُبس الثوب الأحمر الخالص، وأما لبس الرجل الثوب الأحمر فلا بأس، هذا الراجح والله أعلم، وأما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبس الأرجوان) فلا شك أن الأرجوان أحمر ولكن نهيه عن الأرجوان ليس لأجل الأحمر، ولكن لأجل ما فيه من حرير، فإن الأرجوان في عهده صلى الله عليه وسلم كان فيها حرير، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها لما فيها من حرير وليس لأجل لونها، والله أعلم.
ثانياً: أننا لو قلنا: إن خروج المعتكف من معتكفه يكون بعد صلاة الصبح فإنه لا يُستحب أن يأتي إلى المصلى بثيابه التي اعتكف فيها؛ لأمور:
الأول: لأن العبادة يتطلب لها التجمل ولبس أحسن الثياب لقوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].
الثاني: لأن خروجه بثياب اعتكافه والناس قد تجملوا يكون قد لبس ثوب شهرة ليقال عنه أنه قد اعتكف، فالسنة هو إخفاء العبادة وليس إظهارها.
الثالث: أن هذه الثياب الخلقة ليست مقصودة للمعتكف، فالمعتكف لو استطاع أن يلبس أحسن ثيابه في المسجد لكان مأموراً.
الرابع: أن قولهم: لأنه أثر عبادة فاستحب بقاؤها، فمن المعلوم أن توسيخ الثياب ليس من أثر الاعتكاف، ولكنه لطول البقاء، فليس طول البقاء هو أثر عبادة، فإنه جائز أن يكون عنده ثوبان إذا أراد أن يمكث لبسه وإذا أراد أن يخرج إلى الناس لبس الآخر، فدل ذلك على أن ما يذكره الحنابلة هنا ليس من السنة، والله أعلم.
صلاة العيد عند الحنابلة وقد وافقهم على ذلك الحنفية قالوا: يُشترط لصلاة العيد ما يُشترط لصلاة الجمعة من استيطان وعدد فقط، أما الاستيطان فهو ظاهر والله أعلم خلافاً للمالكية والشافعية؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج يوم الأضحى في حجته لم يصل صلاة العيد ولم يأمر بها، فدل ذلك على أن السنة للمسافر ألا يصلي إلا أن يكون قد صلاها مع الآخرين، وأما أن يبتدئها فإن ذلك خلاف السنة ولا تصح منه، مثل: أن يذهب جماعة في البر أو في سفر فيصلون صلاة العيد وهم غير مستوطنين. فالراجح أن الاستيطان هو من شروط سنيتها، ولا نقول: من شروط وجوبها؛ لأن الراجح أنها فرض كفاية أو سنة، وكذلك العدد، وعدد الجمعة على مذهب الحنابلة أربعون وعلى الراجح ثلاثة: خطيب واثنان.
قال المؤلف رحمه الله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في يوم حجته ولم يصل)، هذا من باب الاستشهاد بالفعل ولم يأت نص بذلك، ولكن هو من باب الاستقراء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حجته لم يصل صلاة العيد.
قال المؤلف رحمه الله: (لا إذن إمام) يعني: ليس من شرطها إذن الإمام خلافاً للحنفية، وعلى هذا فعدم إذن الإمام هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، قالوا: إلا إذا تعددت صلاة العيد فيعمل بإذن الإمام، والمقصود بالإمام الآن وزارة الشئون الإسلامية، إلا أن ضبط هذه الأشياء ومعرفة أي المساجد يُصلى هذا من الأهمية بمكان، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُسن إذا غدا من طريق أن يرجع من طريق آخر)، هذه السنة في صلاة العيد، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق)، يعني: يذهب من طريق ويرجع من طريق، وقول جابر: (إذا خرج يوم العيد) دليل على أنه لا يفعل ذلك إلا في العيد، والحديث عند البخاري ، وأما قياس العيد على غيره فيقال: إن مثل هذا القياس لا يخلو من حالين: أن يكون حاله في المقيس غير معلوم، أو أن يكون معلوماً، فإن كان غير معلوم فإن أمكن حمله على العموم فلا حرج، وإن كان معلوماً فلا يصح القياس، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفعل ذلك في صلاة الجمعة، فإن المسجد كان قريباً فلا يخرج من طريق ويرجع من طريق، فدل ذلك على أن الصلاة في يوم العيد مقصودة، ولهذا أشار ابن مفلح صاحب المبدع فقال: الظاهر أن المخالفة فيه شُرعت لمعنى خاص لا يلتحق به غيره، يعني: أن المخالفة في صلاة العيد شُرعت لمعنى خاص فلا يلتحق به غير صلاة العيد.
وقد أشار النووي رحمه الله إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا فعله، فإنه دخل عرفة من طريق وخرج من طريق، وخرج من منى من طريق ودخل من طريق، ودخل مكة من طريق وخرج من طريق.
والجواب على ذلك أن يُقال: أما خروجه من منى من جهة ودخوله من جهة فإنما ذلك وافق ما ناسب خروجه، فإن خروجه من منى إلى عرفات من جهة غير دخوله؛ لأنه سوف يأتي إليها من مزدلفة، فكان ذلك إنما وقع اتفاقاً، وقل مثل ذلك في عرفة، وأما دخوله من مكة من أعلاها وخروجه من أسفلها فالذي يظهر والله أعلم أنه من باب التواضع حينما أتى مكة من أعلاها لأجل أن هناك مكان الأبطح؛ فالأبطح هو الموضع الذي اجتمع فيه خيف بني كنانة حيث تحالفوا على الكفر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهر التكبير والتلبية أو الإهلال في ذلك إظهاراً لدين الله ومخالفة لدين المشركين فمر على أعلاها، وأما خروجه من أسفلها فكان ذلك من باب التواضع، والله أعلم.
وعلى كل فالسنة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي.
الخطبة أيضاً فيها كلام هل هي واجبة أو لا؟ فالعبرة بالصلاة وليست بالخطبة، الخطبة سنة مؤكدة، وصلاة العيد سنة.
وأما قول الحنابلة: (لا يعتد بها)، بناءً على أنهم يرون أنها فرض كفاية، ونحن نقول: إن الصلاة هي السنة المؤكدة. والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر