الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قول المؤلف: (ويسن أن يقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)، ثم قال: (للأخبار الواردة).
هل يثبت الدعاء عند المرور إلى المقبرة، أو عند المرور في القبور، أو بين القبور؟
الذي يظهر -الله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن مجرد المرور عند المقابر يسن معه أن يقول الإنسان هذا الدعاء، ولهذا أرى والله أعلم أن الإنسان لو كان في سيارته فمر بجانب سور المقبرة فلا حرج أن يقوله؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة الطويل، وفيه: ( يا رسول الله! ماذا أقول إذا مررت بالقبور؟ قال: قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين ) الحديث، وهذا كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم -والله أعلم- أن نهي النساء عن زيارة القبور كان ثابتاً، وقولنا: إنه كان في آخر الإسلام في آخر حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأن في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتصلي عليهم )، وفيه أن عائشة راقبت النبي صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة : ( فأحضر فأحضرت، فأسرع فأسرعت، فما هو إلا أن دخلت البيت، فجلست على السرير، فدخل فرآني حشيا رابياً -يعني: أتنفس بقوة- فقال: ما شأنك يا
والمؤلف رحمه الله ذكر بعض الأحاديث بعضها في بعض، وهنا مسألة متعلقة بالجمع بين الأحاديث، هل يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهل لو جمع بعض الأحاديث يكون جائزاً؟
أولاً: نحن نعلم أن ثمة فرقاً بين الدعاء والذكر، فأما الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ذكر مقصود به التقييد، فهذا -والله أعلم- لا يفعله إلا مرة، ولا يجمع، وذلك مثل الذكر الوارد في التشهد الأول أو الثاني، أو الذكر الوارد في دعاء الاستفتاح، فهذا المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر مرة واحدة، فاستفتح بسبحانك اللهم مثلاً، وإن كان لم يثبت أنه قاله مرفوعاً، وإن كان ثبت عن عمر، ومثلما لو دعا: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي )، فلا يشرع أن يقول: اللهم باعد بين خطاياي، ويقول: سبحانك اللهم، هذا هو قول عامة أهل العلم خلافاً لـابن هبيرة وبعض فقهاء الحنابلة، وقد ذكروا دليل ذلك فيما رواه البيهقي من حديث علي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح فيقول: اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها، أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ) الحديث، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك غير مشروع، وقد تكلم فيه ابن القيم، وأبو العباس بن تيمية وابن رجب.
وعليه فالتشهد لا يشرع الإنسان أن يقول تشهد عمر، ثم تشهد ابن عباس ، ثم تشهد ابن مسعود؛ لأن هذا ذكر يقصد به التقييد، يعني: مرة واحدة.
القسم الثاني: الذكر الذي يقصد به مطلق الذكر؛ لورود أحاديث تدل على المطلقية، كما قال تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:98]، فهذا لا حرج أن يذكر الإنسان كل ما ورد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد فعل ذكر عقب عبادة، والله أعلم، يعني: عبادة مقصودة فيها ذكر معين، فهذا لا حرج أن يذكر الإنسان كل ما ورد في الصباح، وكل ما ورد في المساء، أو كل ما ورد عند نزول المطر.
ثانياً: الدعاء، فالدعاء ليس له حد محدود، فيجوز للإنسان أن يدعو بكل ما ورد فيدعو عند نزول المطر بكل ما ورد، ويدعو عند الخروج من المنزل بكل ما ورد، ويدعو في دخول المسجد بكل ما ورد؛ لأن هذا موطن دعاء فيجوز للإنسان أن يذكر ما ورد، وعليه فلا بأس أن يجمع فيه كل ما ورد، ولا يعد هذا جمعاً بين الأذكار التي يقصد بها التقييد، والمؤلف رحمه الله جمع بين حديثين، فبأي دعاء دعا حصل على السنة والله أعلم.
هذا التعليق ذكره المؤلف بقوله: (استثناءً للتبرك)، يعني: قوله (إن شاء الله) لم يقصد به التعليق، وإنما قصد بها التبرك؛ لأن كلمة (إن شاء الله) قد يقصد بها تعليق الأمر على المشيئة، وقد يقصد به التبرك.
قال المؤلف رحمه الله: (أو راجع للحوق لا للموت)؛ لأن اللحوق إليهم قد يحصل وقد لا يحصل، أما الموت فهو حاصل، الآن لو قلت: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يقصد به اللحوق، إما لحوق الموت فهذا واقع لا محالة، وإما اللحوق إليهم، يعني: يدفن في مقابرهم، فهذا واقع احتمالاً، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) إنما هو تعليق بمشيئة الوقت، وليس بمشيئة اللحوق إليهم، وليس مقصوداً به التبرك، فإذا قلت أنا: يا فلان! إن شاء الله سأزورك، فهذا تعليق على وقت المجيء، فإذا قلت: وإنا إن شاء الله بكم للاحقون يعني: أننا لاحقون لا محالة، لكن متى ذلك؟ هو بمشيئته سبحانه، وهذا هو الظاهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، فليس استثناءً للتبرك، وليس راجعاً للحوق لا للموت، ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك إنما هو تعليق لمشيئة وقت المجيء فلا يعلمه إلا الله، ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، وهذا هو الظاهر والله أعلم.
ثم إن قول المؤلف: (أو إلى البقاع) يعني: إن شاء الله بكم لاحقون إلى هذه البقعة نفسها، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك تعليق لمشيئة الرب جل جلاله في وقت الوفاة.
أما سماع الميت فدليله ما ورد في بعض النصوص، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إنه ليسمع قرع نعالهم ).
والثاني: جاء في بعض الروايات رواها أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد وغيره: ( ما من مسلم يمر على قبر أخيه في الدنيا أو كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه فيسلم عليه )، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم، فضعفه ابن الجوزي ، و أبو عمر بن عبد البر و ابن عبد الهادي و ابن رجب ، وصححه بعض المتأخرين مثل عبد الحق الإشبيلي و أبو العباس بن تيمية، وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه قال: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يظهر والله أعلم أن الميت يعلم بمجيء زائره إليه، والعلم هنا إنما هو بانتفاعه بدعاء الزائر.
أما السلام عليه فالذي يظهر والله أعلم التوقف؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف، فحينئذٍ فإن القول بأن الميت يسمع كلام الأحياء مطلقاً ليس بصحيح؛ لقوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، وهذا نص محفوظ، فلا يخرج عنه إلا ما جاء فيه الدليل.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( يا
هذا لم يثبت فيه بإسناد صحيح، وعليه فتقييد ذلك بيوم الجمعة بعد الفجر وقبل طلوع الشمس محل نظر والله أعلم، وقد بالغ ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح، وذكر بعض الأشياء التي ربما لا تعلم إلا بنص شرعي، وكذلك أبو العباس أشار إلى أن الأموات يجتمعون ويتزاورون، وهذا لا نستطيع أن نثبته بيقين، ولا ننفيه، إلا بثلاثة أشياء، فإن ثبوت العلم لا يكون إلا بثلاث: الأول: إما برؤيته، الثاني: أو برؤية نظيره، الثالث: أو بالخبر الصادق عنه، وما عدا ذلك فإنك لا تستطيع أن تثبت شيئاً، وبالتالي فإن القول بأن الآثار قد جاءت بتلاقيهم وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات، فهذا نقل عن أبي أيوب أنه كان يقال: ما فعل فلان، وما فعلت فلانة؟ كما ذكر ابن المبارك عن أبي أيوب ، فأقول: إن هذا قد يقال إنه من باب ما تواطأت وتواردت به الرؤى، أما أن يكون ذلك ثابتاً، فالله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
زيارة قبر الكافر لا بأس به بشرط ألا يستغفر له؛ لما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يؤذن لي، فاستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة )، وإذا ثبتت زيارة قبر الكافر فإن زيارة الكافر الحي من باب أولى، فإن زيارة الكافر الحي قد ينفعه بإسلامه، أو الكف عن شره، أو لأي مقصد شريطة أن يكون المقصد الأعلى هو رضا الله سبحانه وتعالى وطاعته، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم زار فتىً من اليهود كان مريضاً.
يعني: ولو كان الميت صغيراً لعموم الأخبار، وبالمناسبة فكل حديث فيه فضل التعزية ليس بصحيح إلا أن أهل العلم اتفقوا على استحباب تعزية الميت، والسبب في ذلك ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى الصحابة في زيد بن حارثة و في عبد الله بن رواحة وفي جعفر بن أبي طالب ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تبكوا على أخي بعد اليوم )، وذهب إلى أسماء بنت عميس فعزاها بـجعفر ، وهذا يدل على استحباب التعزية، أما الفضل الوارد فيها فقلت: لم يثبت ذلك بحديث صحيح. وأما ما رواه ابن ماجه عن عمرو بن حزم كما ذكر المؤلف: ( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة )، فهذا حديث يرويه قيس بن أبي عمارة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وهذا إسناد فيه انقطاع، وذلك لأن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم سمع من أبيه، لكن أباه لم يسمع من جده عمرو بن حزم ، وإنما هي وجادة، والله أعلم.
ورواية عمرو بن حزم لا تقبل على الإطلاق، إنما قلنا: إنها وجادة، وما ثبت في كتاب يثبت ضمن هذا الكتاب، وأما هذه الرواية فالذي يظهر والله أعلم أنها ليست من ضمن هذا كتاب عمرو بن حزم وإنما هي وجادة، هذا هو السبب الذي جعل العلماء يقبلون هذا ويردون هذا، فليس كل ما يرويه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه وجادة، فما ثبت أنه وجادة وأنه كتابه بأن يقول أبو بكر بن عمرو بن حزم : إنما قرأت ذلك في الكتاب الذي وجدت عند أبي فيقبل، لكن ليس كل ما يرويه عن والده يقبل على الإطلاق، هذا هو الذي حمل العلماء أن يقبلوا بعض الروايات ويردوا بعضها، والله أعلم.
ذهب الحنابلة والشافعية إلى أنه لا يستحب للإنسان أن يعزي بعد ثلاث، واستثنى الشافعية وبعض الحنابلة ما لم يكن المرء غائباً، فإن كان غائباً فله إذا جاء أن يعزي، وإنما حملهم على الثلاث لما جاء في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على آل جعفر بعد ثلاث وقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم )، واستدلوا أيضاً بما جاء في الصحيحين: ( لا يحل لمسلم أن يحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، فقالوا: إنه لا ينبغي للإنسان أن يجلس حاداً على ميت فوق ثلاث، وأنت ترى أن هذه الأحاديث ليس فيها دلالة على المنع من التعزية فوق ثلاث، لهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم على أن تحديد ذلك بالثلاث يحتاج إلى دليل صحيح صريح، ولا دليل على ذلك، وأما حديث مرور النبي صلى الله عليه وسلم وإتيانه إلى أسماء بنت عميس وقال: ( لا تبكوا على أخي بعد اليوم )، فهذا يدل على أنه مر على آل جعفر ، وقال: ( لا تبكوا على أخي بعد اليوم ) يعني: مثل لا تحدوا عليه، وهو داخل ضمن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لمسلم أن يموت له ميت فيحد عليه فوق ثلاث )، فهذا هو المقصود والله أعلم.
وقد يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن البكاء المذمومه الذي فيه نوع نياحة، أو صوت يؤذي الميت، فأرشدهم إلى هذا الأدب بقوله: ( لا تبكوا على أخي بعد اليوم )، يعني: أن فعل البكاء قد يؤلم الميت كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله، وعلى هذا فليس فيه ما يدل على استحباب، أو على أنه لا تعزية بعد ثلاث، ولهذا فالراجح والله أعلم على أن التعزية فوق ثلاث لا حرج فيها إن شاء الله، وليس فيه بأس إلا أن الناس اعتادوا على هذا الأمر، نعم يجلسون ثلاثة أيام إذا كان أهل الميت متفرقين فلا حرج أن يجلسوا ثلاثة أيام، وإن جلسوا أربعة فلا حرج، هذا هو الراجح، وكأن صريح البخاري يميل إليه والله أعلم.
لا يقال بكافر: وغفر لميتك؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى أن يستغفر للأموات من الكفار، وقال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] وقال تعالى في حق إبراهيم: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113]، وهذا ثابت بالإجماع والله أعلم. وللمسلم أن يقول أي لفظ يواسي به الميت، أما ما يقال: البقية في حياتك، فهذا لفظ ليس فيه دعاء؛ لأن كلمة البقية فيك، هو إخبار عن واقع؛ لأنك بقيت فعلاً بعد الميت، وأما إطالة العمر من غير ثواب ولا طاعة فليست بمحمودة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لـأم حبيبة قال: (سألت الله آجالاً معلومة )، فهذا يدل على أن قول: البقية في حياتك ليس بمشروع والله أعلم، نعم ليس بحرام، ولكنه ليس بسنة، بل هو مكروه؛ لأن الدعاء بإطالة العمر مطلقاً غير مشروعة، ولكن إطالتها بطاعة الله فلا حرج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره)، كما جاء ذلك عند البخاري في الأدب المفرد.
ومعنى (أعظم الله أجرك) بالنسبة للكافر يعني: أجرك في الدنيا، يقول صلى الله عليه وسلم: (أطعم به طعمة في الدنيا)، هذا القصد، والله أعلم، فالكافر إذا عمل لله فيثيبه الله سبحانه وتعالى بالذكر الحسن وبالصحة والعافية، وإزالة المكروب في الدنيا، وأما في الآخرة فليس له حسنة بل سيعذب والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر