إسلام ويب

علم البلاغة [1]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • البلاغة قديمة قدم الإنسانية، غير أن للعرب فيها القدح المعلى؛ حيث بلغوا عند التنزيل الذروة في الفصاحة، ومع فصاحتهم عجزوا عن معارضة القرآن الكريم الذي كان له بعد ذلك أكبر الأثر على البلاغة العربية. والعلاقة بين البلاغة والنحو وثيقة، بحيث لا يمكن أن يكون المتكلم بليغًا ولم يأخذ حظه من النحو.

    1.   

    قدم البلاغة وشيوعها

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من نطق بالضاد، الذي أعطي جوامع الكلم، القائل: (إن من البيان لسحراً)، صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    فعلم البلاغة هو علم قديم قدم الإنسانية؛ فإن الله عندما خلق الناس خلق لهم هذه اللغة، التي هي آية من آياته الباهرة، كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ[الروم:22]، والبلاغة واسعة سعة الخيال فهي ليست مقصورة على اللغة العربية فحسب، بل هي في كل لغة؛ لأن الناس على اختلاف لغاتهم يستعملون في كلامهم الاستعارات والتشبيهات، وكلامهم فيه إسناد ومسند ومسند إليه، وفيه قصر وإنشاء، وفصل ووصل، وإيجاز وإطناب ومساواة، وغير ذلك من أنواع علم المعاني، وأنواع علم البيان وأنواع علم البديع، ولو شئنا لقلنا: إن البلاغة ليست مقتصرة على لغات بني آدم، بل هي موجودة في منطق الطير وفي منطق الحيوان، إلا أن كلاً بحسبه، وقد أخبر الله تعالى عن النملة التي حذَّرت من حولها وأنذرتهم بقوله عنها: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[النمل:18]، وقد ذكر البلاغيون في هذه المقالة التي قالتها النملة عشرة وجوه من وجوه البلاغة ذكرتها في كتابي (وجه النهار الكاشف عن معاني كلام الواحد القهار).

    1.   

    البلاغة العربية وأثر القرآن الكريم فيها

    ولكن للبلاغة عند العرب شأن آخر، وشأن أخطر من أي شأن؛ فقد كانوا هم أهل البيان في الحقيقة وأهل البلاغة، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: (ما من نبي بعث إلا وأعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته القرآن، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً).

    والبلاغة العربية ممتدة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا القرآن الكريم، الذي نزل بلسان عربي مبين؛ فهو باق إلى قيام الساعة، والبلاغة مرتبطة به؛ فهي معه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    الإعجاز البلاغي في القرآن

    وكان من معجزة النبي صلى الله عليه وسلم أن أعطي ما مثله آمن عليه الناس في وقته؛ كما صنع الله تعالى بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء؛ فقد كان السحر كثيراً ومشتهراً في أيام موسى عليه السلام فأعطي معجزة من جنس ما آمن عليه الناس إذ ذاك، وكذلك عيسى بن مريم عليهما السلام، فإن الطب كان منتشراً في وقته، وأعطاه الله تعالى إبراء الأكمه والأبرص والأعمى بإذن الله.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه هذا القرآن بلسان عربي مبين، بهر العرب بفصاحته وبلاغته وقوة سبكه وجودة تركيبه، وتحداهم بأن يأتوا بمثله فما استطاعوا، قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ[الطور:34]، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ فلم يستطيعوا، وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة مثله فلم يستطيعوا؛ قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ[البقرة:23]، وقال في آية أخرى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ[يونس:38].

    والفرق بين الآيتين أن قوله تعالى في البقرة: ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)) يحتمل احتمالين: أي: فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، إن كان هنالك رجلٌ مثل محمد صلى الله عليه وسلم يدعي أن له قرآناً فأتوا بسورة من مثله، ويحتمل أن يكون المعنى: من مثل هذا القرآن، وهذا الاحتمال - أعني الأول - لا ينطبق على الآية التي في سورة يونس، وهي: ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ))، عجزوا عن أن يأتوا بشيء من مثل هذا القرآن، وإنما كانت لهم محاولات، وأكبر ظني أنها مكذوبة عليهم، كانت لهم بعض المحاولات حكاها بعض المؤرخين الذين لا يتحرون الدقة والصحة فيما نقلوه؛ فقالوا: إن بعضهم أراد أن يأتي بسورة مثل سورة الكوثر فقال: (إنا أعطيناك البحبح، فصل لربك واذبح، إن شانئك هو الأقبح)، وهذا إن كان صحيحاً عن مثل صاحب هذا الهراء فإنه لم يأت بشيء إلا أنه غير الكلمة الأخيرة، والهراء الذي قلته إنما ينطبق على الألفاظ التي غيرها وبدلها.

    موطن الإعجاز في القرآن الكريم والقول بالصرفة

    وكثير من الناس يظن أن الإعجاز هو في ألفاظ القرآن وتراكيبه ونظمه، هكذا من غير نظرة إلى كل مفردة على حده، والحقيقة أن القرآن إنما كان معجزاً بفصاحته وبلاغته بالنظر إلى كل لفظة وكل حرف في موضعه، بحيث إن الإنسان لو قدم أو أخر أو قال مثلاً في قوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ[الكوثر:1]، لو قال: (إنا آتيناك)لم يعط هذا المعنى ما تعطيه لفظة (أعطيناك)، وهكذا لو قال: (فصل لنا وانحر)، ورأيت بعض العلماء - الذين هم في الأصل من المحققين - قد زل زلة كبيرة حينما خدع بقول المعتزلة بأن القرآن معجز بالصرفة، أي أن الله صرف العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال: ودليل ذلك أن الله تعالى قال: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ[النساء:163]، فقال: إن هذه مجرد رص أسماء لا غير، وهذه الأسماء من أولها إلى آخرها تعادل أقصر سورة في القرآن، والإنسان يستطيع أن يأتي بأسماء ويجمعها مثل هذا الجمع، وغاب عنه - رحمه الله - أن هذه الأسماء هي معجزة بتركيبها ووضع كل اسم في مكانه، فلو قدم اسم على اسم آخر لاختل الجرْس، واختلت النغمة واختل النظم الذي يجد الإنسان له معنىً خاصاً في قلبه حينما يسمعه بأذنه.

    1.   

    فصاحة العرب عند البعثة، ونماذج من فصحاء العرب

    العرب حينما بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في أوج نشاطهم ومباراتهم، في اجتماعاتهم في أسواقهم، في ذي المجاز وفي سوق عكاظ، وفي مجنة، وفي غيرها من النوادي التي يجتمع فيها الخطباء المصاقع والشعراء المفلقون، كـامرئ القيس، ونابغة بني ذبيان، وزهير بن أبي سلمى، وغيرهم من الشعراء؛ فكانوا يجتمعون ويتبارون، وكانوا كما قال القائل:

    يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خشية الرقباء

    فصاحة سحبان بن وائل

    وحينما نزل القرآن زاد صقلاً لمواهبهم، فزادت فصاحتهم وبلاغتهم؛ لأنهم انتفعوا بهذا الكتاب، فكان في الإسلاميين خطباء مصاقع، وفيهم بيانيون، وكان فيهم مثل سحبان وائل، الذي كان يضرب به المثل في بلاغته وبراعته وسهولة طبعه حينما يتكلم ويخطب، ويتحدث للناس، حتى إنهم قالوا عنه: إنه كان إذا خطب لا يتلعثم ولا يتلكأ ولا يتنحنح ولا يتردد، ولا يحصل له شيء مما يحصل لخطبائنا المعاصرين، وقالوا: إنه جاء مرة إلى معاوية بن أبي سفيان وأراد أن يدخل إليه وكان عنده خطباء القبائل، فلما سمعوا بأنه داخل عليهم خرجوا من الباب الآخر ولم يعقبوا؛ لأنهم يعلمون أنه إذا خطب فلا يقف عند كلامه أحد، ولما دخل قال:

    لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها

    فقيل له -وكان الوقت إذ ذاك بعد الظهر مباشرة-: هلا خطبت بين يدي أمير المؤمنين! قال: ائتوني بعصا اعتمد عليها، فقالوا: وماذا تفعل بالعصا بين يدي أمير المؤمنين؟ قال: أفعل بها كما كان يفعل موسى عليه السلام حينما كان يكلم ربه، فجاءوا له بالعصا، فأخذها واعتمد عليها وأخذ يتكلم ويخطب، فما تعثر في كلامه ولا تلكأ ولا تلعثم، إلى أن كان الوقت إلى قريب من صلاة العصر، فلما حضرت الصلاة قال له معاوية: لقد حضرت الصلاة، قال: وهل نحن إلا في تسبيح وتحميد وتمجيد وتعظيم وتقديس وإجلال وإكبار، وسرد من هذا شيئاً كثيراً، فقال له معاوية: أنت أخطب العرب، فقال: بل أنا أخطب الإنس والجن!

    فصاحة واصل بن عطاء

    وهكذا واصل بن عطاء المعتزلي، كان مشهوراً بفصاحته وبلاغته وبيانه، إلا أنه كان فيه أفن في ذهنه، وشيء من الزندقة حكاها بعض المؤرخين، والله أعلم بما مات عليه، وقد كان فيه لثغة في لسانه، إذا نطق بكلمة فيها راء فإنه ينطق بها نطقاً مضحكاً، ينطق بها كما ينطق الإنسان بالواو، فكان يجتنب الراء في كلامه جملة، فلا يتكلم بكلمة فيها راء أصلاً، فإذا ما صادفه شيء من ذلك فإنه ينتقل على البديهة إلى كلمة مرادفة أخرى أو جملة أخرى أو كلام آخر، ليس فيه راء، حتى أنهم أرادوا أن يحرجوه يوماً من الأيام فقالوا له: كيف تقول: ركب فرسه وجر رمحه، وأمر الأمير بحفر بئر على قارعة الطريق؟ فقال فوراً على البديهة: أقول: امتطى جواده وسحب زاجله، وأوجب الخليفة نقب خليج على الجادة

    وفيه يقول الشاعر:

    وبدل البر قمحا في تصرفه وغير الراء حتى احتال للشعر

    ولم يطق مطرا والقول يعجله فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر

    وقالوا: إنهم قالوا له مرة: كيف تقرأ قول الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ[التوبة:1-2]، فقال: عهد من الله ونبيه إلى الذين عاهدتم من الفاسقين فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين، وهذا لا يبدل كلام الله، ولكنه كان فائقاً في البديهة، وفي الفصاحة والبيان.

    وبلغه مرة أن بشار بن برد هجاه، فقال: من لهذا الأعمى يذهب حتى يقتله؟ والله لولا أن الاغتيال خلق من خلق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه، فغير الكلمات التي فيها راء فلم يلفظ بلقبه وهو المرعَّث، ولم يلفظ باسمه وهو بشار بن برد، ولم يقل: أرسل، وإنما قال: أبعث، ولم يقل: يبقر بطنه، وإنما قال: يبعج بطنه، ولم يقل: إن الغدر، وإنما قال: الاغتيال، ولم يقل: إنه خلق من خلق الخوارج، ولكنه قال: إنه خلق من خلق الغالية.

    فصاحة الجاحظ وابن المقفع

    ثم جاء بعد ذلك عصر التدوين، فكان القرآن أيضاً صاقلاً لمواهبهم في بيانهم وكتاباتهم، وكان على رأس القائمة الجاحظ، المعروف المشهور، هذا الذي آتاه الله من الفصاحة والبيان والبراعة فيما يكتب ما شاء الله أن يؤتيه، حتى إن بعض العلماء قال: إن من الأدلة على إعجاز القرآن إيمان الجاحظ به! وقد كان الجاحظ مؤمناً بإعجاز القرآن وببلاغته وفصاحته وبيانه، وجودة سبكه وقوة تركيبه.

    وكذلك جاء ابن المقفع الذي رزقه الله الطبع الفائق والسهولة في كتابته فكان مؤمناً بإعجاز القرآن، وقالوا: إنه في أول حياته أراد أن يعارض القرآن، فسمع صبياً يقرأ قوله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[هود:44]، فقال: من يستطيع أن يأتي بمثل هذا؟! ورمى بقلمه وتاب إلى الله تعالى.

    1.   

    نماذج من إعجاز القرآن الكريم

    القرآن الكريم اشتمل على جميع فنون البلاغة وألوانها؛ من معان وبيان وبديع، ففيه الاستعارات، وفيه التشبيهات، وفيه الإيجاز والإطناب والمساواة، والبلاغيون الذين صنفوا في هذا العلم ذكروا شواهد لكل مسألة من القرآن الكريم، لا سيما إن كانت من المسائل المشهورة.

    الأنموذج الأول قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)

    قول الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ[البقرة:179]، هذه الجملة أصلها: في القصاص حياة، عقد البيانيون مقارنة بين هذه الجملة وبين قول العرب: (القتل أنفى للقتل)، وكانت هذه الجملة هي أوجز كلام عندهم، وهي كلمة بليغة، ترددها الألسنة، ويضرب بها المثل، ولكن القرآن جاء ووضع هذه الكلمة - التي هي في ذروة من البلاغة، وليست في الذروة الكاملة - على جنب؛ لأن الجملة القرآنية فيها من الخصائص والمميزات التي ليست في تلك الجملة شيء كثير، ومن ذلك:

    1) أن جملة (في القصاص حياة) هي أقل أحرفاً من قولهم: (القتل أنفى للقتل).

    2) وأمر آخر، وهو أن جملة (القتل أنفى للقتل) فيها تكرار، والتكرار في مثل هذا ــ لا سيما إن كانت أحرف الكلمة قافاً وتاءً ولاماً ــ يكون ثقيلاً على اللسان، وهذا تحسونه حينما تنطقون بهذه الجملة (القتل أنفى للقتل)، وتجدون خفة في ألسنتكم إذا ما نطقتم بقوله: (القصاص حياة) أو: (في القصاص حياة)، وحينما يكون الكلام ليس فيه تكرار يكون أجمل في البلاغة وأعظم من الجملة التي يكون فيها تكرار، لا سيما إن كان فيه مثل تلك الأحرف التي ذكرتها.

    3) وأمر آخر، وهو أن قوله سبحانه: (في القصاص حياة) فيه معنىً ليس بموجود في قولهم: (القتل أنفى للقتل)، وذلك أن قولهم: (القتل أنفى للقتل) يشمل كل قتل، سواء كان القتل ظلماً وعدواناً أو كان القتل بحق، وهذا دال على ما كان فيهم من الهمجية، وما كان فيهم من الظلم والعدوان؛ إذ جاءوا بهذه الجملة هكذا على عواهنها من غير تفصيل ومن غير دقة.

    4) ثم إن هنالك أمراً آخر، وهو أن قوله تعالى: (في القصاص حياة) فيه شيء نسميه في البلاغة الطباق، وهو أن يكون هنالك لفظ يقابله لفظ آخر مضاد له في المعنى، فالقصاص بمعنى القتل، والحياة لفظ آخر له معنىً مضاد للمعنى الأول، كقوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ[الكهف:18].

    5) وأمر آخر، وهو أن قوله تعالى: (في القصاص حياة) فيه معنىً عظيم ومعنىً جليل، وهو أن التنكير في لفظ (حياة) يدل على التعظيم، أي: لكم في القصاص حياة عظيمة، لا تستطيعون أن تتصوروا نفعها أو عظم نفعها، وهذا نعرفه من التنكير في بعض المواضع، كما سوف نعرف ذلك حينما ندرس المسند والمسند إليه، وهذا كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ[البقرة:279]، أي: فأذنوا بحرب عظيمة من الله ورسوله، وهذا اللفظ ليس كاللفظ الذي جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فإن التنكير في (بحرب) في سورة البقرة في آيات الربا يؤذن بأن الحرب ههنا عظيمة؛ لأن اللفظة جاءت منكرة، وأما في الحديث فالمراد بالحرب وكفى؛ ففي ذلك معنىً زائد، وإن كان اللفظ أقل من ذلك اللفظ، وهذا لفظه زائد، ولكن معناه أقل من المعنى الآخر.

    6) وأمر آخر في قوله تعالى: (في القصاص حياة) وهو أنه ليس فيه حذف؛ فلا تحتاج إلى تقدير شيء آخر، فهو مطرد، بخلاف قولهم: (القتل أنفى للقتل)، فإن لفظة (أنفى) تحتاج إلى محذوف.

    الأنموذج الثاني قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ..)

    قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ[القصص:7].

    يقول العلماء وأهل البلاغة في هذه الآية وما اشتملت عليه من فنون البلاغة، على وجازتها؛ إنها قد اشتملت على أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، ونذكِّر بذلك؛ فأما الأمران فقوله سبحانه: (أرضعيه وألقيه)، وأما النهيان فقوله: (ولا تخافي ولا تحزني)، وأما البشارتان فقوله: (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) فهاتان بشارتان.

    ويبقى معنا الخبران، وفي أحدهما شيء من العسر والصعوبة، ربما يخفى على كثير من الناس، وهو قوله: (وأوحينا إلى أم موسى)، هذا خبر، والخبر الثاني: (فإذا خفت عليه)، لكن كيف يكون هذا خبرًا وهو في صورة شرط، هاهنا البلاغة هي التي تتدخل وتبين لك كيف اشتمل هذا اللفظ على خبر، اشتمل هذا اللفظ على خبر؛ لأنه مصدَّر بـ(إذا) وإذا عند البيانيين تفيد تحقق الوقوع، فإذا جاء في الكلام (إذا) فمعناه أنه سوف يأتي ما بعد (إذا) كقوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]، وجاء نصر الله والفتح؛ لأنها بمعنى: حين يأتي، وهنا قوله: (فإذا خفت عليه) هو إخبار بأنها ستخاف عليه، فهو أخبر بهذا الأمر؛ فيعتبر خبرًا وإن كان الخبر ليس بصريح هنا، ولكنه مضمّن؛ ولذلك البيانيون أيضاً يفرقون بين (إذا) وبين (إن) فيقولون: إنّ (إذا) تفيد تحقق الوقوع، و (إن) تفيد احتمال الوقوع.

    ويقولون على سبيل الإلغاز: (إذا) لا تجزم ولكنها تجزم، و (إن) تجزم ولكنها لا تجزم! ومعنى هذا الكلام: أن (إذا) لا تجزم الفعل المضارع، و (إن) تجزم الفعل المضارع، هذا هو الجزم النحوي واللغوي، و (إذا) تجزم في المعنى، تفيد الجزم والتحقق، وأما (إن) فإنها لا تجزم، ولا تفيد تحقق الوقوع، وفي ذلك يقول بعضهم على سبيل الإلغاز أيضاً شعراً:

    سلم على شيخ النحاة وقل له هذا سؤال من يجبه يعظم

    أنا إن شككت وجدتمونى جازما وإذا جزمت فإنني لم أجزم

    وهذا فيه شيء من الاستخدام سوف نشرحه إن شاء الله فيما سوف نشرحه في الأيام المقبلة، ومعرفة هذا الفرق يحل لك إشكالات كثيرة في كثير من الآيات القرآنية، التي حار فيها بعض الناس، حتى إنني سمعت واحداً ممن يعادي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن عائشة وحفصة عملتا مظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ[التحريم:4]، وهذا لم يفهم ولم يفطن إلى أن (إن) تفيد احتمال الوقوع، يعني: إن تظاهرا عليه، ولم تتظاهرا عليه، كقوله سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ[الزخرف:81]، أي: إن كان له ولد على سبيل الفرض، وهو في الحقيقة ليس له ولد، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ[الزخرف:81]، وإن كان بعض العلماء يقول: (إن) هاهنا بمعنى (ما) أي: ما كان للرحمن ولد، وكذلك قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ[يونس:94]، وإذا فتحتم كتب التفسير سوف تجدون أن العلماء قد حاروا في هذه الآية، فبعضهم يقول: إن هنالك خاطراً من الخواطر ورد على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا ليس بصحيح، وإنما المعنى على ما عرفنا أيضاً من أن (إن) تفيد احتمال الوقوع، ومن باب: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65]، فلا يفيد أن الشيء قد وقع، حتى لو كان خاطراً، وأيضاً يحتمل اللفظ - ورجحه ابن حزم وغيره - أن (إن) هاهنا بمعنى (ما) أي: ما كنت في شك مما أنزلنا عليك، كقوله تعالى: وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:41]، ومعنى (إن أمسكهما) أي: ما أمسكهما من أحد من بعده.

    قد يقول قائل: هل يستطيع الطالب أن يفهم القرآن فهماً صحيحاً بمعرفة اللغة العربية بفروعها دون تعلم أصول التفسير وغيرها من العلوم التي تتعلق بالتفسير؟ وهل يقع الترادف في القرآن ولغة العرب مع ذكر أدلة على ذلك؟

    فالجواب: أما أنه هل يستطيع الطالب أن يفهم القرآن فهماً صحيحاً؛ فنعم يستطيع أن يفهم القرآن فهماً صحيحاً، متى وجد أصول التفسير؟ هل كان موجوداً في عصر الصحابة؟! ثم إن هنالك مسائل كثيرة في كثير من العلوم هي في الحقيقة مردها إلى اللغة العربية وإلى البلاغة، لو جئت مثلاً إلى أصول الفقه فهنالك أبواب متعلقة بالمشترك، ومتعلقة بالمترادف، ومتعلقة بمعاني الحروف، ومتعلقة بالمجاز وغير ذلك، وهي في الحقيقة من اللغة العربية.

    صحيح هنالك أمور هي في أصول التفسير يمكن أن تعرف بعضها في علوم أخرى، مثل ما يتعلق بأسباب النزول، وما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، نحن لا نقول: إنك إذا قرأت البلاغة لا تحتاج بعد ذلك إلى أي علم آخر، لكن نقول: إنك تستطيع أن تفهم القرآن، تستطيع أن تفهم أي كلام في القرآن، وأي كلام آخر؛ لأن موضوع اللغة هو عندك في قلبك، فعندما يقول الله تعالى مثلاً: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[الإخلاص:1-3]، الذي لا يعرف اللغة العربية لا يعرف معنى (الصمد)، ولا يعرف معنى: (كفواً أحد)، وكذلك لا يعرف: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ[الكوثر:3]، فلا يعرف معنى الأبتر، هذا بالنسبة لدلالات الألفاظ.

    البلاغة طبعاً تقول لك: لابد أن تعرف دلالات الألفاظ، إذا لم يكن عندك معرفة بدلالات الألفاظ فقد أورثتك البلاغة ملكة قوية تستطيع أن تبحث بها عن أي شيء لا تفهمه، هنالك جناحان للمعرفة: العقل، الذي أعطاك الله تعالى إياه، وتفهم به النصوص وتفهم به الخطاب، وهنالك اللغة العربية، إذا فهمت أصولها، لأن اللغة العربية لا يستطيع أن يحيط بها إلا نبي كما قال الإمام الشافعي رحمه الله؛ ولكن إذا استطعت أن تصل إلى درجة تتحصل بها ملكة تستطيع أن تفهم بها الكلام ــ ولو بواسطة البحث ــ فافعل؛ لأنه حينما أقول لك: زيد منطلق، هذا يختلف عن قولي لك: المنطلق زيد، ويختلف عن قولي لك: ينطلق زيد ، ويختلف عن قولي لك: زيد هو المنطق، ويختلف عن قولي لك: المنطلق هو زيد، ويختلف عن قولي لك: انطلق زيد ونحو ذلك؛ فهذه الأشياء لا تستطيع أن تفهمها إلا بعد ممارسة البلاغة، فمثلا كيف تفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفقاً بالقوارير)، إذا كنت لا تفهم البلاغة، ولا تعرف التشبيه والاستعارات، فماذا ستقول عن القوارير؟ خاصة إذا لم يكن عندك بديهة تستطيع أن تتوصل بها إلى هذا المعنى من خلال السياق على الأقل، إن لم تكن من أصحاب الملكات العربية.

    وقد يكون هناك أحياناً أسلوب من الأساليب يختلف الناس في فهمه، حتى لو كانوا من حذاق العربية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً)، فكن يأتين بأيديهن وأذرعهن ويذرعنها، وينظرن أيهن أطول يداً! ثم بعد ذلك فهم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بهذا الكلام هو الكناية عن الصدقة، وأن سودة كانت أطولهن يداً؛ لأنها كانت أكثر تصدقاً.

    وقوع الترادف في القرآن الكريم

    وأما مسألة هل يقع الترادف في القرآن ولغة العرب؛ فلا، لا يقع، أما بحث هذا فهذا يحتاج إلى كلام كثير، ليس هنالك كلمة تعطي معنى كلمة أخرى معنىً مطابقاً للمعنى الأول، بحيث لا ينقص عنه ولا يزيد، أبداً، هذا لا يوجد في لغة العرب، بل هنالك فرق بين الكلمة والكلمة، فالقلب هو من أسماء تلك المضغة المعروفة، والفؤاد أيضاً كذلك، والجنان والخَلَدَ والروع والخزام والجلجلان، كل هذه من أسماء القلب، ولكن كل كلمة لها دلالتها الخاصة، جاء في القرآن الفؤاد وجاء القلب وجاء البال؛ قال تعالى: وَأَصْلَحَ بَالَهمْ[محمد:2]، وقال: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا[القصص:10]، والقلب جاء في ألفاظ كثيرة، كل كلمة من هذه الكلمات لو وضعت مكان الأخرى لنقص المعنى، فلو وضعت الفؤاد مكان القلب أو القلب مكان الفؤاد أو مكان البال في أي مكان في القرآن الكريم فإن المعنى سوف ينقص، ولا يكون المعنى كالمعنى الأول، الذي فيه تلك اللفظة التي أخذتها ووضعت مكانها كلمة أخرى، كذلك كلمة (أتى) غير كلمة (جاء) الإتيان هو المجيء بسهولة، وكلمة (جاء) غير (حضر)، وكلمة (جلس) غير كلمة (قعد)، فإن الجلوس يكون من أسفل إلى فوق، كأن يكون الإنسان نائماً فيجلس، أو يكون متكئاً فيجلس، نقول: إنه جلس، أما إذا كان واقفاً فإننا لا نقول: إنه جلس، ولكن نقول: إنه قعد، لكن قد تأتي أحياناً عبارة مكان عبارة أخرى، إما من باب التشبه أو من باب التضمين أو نحو ذلك.

    أستحضر في هذا المقام قصة لشاعر اسمه ابن هرمة ، شاعر معروف، أنا لا أعرف من اسمه إلا أنه ابن هرمة ، هذا الشاعر سمع أحد الناس ينشد بيتاً له، وهو:

    بالله ربك إن دخلت فقل لها هذا ابن هرمة قائماً بالباب

    هكذا، فقال: لا، أنا ما يمكن أقول هذا الكلام، كيف أقول: قائماً بالباب؟! هل كنت قائماً استجدي الناس؟ أسألهم أن يعطوني صدقة حتى تقول: قائماً بالباب! قال: نسيت، لعلك قلت: قاعداً؟ قال: وهل كنت أبول حتى تقول: أنني كنت قاعداً؟! قال: فماذا قلت؟ قال: قلت: واقفاً بالباب.

    بالله ربك إن دخلت فقل لها هذا ابن هرمة واقفاً بالباب

    ومعلوم أن كلمة (واقفاً) تختلف عن كلمة (قائماً)؛ لأن القيام يحتاج إلى طول، والوقوف لحظات يسيرة، والواقع أنه كان كذلك، فلم يكن قائماً قياماً طويلاً، قال الله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا[الجمعة:11].

    العلاقة بين علم النحو وعلم البلاغة

    الإنسان لا يستطيع أن يكون بليغاً حتى يتعلم النحو؛ لأن النحو هو جزء بسيط من أجزاء علم البلاغة، وقد انتهى، ومدته انتهت، وقواعده محصورة ومقصورة وانتهينا منها، ولا يستطيع أحد أن يزيد، بل ينقص؛ فهنالك قواعد مضبوطة عرفها العلماء ودونوها، وحفظوها، ولا يستطيع أحد أن يزيد عليها لأن عصر الاستشهاد قد انتهى، أما البلاغة فإنها لا تتناهى، وهي مبسوطة كل البسط، وهي واسعة سعة الدنيا، ولا يزال الناس يزيدون في هذ العلم، سيما ما يتعلق بباب البديع والتحسينات وغيرها؛ ولذلك تجد كتب البلاغة تكبر وتكبر وتكبر، وتنمو وتزيد، وربما يأتي إنسان فيستنبط أشياء من القرآن،لم يستنبطها السابقون هي من باب البلاغة، أما أن تكون من باب النحو؛ فلا، فالنحو يكفي الإنسان أن يقرأ فيه مختصراً صغيراً، ينتفع بما فيه، ويحفظ قواعده، حتى يستقيم لسانه، وأما البلاغة فإنه لا يشبع منها العلماء.

    البلاغة كانت طبعاً في نفوس الناس، في الزمن السابق، أو في أي عصر عاش فيه الإنسان بين علماء وبين أناس يتبادلون في كلامهم الكلام العربي المبين، أو الكلام الذي يحلِّق على معان شتى وتشبيهات واستعارات وغير ذلك، حينما يدرس طالب العلم هذا العلم يصبح كواحد من الصحابة، الذين أنزل القرآن في عصرهم، وأعني أنه يكون كواحد منهم في استقباله للكتاب والسنة، وفي خدمته للكتاب والسنة بوسيلته التي عرفها وهي اللغة العربية، لا فرق بينه وبين واحد في ذلك العصر، ولا أعني شرف الصحبة؛ فهذا أمر آخر لا نفكر فيه؛ فإن الإنسان لو طال عمره ألف سنة لا يستطيع أن يبلغ شرف تكبيرة واحدة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حينما يدرس الإنسان اللغة العربية حق الدراسة، ويكون قد أُشرب البلاغة في قلبه وفي ملكته، وأعطي عاطفة صادقة، وأذناً واعية، وقلباً ذكياً، وخيالاً واسعاً، ماذا ينقصه بعد ذلك؟ حينما يأتيه لفظ من القرآن، ألا يستطيع أن يفهمه؟ حينما يأتيه لفظ من السنة النبوية، ألا يستطيع أن يسخر ما أعطاه الله تعالى من البلاغة والبيان في فهم هذا النص؟

    إن كثيراً من الطلاب يقصرون في هذا العلم، ويقفزون إلى الغايات قبل أن يُعملوا الوسائل، وقبل أن يصلوا إلى الوسائل؛ فيكونون قاصرين في فهم الكتاب والسنة، ويتضاحك منهم المبتدعة، الذين يشتغلون بهذه العلوم، وهم أيضاً مقصرون من ناحية أخرى؛ لأنهم اشتغلوا بالوسائل وتركوا الغايات، ونحن كثير منا يشتغل بالغايات ويترك الوسائل، وإذا أردت أن تختصر الطريق على نفسك فكن حاذقاً عالماً بهذا العلم الشريف الذي يخدم كتاب الله تعالى ويظهر إعجازه، ويورثك دقة في التعاطي مع النصوص، وفي فهمها، ودقة في كتابتك، ودقة في كلامك.

    وهنالك كثير من الذين اشتغلوا بالبلاغة، كانوا من القضاة؛ فكانوا ينتفعون بهذا العلم؛ لأنهم يفرقون بين الألفاظ وبين الدعوات، لاسيما إن كانت مكتوبة، وقد كان الخطيب القزويني ــ الذي هو واحد من أساطين البلاغة ــ قاضياً، و ابن قتيبة كان قاضيا، والجرجاني كان قاضياً؛ لذلك قالوا: إن القاضي الفقيه يحتاج إلى هذا العلم؛ لأنه يورثه الدقة في المعاني، وفي التمييز بينها.

    نحن إن شاء الله تعالى سوف ندرس المعالم، التي نعرف بهذا هذا العلم، في كل فن من فنونه؛ في علم المعاني، وفي علم البيان، وفي علم البديع، وكنت أفكر في دراسة متن من المتون المنظومة، ولكنني لا أرى أن في المتون التي في البلاغة فائدة كبيرة، لا سيما إن كانت منظومة، فإن البلاغة ذوق، البلاغة تذوق، تحتاج منك إلى ذهن وقاد، وتحتاج منك إلى خيال واسع، وعاطفة صادقة، وتحتاج منك إلى أذن واعية، فالإنسان إذا اجتمعت عنده هذه الملكات فإن الله سبحانه وتعالى سوف يسهل له هذا الطريق وسوف يتشرب هذا العلم، ويكون فيه من الفائقين، والمسألة نسبية، من الناس من يرزق فطنة كبيرة في هذا الباب، ومنهم من يكون له ملكة متوسطة، ومنهم من قد يكون له ذهن ثاقب ولكن لا يكون له عاطفة صادقة جياشة، ولا خيال واسع؛ ولذلك تجدون بعض الحفاظ أصحاب الأذهان الوقادة الثاقبة، لا يستطيع أن يبدع في هذا العلم؛ لأن العاطفة عنده ضعيفة، وكم من الناس من تكلمه كلاماً مؤثراً، ولكنه لا يتأثر ولا يهتز ولا يتحرك، وكأنما تكلم جماداً! تلقي إليه الأشعار وتلقي إليه الكلام المنثور، وتلقي إليه الكلام الجميل، ولكنه كما قال الشاعر:

    والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا

    هذه هي ملكته، وهذا هو شأنه، لا يتحرك مع هذه الأشياء التي الأصل فيها أنها تجعله ينفعل، ولكنه لا ينفعل.

    أنا الآن أخاطبكم بمثل هذا الكلام، هنالك ممن يقرأ مثل هذا الكلام يجد انفعالاً في نفسه لبعض الجمل وبعض الكلمات، ويروق له بعضها، وبعضهم لا يروق له بعض ذلك، أو يؤثر فيه تأثيراً يسيراً، وبعضكم ربما عزم الآن عزماً أكيداً على أن يسخر وقته وجهده في هذا العلم؛ حينما عرف من خلال هذه المقدمة كيف كان الناس يهتمون بهذا العلم، أو حينما عرف أهمية هذا العلم، وخدمته للكتاب والسنة.

    1.   

    نبذة عن المختصرات في علم البلاغة ومنهجية التدريس

    في الحقيقة حرت في اختيار كتاب محدد، يكون أصلا لمادة هذا الشرح الموجز، فوجدت أن بعض الكتب إما أنها لا تصلح، وإما أنها تطول والوقت لا يكفي، وكنت قد عزمت على أن أضع لكم قواعد كلية، كما وضعت قواعد في علم النحو، في أول كتابي (الشرح الميسر)، وضعت فيه مائة قاعدة لطالب العلم في علم النحو، ولكن رأيت أن هذا يحتاج إلى شرح طويل، وأنا بعد لم أوف هذه القواعد ولم أكتبها كلها، ورأيت آخر ما رأيت أن نمر على أهم المسائل في كل باب، فنشرع في المقدمة التي تكون في الكتب المتعلقة بتعريف البلاغة وأهميتها، ونقرأ شيئاً في الإسناد، ونقرأ شيئاً في متعلقات الفعل، وأحرص على أن يكون التمثيل بالقرآن الكريم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ثم نشرح أيضاً شيئاً مما يتعلق بالقصر، ثم شيئاً مما يتعلق بالفصل والوصل، الذي قال بعضهم: إن البلاغة هي الوصل والفصل، ونشرح شيئاً مما يتعلق بالإيجاز والإطناب والمساواة، ونشرح شيئاً مما يتعلق بالتشبيهات والاستعارات بأنواعها، ثم نتكلم كلاماً يسيراً إن بقي لنا وقت فيما يتعلق بالفن الثالث من علم البلاغة، وهو البديع.

    كان اشتغالي من زمن مبكر في علم البلاغة، أولاً بالنظم المعروف، المسمى الجوهر المكنون، هذا النظم بدأت في دراسته وأنا في المرحلة المتوسطة، وكان لي قرين من الإنس يحفظ هذا النظم، وكان نابغة، وكان له أثر كبير في نفسي فانتفعت بمساجلته ومنافسته، فحفظت هذا المتن، ولكنكم تعلمون وكما علمتم قبل قليل أن هذا العلم لا يشبع منه الإنسان، وهذا متن يسير، فلما كنت في المرحلة الجامعية - في أولها - أرشدني بعض العلماء بالمدينة النبوية إلى كتاب القزويني، تلخيص المفتاح المعروف، فحفظته، وكنت أردده على طرف لساني؛ لأنني عشقت هذا العلم، وحبك للشيء يجود في حافظتك، وكثير من الناس قد لا تجدون عنده ملكة قوية في حفظه، فإذا أعجب بشيء حفظه، وإذا رددته إلى شيء آخر لا يعجبه، لو وقفت على رأسه أياماً لا يستطيع أن يحفظه.

    فتطلبت عالماً من العلماء يشرح لي هذا الكتاب فلم أجد، فوجدت عالماً موريتانياً فشرح لي هذا الكتاب شرحاً جافاً لا فائدة فيه؛ لأن هذا العالم كان حافظاً، وهذا علم لا يكفي فيه الحفظ، الحفظ فيه ضروري، وفي كل علم لا يستهان بالحفظ؛ فالجاحظ يقول: (العلم يحتاج إلى حفظ وفهم وبيان)، فالعلم يحتاج إلى الحفظ، ويحتاج إلى فهم، ويحتاج إلى بيان؛ بيان في الكلام، وبيان في الكتابة، لكن إن كان ولابد من أحد الأمرين: الحفظ أو الفهم فالفهم أهم؛ لأن من فهم فقد حفظ، ولكنه لا يستطيع أن يؤدي بعض الجمل المختصرة، التي عني بها صاحبها، لا يستطيع أن يؤديها كما سمعها، وإنما يؤديها بتعبيره، وهذا على حسب ما يمنحه الله تعالى من البيان، إن بقيت عنده الملكة الثالثة التي هي البيان فإنه يستطيع أن يؤديها تأدية حسنة، وإلا فلن يؤديها بإحسان.

    فتطلبت عالماً آخر، وكان في المدينة علماء من مصر؛ ولذلك من أراد أن يدرس هذا العلم فليقرأه على المصريين؛ أو على من قرأ على المصريين فإنه ينتفع بذلك، وذلك أن الدراسة الأخيرة التي كانت في الأزهر كانت دراسة للبلاغة بحق، على طريقة عبد القاهر الجرجاني ، في كتابه دلائل الإعجاز وكتابه أسرار البلاغة، وقد كان الأزهر من قبل يحتضر، حينما كان المشايخ آنذاك ينكفئون على الحواشي والمختصرات وكتب المنطقيين، الذين كتبوا البلاغة على تلك الطريقة، فأنتم تعرفون الحواشي التي وضعها العلماء، مثل السكاكي وغيره؛ فإنهم وضعوا حواشي، فيشك الإنسان أنها من البلاغة في شيء، فكانوا منكفئين على تلك الشروح، إلى أن جاء محمد عبده ، وأيقظهم من رقدتهم، وبدأ يدرّس كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فكان في الأزهر بعد ذلك تحول آخر ومنحىً آخر، ودرسوا البلاغة بتذوق؛ لأن البلاغة على تلك الطريقة لا تعطيك ذوقاً، ولا تكسبك جمالاً، وإنما تعطيك علماً جافاً.

    فلقيت عالماً من العلماء أو أستاذاً من الأساتذة في البلاغة وقلت له: إنني حفظت التلخيص، فشكرني على ذلك وقال: يا بني، البلاغة ذوق، ولا تحتاج إلى أن تحفظ فيها التلخيص، وأثر فيَّ كلامه، وبدأت بعد ذلك أقرأ البلاغة بتذوق، لكنني عرفت بعدها أنه مخطئ في شيء ومصيب في شيء؛ عرفت حينما قرأت بعد ذلك التلخيص بتمامه أو مقطعات منه على بعض المشايخ، الذين كانوا من أساطين البلغاء؛ فبعضهم مات ولا أدري عن البعض الآخر، عرفت أنه مخطئ من جهة أن هذا الكتاب فيه أكثر من مائة وخمسين شاهداً من شواهد الشعر، التي هي شواهد لمسائل البلاغة وموضوعاتها، ومثل هذا يعطي الإنسان قوة وثقة، ويكسبه جمالاً؛ لأنه يحفظ كلاماً ممتعاً، وهو أبرع ما يستشهد به، وأما الآيات القرآنية فكثيرة، وكذلك الأحاديث النبوية؛ فإذا استطاع الإنسان أن يلم ولو إلماماً بالشواهد المهمة في البلاغة فإن هذا مما يكسبه قوة وثقة في علمه، وقد سألني بعض الإخوان عن حفظ متن في البلاغة، وأرشدته أن لا يحفظ متناً في البلاغة من المتون النظمية ولا النثرية، فبقي في نفسي شيء، وهو أنه قد يكون للإنسان رغبة طامحة في بعض الأحيان لحفظ متن من المتون النظمية أو النثرية، ولا شك أن في هذا خيراً، ولكنه سألني عن الأفضل، فإن كانت لديه رغبة جامحة طامحة قوية لحفظ متن من المتون، أياً كان ذلك المتن فلا يحولن بينه أو بين رغبته وبين حفظ ذلك المتن حائل، ولا يقهر نفسه على ترك حفظ هذا المتن الذي هيئت له نفسه، وكما قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: لا ينبغي لطالب العلم أن يقهر نفسه أيضاً، وأن يلزمها بحفظ متن من المتون، هو لا يريد، يعني رغبته ليست متوجهة إلى حفظ هذا المتن؛ فلماذا يجبر نفسه على ذلك؟ كل ميسر لما خلق له.

    إن الذي ينبغي أن يجبر الإنسان نفسه عليه هو حفظ القرآن، فحفظ القرآن هذا أمر مطلوب يحتاج إليه طالب العلم، وسوف ينشرح له صدره إذا كان لديه رغبة سابقة، والله تعالى أثنى على الذين يحفظون القرآن وقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[العنكبوت:49]، وأما ما عدا ذلك من كلام البشر فإنه ينقسم إلى قسمين: هنالك كلام وضع ليحفظ، وجمعت فيه معان كثيرة في ألفاظ قليلة، وحفظه مكسب من المكاسب، وينطلق منه الإنسان بعد ذلك إلى دائرة واسعة؛ فهذا يحسن فيه الحفظ. وأما ما عدا ذلك من الكلام خاصة كلام المعاصرين الآن، الذي هو عبارة عن ترف وسرف، وإطناب في مقام الإيجاز؛ حتى أنك إذا أردت أن تلخص صفحة كاملة استطعت أن تلخصها في سطرين أو ثلاثة سطور، وأحياناً لا تدري ما هي الفكرة، مشتتة هنا وهناك، فمثل هذا ومثل غيره أيضاً مما من شأنه أنه لم يوضع للحفظ الحفظ فيه معيب، لأن الإنسان قد يحفظ كلاماً، فربما يستطيع أن يؤدي أحسن منه، إن هو صقل موهبته بالأدب، والمقصود بالأدب الآلات التي تصقل موهبة الإنسان وتعرفه بقواعد الكتابة وقواعد الكلام، مثل كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب أدب الكاتب لـابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب النوادر لـأبي علي القالي ، وغيرها من هذه الكتب، كذلك من الكتب المهمة في هذا الباب كتاب الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير هو أجمع كتاب في هذا الباب، من الكتب الآن الموجودة المطبوعة الميسرة وبأسلوب سهل، هذا تحتاج إليه عند البحث، عندما تريد أن تبحث عن مسألة من المسائل البلاغية المتعلقة بالقرآن الكريم؛ فإنه انتفع بالحواشي التي على الكشاف، هو ما جاء بشيء من عنده، هو ناقل في أكثر الأشياء، لكن هنالك فرق بين نقل العالم العارف ونقل العالم المتوسط، أو الذي ليس بعالم، وعنده إضافات وتغيير في بعض الأساليب، فكتابه كتاب نافع، فإن احتجت إلى بحث مسألة من المسائل، أو معرفة مسألة من المسائل البلاغية المتعلقة بالقرآن فعليك أن ترجع إلى هذا الكتاب النافع، وهو كتاب من الكتب المبسوطة في التفسير؛ لأنه ثلاثون جزءً، وهو مطبوع .

    وسوف نتحدث إن شاء الله عن نشأة البلاغة والتدوين فيها حتى يكون لدى الطالب فكرة عن هذا العلم، كيف تطور؟ وكيف وصل إلينا بهذه الصورة؟ وكيف مر بعصور كان فيها تارة قوياً وتارة كان فيها ضعيفاً؟ وكيف حال البلاغة في هذا العصر؟ وكيف حال الناس معها؟

    وسوف نتكلم كلاماً يسيراً عن البلاغة هل هي متعلقة بالألفاظ أم هي متعلقة بالمعاني أم هي متعلقة بالألفاظ والمعاني؟

    وسوف نشير إشارة بسيطة إلى ما تميز به كتاب دلائل الإعجاز وكتاب أسرار البلاغة وكلاهما للجرجاني ونذكر أيضاً بعض المؤلفات المفيدة في هذا الباب، ثم نتحدث إن شاء الله عن البلاغة؛ تعريفاً وأهمية وتقسيماً وأنواعاً، ونسأل الله التوفيق للجميع.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756414298