بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله تعالى الذي جمعنا بهذه الوجوه الخيرة النيرة في هذا المكان المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الوجوه جميعاً من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم، وأن يظلنا أجمعين في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يسقينا من حوض نبيه صلى الله عليه وسلم شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا وهو غني عنا، وقد أنعم علينا بأنواع النعم التي لا تحصى كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وعلى قدر التشريف يكون التكليف؛ فقد خلق الله أبانا آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وكرم ذريته بأنواع التكريم، فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
وحكمة الله جل جلاله في خلقنا تنقسم إلى قسمين:
إلى حكمة مشتركة بين الإنس والجن، وهي: تحقيق العبادة لله، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهذا الأسلوب ولو كان أسلوب حصر لكنه إنما يقصد به أن ذلك هو أولى ما فيه يشتغلون، وليس معنى أنهم جميعاً سيعبدون الله جل جلاله، وأنهم جميعاً مهيئون لذلك؛ بل قد قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].
والحكمة الثانية: هي الاستخلاف في الأرض، وهي مختصة بهذا الجنس البشري؛ فليس للجن فيها مشاركة، وقد جعل الله هذا الجنس البشري بين جنسين:
جنس أسمى منه وأرفع وهو الملائكة الكرام، محضهم الله لطاعته، وخلصهم لعبادته، فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، يسرهم الله للطاعة، ولم يمتحنهم بالشهوات.
وجنس أدنى منه وهو البهائم، لم يكلفها الله بالتكاليف وسلط عليها الشهوات.
أما الإنسان فقد جمع الله له بين الخاصيتين: فهو مكلف بالتكاليف، وممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف ولم يضيع ما أمر به، ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الذي يقرأ القرآن ولا يتعتع فيه وهو عليه غير شاق مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق ممن يؤتى أجره مرتين ).
فيكون الإنسان مع السفرة الكرام البررة من الملائكة بإتقانه لعبادة الله جل جلاله وعدم اتباعه للهوى، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).
وإذا ضيع الإنسان التكاليف واتبع الشهوات فإنه يلتحق بالصنف الأدنى وهو البهائم؛ بل يكون أدنى منها؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان بالوحي والعقل أكبر من الحجة القائمة على البهائم؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].
وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].
وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12].
فإذا عرف الإنسان أنه ضرب له مثلان: مثل خير وهو السفرة الكرام البررة، ومثل سوء إذا أعرض وهو الكلب والحمار والخنازير وأنواع البهائم؛ فإنه لا يرضى لنفسه إلا بالمثل الحسن؛ ولذلك لا بد أن يعرف لماذا خلق؛ فالإنسان ما خلق لجمع الأرزاق، ولا للتمتع بالشهوات، فهذه أمور تحسنها النملة والفأرة، وتحسنها الأحوات في المياه، وتحسنها الخلائق كلها، والإنسان شريف كريم على الله؛ فلماذا خلق إذاً؟ خلق لهاتين الحكمتين: لإحسان عبادة الله سبحانه وتعالى في أرضه، وللاستخلاف فيها، بمعنى: لنفع عباده وإعلاء كلمته واتباع منهجه، وهما وظيفتان وظفنا الله فيهما، وظيفتان سامقتان عاليتان راكبهما كبير جداً.
والعمل لم ترفع منه المشقة بالكلية، قال تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157].
فلا بد أن نفكر لماذا خلقنا؟ ولماذا أتينا إلى هذه الأرض؟ وما مهمتنا فيها؟ وأن نبادر لتنفيذ ذلك قبل فوات الأوان، فإن كل واحد منا في هذه الوظيفة عمره الوظيفي مدة محددة لا يتعداها، فهو بمثابة التأشيرة يأخذها الإنسان لأداء مهمة؛ فإذا ذهب وجلس ولم يؤد المهمة حتى انتهت التأشيرة ورجع خائباً فإنه يكون قد أضاع عمره؛ فلذلك لا بد من استغلال هذا الوقت قبل فواته فيما ابتعثنا من أجله؛ فنحن ما شاورنا الله في أصل خلقتنا، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، ولا شاورنا في تكليفنا وعبادتنا، وقد قال: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، وإنما شرع لنا الأحكام، وأقام علينا الحجة، وأظهر لنا المحجة، فلا يمكن أن نقول: ما جاء من بشير ولا نذير، ولا يمكن أن يستنكف أحد منا عن عبادة الله؛ لأن الحجة قائمة عليه وهو يراها صباح مساء، ويعلم أنها الحق البين الذي لا ريب فيه، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].
فلذلك إذا فكرنا في الراتب المعد لهذه الوظيفة وهو ( ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، وفكرنا في النتيجة التي يحصدها من نجح في هذا الامتحان وهي أن يثبته الله عند الممات، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
وأنه تعالى: يرزقه الفرح عند لقائه، وأنه يثبته عند سؤال الملكين، وأنه يحسن ختامه، وبعد ذلك يبعثه تحت لواء الحمد وهو بيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [الإسراء:71].
ثم بعد ذلك يعطى كتابه بيمينه تلقاء وجهه، تطيب يده، وينور وجهه حتى يخترق في النور مسيرة خمسمائة عام، ثم يمد يده تلقاء وجهه فيناول بها كتابه بيمينه، فيفرح غاية الفرح ويصيح: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24].
ثم بعد ذلك يرجح الله كفة حسناته بما يضاعف به تلك الحسنات، ويتقبلها فترجح على كفة سيئاته، ثم ينجيه على الصراط فيمر لا يسمع لجهنم حسيساً، ولا يرى لها دخاناً ولا أذىً، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102].
ثم بعد ذلك يدخل جنات النعيم، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، وعند دخوله يواجه بالتحية والسلام؛ والتحية هي تحية الملائكة الكرام، يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، والسلام هو سلام الملك الديان يقول: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجه الله الكريم، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
وبعد ذلك يستزيرهم الباري جل جلاله فيشرفهم ويشفعهم، ويرفع منازلهم، وينزل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، ويناديهم المنادي: ( يا أهل الجنة! خلود فلا موت )، ويناديهم كذلك فيقول: ( إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وأن تصحوا فلا تسقموا، وأن تنعموا وتكرموا )، وفيها خالدون، لا يسمعون فيها صوتاً يكرهونه، ولا يرون فيها شيئاً يكرهونه، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً [الواقعة:25-26]، تسلم عليهم الملائكة، وتدخل عليهم من الأبواب المختلفة، يغشاهم نور الملائكة من كل الأبواب، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
هذه الوظيفة التي هذا مقامها وهذه منزلتها وظيفة عظيمة تستحق أن يشارك الإنسان في مسابقتها، وأن يحرص على النجاح فيها، وأن يقدم كل ما يستطيعه من أجل النجاح، وهذه الوظيفة لا يمكن أن تنال بالرشوة، ولا يمكن أن تنال بالوساطة، ولا غش فيها، إنما تنال بمرضاة الله جل جلاله؛ فلذلك لا تأتي بالنسب، ولا بالمستوى الثقافي، ولا بالشهادات، وإنما تأتي بالإيمان والتقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]؛ فلذلك لا بد أن نحرص على هذه الوظيفة، وأن نهتم بها، والحرص عليها يقتضي منا أن هذا الدين الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وآمنا به وشربته قلوبنا، وأيقنت أنه الحق، وأيقنا أن هذا الرسول صادق، وأن ما جاء به هو كلام الله جل جلاله، وهو دينه الذي ارتضاه من عباده، وهو الذي كان كل الأديان إعداداً له كما قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وكما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:81-83].
فلا بد أن نحرص على هذا الدين، وأن نعمل به، وأن نعلم حاجتنا إليه، فهذا الدين لولاه كان الناس هملاً، وكانوا شراً من البهائم والسباع؛ فقد كانوا يعدو القوي على الضعيف، ويعتدي الإنسان على رحمه فيقطعها، ويقتل أولاده خشية أن يشركوه في طعامه، ويئد بناته خشية العار، وتقتتل القبائل بسبب أن فرساً سبقت أخرى أربعين سنة، وتعبد الأصنام والأنصاب، كما قال طارق بن شهاب : كنا إذا وجدنا حجراً عبدناه؛ فإذا وجدنا حجراً أحسن منه رمينا الأول وعبدنا الثاني، فإذا لم نجد حجراً احتلبنا شاةً على جذوة من الأرض فإذا يبست عبدناها.
فجاء هذا الدين فأنقذنا من هذا الوضع المزري، وأخرجنا من هذه الجاهلية الجهلاء، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، وجعلنا قادةً نقود الأمم، وجعل الذين رفعوا لواءه يقتدى بهم إلى يوم القيامة، فأنتم الآن تذكرون بلال بن رباح وتذكرون صهيب بن سنان ، وتذكرون عتبة بن غزوان ، وتذكرون سعد بن أبي وقاص وغيرهم من الأئمة الأعلام بكل إجلال وإكبار، وتسألون الله لهم رضاه، ولو كنتم تعلمون دعاءً أكبر من ذلك لدعوتم لهم به، وتحبونهم حباً شديداً، ويفرح أحدكم إذا رأى بلالاً في المنام، أو رأى أبا هريرة ، أو رأى سلمان ، أو رأى أي أحد من الصحابة حتى ولو من التابعين أو أتباع التابعين، لو رأيتم الآن مالك بن أنس في المنام لفرحتم فرحاً كبيراً، ولو رأيتم البخاري لفرحتم فرحاً كبيراً؛ لأن هؤلاء هم الأئمة الذين سلكوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدموا هذا الدين، وجاهدوا في سبيله ونصروه؛ فلذلك ما زال الباب مفتوحاً للمنافسة، ويمكن أن تنافس هؤلاء على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتكم الصحابة بفضل الصحبة، ولكن بقي لكم فضل الإخوة، ( فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في جنازة، فلما أتى المقبرة أخذ عوداً فنكت به ثم قال: وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين. قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم؛ إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً ).
أولئك القوم قد مهدوا لكم الطريق، فقاتلوا الأمم، وجالدوا بالسيوف، وقطعت أنوفهم وآذانهم، وبقرت بطونهم، بقر بطن حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، وأخرجت كبده، وقطع أنف عبد الله بن جحش وأذناه في سبيل الله، وقطعت يمين جعفر بن أبي طالب وهو يحمل بها الراية فتناولها بيساره فقطعت، فأكب عليها بذقنه حتى استشهد مقبلاً غير مدبر، فمهدوا لكم الطريق، وفتحوا لكم الأمصار، ووصلت فتوحهم مشارق الأرض ومغاربها، ودونوا لكم العلم، وكتبوا لكم الكتب، وسهلوا لكم تعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسهلت وظيفتكم وهانت، ومع ذلك فالأجر باق، والمسابقة باقية.
بل الغريب في الأمر أنه كلما بعد الإنسان عن عصر النبوة زاد حظه من الرحمة واللطف؛ لأنه سيكون أضعف فيحتاج إلى رفق، ورحمة الله أولى الناس بها الضعفاء؛ فلذلك أخرج الترمذي في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى منهم بعشر ما أمر به نجا )، وهذا فضل الله خصكم به، وهي مزية عظيمة لا بد أن تذكروها وتشكروها لله جل جلاله.
لكن لا بد أن تعرفوا أن هذه الحياة الدنيا هي مسرح للصراع بين الحق والباطل، وقد جعلها الله مكاناً للتنافس بين حزبين هما: حزب الله وحزب الشيطان، ولا ثالث لهما في هذه الحياة الدنيا؛ فلا بد أن ينظر كل واحد منا وكل واحدة إلى محله من الإعراب أين هو: هل هو من حزب الله أو من حزب الشيطان؟ والتمييز بين الحزبين ليس بالأسماء، ولا بشهادات الميلاد، إنما يكون بما في القلوب، ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم )، القلوب محل النظر الإلهي، تعالى الله جل جلاله؛ فلذلك لا بد أن نطهر قلوبنا، وأن نسعى لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وأن نكون فعلاً من حزب الله الذين يفعلون ذلك.
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا الصراع نتيجته حتمية محسومة، فقال: إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، وقال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، وقال: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، وفي المقابل قال: إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]؛ فالنتيجة حتمية معروفة، والحق يعلو ولا يعلى عليه؛ لكن للباطل صولة فيضمحل، ولا بد أن تتكرر تلك الصولة، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].
لا بد من التداول، فيعلو الحق بارتفاع أهله وتضحيتهم، ثم إذا تراجعوا تراجع الحق امتحاناً وابتلاءً وتمحيصاً، فكل يوم من أيام الدنيا منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم هو يوم بدر، أو يوم أحد، أو يوم حنين، أو يوم الأحزاب، وإنما تتفاوت الأيام بتفاوت رجالها وتضحياتهم وبذلهم، فإذا بذلوا فإن الله سينصرهم، وهذه سنته، قال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء:8]، معناه: إن عدتم إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله عدنا إلى ما عودناكم من النصر والتمكين؛ فالنصر من عند الله، قال الله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وهو الذي ينصر من يشاء، وقد وعدنا بنصره لمن ينصره، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]؛ وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
فإذا عرفنا أنه لا ثالث للحزبين، وأنه لا يمكن الحياد بينهما فإما أن تكون من حزب الله، وإما أن تكون من حزب الشيطان؛ فعليك أن تحرص على أن تتصف بصفات حزب الله، وأن تكون منهم، فحزب الله مهمته إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وحزب الشيطان مهمته تحقيق يمين إبليس التي أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]؛ فالذين يسعون لإغواء الناس، وشغلهم عن الله جل جلاله، وإشراكهم في معصية الله هم من حزب الشيطان لا محالة؛ لأنهم يصدون عن سبيل الله، والذين يسعون لهداية الناس وسوقهم إلى الله جل جلاله، وهدايتهم إلى منهجه وطريقه، وتعليمهم ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، هم من حزب الله قطعاً؛ لأنهم سلكوا طريق رسله وأنبيائه.
وسلوك طريق حزب الله شاق؛ لأنه طريق الجنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وفي الحديث الآخر: ( أن الله لما خلق الجنة جعل فيها من بركته وروحه وريحانه، ثم أرسل جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم خلق النار فجعل فيها من أنواع العذاب والمهانة؛ فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحفت بالمكاره؛ فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، وأمر بالنار فحفت بالشهوات؛ فأرسل جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد ).
ولذلك فإن من مكاره الطريق: أن الذين يدخلون الجنة يمرون على الصراط، والصراط منصوب على متن جهنم، وعليه كلاليب كشوك السعدان، ويتفاوت الناس عليهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل مكردس على وجهه في نار جهنم.
هذه المكاره التي ينالها سالكو طريق الجنة هي عقبات مباركة أصابت من هو خير منا، فقد أصابت أنبياء الله، فـنوح مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً في قومه وهو صابر على الأذى، وهم يسخرون منه وهو يقول: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [هود:38-39]، ولما تمالئوا عليه قال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71].
وإبراهيم عليه السلام تمالئوا عليه فرموه في النار فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].
وهود لما تمالئوا عليه وكاثروه قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].
وموسى عليه السلام لما جاء فرعون بجنوده من ورائه وكان البحر من أمامه فقال له أصحابه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62].
ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعي : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174]؛ فلذلك لا بد أن يعرف الإنسان أن أمامه كثيراً من العراقيل والعقبات التي لا يمكن أن ينجو منها؛ فلو كان ينجو منها أحد لنجا منها هؤلاء الأنبياء الذين هم خيرة الله من خلقه، وهم أفضل من وطئ الثرى، فقد وضع السلا بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لربه عند الركن اليماني، وجاء عقبة بن أبي معيط وكان سميناً جسيماً فوضع رجله على رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرفع رجله الأخرى ليثقل عليه، وأوذي في عرضه فكذب المنافقون على أم المؤمنين عائشة بما قالوا وبرأها الله من ذلك، وأوذي في أصحابه فقتلوا بين يديه، وعذبوا وهو مع ذلك صابر على طريق الحق، ( جاءه رجل وهو يقسم قسمةً بين المؤمنين فقال: يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فابتسم وقال: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ).
وقد قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
فلذلك حزب الله وحزب الشيطان بينهما بون شاسع، فحزب الشيطان الانتماء إليه سهل ميسر، فبمجرد عدم عملك للإسلام، وعدم سعيك لإعلاء كلمة الله مباشرةً تكون من حزب الشيطان، وحزب الله لا يمكن أن تكون منه إلا إذا عملت للإسلام، وسعيت لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فلاحظوا الفرق بين الحزبين، حزب الشيطان طريقه محفوفة بالشهوات، وحزب الله طريقه محفوفة بالمكاره.
قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ).
فلذلك لا بد أن تستعدوا إذا أردتم أن تكونوا من حزب الله لكثير من المكاره، كما قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43].
وكما قال له في سورة هود: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].
وحزب الله وحزب الشيطان الفارق بينهما: قدر الله وسابقة القدر، فالله ينزل اللوائح من السماء فلان ابن فلان مستغل لأن يكون من حزب الله وأنصار دينه، فلانة ابنة فلان مستغلة لأن تكون من حزب الله وأنصار دينه في المدينة الفلانية أو في القرية الفلانية، ولا يمكن أن يكون هذا الاختيار على أساس نسب ولا حسب، ولا مستوىً اقتصادي، ولا مستوىً ثقافي؛ بل هو اختيار رباني من عند الله، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ [الحج:75]، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
وفي المقابل أيضاً تنزل اللوائح من السماء بأسماء حزب الشيطان الذين خذلهم وسلطهم على أنفسهم، فكانوا من حزب الشيطان يريدون إعلاء كلمته، وهيهات لهم أن يحصلوا على ذلك، فقد جعل الله العراقيل والعقبات في سبيل حزب الله امتحاناً وتمحيصاً؛ لأن الله تعالى دعا إلى هذا الصراط، وحفز إليه بكثير من الحوافز، فسبيل نصرة دين الله، وإعلاء كلمة الله سبيل موافق للعقل، موافق للفطرة، قامت عليه الحجة من الكتاب والسنة والعقل الصحيح والقياس والإجماع، فيستغرب الإنسان لماذا لا يسلك الناس جميعاً هذا الطريق؟ هذا الطريق فيه الفلاح في الدنيا والآخرة، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ...[المؤمنون:1-4] إلى آخر الآيات.
وأنتم تعرفون أن الفلاح معناه: صلاح الدنيا والآخرة، فيستغرب الإنسان: لماذا يتخلف أهل العقول عن هذا الصراط، وهذا ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد دعا عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال: يا عمرو ! والله إن كنا لنعدك من أعقلنا في الجاهلية، فما الذي أخرك عن هذا الأمر؟ قال: ما هو إلا أن كان معنا شيوخ كنا نعجب برأيهم وعقلهم فنفروا من هذا الأمر، فاتبعناهم على ذلك، فلما ماتوا نظرنا فإذا الأمر واضح. فمنعه من أن يكون من السابقين الأولين من المهاجرين التقليد؛ لأنه رأى شيوخاً كان يعتقد فيهم العقل وتمام التدبير، فنفروا من هذا الأمر أنه سينتزع منهم مكانتهم؛ فقلدهم عمرو في ذلك؛ ولذلك ندم ندماً شديداً، فقد قال عند موته: ( يا بني! لقد ركبت ثلاثة أطباق: بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت فيمن كذبه وعاداه وقاتله، ولو مت على ذلك الطبق لكنت إلى النار. ثم أدخل الله علي الإسلام فأسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، وكنت أغزو إذا أغزاني، وآخذ إذا أعطاني، ووالله لو سئلت أن أصفه لما استطعت أن أصفه، فما رفعت إليه بصري منذ أسلمت حياءً منه، فلو مت على ذلك لكنت في الجنة. ثم بعد ذلك حصلت أمور ليتني أخرج منها كفافاً لا علي ولا لي )، وهذا الطبق الثالث.
فلذلك إذا فكر الإنسان: ما الذي يمنع كثيراً من الناس أن يكونوا أنصاراً لله؟ ما الذي يمنعهم أن يستجيبوا لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أنصاري إلى الله، كما نادانا الله بذلك وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]، ما الذي يمنع الناس من إجابة هذه الدعوة؟
وقد قامت الحوافز الكثيرة لذلك، وأهمها خمسة:
الحافز الأول: بيعة بين المؤمنين جميعاً وبين الله جل جلاله، فلا يستطيع أحد أن يتنكر لها، ولا أن يستقيل منها، فما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ذكراً كان أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، عالماً أو جاهلاً، غنياً أو فقيراً، صحيحاً أو سقيماً، مسافراً أو مقيماً إلا وفي عنقه بيعة بينه وبين الله جل جلاله، أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن وقال فيها: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
وهذه البيعة هي دين لله في رقابنا، فليتذكر أي إنسان منا عاش على وجه هذه الأرض بعد البلوغ ولو سنةً واحدة أو شهراً واحداً، أو عاش ما كتب الله له أن عليه ديناً لا بد من التذكير بسداده، والإنسان الذي يتقيد في الدين والمروءة والخلق، إذا تحمل ديناً على حاجة إليه لا بد أن يفكر في سداده، ومن المستحيل أن يمضي عليه عشر سنوات أو عشرون سنة أو ثلاثون سنةً أو أربعون سنة أو خمسون سنة وهو لا يفكر في سداد الدين الذي عليه، هل هذا صاحب دين؟ هل هو صاحب أمانة؟ فلذلك نحن جميعاً في أعناقنا هذا الدين، فلا بد أن نفكر في سداده، ومن كان منا من شاب رأسه ولم يفكر في سداد هذا الدين، ولم يقف موقفاً لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون على ما مضى من عمره، وليبادر لتدارك ذلك؛ لأن الدين في رقبته لا يستطيع التخلص منه، ومن كان شاباً كذلك فليبادر لسداد هذا الدين.
وليعلم أن الناس في هذه البيعة على قسمين: صادقون ومنافقون، ولا ثالث لهما، من أي القسمين تريدون أن تكونوا؟ من الصادقين قطعاً، ولا يرضى أحد منكم أن يكون من المنافقين؛ لما يعلم من ذمهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لما يعلم من أنهم أدنى منزلةً من الكفار يوم القيامة، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145].
فقد قال الله تعالى: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24]، فالصادقون هم الذين وفوا لله بما بايعوه عليه، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].
فهذه البيعة حافز قوي للمبادرة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، إذا أردت أن هذا حق واجب عليك بمقتضى بيعة لا تستطيع أن تتخلص منها، ولا أن تستقيل فيها، فذلك مقتض منك للمبادرة للقيام بحق هذه البيعة.
الحافز الثاني: العلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الرسول شرفه الله على سائر الأنبياء والمرسلين، وجعله إمامهم وقائدهم وخاتمهم، وخصنا به من بين الأمم، وقد كان بالإمكان أن يبعثه في أول أمة على وجه الأرض، أو في الثانية، أو في الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، لكن خص هذه من بين الأمم، وهذا تشريف عظيم جداً، كما قال الشاعر الحكيم:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا
فقد خصنا الله به وشرفنا، وأنقذنا به من الجاهلية الجهلاء، وهدانا به من الظلمات إلى النور، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وقد أرانا الطريق، وأقام علينا الحجة، وشهد الله له بالتبليغ فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]؛ لأنه امتحنه الله بهذه الرسالة فنجح متفوقاً في الامتحان، وبقي الامتحان علينا نحن، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ). (إنما بعثتك لأبتليك) فهو ممتحن بالرسالة، (وأبتلي بك) أبتلي جميع أتباعك بك، ونحن نعلم أنه هو نجح في الامتحان؛ لأن الله شهد له بذلك، قال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، فبقي الامتحان الذي علينا نحن، وهو الابتلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والامتحان به.
علاقتنا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا بد من الحفاظ عليها، أيرضى أحد منكم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه بين يدي الملك الديان يوم القيامة؟ أيرضى أن يتبرأ منه عندما يأتيه على الصراط ( فيطرد دونه كما تطرد غرائب الإبل فيقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً )؟ لا نرضى بذلك أبداً؛ بل نريد أن نزاحم أصحابه على جواره، وأن نكون أقرب الناس إليه، وأن نكون جيرانه في الفردوس الأعلى من الجنة، ولا نؤثر بنصيبنا منه أحداً لا في ميراثه، ولا في خلافته، ولا في اتباعه، ولا في العلم الذي جاء به، ولا في أي شيء من شأنه، هي تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل فيكم أحد يستعد لأن يؤثر غيره بنصيبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا كان الحال كذلك فعلاقتنا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مشروطة بنصرة دينه وتبليغه إلى الناس.
فمن لم يسع يوماً من الأيام لإعلاء كلمة الله، ونصرة هذا الدين، ولم يتلق أي أذىً في سبيل هذا الدين فبأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحوض يوم القيامة، عندما يقول له: قد بلغتك رسالتي فماذا عملت فيها؟ إلى من بلغتها؟ ألم تسمع قولي: ( بلغوا عني ولو آية )، ألم تسمع قولي: ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب )؛ فماذا عملت في أمانتي التي تركت لديك؟ وأنتم تعلمون أن من كان محباً لإنسان حباً شديداً كأخيه أو صديقه الملاطف فسافر سفر انقطاع وقال له: يا أخي! أنا اضطررت لهذا السفر وهذا عملي وعيالي وهم أمانة لديك فقم فيهم بالحق، أليس سينصح لهم ويبذل كل ما يستطيعه من أجل خلافته فيهم؟
ما لدى الحازم اللبيب معاراً فمصون وماله قد يضيع
لذلك فهذا الدين هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعياله وأمانته، وقد أودعه لدينا، وأشهد علينا ربه جل جلاله، فقال: ( ألا هل بلغت؟ وهو يشير بإصبعه ينكت بها في السماء فيقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد )، فمن لقيه على الحوض ولم يقم بأي عمل لنصرة الدين، ولم يبذل أي مال لنصرة الدين، ولم يبذل أي كلام لنصرة الدين، ولم يبذل أي تدبير ولا تفكير لنصرة الدين، فبأي وجه يلقاه على الحوض؟ فإذاً لا بد من العلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحافظة عليها محافظةً شديدة، بأن نتبع طريقه، وندعو إلى ما دعا إليه، فإن الله أمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بذلك، فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، (أنا ومن اتبعني) فمن ادعى أنه اتبعه ولم يدع إلى ما دعا إليه فهو كاذب كذبه الله في كتابه.
الحافز الثالث: ما يبذله المنافقون في داخل الأمة الإسلامية من الجهود لنصرة الباطل، فما منا أحد ما له أقارب وجيران وإخوان يبذلون مالهم ووقتهم وتدبيرهم وتفكيرهم في نصرة بعض الإيديولوجيات الأرضية، أو في نصرة بعض الأحزاب أو الجماعات، وهم يعلمون أن ما يبذلونه لا يمكن أن يجدوه في كفة الحسنات يوم القيامة، ينفقون الملايين، وينفقون الأوقات الثمينة، ويسافرون الأسفار الشاقة في سبيل باطل لا يغني عنهم من الله شيئاً، هؤلاء لماذا بذلوا هذا؟ لأنهم اقتنعوا بهذا الخط أو ذاك، ونحن قناعتنا بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم آكد من كل قناعة، وإذا لم نعمل بقناعتنا فإن الرياح ستذهب بها.
أيها الشباب! من اقتنع منكم الآن أن عليه أن يكون رجل أعمال، ولكنه لم يباشر الصفقة في الأسواق، ولم يعمل أي عمل، فما فائدة هذه القناعة؟ إنما يكون هماً وخسراناً عليه، ووهماً يعيش فيه، ومن اقتنع منكم أن عليه أن يكون عالماً من العلماء ولكنه لم يسهر الليالي، ولم يزاحم العلماء بالركب، ولم يقرأ الكتب، واتكل على مجرد هذه القناعة، على ماذا سيحصل؟ لا يحصل على شيء، فمن اقتنع بصدق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله هو الحق فلا بد أن يعمل وفق قناعته، وإذا لم يعمل فسيكون مثل من اقتنع أن عليه أن يسافر سفراً شاقاً ولكنه اضطجع على فراشه، والتحف بلحافه ولم يركب القطار أو لم يركب الطائرة أو السيارة، لا يمكن أن يصل إلى مبتغاه أبداً، هؤلاء عندما اقتنعوا بقناعاتهم، وبذلوا ما يستطيعون وهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وبعضهم من إخواننا وأشقائنا وأقاربنا فذلك مقتض منا نحن أن نعمل لقناعتنا مثلما عملوا على الأقل.
الحافز الرابع: ما يبذله أعداء الله في نصرة دينهم المحرف المبدل، فاليهود عليهم لعنة الله يبذلون الجهود، ويقيمون البروتوكولات، ويقيمون الحروب العالمية من أجل نصرة باطلهم الذي يعتقدون أنه دين، وليس ديناً وما أنزله الله على موسى بن عمران؛ فدينهم الآن مبناه على أن ربهم الذي يعبدونه فقير لا يملك شيئاً، لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].
وأنه بخيل لا يعطي شيئاً، وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، (مغلولة) معناه: لا يعطي شيئاً أصلاً هو بخيل.
وأنه ضعيف، تصارع مع إسرائيل فصرعه إسرائيل وخنقه حتى مد لسانه، فشرط عليه إسرائيل ألا يعذب أحداً من ذريته إلا أياماً معدودة؛ ولذلك قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة:80].
رب فقير لا يملك شيئاً، وبخيل لا يعطي شيئاً، وضعيف يخنق ويصرع، لماذا يعذب؟ لا يمكن أن يقتنع بهذا مجنون ولا صبي ولا أحد، ومع ذلك انظروا إلى ما يبذله اليهود في سبيل نصرة دينهم.
والنصارى كذلك دينهم الذي يبذلون في سبيله كلما ترون وتسمعون مبناه على أن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد، أن الرب واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة، وأنه لما تكاثرت عليه ذنوب عباده أنزل لهم ولده الوحيد الذي هو هو ليقتلوه ويصلبوه، فيكون ذلك تكفيراً لسيئاتهم جميعاً؛ من مضى منهم ومن بقي، هل يمكن أن يعقل هذا مجنون؟! قتل ولد الرب وصلبه هل يكون تكفيراً للسيئات أو زيادة فيها لو قدر؟! وولد الرب هل يكون هو هو؟! إذاً متى ولد؟ ومن أمه إذا كان هو في نفس الوقت هو الرب، هذا الذي يدعون إليه ويقتنعون به، ومع ذلك انظروا ما من قرية ولا بلدة في أنحاء العالم إلا وتجدون فيها مؤسسات تنصيرية، وما من بلدية إلا وهم يغزونها ويعملون فيها، وهم يريدون نصر هذه الفكرة، ونشرها هذه الفكرة التي لا يمكن أن يستوعبها عقل، ولا أن تدخل مخ مجنون، مع ذلك هم يبذلون كل جهودهم من أجل نصرها ونشرها في الأرض، أليس جديراً بنا نحن ونحن على الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ونزل به الروح الأمين على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الله فيه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وهو موافق لكل العقول السليمة، وموافق للفطر المستقيمة، وقامت عليه الحجج كلها، ولا يستطيع أحد أن يتمارى فيه، ولا أن يشك فيه، ولا أن يظهر أية شبهة إلا قمعته حجة الحق، أليس جديراً بنا أن نعمل لهذا الدين على الأقل مثلما النصارى أو اليهود؟
الحافز الخامس: إنكم اليوم في وقت قبل الفتح، فالأيام يداولها الله بين الناس؛ فتأتي دولة الحق، وتأتي دولة الباطل بعدها، فإذا كان الإنسان في دولة الحق فإن امتحانه ليس شاقاً؛ ولذلك أراد الله بعدله ألا تدوم دولة الحق كثيراً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام دولة الإسلام، ولكن لم يعش فيها إلا عشر سنين، وخلفاؤه الراشدون من بعده كملت خلافتهم ثلاثين سنة، وقد قال: ( الخلافة بعدي ثلاثون )، ثم بعد ذلك العد التنازلي، فإذا عرفنا ذلك عرفنا أنه لو دامت الدولة طويلاً فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إلى اليوم كان الله قادراً على ذلك كما عاش نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً في قومه، وعاش بعد ذلك في الطوفان قيل: أربعين سنة، وعاش بعد ذلك في الأرض وقيل له: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود:48]، والسلام والبركات على الأقل يحصل من ذلك العمر الطويل في الأرض بعد الطوفان، لكن الله أراد أن يمتحننا بوفاة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبوفاة خلفائه الراشدين المهديين، وبداية العد التنازلي لهذه الأمة كل عصر يكون أقل شأناً من الذي قبله، فإذا أدركنا ذلك عرفنا أننا الآن في وقت قبل الفتح، لكن سيأتي الفتح لا محالة؛ فلا بد أن ينصر الله هذا الدين ( بعز عزيز أو بذل ذليل )، ( وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ).
والذي يؤخر إعزاز الدين ويؤخر الفتح هو نحن؛ فلو حققنا ما وصف الله به جيل النصر لحقق الله لنا النصر، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:38-41].
هذه صفات جيل النصر والتمكين: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فإذا حققنا ذلك لا بد أن يحقق الله لنا وعده، فالله لا يخلف الميعاد، وقد قال في محكم التنزيل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، فإذاً لا بد أن يحقق الله هذا الوعد، ولا بد أن ينصر هذا الدين؛ لكن قد يأتي الفتح الليلة، وقد يأتي غداً، وقد يأتي بعد عشر سنوات، وقد يأتي بعد عشرين سنة، الله أعلم متى يأتي؛ لكنه آت لا محالة، فإذا أدركت ذلك فاعلم أنك الآن في وقت قبل الفتح وهو فرصتك؛ لأن الوقت الذي قبل الفتح يكون الأجر فيه أكبر بأضعاف مضاعفة من الأجر فيما بعد الفتح، فقد قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).
فهذا الوقت وقت وجبة السوء، فالمد من الشعير يقدمه الإنسان الآن أفضل مما لو قدم مثل جبل أحد من الذهب بعد الفتح، فهذه فرصة نادرة، فعلينا أن نبادر إليها قبل فوات الأوان، والذين يتأخرون عنها سيفوتهم القطار في الانتظار، ويشتغلون بالتربص وهو سبب من الأسباب الخمسة التي تفصل بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فقد قال الله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15].
وأيضاً الذي يتأخر عن نصرة الدين في هذا الوقت -قبل الفتح- يمكن أن يقال له ما قيل للمنافقين: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83].
وأيضاً المتأخر حتى لو أدرك فإنه يفوته فضل السبق، تفوته الدرجة الأولى من الطائرة ومن القطار، يفوته مقدم السيارة ويركب في الخلف ويتعرض للبرد؛ فكذلك الذي يتأخر فاته فضل عظيم، ولو كان تأخره بليلة واحدة أو ساعة واحدة.
فمن التحق منكم بنصرة الدين في هذا اليوم سيكون أفضل بمزية السبق من كل من يأتي بعده غداً أو بعد غد أو بعد سنة أو بعد سنتين... إلى آخره، فمزية السبق لها فضل عظيم.
وأيضاً فإن المروءة تقتضي ذلك؛ فلو أن خيمة الإسلام ساقطة على الأرض، واشتغل أقوام وعددهم يسير في رفعها وإعلائها، وانتظر آخرون وتربصوا وقالوا: ننتظر حتى إذا رفعت دخلنا في ظلالها، هل هذا من المروءة؟ وهل يضمنون الدخول حينئذ؟ قد لا يتركهم الذين رفعوها أن يدخلوا معهم فيها؛ فلذلك لا بد من المبادرة قبل فوات الأوان.
ثم بعد هذا لا بد أن ندرك أن هذه الحوافز التي ذكرناها إذا سمعها الإنسان العادي كانت مقنعةً له غاية الإقناع، والإنسان الرشيد سيسعى للمبادرة؛ لكن لا بد أن نعرف أنه في الطريق تعهد الله بصرف الذين لا يرتضي خدمتهم للدين؛ فليس كل إنسان أهلاً لأن يكون من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنصار دين الله، وليس كل إنسان صالحاً لأن يكون من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، وليس كل إنسان صالحاً لأن يكون من الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ فلذلك قال الله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146].
وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11].
فقد يقتنع الإنسان برهةً من الزمن بإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، ويسعى مع إخوانه لذلك ويبذل، ثم تأتيه فتنة من الفتن فينصرف ويتساقط عن الطريق كما يتساقط الناس فوق الصراط يوم القيامة، ويكون قد ضيع وقتاً؛ لأنه مكث ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمسين سنة وهو في نصرة هذا المنهج وهذا الطريق، ثم يتراجع عنه.
وهذه الفتن لا بد من الحذر منها والانتباه لها؛ لأن القلوب تعرض عليها كأعواد الحصير عوداً عوداً حتى تكون على قلبين: قلب أبيض تنبؤ عنه الفتن، لا تمازجه أية فتنة ولا تخالطه، وقلب مسود كالكوز مجخياً لا ينجو من فتنة أبداً، كلما جاءت فتنة كان من أهلها، وقد قال الله للمنافقين: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
والفتنة لها أسباب كثيرة؛ ففي قصة بني إسرائيل من فتنهم أن الله ولى عليهم من لا يظنون أنه أهل للتولية، وكان ذلك فتنةً لهم ليتساقطوا عن الطريق، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ [البقرة:247]، وما تذكروا أن هذا امتحان من الله وابتلاء؛ فأنت قد يولى عليك من هو دونك ابتلاءً لك وامتحاناً هل تصبر وتصمد على الطريق أو تتراجع؟
وكذلك من الفتنة: أن تشعر بشخصيتك وأنانيتك، أو أن ترى أن رأيك خير من رأي إخوانك جميعاً، وأنه هو الرأي المستقيم، وأن رأي الآخرين في ضلال مبين، فهذا من الفتنة وهو إعجاب كل ذي رأي برأيه.
وكذلك من الفتنة: أن ينزغ الشيطان بينك وبين أخ لك في الله، ولو كان هو معتدياً عليك؛ ليكون ذلك سبباً لصرفك عن هذا المنهج والطريق.
وكذلك من الفتنة: أن ينقر لك الشيطان، ويبقر لك عن بعض الأخطاء التي لا يسلم منها أحد؛ لا أنت ولا من سواك، فتبدأ تعدها على إخوانك، ولو راجعت عيوب نفسك لوجدت فيها نظير ذلك أو أكبر منه، ولا يمكن أن ينجو أحد منها، وما من أحد تخالطه إلا أحوجك على الصبر حتى والداك، لا يمكن أن تعايشهما إلا وجدت منهما ما يحوجك إلى الصبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحته في الزواج: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن ساءه منها خلق سره منها خلق آخر )، وكل أخ لك عرفته في سبيل الحق ونصرة الدين حتى لو ساءك منه خلق ووجدت منه ما تكره فإنك ستجد منه في مقابل ذلك أيضاً ما يرضيك، وقد قال الحكماء:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقال الآخر:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب؟
وقال الآخر:
لئن كان بالفعل الذي ساء واحداً فأفعاله اللائي سررن ألوف
فلذلك إذا تذكرت أيضاً أخطاءك أنت، وأنه هو مطالب لأن يصبر عليك، وأن يستر ما يشاهده من زلاتك، وما يطلعه الله عليه من عيوبك، وتغضب إذا كشف شيئاً منها أو واجهك به؛ فإنك في مقابل ذلك لا بد أن تتذكر هذا من نفسك.
كذلك من الفتن: أن يقع الإنسان في زلة عن الطريق، فيفتن لغرض دنيوي كمحبة منصب أو جاه أو مال أو شخص أو نحو ذلك، ثم يتبين له الحق فلا يرجع، فهذه فتنة؛ لأنه أخذ بشخصانيته ونسي ذكران ذاته، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: ( ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ رجل أشعث، أغبر رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة، وإن كان في الميسرة كان في الميسرة، وإذا استأذن لم يؤذن له، وإذا شفع لم يشفع )، ومع ذلك هو صامد على مكانه؛ لأنه يعلم أن البيعة ليست مع المخلوقين، إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [الفتح:10].
وهذه الفتن من أخطرها فتنتان:
إحداهما: فتنة الخوف.
والثانية: فتنة نقص الثقة.
أما فتنة الخوف فهي أنواع منها:
الخوف من أعداء الله وما يمتلكونه من وسائل الإرهاب، فكثير من الشباب يقتنعون بأن عليهم أن ينصروا الله ورسوله، ويقول أحدهم: أنا أعلم أني لا أستطيع ذلك وحدي، وأريد أن أجد من ينصرون الله، فإذا وجدهم قال له الشيطان: إن من التحق بهؤلاء القوم عرضة لأن يؤذى في سبيل الله، ويذكره الشيطان بآلة البطش والطغيان ووسائل الإرهاب؛ فيكون ذلك سبباً لخوفه من المخلوقين، وهذا الخوف وهمي، فالمخلوق الذي تخافه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، ويمكن أن يملأ الله قلبه من الإيمان في هذه اللحظة، فيكون أمامك أنت فيما تريده، ويمكن أيضاً أن يقبض الله روحه في هذه اللحظة، ( أرسل كسرى إبرويز إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين جلدين يأتيان به، قال: فإن أطاعكما فأتيا به، وإلا فاذبحاه واسلخا جلده واملآه من التبن وجيئا به، فلما أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسم وقال: أرسلكما كسرى إبرويز ؟ قالا: نعم، قال: قتله ابنه البارحة )، أي: هذا الذي تعبتما من أجل تنفيذ أوامره، وأتعبتما نفسيكما بمشقة السفر والعناء لطاعته والتقرب إليه قتله ابنه البارحة؛ فلم يبق له وجود.
فكذلك الذي تريد أن تطيعه في معصية الله، والذي تريد أن تخافه من دون الله، ويمنعك مما يجب عليك يمكن أن يكون قد قتله ابنه أو غيره، أو أخذ الله روحه بأية وسيلة من الوسائل.
النوع الثاني: الخوف من التشويه، فكثير من الذين يقتنعون بأن عليهم أن يكونوا من الناصرين للدين، ومن الساعين لإعلاء كلمة الله يحول بينهم وبين ذلك ما يشيع في وسائل الإعلام وعلى ألسنة العوام من تشويه كل من سلك هذا السبيل، فيقول أحدهم: كل من سلك هذا الطريق يقال: إنه إرهابي، وإنه متطرف، وإنه متشدد، وإنه أصولي، وإنه وإنه، وأنا أخاف من هذه التسميات، وأخاف من هذا التشويه ولا أقدر على ذلك ولا أستطيعه، وهذا الخوف وهمي أيضاً كسابقه، فالخوف الأول رد الله على أصحابه بقوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
والخوف الثاني: وهو الخوف من التشويه، إذا تذكر الإنسان أن الملك الديان جل جلاله هو المتصف بجميع صفات الكمال، وكل نقص عليه محال، ومع ذلك زعم النصارى له صاحبةً وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، هل ضر هذا التشويه الله شيئاً؟ ما ضره ولم يضره، ورسل الله هم خيرة الله من خلقه، اصطنعهم على عينه، واصطفاهم من خلقه، واجتباهم وكملهم وجملهم، ما منهم أحد إلا قيل فيه: مجنون، ساحر، كاهن، شاعر، طالب سلطة، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53]، وأنت يا أخي تسلك طريقهم ولست أكرم على الله منهم؛ فإذا تذكرت أنك حلقة من حلقات السلسلة، وأن كل نكبة أصابت حلقةً فستصيب كل الحلقات؛ فإنه سيهون عليك هذا الأمر.
وأنا متأكد لو أن مسماراً على باب مسجد الرضوان هنا نجزم يقيناً أنه جرح نوحاً ودخل في جسمه، وجرح إبراهيم ودخل في جسمه، وجرح موسى ودخل في جسمه، وجرح عيسى ودخل في جسمه، وجرح محمداً صلى الله عليهم أجمعين وسلم ودخل في جسمه، لكدتم الآن تستبقون إليه ليجرحكم ويدخل في أجسامكم؛ لأنه مسمار مبارك أصاب من هو خير منكم، فكذلك كل النكبات التي تصيبك على طريق الحق أصابت من هو خير منك، هي نكبات مباركة، وهي معارض على طريق الحق.
النوع الثالث: الخوف على المصالح؛ فبعض الناس لهم مصالح حاصلة أو متوقعة، واقعة أو متوقعة يخافون عليها؛ فيقول أحدهم: أنا مقتنع بأنه يجب علي أن ألتحق بالركب، وأن أنصر الله مع الناصرين له، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ [التوبة:122]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]؛ لكنني لدي مصالح، لدي وظيفة، أو لدي مال، أو لدي مكانة اجتماعية، وأخاف على هذه المصالح إذا أنا التحقت بهذا الركب أو بهؤلاء القوم الذين هم عرضة لفوات هذه المصالح، والجواب عن ذلك أن يقال: يا أخي! من أين لك هذه المصالح؟ من الذي أعطاك الوظيفة؟ من الذي أعطاك المال؟ من الذي أعطاك المكانة؟ إنه الله جل جلاله، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وأنت تقول في صلاتك: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، وتقرأ في كتاب الله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
وتقرأ فيه أيضاً: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107].
وتقرأ فيه أيضاً قول الله تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2].
وتقرأ فيه قول الله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].
وقد رد الله هذا الخوف على أصحابه في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28].
(إن خفتم عيلةً) أي: إن خفتم فقراً وهو هذا النوع من أنواع الخوف: الخوف على المصالح، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28] ، وهذا ضمان من الله الذي بيده السموات والأرض، فقد ضمن لك ذلك.
النوع الرابع: الخوف من التكاليف؛ فكثير من الناس يحول بينهم وبين نصرة الدين، والالتحاق بالركب الناصرين للدين أن يقولوا: إن من التحق بقوم قد رتبوا أمورهم، ونسقوا أعمالهم، سيؤمر وينهى، ويلزم بأمور أنا في غنىً عنها؛ فأنا أريد الحرية، أنا أريد أن أكون لاعباً ولكنني أبقى على مسافة؛ لأنني أخاف من التكاليف، والجواب عن ذلك أن يقال: يا أخي! فيم تكون التكاليف؟ لا تكون التكاليف إلا في النفس أو في المال، وقد بعت نفسك ومالك لله، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، ولا يمكن أن تكلف تكاليف ليست في النفس وفي المال، فقصارى أمر هذا العمل أن يجد لك قناةً ضيقةً للوفاء لله من بعض ما بايعته عليه.
النوع الخامس: الخوف من المجهول؛ فمن جهل شيئاً عاداه، وكل من يتعود على أمر من الأمور سيرتاب فيه ويضع عليه علامة استفهام، لكن إذا دخل إليه ورآه بعين بصيرته وبعين بصره فإنه ستتجلى له حقيقته.
وهذا الخوف من المجهول هو مثل خوف الصبي من الغرفة المظلمة، إذا أوقد فيها النور سكت، وإذا أطفئ النور يقول: جاءني (قوقوه) جاءني (قوقوه)، (قوقوه) ما هو في الغرفة، (قوقوه) وهم غير حقيقي، فكذلك الذي يخاف من أي عمل لنصرة الدين هو بمثابة الصبي الذي يخاف من الغرفة المظلمة، وخوفه إنما هو من أمر وهمي، تعال يا أخي وادخل الغرفة وانظر ما فيها وستطمئن.
الفتنة الثانية هي: نقص الثقة، وهو لا يقل شأناً عن الخوف، فإنه يحول بين كثير من الناس وبين نصرة الدين والعمل له، ونقص الثقة أنواع منها:
النوع الأول: نقص الثقة بالنفس؛ كما هو حال كثير من الشباب، يقول أحدهم: أنا شاب واجباتي أكثر من أوقاتي، لدي دراسة وأحاول النجاح في المستقبل، ولدي أعمال، وأنا فقير مسكين، فبأية وسيلة أنصر الدين؟
والجواب عن ذلك: أن يقال: يا أخي! الله هو الذي ينصر الدين، وأنت مكلف فقط ببذل السبب، والنتيجة ليست إليك، أنت لست مكلفاً بالنتائج، إنما النتائج من عند الله، أنت مكلف ببذل الأسباب، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
أنت عليك أن تبذل السبب وما سوى ذلك ليس إليك، أنت كالمزارع يضع حبه في الأرض ويستره فيها، وينتهي جهده عند هذا الحد، وهو ينتظر أن يخرج الله له نباته من الأرض؛ فكذلك أنت تبذل جهدك، وأما النتيجة فليست إليك، ابذل الجهد وعلى الله الباقي.
النوع الثاني من نقص الثقة فهو: نقص الثقة في العاملين للإسلام؛ فكثير من الناس يقتنعون بأن عليهم أن ينصروا الدين، وأن يعملوا له، ولكن الذي يحول بينهم وبين ذلك أنهم يعلمون أن الفرد لا يستطيع ذلك؛ فالفرد لا ينصر مظلوماً، ولا يحق حقاً، ولا يزهق باطلاً، ولا يجاهد عدواً، ولا يقيم دولةً، ولا يعدل، ولا يستخرج خيرات الأرض، ولا يستطيع العدالة في توزيعها؛ لأن الفرد قليل بنفسه كثير بإخوانه، ولكنهم يرون أن العاملين للإسلام فيهم هفوات وفيهم أخطاء، وفيهم مشكلات كثيرة، فيريهم الشيطان تلك المشكلات، ويستر عنهم ما فيهم في مقابل ذلك من الخير، وهم ينتظرون أن يجدوا معصوماً لا يخطئ وذلك متعذر؛ فليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم؛ فلذلك الأصل أن تثق بكل من رأيت منه الخير، وأن تعلم أنه غير معصوم فتقدره ولا تقدسه، وهذا التعامل مع البشر جميعاً، كل من ليس معصوماً يقدر ولا يقدس، فما من أحد إلا وهو عرضة للفتنة كما قال ابن مسعود : من كان مؤتماً فليأتم بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن فتنته، فتقدره على ما فيه من الخير، وتحبه بقدر محبته لله، ولكن مع ذلك ترجو له وتخاف عليه.
لا تستطيع أن تشهد لأحد بعد الوحي بأنه من أهل الجنة، بل أنت ترجو له وتخاف عليه، وقس ذلك إلى نفسك؛ فأنت تطعن في الآخرين بسبب أنك نسيت عيوب نفسك، فشغلتك عيوب الناس عن عيوب نفسك، وقد أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد : أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
فإذا تذكرت ما فيك من العيوب فإن ذلك سيمنعك من التطلع لعيوب الآخرين، وقد قال الشافعي رحمه الله:
فعندك عورات وللناس ألسن
فلذلك لا بد أن تنتبه إلى أن عيوبك هي التي تسود بها بصيرتك؛ فترى الآخرين من خلال عيوبك أنت، فالإنسان الذي لا يعرف الخشوع في الصلاة لا يستطيع أن يخشع في الصلاة، إذا رأى خاشعاً يبكي في الصلاة يتعجب منه ويقول: لماذا يبكي هذا؟ والإنسان الذي لا يعرف البذل في سبيل الله إذا رأى من يقدم مليوناً لأهل غزة يقول: هذا لأنه أخذه مما ليس له، أو لأنه سيعوضه أو يأخذه من مكان آخر؛ لأنه هو لم يتعود على ذلك، وهو كالذي ينظر من نظارات سوداء، كل ما يقع عليه نظره يكون أسود لديه، كما قال الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عدوه فأصبح في ليل من الشك مظلم
الأصل عنده في الناس جميعاً أنهم ليسوا على ظاهرهم، والأصل عنده فيهم جميعاً أنهم ليسوا محقين، وأنهم طامعون خائفون طامحون، ولا يصدق أن أحداً منهم صاف، وأنه مستقيم؛ لأنه هو لا يجد ذلك في نفسه فيقيس الآخرين على نفسه، وهذا غلط في التصور.
النوع الثالث من أنواع نقص الثقة: هو نقص الثقة بالموجه والقائد؛ فكثير من الذين يقتنعون بأن عليهم أن ينصروا الله ورسوله، يقولون: نحن مقتنعون بذلك ولكننا ننتظر نزول المسيح بن مريم، أو قيام الخلافة الراشدة في آخر الزمان؛ لأن الذين نراهم الآن من الموجهين فيهم وفيهم من العيوب ما يمنعنا من إسلام النفوس إليهم، ولا نرى تلك القيادة الآسرة التي تسلم إليها النفوس.
والجواب عن ذلك: أن هذا عدم فهم للقيادة؛ فالقائد الموجه ما هو إلا فرد من الأفراد حمل ما لم يتحملون، كما قال علي رضي الله عنه: ما أنا إلا أحدكم ولكني أثقلكم حملاً، وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً [الإسراء:94-95].
فالملائكة يقودهم الملائكة، والبشر يقودهم البشر، فالقائد ليس هو المعصوم الذي لا يخطئ، ولا هو العالم الذي لا يجهل، ولا هو المضحي الذي لا يفتر، إنما هو بشر مثلك، يجوز في حقه ما يجوز في حقك، ولكنه كلف بما لم تكلف به، فلا يهمك من هو، ولا صفته، ولا اسمه؛ لأنه إنما هو آلة ووسيلة كما قال الذي دخل على أمير المؤمنين فقال: السلام عليك يا أجير المؤمنين، فكلمه الناس في ذلك؛ فقال له أمير المؤمنين: لقد صدقت، إنما أنا أجير لكم.
فينظر إليه هذه النظرة.
النوع الرابع من أنواع نقص الثقة: نقص الثقة بالمستقبل؛ فكثير من الناس يرون انتفاشة الباطل وانتفاخته ويظنون أن الأمر لا يزداد إلا سوءاً وشدةً أبداً، وهذا هو ظن السوء وهو من شأن المنافقين والمشركين، كما قال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6].
وقد شرح الله ظن السوء فقال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:12].
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر إلى اليهود في وقت شدة وقد علموا به، وأعدوا عدتهم وسلاحهم، وملئوا حصونهم من أنواع الطعام واللباس، وتهيئوا لقتاله، وخرج إليهم وهو يركب حماراً، فقال المنافقون: تظنون أن محمداً سيرجع إليكم بعد عامهم هذا؟ والله لن يرجع إليكم أبداً؛ فأنزل الله سورة الفتح وفيها يقول: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح:12]، فعلم أن ظن السوء هو أن يظن الإنسان أن الله لن ينصر هذا الدين، ولن يعلي كلمته، فهذا ظن السوء بالله جل جلاله، فلا بد أن يعالجه الإنسان من نفسه، وأن يحسن الظن بالله، وقد ورد في الحديث: ( أنا عند ظن عبدي بي )، فيحسن الظن بالله أنه سيعلي كلمته، وينصر دينه بعز عزيز أو بذل ذليل، وإذا حصل ذلك فإن الهزيمة ستزول من النفوس.
يوجد كثير من الناس الآن يتركون أعمالاً هم قادرون عليها؛ لأنهم أيسوا من الإصلاح، فيكون أحدهم والياً على مصراً من الأمصار ومدينة من المدن، وهو يستطيع إصلاحاً كبيراً، ولكنه يقصر فيه؛ لأنه قد انهزم أمام الفساد، ورأى الفساد في كل المصالح الأخرى؛ فظن أنه لو أصلح هو هذه الجزئية لم يكن لذلك فائدة، وهذا غلط في التصور، فلو أصلح هو ما يستطيعه لكان مثلاً يقتدى به ولأصلح آخرون، حتى يجتمع الإصلاح من كل حدب وصوب، وهكذا كل إنسان، فالذي في السوق ويرى من حوله يغشون في البضائع، ولا يقسطون في الوزن ويغشون الناس، ورأى نفسه وحيداً فريداً بينهم إذا انهزم فإنه سيمارس ما يمارسونه، لكنه إذا لم ينهزم فسيكون هو الصادق، وسيكون أسوةً ولا بد أن يقتدي به غيره، وهكذا في كل عمل من الأعمال، ما من عمل تليه فتريد إصلاحاً فيه إلا كان ذلك خيراً؛ لأنه يقتدى بك فيه، ولما ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة دعا رجاء بن حيوة ، فقال: يا رجاء ! إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكني لا أرى رجاله، فقال: يا أمير المؤمنين! السلطان كالسوق يجلب إليها ما يروج فيها، فإذا صلح السلطان فسيجتمع عليه أهل الصلاح، وإذا فسد سيجتمع عليه أهل الفساد، ولذلك قال: السلطان كالسوق يجلب إليها ما يروج فيها.
فلذلك هذه الهزيمة تقتضي نقص الثقة بالمستقبل؛ ولذلك كان هذا من سوء الظن بالله تعالى.
إذ لا بد أن نعلم أن الله لا بد أن ينصر هذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأنه سيعزه الله بعز عزيز أو بذل ذليل.
وقد شاهدنا أمارات ذلك؛ هذه المدينة في أواخر السبعينيات من كان يعيش منكم فيها، كم كان عدد المساجد هنا في هذه المدينة؟ ثلاثة، كم كان عدد الصفوف في كل مسجد من المساجد؟ كيف كان الناس يصلون، ما مستوى فهمهم وإدراكهم وعبادتهم وطهارتهم؟ انظروا الآن إلى هذه الحشود وإلى هذا العدد الكبير من المساجد والالتزام؛ وبالأخص في صفوف الشباب والشابات، هذا كله ليس من جهودكم؛ بل هو من فضل الله ورحمته وتوفيقه، فإذا رأينا ذلك علمنا أن المستقبل لهذا الدين، وأن الله سينصره.
وقد شاهدنا أمارات ذلك معرفةً واضحة، وقامت بها الحجة، ورأينا ما يحصل من خرق العادة فيما يتعلق بنصرة الدين، سمعتم في الشهر الماضي ما حصل في غزة، فهذه رقعة صغيرة في مدينة هي مثل مدينة ...، طولها ستة وثلاثون كيلو أو سبعة وثلاثون كيلو، وعرضها ستة كيلو مترات، وسكانها مليون ونصف مليون، وقد حوصروا سنتين جواً وبراً وبحراً وجوعوا وأذلوا، ثم بعد ذلك دام القصف عليهم ثلاثةً وعشرين يوماً بالطائرات والصواريخ والدبابات والجرافات التي تهدم المنازل والأشجار والطرق من البر والبحر والجو، ومع ذلك صمدوا وثبتهم الله في وجه عدوهم، وقد أخبرنا بعضهم بأمور عجيبة!
يحدثني أحدهم قال: من أعجب ما رأيت في هذه الفترة السكينة التي أنزلها الله في القلوب؛ فما من أهل بيت إلا وهم يشعرون بأنهم إخوة لكل البيوت، وإذا هدم أي بيت جاء أهله إلى البيت الموالية، تفرقوا في البيوت فوجدوا القلوب مفتوحةً لهم قبل البيوت.
وحدثني أحد قادتهم قال: ما من بلد من أنحاء العالم إلا جاءتنا نقود أهله هنا، حاصرنا الناس واتخذ العالم القرار بحصارنا فاتخذ الملك الديان القرار بأن تصل إلينا أموال الناس من كل حدب وصوب، تأتي في الإنفاق تأتي بكل وجه من الوجوه وتصل إلينا، ويأتي التاجر أو حتى الفقير وغاية أمله أن يقبل منه ماله وأن يصل فيصل إلينا، ورأيتم توحيد القلوب ودعاء الناس جميعاً بمختلف شرائح المجتمع من يعي ومن لا يعي، ومن يفهم من لا يفهم، ومن يعرف المعركة ومن لا يعرفها جميعاً قلوبهم معهم.
ومن أغرب ذلك أيضاً ما حدث به أحدهم: أنه خرج فرأى حشداً من دبابات اليهود أمامه؛ فأخذه الروع في قلبه، وقال: الأولى أن أنصرف الآن عن هذه المواجهة، فسولت له نفسه الهزيمة، قال: فسمعت صوتاً من ورائي يقول: يا عبد الله! اثبت، فزال كل ما كان لديه من الخوف وتقدم.
ويرسل إلينا أحدهم رسالةً في الجوال يقول: ها أنا رجعت إليكم بعد أربعة وعشرين يوماً في الخندق لا أستطيع الصلاة قائماً مدة أربعةً وعشرين يوماً.
وآخر يتصل بالتلفون ويقول: أنا الآن في وجهي ثلاث عشرة دبابةً صهيونية، فثبتهم الله سبحانه وتعالى ونصرهم هذا النصر المبين، وهذه سنة من سنن الله، كل من أرى الله من نفسه خيراً فإن الله ينصره لا محالة.
فقد أرانا الله آياته وأقام علينا الحجة بذلك، وأنتم تقرءون نظير هذا في القرآن، فتقرءون في سورة آل عمران قول الله تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13].
هذه عبرة لأولي الأبصار، معناه الذين يرون هذا العالم، ويرون آيات الله فيه، فإذاً هذه آيات الله قائمةً، وهذه حجة الله قائمةً علينا؛ فلم يبق إلا أن نعمل لدين الله، وأن نبادر لذلك، وألا نكون في مؤخرة الركب، وأن نسعى لأن نكون من السابقين السابقين الذين هم المقربون عند الله سبحانه وتعالى.
أسأل الله أن يهدينا أجمعين لذلك، وأن يوفقنا له، وأن يثبتنا عليه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر